bill
12-20-2004, 02:45 PM
إستانبول/ أورخان محمد علي**
تتناول هذه المقالة بإيجاز قصة أشهر مجلة تبشيرية مسيحية وهي مجلة "العالم الإسلامي" (The Muslim World)، والمراحل المختلفة التي مرت بها، والتحولات التي طرأت عليها وعلى سياستها ومنهجها.
قبل مائة عام تقريبا كان المسلمون يعيشون سنوات حالكات؛ فقد وقع ثلثا أراضي المسلمين في أيدي الاستعمار الغربي من إندونيسيا والهند شرقا إلى شمال أفريقيا غربا، مرورا بالشام وبلاد الهلال الخصيب، وكانت الدولة العثمانية تعالج ساعات الاحتضار، في حين انحصر مسلمو آسيا الوسطى بين عملاقين: الصين وروسيا.
وكانت اللحظة من السوء بحيث أغرت المؤسسات التبشيرية الغربية بانتهازها لتسجيل انتصارات متوقعة في الساحة الدينية للمسلمين؛ اعتقادا بأن التقهقر والهزيمة واليأس الذي أحاط بالمسلمين، ونزعة الاستعلاء والهيمنة الغربية ستسهل مهمة المبشرين، وتفتح أمامهم آفاقا رحبة لتحويل المسلمين إلى دين الغالبين.. إلى دين الغرب المنتصر والمتحضر!
في هذه الأجواء صدرت مجلة "العالم الإسلامي" (The Muslim World).
صدر العدد الأول من المجلة في الشهر الأول من عام 1911م. كان رئيس التحرير فيها صموئيل م. زويمر أحد الأسماء اللامعة في ميدان التبشير، ونجد تلخيصا لأهداف المجلة في العبارة الآتية التي وضعت تحت اسم المجلة مباشرة: "مجلة فصلية أدبية وفكرية تعرض نجاح المبشرين المسيحيين في العالم الإسلامي وحوادث وأخبار المحمديين". ويلاحظ أنها استعملت كلمة "المحمديين" بدلا من "المسلمين"، وفاتها أن المسلمين لا ينتسبون إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) مثلما ينتسب المسيحيون إلى المسيح (عليه السلام). والطريف أنها حددت نشاطها بأنها ستعرض "نجاح المبشرين المسيحيين في بلاد الإسلام"، دون أن تبين من أين لها أن تعلم بأن نشاط المبشرين سيتكلل بالنجاح!!
وتبدو الرسالة التبشيرية واضحة وصريحة منذ المقالة الافتتاحية للعدد الأول التي جاءت تتساءل أولا:
"أكانت هناك حاجة إلى إصدار مثل هذه المجلة حول العالم الإسلامي في الوقت الذي توجد هناك مجلات أخرى حول هذا الموضوع، مثل: المجلة الفرنسية Revuedo Monde Musluman (بدأت بالصدور عام 1900م)، والمجلة الألمانية Der Islam (بدأت بالصدور عام 1903)، وكذلك مع وجود دائرة المعارف الإسلامية Encyclopadia of Islam". وتجيب المقالة بالإيجاب على هذا السؤال؛ لأنها ترى أن الطابع الغالب على هاتين المجلتين وعلى دائرة المعارف الإسلامية طابع أكاديمي، وهي لا تهتم كثيرا بالتبشير، ولا تستطيع حل "المشكلة الإسلامية!!" أو "مشكلة المسلمين!!". في حين أن الحل عند مجلة العالم الإسلامي هو تنصير المسلمين؛ وهو ما لا تستطيع المجلتان الفرنسية والألمانية ولا دائرة المعارف الإسلامية القيام به، وهي المهمة التي تسعى المجلة للاضطلاع بها. فلا علاج لما أسمته المجلة بـ"المشكلة الإسلامية!!" إلا بالتنصير؛ إذ ما دام المسلمون باقين على دينهم؛ فهناك مشكلة ويجب حلها.
وللحق لم يخلُ العدد الأول من مقالات أكاديمية، غير أن أهم ما ورد فيها تفاصيل دقيقة عن مؤتمرين تبشيريين عقدا عام 1910م في ألمانيا وإنجلترا. كما نطالع في هذا العدد مقالة تقول بأن جميع الشروط والظروف أصبحت الآن مواتية لتنصير العالم الإسلامي. ولكنها تتعجب أشد العجب أمام ظاهرة لا تستطيع تفسيرها؛ وهي ظاهرة انتشار الإسلام في قارة إفريقيا مع وجود جميع عوامل الضعف والانهيار في البلدان الإسلامية. ولكن المقالة تستمر فتقول بأن هدف المسيحيين لا يقتصر على إيقاف انتشار الإسلام في إفريقيا؛ لأن الهدف المرسوم أكبر من هذا بكثير، وهو القيام بكسب قلوب المسلمين وتنصيرهم، ولن يتم هذا إلا بهز قواعد الإسلام في شمال إفريقيا، ولا سيما في المغرب وفي مصر حتى يتم انهيارها. كما توقعت المقالة هجوم الإسلام على المسيحية التي ستنتشر في إفريقيا.
