fakher
02-26-2005, 05:27 AM
في الآتي نص رسالة الى الرئيس السوري بشار الاسد من <<عامل سوري في لبنان>> كتبها بالنيابة مناضل عربي مسكون بهموم فلسطين وسوريا وباقي العرب.
بيروت أواسط شهر شباط 2005،
سيادة الرئيس بشار الأسد حفظه الله،
دمشق،
تحية طيبة، تحية الأهل والوطن،
لن أطيل سيادة الرئيس في الديباجات، فلست من أهل الاختصاص. والرسالة نفسها أكتبها بمساعدة صديق عربي يحب سوريا ولبنان، ولا هو سوري ولا لبناني. ويكفي أني جعلته بوقا لي في الكتابة. ليس لدي الجرأة أن أطلب منه التحول إلى بوق في التملق، وكتابة الديباجات. لا أريد أن أصغر من نفسي ومنك أمامه. ولا شك لدي أنك مللتها. هكذا بدوت لي في خطاباتك مباشرا منطقيا واضحا في كلامك لا تحتمل المظاهر كثيرا، هذا عدا كونك الرئيس الوحيد في المنطقة الذي يتقن العربية بشكل جيد. وصديقي المثقف يقدر لك ذلك.
كتبت أشكو يا سيادة الرئيس. أعرف أنني لو كتبت إليك الرسالة مباشرة لما وصلتك، وحتى لو عرفت طريقها إليك فلن يتوفر لديك الوقت لقراءتها. وهذا طبيعي. تخيل لو كنت ستقرأ رسالة من كل عامل سوري في لبنان. إذا أنت قرأت وإذا هم اهتدوا الى هذه الطريقة في مخاطبتك، فلن تكفيك مدة رئاستك الأولى كلها. وقد بدد حيرتي الصديق الذي ساعدني في نص وصياغة أفكاري عندما تكلم مع رئيس تحرير صحيفة يعتبره صديقا، وذلك ليس بمفهوم صداقات ما بعد اغتيال الحريري. فوافق الأخير مشكورا على نشر الرسالة مذيلة بنسخة لرئيس الجمهورية اللبناني ونسخ لكل من يقرأ صحيفته. وأرفق نسخة لكمال جنبلاط أيضا فربما يقرأ بموجب عقيدته من جسد آخر في بلد آخر، فهو ليس بيننا في هذه الأيام بالتأكيد.
كتبت أشكو. لقد اعتدي علي اليوم يا سيادة الرئيس وشتمت وشتم بلدي وشتم العرب أجمعين (لا حاجة للمبالغة فقد استثنى الشاتمون أهل الخليج لأنه حتى الطائفية تباع وتشترى في هذا البلد، ولا طائفية ضد الخليج وساكنيه). وهي ليست أول مرة. فقد اعتدي علينا سابقا في مخيم موقت للعمال السوريين يشبه ال<<سكوتر كامبس>> التي كانت تقام للعمال المهاجرين السود خارج المدن في جنوب أفريقيا، وسنحت لنا فرصة مشاهدتها في التلفزيون قبل إحراقها. في حينه اعتدي علينا قرب صيدا. ولكن في هذه المرة جاء الاعتداء عنيفا جدا، وقد اعتبر في بعض الأوساط <<فشة خلق>>. قد يزلزل القتل الأرض وقد يعتبر فشة خلق، وهذا يعتمد على هوية القاتل وهوية المقتول.
قتل وجرح في الأيام الأخيرة عمال سوريون لا احد يعرف عددهم. لا أحد يحصيهم في الأيام العادية وعندما يموتون في إصابات عمل لا تعوض، فكم بالحري عندما ينشغل الناس بدماء أنقى؟ وبلدنا يعاني من عقدة الكبرياء، فهو لا يتطرق الى مصائبه مكابرة، ويخجل من ذكر عدد عماله في سوريا، ومن ذكر انعدام حقوقهم. فهذا مهين لكبريائنا وكرامتنا الرجولية التقليدية التي تظهر كأنها قومية. يعيب سوريا وربما يعيب الجيرة وعلاقات الأخوة أن تذكر حكومتنا أن مواطنيها يعاملون كالعبيد عديمي الحقوق في لبنان. أي خدّامة سريلانكية لها حقوق في هذا البلد لا تتوفر لأهم عامل سوري. وعلى فكرة حتى الخدامات درجات هنا مثل المواطنين. الفليبينية مثلا افضل من السيريلانكية. أنا اتحدث عن بشر يا سيادة الرئيس وليس عن أنواع سيارات. وأنا لا أتحدث عن السوريين المتلبننين، فهم على أنواع لا يتسع المجال لشرحها. منهم الغني الذي تعتبر لبننته مثل لبننة الفلسطيني الغني، مشروعة وخفيفة دم مثل الزواج المختلط عند الأغنياء، ومنهم الفقير الذي تعتبر لبننته توطينا ومؤامرة وتلويثا ربما لنقاء العرق مثلما يدعي العنصريون ضد العمال الاتراك في المانيا. وحقوقهم هناك في ألمانيا أهم من حقوق العمال اللبنانيين والسوريين معا.
مؤامرة صمت تلفنا. واعذرني فهنالك ما لا يُسكت عنه. وأنا هنا خائف كالشبح ينظر إليه في النهار شزرا ويخشى الاعتداء عليه ليلا ونهارا. وما لا يسكت عنه هو السؤال: من الذي يحتل الآخر في هذا البلد؟ هل سوريا تحتل لبنان أم العكس؟ تعودنا ان العمال من البلد الواقع تحت الاحتلال يتدفقون إلى البلد المستعمر (بكسر الميم) وهناك تساء معاملتهم ويصبحون موضوع احتجاج، ولكن فتات مائدة اقتصاد الدولة المستعمِرة أفضل مما يأكل على مائدة اقتصاد بلدهم. وكما هي حال عمال المستعمرات السابقة في اوروبا، يُدعى أنهم السبب وراء البطالة والجرائم وغيرها ويلاحقون من قبل العنصريين وحليقي الرؤوس. ولكن هنا يتعرض عمال الدولة التي يفترض انها محتلة للعنصرية والقمع والضرب الاستغلال كأيد عاملة رخيصة من قبل فئات من الشعب الذي يفترض أنه واقع تحت الاحتلال. إنه لغز محير فعلا. ويقال لنا من لا يعجبه فليذهب، و<<معاشك هنا حتى بدون حقوق وتعويضات وتأمينات ضعف معاش مُحَاضِر جامعة في دمشق>>. تماما كما يقال لعامل مغربي غير قانوني في فرنسا او فلسطيني في إسرائيل. فمَن يحتل مَن يا سيادة الرئيس؟
ثقافتي: بكالوريوس سابق لا يسمن ولا يغني عن جوع، وحاليا بعد أن نسيته لا تتجاوز ثقافتي المشاهدة، مشاهدة التلفزيون وتأمل الناس والاستماع إليهم. ورغم ذلك أعرف أن الدول المُستعمِرة تكون عادة أكثر ديموقراطية في بلدها مما في البلد الواقع تحت الاحتلال، ويكون البلد الواقع تحت الاحتلال أقل ديموقراطية. ولكن لبنان حاليا أكثر ديموقراطية من سوريا. يهاجمونك هنا شخصيا، ويهاجمون الرئيس اللبناني وغيره من المسؤولين، ويهاجمون وزراءك بالاسم ويتهمونك اتهامات باطلة. وفي سوريا لا نستطيع ان نهاجم أحدا بالاسم حتى عندما نكون على حق. لبنان تحت الاحتلال السوري المزعوم أكثر ديموقراطية من كل الدول العربية التي تتدخل الآن مستغلة دماء الحريري لتقديم خدمات أخرى للأمريكان عدا خدماتها في إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن حقوقهم. <<مو مْلَحْقين خدمات يا سيادة الرئيس>>، ويريدون الآن تعويض إسرائيل عن مستوطناتها!! ربما لأن الفلسطينيين احتلوا إسرائيل!! فكيف لا يعتبرون لبنان محتلا من قبل سوريا؟ ولبنان وهو تحت حكم ما يسمى <<الأجهزة>> أكثر ديموقراطية منهم جميعا، ومن كل واحد على حدة. مثقفوهم وصحافيوهم يتدفقون إلى لبنان للتحدث بحرية وعقد المؤتمرات. وهم أنفسهم يتدفقون إلى بيروت طوال العام ولكن لأسباب أخرى غير ثقافية. عندما ادعيت ذلك هنا قال لي سائق المقاول، صاحب العمل، إن لبنان كان دائما ديموقراطيا.
