bill
02-12-2005, 04:04 PM
الصوفية.. هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير؟
د. عمار علي حسن**
شقت الصوفية دربا وسيعا في تاريخ المسلمين، منذ أن كانت مجرد شحنات عاطفية تجيش بها صدور الزاهدين، إلى أن صارت مؤسسات اجتماعية تتراوح في بعض الدول بين الدين والفلكلور، وفي أخرى بين العقيدة والسياسة. وطيلة القرون التي خلت والصوفية تخذل كل الذين تصوروا اندثارها، إما متهاوية تحت ضربات النقد اللاذع الذي تتعرض له من قبل الجماعات والتنظيمات والفرق الإسلامية التي تناصبها العداء، أو متصدعة بفعل موجات التحديث التي اجتاحت العالم الإسلامي في العقود الأخيرة من جهة، وترعرع الأشكال الأخرى لجمعنة الحالة الدينية سواء المسيَّسة أم الدعوية والخيرية من جهة ثانية.
لكن هذه الطرق سارت في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي خطه من توقعوا تدهور حالتها، واستطاعت أن تضم بين مريديها عناصر تنتمي إلى أكثر الفئات الاجتماعية والمهنية تحديثا.
الصوفية.. ورهانات الإصلاح
وبعد حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة بدأ الأمريكيون في سياق حملتهم الشاملة على ما يسمى "الإرهاب"، يدرسون إمكانية تعميم "الصوفية" بحيث تصبح هي الشكل المستقبلي للإسلام، أو على الأقل تقوى شوكتها على الساحة الإسلامية؛ لتخصم من رصيد الجماعات والتنظيمات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي التي أنتجت "تنظيم القاعدة" وما على شاكلته. ويعول الأمريكيون في تصورهم هذا على ما جادت به تجربة النقشبندية في تركيا؛ حيث استوعب المتصوفة قيم العلمانية، وطوروا رؤيتهم الدينية لتواكب العصر، وتتماشى مع النهج الديمقراطي، على مستوى القيم والإجراءات.
ولا تنبع الرؤية الإستراتيجية الأمريكية هذه من فراغ؛ بل تتأسس على جدل طال بين المستشرقين حول ما إذا كان التصوف الإسلامي ينطوي على حلول لمعضلة التطرف، وما إن كان فيه ما يقرب بين الإسلام والليبرالية، أو ما يسهل مهمة واشنطن في تجديد مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي.
وهناك من المستشرقين من يعتبر التصوف "قلب الإسلام" مثل الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، ومنهم من يؤكد أن "مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي" كالفرنسي الذي أعلن إسلامه إريك جيوفروي المختص بالصوفية بجامعة لوكسمبورج؛ بل إن هناك من بين فقهاء المسلمين أنفسهم من يؤكد أن حل مشاكلنا الحياتية المعاصرة في يد التصوف، وهنا يقول الداعية اليمني علي زين العابدين بن عبد الرحمن الجفري، الملقب بالحبيب علي: "الحقيقة أنني أرى أن لب القضية التي تعيشها الأمة ومصيبتها الكبرى يرجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت. والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس التصوف الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم.
فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفائها، ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت، ويربطها بالله عز وجل؛ فالتصوف بهذا المعنى هو القادر على حل جميع مشكلاتنا وأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية؛ لأن هذا المعنى من التصوف هو الذي أخرج لنا صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي، والذي يقرأ تاريخ الاثنين يجدهما نتاج مدرسة التصوف".
