تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : صيد الخاطر للإمام إبن الجوزي .. مختارات



الصفحات : 1 2 [3]

مقاوم
08-26-2009, 12:58 PM
أهل الإشارة

ربما أخذ المتيقظ بيت شعر فأخذ منه إشارة فانتفع بها‏.‏

قال الجنيد‏:‏ ناولني سريٌّ* رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في طريق مكة شرفها الله تعالى يقول‏:

‏ أبكي وما يدريك ما يبكيني *** أبكي حذاراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني

فانظر رحمك الله ووفقك إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما اطلع عليه ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد‏.‏

قال بعضهم لما سمع مثل هذه‏: إلام يشار بهذه‏؟‏ إن كان الحق فالحق عز وجل لا يشار إليه بلفظ تأنيث‏.‏ وإن كان إلى امرأة فأين الزهد‏.‏


ولعمري إن هذا حدآء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس وغلبات الهوى‏.‏
ومن أين لنا مثل الجنيد وسري‏.‏ وإذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان‏.‏

وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب‏:‏ أن سرياً لم يأخذ الإشارة من اللفظ ولم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيثاً أو تذكيراً‏.‏

وإنما أخذ الإشارة من المعنى فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات فيقول‏:‏ أبكي حذاراً من إعراضك وإبعادك‏.‏ فهذا الحاصل له‏.‏ وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى لفظ تأنيث فافهم هذا‏.‏

وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بكان وكان‏.‏ فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأة تنشد:


غسلت له طول الليل، فركت له طول النهار، خرج يعاين غيري، زلق وقع في الطين

فأخذ من ذلك إشارة معناها‏:‏ يا عبدي إني حسنت خلقك وأصلحت شأنك وقومت بنيتك فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي‏.‏

وقال ابن عقيل‏:‏ وسمعت امرأة تقول‏:‏ من هذا المكان‏.‏ وكانت كلمة بقيت في قلقها مدة‏:‏

كم كنت بالله أقول لك لذا التواني غائله، وللقبيح خميرة تبين بعد قليل


قال ابن عقيل‏:‏ فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها بين يدي الله تعالى‏.‏
------------



*هو سري السقطي من أكابر الأولياء

مقاوم
09-06-2009, 03:16 AM
حساب الورعين

أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص‏.‏
فكنت كلما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء وكلما استنارت لي طريق التحصيل تجدد في قلبي ظلمة‏.‏
فقلت يا نفس السوء - الإثم حوّاز القلوب - وقد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر‏.‏
وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك‏.‏
وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى ثم تدعى الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه‏.‏
وتقول‏:‏ فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر‏.‏
فقلت لها‏:‏ أوليس الورع يمنع من هذا قالت‏:‏ بلى‏.‏
قلت‏:‏ أليست القوة في القلب تحصل به قالت‏:‏ بلى‏.‏
قلت‏:‏ فلا خير لك في شيء هذا ثمرته‏.‏
فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها‏:‏ ويحك اسمعي أحدثك‏.‏
إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه قالت‏:‏ لا‏.‏
قلت‏:‏ فالمحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر الذي لا يؤمن‏.‏
ويحك اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه‏.‏
وكأنك لا تريدين أن لا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو ما لا يصح وجهه‏.‏
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم وأملوا فما بلغوا مناهم‏.‏
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها‏.‏
وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء وكم من طيب العيش لا يملك دينارين‏.‏
وكن من ذي قناطير منغص‏.‏
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه‏.‏
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه والمتقي معافى‏.‏
فضجت النفس من لومي وقالت‏:‏ إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني‏.‏
فقلت‏:‏ لها أضن بك عن الغبن وأنت أعرف بباطن أمرك‏.‏
قالت‏:‏ فقل لي ما أصنع‏.‏
قلت‏:‏ عليك بالمراقبة لمن يراك ومثّلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك‏.‏
فخذي بالأحوط واحذري من الترخص في بيع اليقين والتقوى بعاجل الهوى‏.‏
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له‏:‏ مهلاً فما انقضت مدة الإشارة والله مرشدك إلى التحقيق ومعينك بالتوفيق‏.‏
ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب إنهم يشربون الخمور ويفسقون ويظلمون ويفعلون أشياء توجب الحدود‏.‏
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ولو ثبت فمن يقيمه‏.‏
وأستبعد هذا في العادة لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم‏.‏
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم حتى رأيناهم قد نكبوا وأخذوا مرات ومرت عليهم العجائب‏.‏

فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل والقيد الثقيل والذل العظيم‏.‏
وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة فعلمت أنه ما يهمل شيء فالحذر الحذر فإن العقوبة بالمرصاد‏.‏

منال
09-06-2009, 03:56 AM
أكرمك الله عمو مقاوم وجزاك الله كل خير على الإضافات القيّمة.

مقاوم
09-06-2009, 09:40 AM
وإياكم أيتها الفاضلة ... مسرور جدا بمتابعتك للموضوع حفظك الله

منال
10-07-2009, 04:11 PM
هل من جديد؟

مقاوم
10-22-2009, 12:07 PM
إليكم جديدنا :)