كان السائق رجل ميليشيات. وكان يقود سيارة قائد وحدة في المليشيا وأصبح الآن سائقه كرجل ثري ومقاول كبير. فأجبت بأنه لم يكن ديموقراطيا، والدليل أن عناصر تعدديته تحاربت بشكل يكاد يكون فاشيا في الحرب الأهلية (أصررت هنا على أن يضاف بين قوسين أن هذه ليست لغتي). تبين في حينه أنها تعددية تعيش على توازن هش وأنها ليست ديموقراطية. على كل حال لا ادري، لست خبيرا في هذه المواضيع. والمصطلحات يتحمل مسؤوليتها الصديق الذي حضر لزيارة صديقه وسكن قرب المشروع الذي أعمل فيه وعرض علي صياغة أفكاري التي أثارت إعجابه.
كيف نحل هذه التناقضات بالعقل والمنطق من دون أن نفقد عقولنا أو ضمائرنا؟ بسيطة، يبدو أنه ليس احتلالا. بل بالعكس. ولدي نموذج شرحته لصديقي لفهم ما يجري بعد أن حيرته بأسئلتي فأثار إعجابه. لا تناقض بين وضع العامل السوري والجندي السوري. كلاهما استخدم هنا من أجل تنفيذ مهمة من دون أي حقوق، وكلاهما عديم الحقوق في لبنان. على كل منهما أن ينهي وظيفته ويرحل من دون شكر او امتنان. ولسبب ما، يبدو من يشكر كأنه يشتم على وزن: <<شكرا لكم ممنونينكم نحنا، مع السلامة>>. الجندي الذي حمى إعادة بناء بيروت وجعل توحيدها ممكنا، والعامل الذي بنى بيروت عند متعهدين مثل الحريري، هما شيء واحد. سوريا قبضت ثمن المهمة الأولى سياسيا في رأيهم، وقبضت ثمن المهمة التالية تحويلات عمال من دون حقوق. تبقى أن نعمل بالسخرة مثل الجنود في المصانع لنرضيهم. وحتى المقاومة اللبنانية فقد أدت وظيفة لدى نفس أكابر القوم الذي حيّوها على ذلك وما عليها الا أن تمضي مشكورة، وكأنها أدت وظيفة خارجية لا علاقة لها بالمجتمع الذي يتصورونه ملكا لهم كما كان قبل قرن ونصف القرن.
عندما تغير الوضع السياسي الإقليمي أصبح الثمن السياسي المدفوع لسوريا وللمقاومة مكلفا لنفس الناس الذين كانوا من رموز الحكومات في ظل الوصاية السورية والأجهزة السورية واللبنانية وغيرها. رأيت مؤخرا على شاشة التلفزيون يا سيادة الرئيس شخصا أنيقا بطريقة <<النوفوريش>> يحرّض على سوريا. لم يسمع به أحد إلا لأنه قريب رئيس لبناني انتخب ومددت فترة رئاسته من دون قرار من مجلس الأمن وعمل تحت الوصاية السورية وعين وزيرا في ظلها، وغضب لأنه لم يرشح من جديد. <<لشو كنتو ضابينه هذا يا سيادة الرئيس؟>>. كل التناقضات، كل الانتهازية، كل التزييف، كل <<التفنيص>> الذي كان الى جانب سوريا أصبح الآن ضدها. ولكنه بقي تفنيصا، ونحن نعرفه عن قرب، فلا تخف. عند الشدة أعادوا القوات والتيار العوني ووجدوا أنفسهم يتظاهرون خلف صور جعجع وعون وبشير الجميل، ولم يبق سوى حبيقة الذي ضممتموه انتم على طريقة المخابرات الى <<حلفاء>> سوريا في لبنان، فكيف لا تخسرون حلفاء سوريا الحقيقيين. كدت أبحث عن صورة شارون في إحدى مسيرات الاستقلال.
لم ينفع المعارضة كل التفنيص الذي انتقل اليها، ولم ينفع سوريا أيضا، وعند التجييش عاد زعماء الميليشيات، ولكنهم يطالبون الآن ب<<الديمؤراطية>>. يبايعون الأبناء بعد آبائهم مبايعة، ويطالبون بالديموقراطية والتحالف مع الغرب. أما نحن فلا ندّعي الديموقراطية على الأقل. ابحثْ عن الانتهازي يا سيادة الرئيس تدركْ أين تهب الريح. وهي ريح عاتية، رياح طائفية من الشرق ومن الغرب في ظل رعاية أميركية. ف<<من العراق انطلقت شرارة الديموقراطية>>، سيكون عليك. فسوريا ليست بلدا محتلا، بل هي بلد محتلة أراضيه. وهي بلد معتدى عليه بالتأكيد، ولم يعتد على أحد. ولكنك لن تنجح بالعدة القديمة لا هنا في لبنان ولا عندنا، وهي نفس العدة، وغالبا ما يكونون أصدقاء شخصيين. هل تعرف كم عدد الصداقات بين أشخاص المعارضة الحالية ورموز النظام عندنا؟ والمشترك أنهم جميعا ديموقراطيون، ولكنهم اكتشفوا ذلك مؤخرا.