ويذهب محمد يتيم إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن التصوف هو الذي يقي السياسة من الفساد، إذا وفر لها ثوابت نقية، وسمح بالجمع بين "معانقة الحق ومخالطة الخلق"، أو الرباط الروحي والممارسة السياسية، وينطلق من هذا التصور ليرد على من ينادون بفصل الدين عن السياسة؛ فيقول: "إن فساد السياسة راجع إلى فساد في التجربة الصوفية، ونقصد بذلك إخفاقا في حمل النفس على مراد الله، وفشلا في تجربة التخلية والتحلية؛ إما بسبب راجع إلى السالك نفسه أو إلى النهج أو الطريقة التي اختارها... وأساس الفساد في التجربة السياسية أيضا هو أن تكون مقطوعة الصلة بتجربة صوفية من الأساس، أو انقطعت عنها بعض وصل كان في البداية؛ إذ يقل رجوع السياسي لذاته من حين لآخر لتعهدها والرجوع بها إلى العهد الأول؛ أي إلى عهد الترويض..
إن التجارب القريبة والبعيدة تدل على أن فساد السياسة والبنيات الحزبية لم ينتج من نقص في البرامج والمؤسسات والقوانين فقط؛ بل إنه راجع في الجزء الأعظم منه إلى فساد السياسيين، وافتقارهم إلى تجربة صوفية حقيقية سابقة، أو توقفهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، والتي على رأسها هوى متبع، وإعجاب بالرأي، ودنيا مؤثرة، وسقوط في المفسدات الكبرى للسياسة، وعلى رأسها حب الجاه والتسلط".
الصوفية.. وجوه وتجارب
من تكايا الصوفية في مصر
لكن هذه التصورات تتعامل مع التصوف في بعده الحركي على أساس إما أنه نمط واحد إيجابي يمكن تعميمه، أو أنه حالة جوانية فريدة تعلي من تقدير طوية الإنسان وحريته، وتزيد من تسامحه في التعامل مع الآخرين، وإيمانه بحقوق الإنسان، وبذلك يمكن استخدامه في محاربة التطرف، واستعماله على أنه الإطار الديني لثقافة سياسية إسلامية ذات سمت ديمقراطي.
إلا أن التصوف في حقيقة الأمر لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ فقد صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنمويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية، بعضها متسامح في التعامل مع الآخرين، بما في ذلك أتباع الطرق الصوفية المنافسة، وبعضها يدخل في تناحر مع الآخر ويعاديه، بعضها تعاون مع الاستعمار -وربما هو ما تريده الولايات المتحدة في الوقت الراهن- لكن أغلبها حارب المستعمر بضراوة، وجزء منها ساهم في التنمية بأبعادها الشاملة، وجزء كان عالة على المجتمع.
وهناك فارق كبير بين طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، وطرق صوفية تماهت في الفلكلور وباتت ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس شرعيتها مثل ما هو الوضع في مصر، التي إن كان يمكن على استحياء تصنيف طرقها الصوفية بأنها أحد روافد المجتمع الأهلي اعتمادا على النشاط الخيري لبعضها؛ فإن من الصعوبة بمكان الطموح إلى تثويرها أو إنهاء مسألة انسحابها الواضح نسبيا من الحياة السياسية، أو على الأقل تنقيتها من بعض مظاهر الخرافة والدجل التي سقطت فيها.
فالصوفية المصرية مثلا إن كانت قد أفرزت في عصور غابرة ولمرات قليلة شيوخا ناطحوا السلاطين باستنادهم إلى التفاف جماهيري منقطع النظير ينساق حول أعمال باراسيكولوجية وأسطورية ومنافع مادية؛ فإنها تحولت في الوقت المعاصر إلى مجرد خادم للحكام، وهي مسألة لا تخطئها عين من يتابع الاحتفالات الصوفية، ولا يهملها عقل من يفكر في خطاب المتصوفة حيال السلطة من جهة، والحبل السري الذي يربط تنظيمهم بشقيه الإداري والروحي بجهاز الدولة الأمني والديني من جهة ثانية.