أما أهم الطرق والاقتراحات التي تقدمها المجلة ليتم هذا التنصير فهي:
1- تدجين الإسلام.
2- تحديث الإسلام.
3- تهيئة قائمة بأسماء المسلمين الذين تنصروا، والاستفادة منها في شن حملة نفسية منظمة على المسلمين.
4- فتح المدارس والمستشفيات في البلدان الإسلامية والاستعانة بها في كسب عقول وقلوب المسلمين.
كما نقرأ في هذا العدد الدعاء الذي كتبه رئيس أساقفة دورهايم من أجل المبشرين المسيحيين العاملين في العالم الإسلامي.. يطلب من الله أن يهدي المسلمين -الذين أعمت الخطايا أعينهم كما يزعم- إلى المسيحية.
إذن فهدف هذه المجلة كان واضحا منذ صدور العدد الأول منها.. إما تنصير المسلمين بشكل مباشر، أو تحويل الإسلام في الأقل إلى دين يشبه النصرانية.
يسير العدد الثاني على النهج نفسه، غير أن المقالة الافتتاحية تلفت النظر بشكل خاص؛ فهي تذكر جميع الأديان الأخرى غير المسيحية، ولكنها تميز الإسلام عن باقي الأديان. فبينما تصف الأديان الأخرى بأنها "أديان غير مسيحية" تصف الإسلام وحده بأنه "الدين المعارض والمناقض الوحيد للمسيحية!!". ويكفي هذا لفهم مدى العداء والتعصب الموجود في هذه المجلة تجاه الإسلام مع أنه الدين الوحيد خارج المسيحية الذي يؤمن بالمسيح (عليه السلام) نبيا ورسولا كريما، ويؤمن بعذرية والدته، وبميلاده المعجز. وتستطرد المقالة فتقول بأن من الضروري حدوث تجديد في الإسلام كما حدث في المسيحية لكي يقترب الإسلام من الثقافة ومن المدنية المسيحية.
في العدد نفسه نطالع مقالة أخرى بقلم "كارل مين هوف" يقول فيها: "بينما نرى انحسار الإسلام عن قارة أوربا وفقده لقوته وتأثيره فيها نراه يسجل تقدما كبيرا في إفريقيا، إذن فليس من السهل الصراع مع الإسلام". ويستطرد قائلا بأن المبشرين المسيحيين في العالم الإسلامي يجدون صعوبة كبيرة جدا ويقعون في اليأس. ثم يقول:
"تكاد القناعة العامة لدى هؤلاء المبشرين هي استحالة تحويل المسلمين إلى المسيحية؛ لذا نراهم يتهربون من إقامة علاقات وثيقة معهم". ولكنه يوصيهم بطرح اليأس جانبا؛ ليقول في الختام: "يجب تهيئة مبشرين يعرفون دقائق القرآن والحديث والتاريخ الإسلامي، فإذا نجحنا في هذا فقد نستطيع الوصول إلى الهدف".
تتناول المقالة الرئيسية في العدد الثالث من المجلة المدن الثلاث المهمة في العالم المحمدي حسب تعبيرها، وهي: مكة، القاهرة، وإستانبول، وتقول: "إن مكة هي قلبه، والقاهرة دماغه، وإستانبول يداه، فإذا سقطت هذه المدن الثلاث فلن يستطيع العالم الإسلامي القيام بمزيد من المقاومة. ولكن يستحيل التسلل إلى مكة؛ لأن دخول غير المسلمين إليها ممنوع. لذا كان على المبشرين تكثيف جهودهم واهتمامهم في القاهرة وإستانبول".
وفي مقالة أخرى بقلم "هنري و.دويت" نرى الكاتب وهو يعرب عن أمله وعن تفاؤله في أن تنقلب إستانبول في المستقبل إلى مدينة مسيحية. ولا تتوقف المجلة عن إعطاء معلومات جيدة عن نشاط المبشرين في مدينة إستانبول.
في العدد الرابع منها -أي في أواخر سنة 1911م- نقرأ مقالة طويلة جدا بقلم رئيس التحرير صموئيل زويمر تحت عنوان "نظرة عامة على أحوال العالم الإسلامي" تناول فيها بالتقييم جميع البلدان الإسلامية تقريبا من المغرب إلى إيران، ومن مصر إلى الصين، ومن أواسط إفريقيا إلى الهند وجاوا. والشيء المشترك الوحيد بين هذه البلدان هو طابع التقهقر والتراجع والفقر والجهل، والحل الوحيد أمام العالم الإسلامي -في رأي الكاتب- هو التحول إلى النصرانية؛ فلا يوجد حل آخر.