أي احتلال؟ عندما لم نكن نسمع عن شيء في سوريا كنا نسمع عن حركات التحرر في العالم وعن التضامن وعن المنظومة الاشتراكية غير المغفور لها، وعن شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وكنا نعرف أسماء الأحزاب اللبنانية: الشيوعي والقومي الاجتماعي والناصريين في بيروت وصيدا والبعث وغيرها. أي احتلال هذا لم يبقَ من بعده حزب قوي واحد بروح الأحزاب التي يؤمن بها للتحالف معه، لم يبق بعد تواجد طوال عقدين إلا أحزاب طوائف وزعامات طائفية حتى عند طوائف لم تكن طائفية في الماضي. تركنا المجتمع على حاله، وتعاملنا مع القوى الاجتماعية كما هي إلى درجة اعتبار الأحزاب كائنا مصطنعا قياسا بالقيادات التقليدية على الأرض. إلى هذه الدرجة كرسنا الوضع القائم، إلى درجة إضعاف قوى التغيير القائمة في الوضع القائم ذاته. إلى هذه الدرجة تعايشنا مع المجتمع كما هو وكرسنا كل ما هو تقليدي فيه. لا يوجد احتلال كهذا. حتى 17 أيار بقي على حاله كما بدا من حاملي الصور الأشاوس في وجهنا ووجه التاريخ.
وحاولت أنت أن تتعامل مع دولة ورئيس ومؤسسات، وزرت البلد رسميا كما يزار بلد مستقل. فعادوك لأنهم لا يريدون أن تتعامل مع لبنان كبلد له رئيس بل مع لبنان العشرين رئيسا وألف وزير وخمسين ألف نائب. يريدونك أن تتعامل كمحتل يتعامل مع قيادات تقليدية متعددة، ويتبع سياسة <<فرّق تسد>>. هذا هو البلد الوحيد الذي تستفيد قياداته من سياسة <<فرق تسد>> أكثر مما يستفيد المستعمِر المزعوم. وكل ذلك بحجة احترام أصالة البنى الاجتماعية وتمييز الحقيقي من غير الحقيقي في تمثيل الناس كطوائف. فغير الطائفي هو قيادي غير حقيقي في هذا البلد وعليك ألا تتعامل معه.
لا شك في أن سوريا أخطأت يا سيادة الرئيس عندما تعاملت مع مجتمع عريق كالمجتمع اللبناني من زاوية نظر ضباط وعملاء مخابرات. غاب المجتمع وغابت الجامعة وغاب الاقتصاد السوري عن العلاقة المباشرة التي لا تمر بضباط. أما نحن العمال فأنت ترى أي علاقة هذه. وأنت في فترتك لا تحصد نتائج أخطاء مرحلتك فقط، بل نتائج تراكم أخطاء سابقة. إرث ثقيل لا شك في ذلك. على كل حال، لا بد من التحرر من احتلال لبنان لسوريا كما أفهمه أنا وكما يفهمه أمثالي، بما في ذلك استحواذه على صانع القرار. وهذا لا يتم بقتال تراجعي يتم فيه تقديم التنازل بعد الآخر بحيث إن تحقيق مطلب الأمس لا يرضي رافعي مطالب اليوم، بل بوضع خطة بديلة وأسس تعامل بديل، تتضمن في ما تتضمن ليس فقط مطالب من لبنان لسوريا، ومنها مطالب عادلة، بل مطالب سوريا من لبنان أيضا. لا تقاتل قتالا تراجعيا فالتنازل قد لا يكفيهم حتى دمشق، ولن تذرف أميركا دمعة واحدة على سوريا، ولا اعتقد أن من يتعامل معنا هكذا اليوم يؤمن فعلا بعلاقة أخوية مع سوريا بعد <<الانسحاب الكامل>>. فالمطلب هو ليس الانسحاب بل تغيير الموقف من المقاومة في لبنان وفلسطين. المطلب هو تعميم شرارة الديموقراطية العراقية الى المنطقة.
ولدينا مطالب يا سيادة الرئيس. مطالب سياسية وأمنية، فالجندي لا يأتي مثل العامل لينفذ مهمة. وإذا كان حليفا فعلا فهو لا يمضي بعد أن ترفع في وجهه صور عميل إسرائيلي. إنه هنا بسبب التحالف. وللتحالف أصول. يجب ان تحترمها سوريا ويحترمها لبنان. وعلى المخابرات الا تتدخل في القرار السياسي حتى لو تطلب التحالف بقاء الجيش، وهذا يقرره اللبنانيون. ولكن لدينا نحن أيضا مطالب حقوقية، حقوقنا كعمال في لبنان. العنصرية مرفوضة ولا يجوز أن يتم التكتم على الاعتداء علينا. نطالب بمعاقبة الجناة. ولا نطالب بتحقيق دولي بل فقط بتحقيق لبناني بشأن المسؤولين عن قتل زملائنا وعن انتشار العنصرية، وبشأن كيفية التعامل معنا. في لبنان الذي يعاني إرثا عنصريا يجب ان تكون العنصرية والتحريض العنصري جرائم يعاقب عليها القانون.
الإرث ثقيل وسوف يكون عليك أن تبحث عن حلفاء سوريا في لبنان، وهم كثر، أكثر مما تتصور مجتمعات بيروت التي تريدنا وتريد جنودنا وتريد المقاومة اللبنانية كمجرد أنواع من الخدم. ولا تبحث يا سيادة الرئيس عن عملاء ولا حتى عملاء مخابرات فهؤلاء يغيرون موقفهم حالما تهب رياح غير مؤاتية ويسهل تعريضهم لضغط معنوي من قبل الشارع المعادي بتهمة العمالة للمخابرات، فمنهم من هو عميل فعلا، وهذا النوع يخضع بسرعة للضغط المعنوي. استرجع حلفاءك اللبنانيين فهم كثر. ولا تقاتل قتالا تراجعيا وظهرك الى دمشق، وكفى.
أصيب منا عدد في هذه الايام بالضرب والحرق: <<لينش، بوغروم>>، كما يقول الأجانب. ولكن نشرات الفضائيات العربية لم تتطرق الى ما تعرضنا له. ولو وقع لعمال سوريين في الجولان أو لعمال فلسطينيين في إسرائيل ما أصابنا هنا لتم نقل الوقائع بالبث المباشر. وماذا يساوي دم العامل؟ الكثير من زملائي قرروا العودة الى الوطن الى أن تهدأ الحال، او تهدأ الخواطر. هل تذكر كيف عادوا يوم وفاة والدك رحمه الله؟ لم يفهم اللبنانيون في حينه لماذا جهزوا امتعتهم الفقيرة وتدفقوا نحو الحدود. هل ليشاركوا في مراسم الحداد أم خوفا من المجهول؟ والمجهول يا سيادة الرئيس يصبح أكثر وطأة وتخويفا عندما يكون الخائف ذاته مجهولا غريبا. أما هذه المرة فأنا أجزم أنهم خافوا.