أما في تركيا؛ فبدءا من نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه أحد رموز الطريقة النقشبندية، وصولا إلى أحد مريديه وهو الطيب رجب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية.. تغالب الطرق الصوفية تقليديتها، وتستغل الفضاء الواسع الذي يتيحه الفكر الصوفي من تسامح واعتراف بالآخر في وضع أطر ووسائط سياسية تجعلها متناغمة مع الحياة الديمقراطية التي تعتمد على التعددية، كما تستخدم ما في الصوفية من حض على التراحم والتماسك والصبر على المكروه في تعزيز ثقافة الإنجاز، ومن ثم السير قدما على درب التنمية.
هل تصلح قاعدة لمشروع سياسي؟
فضلا عن ذلك فإن طرح الأحزاب الإسلامية التركية يتجاوز كثيرا مجرد الركون عند ما في التصوف من تجليات سياسية غير مباشرة، ليطال سقف الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي. فالفكر الصوفي في حد ذاته لا ينهض بمشروع سياسي متكامل الأركان، أو بوسعه أن يشكل إطارا عاما لمشروع سياسي ناجع؛ فالتصوف بأركانه الأربعة وهي المعرفة اللدنية والمحبة والزهد والولاية ينتج قيما معينة، بعضها يأخذ منحى سياسيا، أو ينطوي في جانبه الفلسفي واللغوي العام على جوانب تمس ظاهرة السلطة، لكنه لم ينضج إلى درجة تشكيل برنامج أو إطار أو حتى منحى سياسي، وإلا فقد التصوف معناه، بنزوله من فضاء الروحانيات إلى مقتضيات الأحوال المادية.
فبداية تعلي لغة الصوفية في رمزيتها وشاعريتها وشفاهيتها وقاموسها المتفرد واستغلاقها على أفهام العامة من قيم التماسك والتعاون داخل الطريقة الصوفية؛ لأنها تشعر من يرددونها في الأذكار والأوراد بوحدة المصير والهدف، وتزكي لديهم الانتماء للجماعة؛ حتى إن كان بعضهم لا يحيط بالمعاني التفصيلية لهذه اللغة إحاطة كاملة. ويزداد الأمر حضورا إن اشتملت اللغة على السيمائيات وشفرات الطقوس، إلى جانب الكلام.
لكن على النقيض فإن هذه اللغة في غموضها تعزز قيم الاستبداد داخل الطريقة؛ فقلة هي التي تحتكر أسرارها، وتمتلك القدرة على تأويلها، أو تدعي ذلك، وبالتالي يكون من السهل عليها أن تقود البقية من الذين تسهم محدودية معرفتهم في تقليص درجة حريتهم في النقاش والتساؤل داخل الطريقة.
أما المعرفة الصوفية في حدسيتها وغنوصيتها واستخدامها الكشف والتذوق سبيلا إلى إدراك الحقائق المستترة وراء المحسوسات تعزز القيم التي تفضي إلى التسلط، وتكرس الخضوع والاستسلام للسلطان؛ لأنها تقرر نموذجا معرفيا ينتج عقولا منغلقة "مستقيلة" تدعي امتلاك الحقيقة، وقد يصل هذا الادعاء إلى حد القول بالنبوة أو ما شابهها أو التوحد في الذات الإلهية. ومن ثم تقود هذه المعرفة أحيانا إلى تقديس الأشخاص، أو دفعهم إلى الاغترار بالاصطفاء، عبر المبالغة في "الكرامات"، ومن ثم رأى بعض المتصوفة أنهم أرستقراطية، أو صفوة مختارة.
والزهد الذي يعد الأب الشرعي للتصوف إن كان قد ولد من رحم السياسة، نظرا لأنه نتاج الخلافات والتناحر بين الفرق الإسلامية والتفاوت الطبقي الكبير خاصة في العصر العباسي؛ فإنه يثمر قيما سياسية متعارضة. فالزهد في الدنيا يتضمن الزهد في السياسة باعتبارها من أعلى صور الممارسات الدنيوية، ومن ثم يقود الزاهدين إلى الانسحاب من الحياة العامة، ويلقي عليهم سلبية في مواجهة الظلم الاجتماعي والطغيان السياسي.