فصل الغنى من العافية

اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع‏.‏
فمن ذلك حفظ ماله وطلب تنميته والرغبة في زيادته لأنه سبب بقاء الإنسان وضمان كرامته فقد نهي عن التبذير فيه فقيل له‏:‏ ‏"‏ ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالَكم ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(3,5,5)) فاعلم أنه سبب لبقائه‏:‏ ‏"‏ التي جَعَلَ اللّه لكمُ قِيَاماً ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(3,5,5)) أي قواماً لمعاشكم‏.‏
وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا تَبْسُطها كلَّ البسطِ ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(16,29,29)) وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تبذِّرْ تبذيراً ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(16,26,26)) وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لَمْ يُسرفوا ولَمْ يَقتُرُوا وكان بين ذلك قواماً ‏"‏‏ (http://javascript<b></b>:openquran(24,67,67)).‏
ومن فضيلة المال أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ ذَا الذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضاَ حسناً ‏" (http://javascript<b></b>:openquran(1,245,245))‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأنفقوا في سبيل اللّه ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(1,195,195)) وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ينفقون أموالهم ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(1,261,261)) وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يَستوِي منكم من أنفقَ مِنْ قبل الفَتح ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(56,10,10)) وجعل المال نعمة وزكاته تطهيراً فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ خُذْ مِنْ أموَالِهِمْ صَدقَةَ تُطهرُهُمْ وتزكيهمْ بهَا ‏" (http://javascript<b></b>:openquran(8,103,103))‏‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم المال الصالح للرجل الصالح وقال‏:‏ ما نفعني مال كمال أبي بكر‏.‏
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاه عن ذلك‏.‏
وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ومن سادات التابعين سعيد ابن المسيب‏.‏
مات وخلف مالاً.‏
وما زال السلف على هذا ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بداً من الاضطراب في طلبته فيبذل عرضه أو دينه‏.‏
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال وهو معدود عند الأطباء من الأدوية‏.‏
وتلك حكمة وضعها الواضع‏.‏
وإنما نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة وقالوا‏:‏ نحن لا نمسك شيئاً‏.‏
ولا نتزود لسفر ورزق الأبدان يأتي‏.‏
وهذا على مضادة الشرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال‏.‏
وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود‏.‏
ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر تزود وأبلغ من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَتَزَوَّدُوا فإن خيرَ الزاد التقوَى ‏" (http://javascript<b></b>:openquran(1,197,197))‏‏.‏
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض‏.‏
ويرون زيادة الطلب للمال حرصاً وشرهاً‏.‏
وشيء من البهرجة إذا نصبوا شباك الصيد بالتزهد فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحاً‏.‏
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ واليد العليا‏.‏
قال‏:‏ هي المعطية‏.‏
قال فالعجب عندي من قوم يقولون هي الآخذة‏.‏
ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوماً استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة‏.‏
فأما الشرائع فأنها بريئة من حالهم وفي الحديث‏:‏ ضاق البلد بمواشي إبراهيم ولوط عليهما السلام فافترقا‏.‏
وكان شعيب عليه السلام كثير المال‏.‏
ثم قد ند طمعه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏"‏ فإنْ أتممتَ عشراً فمنْ عندِك ‏"‏‏ (http://javascript<b></b>:openquran(27,27,27)).‏
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول‏:‏ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب‏.‏
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال‏:‏ ‏"‏ هَلْ آمنكُم عليهِ ‏" (http://javascript<b></b>:openquran(11,64,64))‏‏.‏
فقالوا‏:‏ ‏"‏ ونزدَادُ كيْلَ بعِير ‏"‏ (http://javascript<b></b>:openquran(11,65,65)) فقال‏:‏ خذوه‏.‏
وقال بعض السلف‏:‏ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو مجنون‏.‏
وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب وأوحشوا بينهم وبينه وهو دأب الأنبياء والصالحين‏.‏
وإنما طلبوا طريق الراحة وجلسوا على الفتوح‏.‏
فإذا شبعوا رقصوا فإذا انهضم الطعام أكلوا‏.‏
فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة إما بسبب شكر أو بسبب استغفار‏.‏
وأطم الطامات ادعاؤهم أن هذا قربة‏.‏
وقد انعقد إجماع العلماء أن من ادعى الرقص قربة إلى الله تعالى كفر‏.‏
فلو أنهم قالوا مباح كان أقرب حالاً وهذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع وليس في الشرع أمر بالرقص ولا ندب إليه‏.‏
ولقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان وينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا‏:‏ نعتبر بخلق الله‏!‏‏!‏‏!‏‏.‏
أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره وقال‏:‏ وهل كانت فتنة داود إلا من النظر‏.‏
هيهات‏!‏ لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد‏.‏
وما زال صالحوا السلف يفتشون على المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو وأصحابه ويقولون مع من نعمل غداً‏.‏
وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء وله في الورع مقامات فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون أتباع أولئك السادة ويأكلون من مال فلان وهم يعرفون أصول تلك الأموال ويقولون رزقنا‏.‏


فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين ولا لديه امتناع من شهوة ولا تقلل ولا يخلو الرباط من المطبخ ولا ينقطع ليلة وأصله من مال قد عرق من أين هو والحمام دائر والمغني يدق بدف فيه جلاجل ورفيقه بالشبابة وسعدى وليلى في الإنشاد والمردان في الشمع ثم يذم الدنيا بعد هذا‏.‏
فقولوا لنا‏:‏ من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ولكن من مرت عليه زرجتهم(خديعتهم) فإنهم أخس منهم‏.‏

منال
11-04-2009, 01:59 AM
السلام عليكم

على فكرة قرأت هذه المشاركة الأخيرة وقت وضعها وقد جاءت في وقت مناسب جدا.

أكرمك الله عمو مقاوم على ذائقتك العالية.

لا أدري إن كان مر معنا ازدحام الأعمال هنا أو في موضوع آخرن فإن ثم نصائح حول هذا الشيء ياريت حضرتك تنقلها لنا. وجوزيت كل الخير.

المتأمل خيرًا
06-19-2010, 08:26 PM
جزاك الله خيراً

منال
07-25-2010, 08:37 PM
وأخيرا اشتريت هذا الكتاب الجميل اليوم هو ومجموعة من الكتب الأخرى ولله الحمد والمنة. وبارك الله فيك عمو مقاوم.