أنا فضلت البقاء. فضلت البقاء كأنني مازوخي (هذه الكلمة ليست مني)، ولكنها ثلاثمئة دولار في الشهر، ولن أفرط بها. فأنا أحد قلة تقبض أجرتها شهريا. والمشغل الذي أعلن الحداد علنا هو الآخر لن يكون لديه الوقت ولا الأعصاب ليدفع لي إذا سافرت فجأة. الحداد والحزن يشغلانه، وأنا في الواقع أتفهمه، فالاغتيال كما أُعلن من الجميع استهدف كل لبنان، وكل لبناني. وإذا طالبته بأجرتي، معاشي، فسوف يعتبرها استهانة بمصيبته، فهو غير آمن خاصة انه اغتيال للأمل وللمستقبل، ولذلك فهو محبط جدا. وأنا أصلا متهم من قبل الرعاع الديموقراطي الذي حماني هو منه.
أذكر أن نفس المشغل الحزين جدا والقلق جدا والغاضب جدا كان قد وبّخني بشدة عندما امتدحت الفقيد حين كان حيا. واعتبره تحيزا مني لأني سني. وأنا ربما كنت سنيا عندما اتيت الى هذا البلد ولكني أصبحت هنا سوريا وعربيا قبل كل شيء. وهو لم يقبل إصراري على أنني عربي ومواطن سوري فالجميع برأيه طائفيون وهذا ينطبق على كل إنسان. وقد جرب تجربة لاطائفية في الميليشيا التي ترأسها، وهو مقتنع الآن بأن التوازنات الطائفية هي المخرج، ولذلك فهو متحمس للطائف. ولا مكان لمن لا يرغب في أن يمثل طائفة برأيه. وهو يكره الحريري لأنه صعد بسرعة في السياسة اللبنانية بنقوده من دون أن ينتمي إلى عالم الميليشيات قبل أن يصل الى حيث وصل.
على كل حال، عندما قلت <<والله ان الحريري بنى بلده>> قال لي: <<وهل بنى من جيبه؟ جاء الى البلد ومعه مليارا دولار والآن معه 15 مليار دولار. واستلم البلد ب6 مليارات دولار ديونا وترك الحكومة والبلد مدين بأربعين مليارا (هذا على ذمة القائل). ثم أين يوجد رئيس حكومة تبني شركاته البلد>>. وعندما أجبت: <<برلسكوني>>، شتمني وشتم برلسكوني ثم ابتسم وقال <<إيه وشو يعني برلسكوني اسمه شتيمة في أوروبا وفي عليه مئة محكمة وتهم بالفساد>>. وعندما قلت انه يبدو لي متابعا للشؤون الدولية بشكل يتجاوز ما نعرفه عند المسؤولين اللبنانيين الآخرين قال لي ان هذا أيضا مرده نقوده وقدرته على شراء مختصين وزعامات حتى في الخارج. أما اليوم فإنه يقول نفس الكلام ولكن بنبرة إيجابية: <<إنه أكبر من لبنان بعلاقاته الدولية>>. على فكرة، اكتشفت انه لا أسرار في لبنان فكل مواطن يعرف كل شيء بالأرقام بغض النظر عن دقتها. ولكنه يستخدم المعلومات كما هو مريح له.
على كل حال، يا سيادة الرئيس لم أجرؤ على قول كلمة ايجابية واحدة عنه في الماضي القريب، ولا حتى بغرض الإنصاف. فأنا لم أكن كثير الإعجاب به، ولكن العداء الشديد له جعلني أتضامن معه كردة فعل. ولماذا أعجب بأي شيء في هذا البلد المثير للإعجاب والذي لا يبدي تجاهي، أقصد أنا العامل السوري، سوى العنصرية، وأنا آسف على استخدام هذا المصطلح. ولكن العنصرية تظهر هنا بأشكال شتى حتى عند الحديث عن حق العودة للفلسطيني، من دون أن تكون العودة هي المقصودة بل الرحيل عن هذا البلد. لدينا فلسطينيون يا سيادة الرئيس في حماه. مخيم كامل. ونحن نؤيد حق العودة هناك أيضا في حماه ونعارض التوطين. ولكننا لا نعامل إخواننا الفلسطينيين هكذا. في ما عدا التوطين والتصويت لمجلس الشعب، حقوقهم كحقوقنا. ثم هنالك عنصرية طائفية لا تصدق ضد بعضهم البعض. وعلى فكرة كل القسوة التي تفجرت تجاهنا أو تجاه الفلسطينيين تتقزم أمام العنصرية التي تفجرت بين الجيران في مناطق محددة. العنصرية لا تتجزأ كما يبدو.
عندما ادعيت أن المغدور الحريري يتقن العمل مع وسائل الإعلام، ويكثر من الظهور فيها قياسا مع أي مسؤول عربي، قالوا لي انه اشترى صحافة البلد، وان الصحافيين مقسومون الى من نجح الحريري في شرائهم ومن لم ينجح، وإنهم يتبادلون الأدوار. وإن هذه مصيبة بحق الإعلام ودوره وحرية الإعلام في لبنان. وأنا طبعا لم أناقش لأن أهل مكة أدرى بشعابها. وأهل مكة في هذه الحالة على دراية.
لكني احترت مؤخرا عندما رأيت نفس أهل مكة في الأسبوعين الأخيرين في نفس الشعاب، يمتدحون دور الحريري في <<التقرب>> من الصحافيين وفي <<فهم أهميتهم>> و<<تقديره دورهم واهتمامه بهم ورعايته لهم>>. بل قد رأيت بأم عيني على التلفزيون صحافيين يتحاورون في هذه الموضوعات المتعلقة بتقديره للصحافة مع صحافي سابق اتهمه أكثر من لبناني أمامي بأنه هو الذي ينوب عنه في شراء الصحافيين. وأنا قدرت الموقف وصمتّ طبعا. ولكني أكتب لك من على صفحات نفس الصحافة الحرة، فهذا وجهها الآخر الذي يمكِّن عاملا مثلي من التوجه الى رئيسه برسالة صريحة.
حقيقة ان تكون رجلا عربيا في عالم أميركا، تشكل بذاتها عبئا شديد الوطأة ولا شك، ان لفت التضامن نحوه هو أمر صعب المنال، من فلسطين وحتى العراق. يجب ان تكون أقلية عند العرب ليسهل التضامن معك. أما ان تكون عربيا، وعاملا سوريا، وعاملا سوريا في لبنان، فطبقات الاضطهاد المتراكمة فوق بعضها تفوق الاحتمال وتكتم صوت الألم. كل الآراء المسبقة تعمل ضدي. رجل وعربي ومسلم، وإضافة لذلك كله، يدعي أنه مضطهَد في بلد يعتبر محتلا، وبلد أقليات في الشرق، فكيف يسمع أحد صراخنا؟ لا بأس. عزائي حاليا أنه موقع مستقل عن المصالح إلى درجة أنه يمكنني من رؤية ما لا يراه آخرون.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
عامل سوري في لبنان
نسخة: رئيس جمهورية لبنان السيد إميل لحود حفظه الله،
السيد كمال جنبلاط،
المقاومة اللبنانية والشعب اللبناني الشقيق بوجه عام.