وعلى النقيض من ذلك فإن الزهد ينتج قيما سياسية إيجابية في اتجاه الانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط والطغيان. فالزهد فيما يمتلكه السلطان من مال ومناصب يجعل الزاهدين أكثر قوة في مواجهته، وأعلى قدرة في التمرد عليه، وهناك تجارب تاريخية عديدة لمتصوفة كبار، رفضوا ما قدمه لهم السلاطين من متع الدنيا الزائلة، مقابل أن يبيعوا الجماهير، أو يباركوا تصرفات السلطة ضد المجتمع.
والولاية عند المتصوفة التي تأخذ شكلا قريبا من الإمامة عن الشيعة من خلال إعلائها من وضع الميثولوجيا تنتج قيما تغذي الاستبداد؛ إذ إن ترويج الأساطير يعطي المروجين قدرة فائقة في السيطرة على أتباعهم، ويعطي النظام القائم على التخيل إمكانية هائلة للاستمرار؛ وهو ما يفسر جانبا من استمرارية الطرق الصوفية رغم تنامي التحديث في المجتمعات التي تعيش فيها. وتؤدي الولاية عبر تعزيزها "الاحترام الأحادي" المبني على العاطفة من قبل القصر (المريدين) حيال أصحاب الكرامات (الأولياء) إلى تعويض الأفراد المنخرطين في الطرق الصوفية والمتعاطفين معها عن تطلعاتهم التي لا يتمكنون من تحقيقها في الواقع.
وأخيرا تؤدي المحبة التي تعني عند الصوفية حب الله والإخوة في الطريقة والمخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى، إلى شيوع قيمة التسامح، سواء بين المريدين بعضهم البعض، أو بينهم وغيرهم من المجتمع الأوسع. فالمريد ينعت زملاءه بالأحباب، إلى جانب الفقراء والإخوة.
الشيء ونقيضه
ومن دون إسهاب ممل نجد أن ثقافة التصوف تتصف بما يطلق عليه بعض علماء النفس والاجتماع "الثناقيمية"؛ أي إنتاج قيم متعارضة أو متضادة. ومعنى هذا أن الفكر الصوفي ينطوي على ما بإمكانه أن يدفع في طريق الإنجاز والعكس في آن. وتأتي حركة الواقع أو استغلال المتصوفة لهذا الفكر؛ لتبين عبر التراكم التاريخي ما إذا كانوا قد حولوا هذه الأفكار إلى طاقة إيجابية، أم استمرءوا التخاذل؛ فكان لهذا الفكر أثر سلبي على حركتهم.
ونزولا من الفكر إلى الحركة نجد أن المتصوفة أنتجوا سلوكا سياسيا متعارضا، وليس نمطيا أو واحدا يمكن القياس عليه، أو تعميمه حسب ما تريد أمريكا في الوقت الراهن. فهناك طرق صوفية كافحت الاستعمار بضراوة مثل القادرية، وتوجد أخرى تعاونت معه مثل التيجانية. وهناك طرق نهضت بمجتمعاتها وكونت كيانات سياسية ذات شأن مثل السنوسية والمهدية، وأخرى عاشت عالة على مجتمعاتها في الزوايا والربط والخانقاوات والتكايا.
أخيرا.. ربما يغير الأمريكان وجهة نظرهم، حال قراءة متعمقة لما ينتجه الفكر الصوفي من ثقافة سياسية من ناحية، والاطلاع على تاريخ الطرق الصوفية في آسيا وأفريقيا من جهة ثانية، وربما يمضون في إستراتيجيتهم إلى أبعد مدى، لكن الثابت في كل الأحوال أن الصوفية شكلت على مدار التاريخ أحد تجليات الإسلام في أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية، وستظل تزاول هذا التجلي في المستقبل المنظور، بغض النظر عن الموقف الذي تتخذه واشنطن حيال الطرق الصوفية
د. عمار علي حسن**
شقت الصوفية دربا وسيعا في تاريخ المسلمين، منذ أن كانت مجرد شحنات عاطفية تجيش بها صدور الزاهدين، إلى أن صارت مؤسسات اجتماعية تتراوح في بعض الدول بين الدين والفلكلور، وفي أخرى بين العقيدة والسياسة. وطيلة القرون التي خلت والصوفية تخذل كل الذين تصوروا اندثارها، إما متهاوية تحت ضربات النقد اللاذع الذي تتعرض له من قبل الجماعات والتنظيمات والفرق الإسلامية التي تناصبها العداء، أو متصدعة بفعل موجات التحديث التي اجتاحت العالم الإسلامي في العقود الأخيرة من جهة، وترعرع الأشكال الأخرى لجمعنة الحالة الدينية سواء المسيَّسة أم الدعوية والخيرية من جهة ثانية.
لكن هذه الطرق سارت في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي خطه من توقعوا تدهور حالتها، واستطاعت أن تضم بين مريديها عناصر تنتمي إلى أكثر الفئات الاجتماعية والمهنية تحديثا.
الصوفية.. ورهانات الإصلاح
وبعد حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة بدأ الأمريكيون في سياق حملتهم الشاملة على ما يسمى "الإرهاب"، يدرسون إمكانية تعميم "الصوفية" بحيث تصبح هي الشكل المستقبلي للإسلام، أو على الأقل تقوى شوكتها على الساحة الإسلامية؛ لتخصم من رصيد الجماعات والتنظيمات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي التي أنتجت "تنظيم القاعدة" وما على شاكلته. ويعول الأمريكيون في تصورهم هذا على ما جادت به تجربة النقشبندية في تركيا؛ حيث استوعب المتصوفة قيم العلمانية، وطوروا رؤيتهم الدينية لتواكب العصر، وتتماشى مع النهج الديمقراطي، على مستوى القيم والإجراءات.
ولا تنبع الرؤية الإستراتيجية الأمريكية هذه من فراغ؛ بل تتأسس على جدل طال بين المستشرقين حول ما إذا كان التصوف الإسلامي ينطوي على حلول لمعضلة التطرف، وما إن كان فيه ما يقرب بين الإسلام والليبرالية، أو ما يسهل مهمة واشنطن في تجديد مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي.
وهناك من المستشرقين من يعتبر التصوف "قلب الإسلام" مثل الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، ومنهم من يؤكد أن "مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي" كالفرنسي الذي أعلن إسلامه إريك جيوفروي المختص بالصوفية بجامعة لوكسمبورج؛ بل إن هناك من بين فقهاء المسلمين أنفسهم من يؤكد أن حل مشاكلنا الحياتية المعاصرة في يد التصوف، وهنا يقول الداعية اليمني علي زين العابدين بن عبد الرحمن الجفري، الملقب بالحبيب علي: "الحقيقة أنني أرى أن لب القضية التي تعيشها الأمة ومصيبتها الكبرى يرجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت. والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس التصوف الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم.
فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفائها، ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت، ويربطها بالله عز وجل؛ فالتصوف بهذا المعنى هو القادر على حل جميع مشكلاتنا وأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية؛ لأن هذا المعنى من التصوف هو الذي أخرج لنا صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي، والذي يقرأ تاريخ الاثنين يجدهما نتاج مدرسة التصوف".