المصدر: جريدة السفير اللبنانية ... بتاريخ 26-2-2005
بيروت أواسط شهر شباط 2005،
سيادة الرئيس بشار الأسد حفظه الله،
دمشق،
تحية طيبة، تحية الأهل والوطن،
لن أطيل سيادة الرئيس في الديباجات، فلست من أهل الاختصاص. والرسالة نفسها أكتبها بمساعدة صديق عربي يحب سوريا ولبنان، ولا هو سوري ولا لبناني. ويكفي أني جعلته بوقا لي في الكتابة. ليس لدي الجرأة أن أطلب منه التحول إلى بوق في التملق، وكتابة الديباجات. لا أريد أن أصغر من نفسي ومنك أمامه. ولا شك لدي أنك مللتها. هكذا بدوت لي في خطاباتك مباشرا منطقيا واضحا في كلامك لا تحتمل المظاهر كثيرا، هذا عدا كونك الرئيس الوحيد في المنطقة الذي يتقن العربية بشكل جيد. وصديقي المثقف يقدر لك ذلك.
كتبت أشكو يا سيادة الرئيس. أعرف أنني لو كتبت إليك الرسالة مباشرة لما وصلتك، وحتى لو عرفت طريقها إليك فلن يتوفر لديك الوقت لقراءتها. وهذا طبيعي. تخيل لو كنت ستقرأ رسالة من كل عامل سوري في لبنان. إذا أنت قرأت وإذا هم اهتدوا الى هذه الطريقة في مخاطبتك، فلن تكفيك مدة رئاستك الأولى كلها. وقد بدد حيرتي الصديق الذي ساعدني في نص وصياغة أفكاري عندما تكلم مع رئيس تحرير صحيفة يعتبره صديقا، وذلك ليس بمفهوم صداقات ما بعد اغتيال الحريري. فوافق الأخير مشكورا على نشر الرسالة مذيلة بنسخة لرئيس الجمهورية اللبناني ونسخ لكل من يقرأ صحيفته. وأرفق نسخة لكمال جنبلاط أيضا فربما يقرأ بموجب عقيدته من جسد آخر في بلد آخر، فهو ليس بيننا في هذه الأيام بالتأكيد.
كتبت أشكو. لقد اعتدي علي اليوم يا سيادة الرئيس وشتمت وشتم بلدي وشتم العرب أجمعين (لا حاجة للمبالغة فقد استثنى الشاتمون أهل الخليج لأنه حتى الطائفية تباع وتشترى في هذا البلد، ولا طائفية ضد الخليج وساكنيه). وهي ليست أول مرة. فقد اعتدي علينا سابقا في مخيم موقت للعمال السوريين يشبه ال<<سكوتر كامبس>> التي كانت تقام للعمال المهاجرين السود خارج المدن في جنوب أفريقيا، وسنحت لنا فرصة مشاهدتها في التلفزيون قبل إحراقها. في حينه اعتدي علينا قرب صيدا. ولكن في هذه المرة جاء الاعتداء عنيفا جدا، وقد اعتبر في بعض الأوساط <<فشة خلق>>. قد يزلزل القتل الأرض وقد يعتبر فشة خلق، وهذا يعتمد على هوية القاتل وهوية المقتول.
قتل وجرح في الأيام الأخيرة عمال سوريون لا احد يعرف عددهم. لا أحد يحصيهم في الأيام العادية وعندما يموتون في إصابات عمل لا تعوض، فكم بالحري عندما ينشغل الناس بدماء أنقى؟ وبلدنا يعاني من عقدة الكبرياء، فهو لا يتطرق الى مصائبه مكابرة، ويخجل من ذكر عدد عماله في سوريا، ومن ذكر انعدام حقوقهم. فهذا مهين لكبريائنا وكرامتنا الرجولية التقليدية التي تظهر كأنها قومية. يعيب سوريا وربما يعيب الجيرة وعلاقات الأخوة أن تذكر حكومتنا أن مواطنيها يعاملون كالعبيد عديمي الحقوق في لبنان. أي خدّامة سريلانكية لها حقوق في هذا البلد لا تتوفر لأهم عامل سوري. وعلى فكرة حتى الخدامات درجات هنا مثل المواطنين. الفليبينية مثلا افضل من السيريلانكية. أنا اتحدث عن بشر يا سيادة الرئيس وليس عن أنواع سيارات. وأنا لا أتحدث عن السوريين المتلبننين، فهم على أنواع لا يتسع المجال لشرحها. منهم الغني الذي تعتبر لبننته مثل لبننة الفلسطيني الغني، مشروعة وخفيفة دم مثل الزواج المختلط عند الأغنياء، ومنهم الفقير الذي تعتبر لبننته توطينا ومؤامرة وتلويثا ربما لنقاء العرق مثلما يدعي العنصريون ضد العمال الاتراك في المانيا. وحقوقهم هناك في ألمانيا أهم من حقوق العمال اللبنانيين والسوريين معا.
مؤامرة صمت تلفنا. واعذرني فهنالك ما لا يُسكت عنه. وأنا هنا خائف كالشبح ينظر إليه في النهار شزرا ويخشى الاعتداء عليه ليلا ونهارا. وما لا يسكت عنه هو السؤال: من الذي يحتل الآخر في هذا البلد؟ هل سوريا تحتل لبنان أم العكس؟ تعودنا ان العمال من البلد الواقع تحت الاحتلال يتدفقون إلى البلد المستعمر (بكسر الميم) وهناك تساء معاملتهم ويصبحون موضوع احتجاج، ولكن فتات مائدة اقتصاد الدولة المستعمِرة أفضل مما يأكل على مائدة اقتصاد بلدهم. وكما هي حال عمال المستعمرات السابقة في اوروبا، يُدعى أنهم السبب وراء البطالة والجرائم وغيرها ويلاحقون من قبل العنصريين وحليقي الرؤوس. ولكن هنا يتعرض عمال الدولة التي يفترض انها محتلة للعنصرية والقمع والضرب الاستغلال كأيد عاملة رخيصة من قبل فئات من الشعب الذي يفترض أنه واقع تحت الاحتلال. إنه لغز محير فعلا. ويقال لنا من لا يعجبه فليذهب، و<<معاشك هنا حتى بدون حقوق وتعويضات وتأمينات ضعف معاش مُحَاضِر جامعة في دمشق>>. تماما كما يقال لعامل مغربي غير قانوني في فرنسا او فلسطيني في إسرائيل. فمَن يحتل مَن يا سيادة الرئيس؟
ثقافتي: بكالوريوس سابق لا يسمن ولا يغني عن جوع، وحاليا بعد أن نسيته لا تتجاوز ثقافتي المشاهدة، مشاهدة التلفزيون وتأمل الناس والاستماع إليهم. ورغم ذلك أعرف أن الدول المُستعمِرة تكون عادة أكثر ديموقراطية في بلدها مما في البلد الواقع تحت الاحتلال، ويكون البلد الواقع تحت الاحتلال أقل ديموقراطية. ولكن لبنان حاليا أكثر ديموقراطية من سوريا. يهاجمونك هنا شخصيا، ويهاجمون الرئيس اللبناني وغيره من المسؤولين، ويهاجمون وزراءك بالاسم ويتهمونك اتهامات باطلة. وفي سوريا لا نستطيع ان نهاجم أحدا بالاسم حتى عندما نكون على حق. لبنان تحت الاحتلال السوري المزعوم أكثر ديموقراطية من كل الدول العربية التي تتدخل الآن مستغلة دماء الحريري لتقديم خدمات أخرى للأمريكان عدا خدماتها في إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن حقوقهم. <<مو مْلَحْقين خدمات يا سيادة الرئيس>>، ويريدون الآن تعويض إسرائيل عن مستوطناتها!! ربما لأن الفلسطينيين احتلوا إسرائيل!! فكيف لا يعتبرون لبنان محتلا من قبل سوريا؟ ولبنان وهو تحت حكم ما يسمى <<الأجهزة>> أكثر ديموقراطية منهم جميعا، ومن كل واحد على حدة. مثقفوهم وصحافيوهم يتدفقون إلى لبنان للتحدث بحرية وعقد المؤتمرات. وهم أنفسهم يتدفقون إلى بيروت طوال العام ولكن لأسباب أخرى غير ثقافية. عندما ادعيت ذلك هنا قال لي سائق المقاول، صاحب العمل، إن لبنان كان دائما ديموقراطيا.