ويذهب محمد يتيم إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن التصوف هو الذي يقي السياسة من الفساد، إذا وفر لها ثوابت نقية، وسمح بالجمع بين "معانقة الحق ومخالطة الخلق"، أو الرباط الروحي والممارسة السياسية، وينطلق من هذا التصور ليرد على من ينادون بفصل الدين عن السياسة؛ فيقول: "إن فساد السياسة راجع إلى فساد في التجربة الصوفية، ونقصد بذلك إخفاقا في حمل النفس على مراد الله، وفشلا في تجربة التخلية والتحلية؛ إما بسبب راجع إلى السالك نفسه أو إلى النهج أو الطريقة التي اختارها... وأساس الفساد في التجربة السياسية أيضا هو أن تكون مقطوعة الصلة بتجربة صوفية من الأساس، أو انقطعت عنها بعض وصل كان في البداية؛ إذ يقل رجوع السياسي لذاته من حين لآخر لتعهدها والرجوع بها إلى العهد الأول؛ أي إلى عهد الترويض..
إن التجارب القريبة والبعيدة تدل على أن فساد السياسة والبنيات الحزبية لم ينتج من نقص في البرامج والمؤسسات والقوانين فقط؛ بل إنه راجع في الجزء الأعظم منه إلى فساد السياسيين، وافتقارهم إلى تجربة صوفية حقيقية سابقة، أو توقفهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، والتي على رأسها هوى متبع، وإعجاب بالرأي، ودنيا مؤثرة، وسقوط في المفسدات الكبرى للسياسة، وعلى رأسها حب الجاه والتسلط".
الصوفية.. وجوه وتجارب
من تكايا الصوفية في مصر
لكن هذه التصورات تتعامل مع التصوف في بعده الحركي على أساس إما أنه نمط واحد إيجابي يمكن تعميمه، أو أنه حالة جوانية فريدة تعلي من تقدير طوية الإنسان وحريته، وتزيد من تسامحه في التعامل مع الآخرين، وإيمانه بحقوق الإنسان، وبذلك يمكن استخدامه في محاربة التطرف، واستعماله على أنه الإطار الديني لثقافة سياسية إسلامية ذات سمت ديمقراطي.
إلا أن التصوف في حقيقة الأمر لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ فقد صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنمويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية، بعضها متسامح في التعامل مع الآخرين، بما في ذلك أتباع الطرق الصوفية المنافسة، وبعضها يدخل في تناحر مع الآخر ويعاديه، بعضها تعاون مع الاستعمار -وربما هو ما تريده الولايات المتحدة في الوقت الراهن- لكن أغلبها حارب المستعمر بضراوة، وجزء منها ساهم في التنمية بأبعادها الشاملة، وجزء كان عالة على المجتمع.
وهناك فارق كبير بين طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، وطرق صوفية تماهت في الفلكلور وباتت ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس شرعيتها مثل ما هو الوضع في مصر، التي إن كان يمكن على استحياء تصنيف طرقها الصوفية بأنها أحد روافد المجتمع الأهلي اعتمادا على النشاط الخيري لبعضها؛ فإن من الصعوبة بمكان الطموح إلى تثويرها أو إنهاء مسألة انسحابها الواضح نسبيا من الحياة السياسية، أو على الأقل تنقيتها من بعض مظاهر الخرافة والدجل التي سقطت فيها.
فالصوفية المصرية مثلا إن كانت قد أفرزت في عصور غابرة ولمرات قليلة شيوخا ناطحوا السلاطين باستنادهم إلى التفاف جماهيري منقطع النظير ينساق حول أعمال باراسيكولوجية وأسطورية ومنافع مادية؛ فإنها تحولت في الوقت المعاصر إلى مجرد خادم للحكام، وهي مسألة لا تخطئها عين من يتابع الاحتفالات الصوفية، ولا يهملها عقل من يفكر في خطاب المتصوفة حيال السلطة من جهة، والحبل السري الذي يربط تنظيمهم بشقيه الإداري والروحي بجهاز الدولة الأمني والديني من جهة ثانية.
أما في تركيا؛ فبدءا من نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه أحد رموز الطريقة النقشبندية، وصولا إلى أحد مريديه وهو الطيب رجب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية.. تغالب الطرق الصوفية تقليديتها، وتستغل الفضاء الواسع الذي يتيحه الفكر الصوفي من تسامح واعتراف بالآخر في وضع أطر ووسائط سياسية تجعلها متناغمة مع الحياة الديمقراطية التي تعتمد على التعددية، كما تستخدم ما في الصوفية من حض على التراحم والتماسك والصبر على المكروه في تعزيز ثقافة الإنجاز، ومن ثم السير قدما على درب التنمية.
هل تصلح قاعدة لمشروع سياسي؟
فضلا عن ذلك فإن طرح الأحزاب الإسلامية التركية يتجاوز كثيرا مجرد الركون عند ما في التصوف من تجليات سياسية غير مباشرة، ليطال سقف الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي. فالفكر الصوفي في حد ذاته لا ينهض بمشروع سياسي متكامل الأركان، أو بوسعه أن يشكل إطارا عاما لمشروع سياسي ناجع؛ فالتصوف بأركانه الأربعة وهي المعرفة اللدنية والمحبة والزهد والولاية ينتج قيما معينة، بعضها يأخذ منحى سياسيا، أو ينطوي في جانبه الفلسفي واللغوي العام على جوانب تمس ظاهرة السلطة، لكنه لم ينضج إلى درجة تشكيل برنامج أو إطار أو حتى منحى سياسي، وإلا فقد التصوف معناه، بنزوله من فضاء الروحانيات إلى مقتضيات الأحوال المادية.
فبداية تعلي لغة الصوفية في رمزيتها وشاعريتها وشفاهيتها وقاموسها المتفرد واستغلاقها على أفهام العامة من قيم التماسك والتعاون داخل الطريقة الصوفية؛ لأنها تشعر من يرددونها في الأذكار والأوراد بوحدة المصير والهدف، وتزكي لديهم الانتماء للجماعة؛ حتى إن كان بعضهم لا يحيط بالمعاني التفصيلية لهذه اللغة إحاطة كاملة. ويزداد الأمر حضورا إن اشتملت اللغة على السيمائيات وشفرات الطقوس، إلى جانب الكلام.
لكن على النقيض فإن هذه اللغة في غموضها تعزز قيم الاستبداد داخل الطريقة؛ فقلة هي التي تحتكر أسرارها، وتمتلك القدرة على تأويلها، أو تدعي ذلك، وبالتالي يكون من السهل عليها أن تقود البقية من الذين تسهم محدودية معرفتهم في تقليص درجة حريتهم في النقاش والتساؤل داخل الطريقة.
أما المعرفة الصوفية في حدسيتها وغنوصيتها واستخدامها الكشف والتذوق سبيلا إلى إدراك الحقائق المستترة وراء المحسوسات تعزز القيم التي تفضي إلى التسلط، وتكرس الخضوع والاستسلام للسلطان؛ لأنها تقرر نموذجا معرفيا ينتج عقولا منغلقة "مستقيلة" تدعي امتلاك الحقيقة، وقد يصل هذا الادعاء إلى حد القول بالنبوة أو ما شابهها أو التوحد في الذات الإلهية. ومن ثم تقود هذه المعرفة أحيانا إلى تقديس الأشخاص، أو دفعهم إلى الاغترار بالاصطفاء، عبر المبالغة في "الكرامات"، ومن ثم رأى بعض المتصوفة أنهم أرستقراطية، أو صفوة مختارة.
والزهد الذي يعد الأب الشرعي للتصوف إن كان قد ولد من رحم السياسة، نظرا لأنه نتاج الخلافات والتناحر بين الفرق الإسلامية والتفاوت الطبقي الكبير خاصة في العصر العباسي؛ فإنه يثمر قيما سياسية متعارضة. فالزهد في الدنيا يتضمن الزهد في السياسة باعتبارها من أعلى صور الممارسات الدنيوية، ومن ثم يقود الزاهدين إلى الانسحاب من الحياة العامة، ويلقي عليهم سلبية في مواجهة الظلم الاجتماعي والطغيان السياسي.