كان السائق رجل ميليشيات. وكان يقود سيارة قائد وحدة في المليشيا وأصبح الآن سائقه كرجل ثري ومقاول كبير. فأجبت بأنه لم يكن ديموقراطيا، والدليل أن عناصر تعدديته تحاربت بشكل يكاد يكون فاشيا في الحرب الأهلية (أصررت هنا على أن يضاف بين قوسين أن هذه ليست لغتي). تبين في حينه أنها تعددية تعيش على توازن هش وأنها ليست ديموقراطية. على كل حال لا ادري، لست خبيرا في هذه المواضيع. والمصطلحات يتحمل مسؤوليتها الصديق الذي حضر لزيارة صديقه وسكن قرب المشروع الذي أعمل فيه وعرض علي صياغة أفكاري التي أثارت إعجابه.
كيف نحل هذه التناقضات بالعقل والمنطق من دون أن نفقد عقولنا أو ضمائرنا؟ بسيطة، يبدو أنه ليس احتلالا. بل بالعكس. ولدي نموذج شرحته لصديقي لفهم ما يجري بعد أن حيرته بأسئلتي فأثار إعجابه. لا تناقض بين وضع العامل السوري والجندي السوري. كلاهما استخدم هنا من أجل تنفيذ مهمة من دون أي حقوق، وكلاهما عديم الحقوق في لبنان. على كل منهما أن ينهي وظيفته ويرحل من دون شكر او امتنان. ولسبب ما، يبدو من يشكر كأنه يشتم على وزن: <<شكرا لكم ممنونينكم نحنا، مع السلامة>>. الجندي الذي حمى إعادة بناء بيروت وجعل توحيدها ممكنا، والعامل الذي بنى بيروت عند متعهدين مثل الحريري، هما شيء واحد. سوريا قبضت ثمن المهمة الأولى سياسيا في رأيهم، وقبضت ثمن المهمة التالية تحويلات عمال من دون حقوق. تبقى أن نعمل بالسخرة مثل الجنود في المصانع لنرضيهم. وحتى المقاومة اللبنانية فقد أدت وظيفة لدى نفس أكابر القوم الذي حيّوها على ذلك وما عليها الا أن تمضي مشكورة، وكأنها أدت وظيفة خارجية لا علاقة لها بالمجتمع الذي يتصورونه ملكا لهم كما كان قبل قرن ونصف القرن.
عندما تغير الوضع السياسي الإقليمي أصبح الثمن السياسي المدفوع لسوريا وللمقاومة مكلفا لنفس الناس الذين كانوا من رموز الحكومات في ظل الوصاية السورية والأجهزة السورية واللبنانية وغيرها. رأيت مؤخرا على شاشة التلفزيون يا سيادة الرئيس شخصا أنيقا بطريقة <<النوفوريش>> يحرّض على سوريا. لم يسمع به أحد إلا لأنه قريب رئيس لبناني انتخب ومددت فترة رئاسته من دون قرار من مجلس الأمن وعمل تحت الوصاية السورية وعين وزيرا في ظلها، وغضب لأنه لم يرشح من جديد. <<لشو كنتو ضابينه هذا يا سيادة الرئيس؟>>. كل التناقضات، كل الانتهازية، كل التزييف، كل <<التفنيص>> الذي كان الى جانب سوريا أصبح الآن ضدها. ولكنه بقي تفنيصا، ونحن نعرفه عن قرب، فلا تخف. عند الشدة أعادوا القوات والتيار العوني ووجدوا أنفسهم يتظاهرون خلف صور جعجع وعون وبشير الجميل، ولم يبق سوى حبيقة الذي ضممتموه انتم على طريقة المخابرات الى <<حلفاء>> سوريا في لبنان، فكيف لا تخسرون حلفاء سوريا الحقيقيين. كدت أبحث عن صورة شارون في إحدى مسيرات الاستقلال.
لم ينفع المعارضة كل التفنيص الذي انتقل اليها، ولم ينفع سوريا أيضا، وعند التجييش عاد زعماء الميليشيات، ولكنهم يطالبون الآن ب<<الديمؤراطية>>. يبايعون الأبناء بعد آبائهم مبايعة، ويطالبون بالديموقراطية والتحالف مع الغرب. أما نحن فلا ندّعي الديموقراطية على الأقل. ابحثْ عن الانتهازي يا سيادة الرئيس تدركْ أين تهب الريح. وهي ريح عاتية، رياح طائفية من الشرق ومن الغرب في ظل رعاية أميركية. ف<<من العراق انطلقت شرارة الديموقراطية>>، سيكون عليك. فسوريا ليست بلدا محتلا، بل هي بلد محتلة أراضيه. وهي بلد معتدى عليه بالتأكيد، ولم يعتد على أحد. ولكنك لن تنجح بالعدة القديمة لا هنا في لبنان ولا عندنا، وهي نفس العدة، وغالبا ما يكونون أصدقاء شخصيين. هل تعرف كم عدد الصداقات بين أشخاص المعارضة الحالية ورموز النظام عندنا؟ والمشترك أنهم جميعا ديموقراطيون، ولكنهم اكتشفوا ذلك مؤخرا.