وعلى النقيض من ذلك فإن الزهد ينتج قيما سياسية إيجابية في اتجاه الانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط والطغيان. فالزهد فيما يمتلكه السلطان من مال ومناصب يجعل الزاهدين أكثر قوة في مواجهته، وأعلى قدرة في التمرد عليه، وهناك تجارب تاريخية عديدة لمتصوفة كبار، رفضوا ما قدمه لهم السلاطين من متع الدنيا الزائلة، مقابل أن يبيعوا الجماهير، أو يباركوا تصرفات السلطة ضد المجتمع.
والولاية عند المتصوفة التي تأخذ شكلا قريبا من الإمامة عن الشيعة من خلال إعلائها من وضع الميثولوجيا تنتج قيما تغذي الاستبداد؛ إذ إن ترويج الأساطير يعطي المروجين قدرة فائقة في السيطرة على أتباعهم، ويعطي النظام القائم على التخيل إمكانية هائلة للاستمرار؛ وهو ما يفسر جانبا من استمرارية الطرق الصوفية رغم تنامي التحديث في المجتمعات التي تعيش فيها. وتؤدي الولاية عبر تعزيزها "الاحترام الأحادي" المبني على العاطفة من قبل القصر (المريدين) حيال أصحاب الكرامات (الأولياء) إلى تعويض الأفراد المنخرطين في الطرق الصوفية والمتعاطفين معها عن تطلعاتهم التي لا يتمكنون من تحقيقها في الواقع.
وأخيرا تؤدي المحبة التي تعني عند الصوفية حب الله والإخوة في الطريقة والمخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى، إلى شيوع قيمة التسامح، سواء بين المريدين بعضهم البعض، أو بينهم وغيرهم من المجتمع الأوسع. فالمريد ينعت زملاءه بالأحباب، إلى جانب الفقراء والإخوة.
الشيء ونقيضه
ومن دون إسهاب ممل نجد أن ثقافة التصوف تتصف بما يطلق عليه بعض علماء النفس والاجتماع "الثناقيمية"؛ أي إنتاج قيم متعارضة أو متضادة. ومعنى هذا أن الفكر الصوفي ينطوي على ما بإمكانه أن يدفع في طريق الإنجاز والعكس في آن. وتأتي حركة الواقع أو استغلال المتصوفة لهذا الفكر؛ لتبين عبر التراكم التاريخي ما إذا كانوا قد حولوا هذه الأفكار إلى طاقة إيجابية، أم استمرءوا التخاذل؛ فكان لهذا الفكر أثر سلبي على حركتهم.
ونزولا من الفكر إلى الحركة نجد أن المتصوفة أنتجوا سلوكا سياسيا متعارضا، وليس نمطيا أو واحدا يمكن القياس عليه، أو تعميمه حسب ما تريد أمريكا في الوقت الراهن. فهناك طرق صوفية كافحت الاستعمار بضراوة مثل القادرية، وتوجد أخرى تعاونت معه مثل التيجانية. وهناك طرق نهضت بمجتمعاتها وكونت كيانات سياسية ذات شأن مثل السنوسية والمهدية، وأخرى عاشت عالة على مجتمعاتها في الزوايا والربط والخانقاوات والتكايا.
أخيرا.. ربما يغير الأمريكان وجهة نظرهم، حال قراءة متعمقة لما ينتجه الفكر الصوفي من ثقافة سياسية من ناحية، والاطلاع على تاريخ الطرق الصوفية في آسيا وأفريقيا من جهة ثانية، وربما يمضون في إستراتيجيتهم إلى أبعد مدى، لكن الثابت في كل الأحوال أن الصوفية شكلت على مدار التاريخ أحد تجليات الإسلام في أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية، وستظل تزاول هذا التجلي في المستقبل المنظور، بغض النظر عن الموقف الذي تتخذه واشنطن حيال الطرق الصوفية