أي احتلال؟ عندما لم نكن نسمع عن شيء في سوريا كنا نسمع عن حركات التحرر في العالم وعن التضامن وعن المنظومة الاشتراكية غير المغفور لها، وعن شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وكنا نعرف أسماء الأحزاب اللبنانية: الشيوعي والقومي الاجتماعي والناصريين في بيروت وصيدا والبعث وغيرها. أي احتلال هذا لم يبقَ من بعده حزب قوي واحد بروح الأحزاب التي يؤمن بها للتحالف معه، لم يبق بعد تواجد طوال عقدين إلا أحزاب طوائف وزعامات طائفية حتى عند طوائف لم تكن طائفية في الماضي. تركنا المجتمع على حاله، وتعاملنا مع القوى الاجتماعية كما هي إلى درجة اعتبار الأحزاب كائنا مصطنعا قياسا بالقيادات التقليدية على الأرض. إلى هذه الدرجة كرسنا الوضع القائم، إلى درجة إضعاف قوى التغيير القائمة في الوضع القائم ذاته. إلى هذه الدرجة تعايشنا مع المجتمع كما هو وكرسنا كل ما هو تقليدي فيه. لا يوجد احتلال كهذا. حتى 17 أيار بقي على حاله كما بدا من حاملي الصور الأشاوس في وجهنا ووجه التاريخ.
وحاولت أنت أن تتعامل مع دولة ورئيس ومؤسسات، وزرت البلد رسميا كما يزار بلد مستقل. فعادوك لأنهم لا يريدون أن تتعامل مع لبنان كبلد له رئيس بل مع لبنان العشرين رئيسا وألف وزير وخمسين ألف نائب. يريدونك أن تتعامل كمحتل يتعامل مع قيادات تقليدية متعددة، ويتبع سياسة <<فرّق تسد>>. هذا هو البلد الوحيد الذي تستفيد قياداته من سياسة <<فرق تسد>> أكثر مما يستفيد المستعمِر المزعوم. وكل ذلك بحجة احترام أصالة البنى الاجتماعية وتمييز الحقيقي من غير الحقيقي في تمثيل الناس كطوائف. فغير الطائفي هو قيادي غير حقيقي في هذا البلد وعليك ألا تتعامل معه.
لا شك في أن سوريا أخطأت يا سيادة الرئيس عندما تعاملت مع مجتمع عريق كالمجتمع اللبناني من زاوية نظر ضباط وعملاء مخابرات. غاب المجتمع وغابت الجامعة وغاب الاقتصاد السوري عن العلاقة المباشرة التي لا تمر بضباط. أما نحن العمال فأنت ترى أي علاقة هذه. وأنت في فترتك لا تحصد نتائج أخطاء مرحلتك فقط، بل نتائج تراكم أخطاء سابقة. إرث ثقيل لا شك في ذلك. على كل حال، لا بد من التحرر من احتلال لبنان لسوريا كما أفهمه أنا وكما يفهمه أمثالي، بما في ذلك استحواذه على صانع القرار. وهذا لا يتم بقتال تراجعي يتم فيه تقديم التنازل بعد الآخر بحيث إن تحقيق مطلب الأمس لا يرضي رافعي مطالب اليوم، بل بوضع خطة بديلة وأسس تعامل بديل، تتضمن في ما تتضمن ليس فقط مطالب من لبنان لسوريا، ومنها مطالب عادلة، بل مطالب سوريا من لبنان أيضا. لا تقاتل قتالا تراجعيا فالتنازل قد لا يكفيهم حتى دمشق، ولن تذرف أميركا دمعة واحدة على سوريا، ولا اعتقد أن من يتعامل معنا هكذا اليوم يؤمن فعلا بعلاقة أخوية مع سوريا بعد <<الانسحاب الكامل>>. فالمطلب هو ليس الانسحاب بل تغيير الموقف من المقاومة في لبنان وفلسطين. المطلب هو تعميم شرارة الديموقراطية العراقية الى المنطقة.
ولدينا مطالب يا سيادة الرئيس. مطالب سياسية وأمنية، فالجندي لا يأتي مثل العامل لينفذ مهمة. وإذا كان حليفا فعلا فهو لا يمضي بعد أن ترفع في وجهه صور عميل إسرائيلي. إنه هنا بسبب التحالف. وللتحالف أصول. يجب ان تحترمها سوريا ويحترمها لبنان. وعلى المخابرات الا تتدخل في القرار السياسي حتى لو تطلب التحالف بقاء الجيش، وهذا يقرره اللبنانيون. ولكن لدينا نحن أيضا مطالب حقوقية، حقوقنا كعمال في لبنان. العنصرية مرفوضة ولا يجوز أن يتم التكتم على الاعتداء علينا. نطالب بمعاقبة الجناة. ولا نطالب بتحقيق دولي بل فقط بتحقيق لبناني بشأن المسؤولين عن قتل زملائنا وعن انتشار العنصرية، وبشأن كيفية التعامل معنا. في لبنان الذي يعاني إرثا عنصريا يجب ان تكون العنصرية والتحريض العنصري جرائم يعاقب عليها القانون.
الإرث ثقيل وسوف يكون عليك أن تبحث عن حلفاء سوريا في لبنان، وهم كثر، أكثر مما تتصور مجتمعات بيروت التي تريدنا وتريد جنودنا وتريد المقاومة اللبنانية كمجرد أنواع من الخدم. ولا تبحث يا سيادة الرئيس عن عملاء ولا حتى عملاء مخابرات فهؤلاء يغيرون موقفهم حالما تهب رياح غير مؤاتية ويسهل تعريضهم لضغط معنوي من قبل الشارع المعادي بتهمة العمالة للمخابرات، فمنهم من هو عميل فعلا، وهذا النوع يخضع بسرعة للضغط المعنوي. استرجع حلفاءك اللبنانيين فهم كثر. ولا تقاتل قتالا تراجعيا وظهرك الى دمشق، وكفى.
أصيب منا عدد في هذه الايام بالضرب والحرق: <<لينش، بوغروم>>، كما يقول الأجانب. ولكن نشرات الفضائيات العربية لم تتطرق الى ما تعرضنا له. ولو وقع لعمال سوريين في الجولان أو لعمال فلسطينيين في إسرائيل ما أصابنا هنا لتم نقل الوقائع بالبث المباشر. وماذا يساوي دم العامل؟ الكثير من زملائي قرروا العودة الى الوطن الى أن تهدأ الحال، او تهدأ الخواطر. هل تذكر كيف عادوا يوم وفاة والدك رحمه الله؟ لم يفهم اللبنانيون في حينه لماذا جهزوا امتعتهم الفقيرة وتدفقوا نحو الحدود. هل ليشاركوا في مراسم الحداد أم خوفا من المجهول؟ والمجهول يا سيادة الرئيس يصبح أكثر وطأة وتخويفا عندما يكون الخائف ذاته مجهولا غريبا. أما هذه المرة فأنا أجزم أنهم خافوا.
أنا فضلت البقاء. فضلت البقاء كأنني مازوخي (هذه الكلمة ليست مني)، ولكنها ثلاثمئة دولار في الشهر، ولن أفرط بها. فأنا أحد قلة تقبض أجرتها شهريا. والمشغل الذي أعلن الحداد علنا هو الآخر لن يكون لديه الوقت ولا الأعصاب ليدفع لي إذا سافرت فجأة. الحداد والحزن يشغلانه، وأنا في الواقع أتفهمه، فالاغتيال كما أُعلن من الجميع استهدف كل لبنان، وكل لبناني. وإذا طالبته بأجرتي، معاشي، فسوف يعتبرها استهانة بمصيبته، فهو غير آمن خاصة انه اغتيال للأمل وللمستقبل، ولذلك فهو محبط جدا. وأنا أصلا متهم من قبل الرعاع الديموقراطي الذي حماني هو منه.
أذكر أن نفس المشغل الحزين جدا والقلق جدا والغاضب جدا كان قد وبّخني بشدة عندما امتدحت الفقيد حين كان حيا. واعتبره تحيزا مني لأني سني. وأنا ربما كنت سنيا عندما اتيت الى هذا البلد ولكني أصبحت هنا سوريا وعربيا قبل كل شيء. وهو لم يقبل إصراري على أنني عربي ومواطن سوري فالجميع برأيه طائفيون وهذا ينطبق على كل إنسان. وقد جرب تجربة لاطائفية في الميليشيا التي ترأسها، وهو مقتنع الآن بأن التوازنات الطائفية هي المخرج، ولذلك فهو متحمس للطائف. ولا مكان لمن لا يرغب في أن يمثل طائفة برأيه. وهو يكره الحريري لأنه صعد بسرعة في السياسة اللبنانية بنقوده من دون أن ينتمي إلى عالم الميليشيات قبل أن يصل الى حيث وصل.
على كل حال، عندما قلت <<والله ان الحريري بنى بلده>> قال لي: <<وهل بنى من جيبه؟ جاء الى البلد ومعه مليارا دولار والآن معه 15 مليار دولار. واستلم البلد ب6 مليارات دولار ديونا وترك الحكومة والبلد مدين بأربعين مليارا (هذا على ذمة القائل). ثم أين يوجد رئيس حكومة تبني شركاته البلد>>. وعندما أجبت: <<برلسكوني>>، شتمني وشتم برلسكوني ثم ابتسم وقال <<إيه وشو يعني برلسكوني اسمه شتيمة في أوروبا وفي عليه مئة محكمة وتهم بالفساد>>. وعندما قلت انه يبدو لي متابعا للشؤون الدولية بشكل يتجاوز ما نعرفه عند المسؤولين اللبنانيين الآخرين قال لي ان هذا أيضا مرده نقوده وقدرته على شراء مختصين وزعامات حتى في الخارج. أما اليوم فإنه يقول نفس الكلام ولكن بنبرة إيجابية: <<إنه أكبر من لبنان بعلاقاته الدولية>>. على فكرة، اكتشفت انه لا أسرار في لبنان فكل مواطن يعرف كل شيء بالأرقام بغض النظر عن دقتها. ولكنه يستخدم المعلومات كما هو مريح له.
على كل حال، يا سيادة الرئيس لم أجرؤ على قول كلمة ايجابية واحدة عنه في الماضي القريب، ولا حتى بغرض الإنصاف. فأنا لم أكن كثير الإعجاب به، ولكن العداء الشديد له جعلني أتضامن معه كردة فعل. ولماذا أعجب بأي شيء في هذا البلد المثير للإعجاب والذي لا يبدي تجاهي، أقصد أنا العامل السوري، سوى العنصرية، وأنا آسف على استخدام هذا المصطلح. ولكن العنصرية تظهر هنا بأشكال شتى حتى عند الحديث عن حق العودة للفلسطيني، من دون أن تكون العودة هي المقصودة بل الرحيل عن هذا البلد. لدينا فلسطينيون يا سيادة الرئيس في حماه. مخيم كامل. ونحن نؤيد حق العودة هناك أيضا في حماه ونعارض التوطين. ولكننا لا نعامل إخواننا الفلسطينيين هكذا. في ما عدا التوطين والتصويت لمجلس الشعب، حقوقهم كحقوقنا. ثم هنالك عنصرية طائفية لا تصدق ضد بعضهم البعض. وعلى فكرة كل القسوة التي تفجرت تجاهنا أو تجاه الفلسطينيين تتقزم أمام العنصرية التي تفجرت بين الجيران في مناطق محددة. العنصرية لا تتجزأ كما يبدو.
عندما ادعيت أن المغدور الحريري يتقن العمل مع وسائل الإعلام، ويكثر من الظهور فيها قياسا مع أي مسؤول عربي، قالوا لي انه اشترى صحافة البلد، وان الصحافيين مقسومون الى من نجح الحريري في شرائهم ومن لم ينجح، وإنهم يتبادلون الأدوار. وإن هذه مصيبة بحق الإعلام ودوره وحرية الإعلام في لبنان. وأنا طبعا لم أناقش لأن أهل مكة أدرى بشعابها. وأهل مكة في هذه الحالة على دراية.
لكني احترت مؤخرا عندما رأيت نفس أهل مكة في الأسبوعين الأخيرين في نفس الشعاب، يمتدحون دور الحريري في <<التقرب>> من الصحافيين وفي <<فهم أهميتهم>> و<<تقديره دورهم واهتمامه بهم ورعايته لهم>>. بل قد رأيت بأم عيني على التلفزيون صحافيين يتحاورون في هذه الموضوعات المتعلقة بتقديره للصحافة مع صحافي سابق اتهمه أكثر من لبناني أمامي بأنه هو الذي ينوب عنه في شراء الصحافيين. وأنا قدرت الموقف وصمتّ طبعا. ولكني أكتب لك من على صفحات نفس الصحافة الحرة، فهذا وجهها الآخر الذي يمكِّن عاملا مثلي من التوجه الى رئيسه برسالة صريحة.
حقيقة ان تكون رجلا عربيا في عالم أميركا، تشكل بذاتها عبئا شديد الوطأة ولا شك، ان لفت التضامن نحوه هو أمر صعب المنال، من فلسطين وحتى العراق. يجب ان تكون أقلية عند العرب ليسهل التضامن معك. أما ان تكون عربيا، وعاملا سوريا، وعاملا سوريا في لبنان، فطبقات الاضطهاد المتراكمة فوق بعضها تفوق الاحتمال وتكتم صوت الألم. كل الآراء المسبقة تعمل ضدي. رجل وعربي ومسلم، وإضافة لذلك كله، يدعي أنه مضطهَد في بلد يعتبر محتلا، وبلد أقليات في الشرق، فكيف يسمع أحد صراخنا؟ لا بأس. عزائي حاليا أنه موقع مستقل عن المصالح إلى درجة أنه يمكنني من رؤية ما لا يراه آخرون.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
عامل سوري في لبنان
نسخة: رئيس جمهورية لبنان السيد إميل لحود حفظه الله،
السيد كمال جنبلاط،
المقاومة اللبنانية والشعب اللبناني الشقيق بوجه عام.
المصدر: جريدة السفير اللبنانية ... بتاريخ 26-2-2005