ولكننا نقرأ في مقالة أخرى في العدد نفسه تذكر بأن "أصعب مهمة للكنيسة المسيحية هي تأمين قبول المحمديين عيسى كَرَبٍّ وكمخلِّص لهم". كما نجد في العدد نفسه خبرا وتعليقا حول زيادة عدد المسلمين على الرغم من جميع الظروف السيئة المحيطة بهم، وعلى الرغم من جميع مؤشرات التراجع والسقوط في مختلف الميادين في هذه البلدان الإسلامية؛ حيث نقرأ أن قبيلة "منسا" الحبشية التي كان جميع أفرادها مسيحيين في عام 1860م قد تحول ثلثا القبيلة اليوم (أي عام 1911) إلى الإسلام. كما أن عدد المسلمين في قبيلة "بوغوس" كان قليلا جدا قبل خمسين عاما، أما الآن (أي في 1911) فنصف القبيلة من المسلمين. كما تحولت قبيلة "بت كوك" كلها إلى الإسلام، بينما لم تكن نسبة المسلمين فيها قبل خمسين عاما تصل إلى النصف.
التبشير.. متعة الحلم وصعوبة الفعل
مرت السنوات على هذا المنوال على هذه المجلة التبشيرية، تضع آمالا كبيرة، وتسرح في أحلام وردية، ثم تصدمها الحقائق في أرض الواقع؛ حتى نصل إلى سنة 1917م حيث تتغير الجهة الممولة لها بانتقالها إلى تبعية وتمويل جمعية تبشيرية أمريكية. غير أن هذا التغيير لا يؤدي إلى تغيير في كادر رئاسة التحرير ولا إلى تغيير في سياستها وأهدافها.
كانت المصائب تتوالى على العالم الإسلامي؛ ففي هذه السنة خسرت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، وانهارت ولم يعد هناك أي بلد مسلم خارج الاحتلال الأجنبي.
كان إلى جانب جنود الاحتلال الذين غزوا العالم الإسلامي جيش من المبشرين الذين انتعشت آمالهم بعد هزيمة دولة الخلافة التي كانت رمزا لوحدة المسلمين، رغم المناعة القوية ضد التنصير التي لمسوها في العالم الإسلامي؛ فإنهم لم ييئسوا، وقد أعطى لهم إلغاء الخلافة في 1923 وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها أملا جديدا. لذا نجد في عدد شهر نيسان 1924م مقالة بقلم "بول نلسون" بعنوان: "تركيا التي أراها من طرسوس" جاء فيها:
"لقد أصبح مصطفى كمال باشا رئيسا لدولة تركيا؛ لذا لم نعد نحن المبشرين تحت سلطة حكومة خلافة مستبدة".
جاء العدد الأول لعام 1924م مشحونا أيضا بالآمال الكبيرة التي انعكست على مقالتها الافتتاحية، كما كانت هناك مقالة حول فعاليات "الهيئة التعليمية الأمريكية" The American Board الموجودة في تركيا؛ لأن الآمال كانت معقودة على فعاليات التعليم في تنصير المسلمين. ومع أن المقالة كانت تقول: "لم يتم الحصول على أي شيء ذي بال طوال مائة سنة"، وتعترف بهذه الحقيقة فإنها كانت تستطرد، وتقول: "على الرغم من هذا الفشل الواضح في الماضي؛ فإن المبشرين الأبطال الذين لا يتملكهم اليأس أبدا ما يزالون يأملون في قيام الأتراك بقبول النصرانية".
كانت هناك إشارات مشجعة لهم في تركيا؛ فقد طُرد الخليفة وجميع أفراد وأمراء آل عثمان، وألغيت الخلافة، ودُعي البروفيسور الأمريكي "جون دوي" من جامعة كولومبيا إلى تركيا من قبل الحكومة التركية لكي يقوم ببناء التعليم في تركيا ووضْع أسس ومناهج علمانية له. وهو ما انتبهت إليه المجلة: "إن هذا تغيير أساسي وعميق جدا، وهو يشكل فرصة ثمينة للمبشرين المسيحيين لكي ينفذوا إلى عقول وقلوب الجماهير التركية. يجب ترك الطرق القديمة وهجرها والاستفادة من هذه الفرصة المهمة وعدم تضييعها أو إهمالها".
ولنأت إلى عام 1927م -أي إلى ما بعد ثلاث سنوات- لنتصفح أعداد هذه المجلة.
في عدد شهر نيسان/ إبريل من هذا العام نقرأ مقالة بعنوان: "فكر المسلم الحالي في تركيا" بقلم "دبليو.م.ساك وول وورث" جاء فيها: "إن المسلم الذي يحاول حاليا متابعة وقراءة القرآن أو السنة يواجه صعوبات كبيرة في تركيا". وذلك إشارة إلى قلة وندرة الكتب الإسلامية، وإلى الإرهاب السائد ضد التعليم الديني بعد إغلاق جميع الطرق الصوفية وجميع الزوايا والتكايا، وإلى منع تدريس الدين في المدارس. وهو ما اعتبره الكاتب فرصة للمبشرين المسيحيين. إذن فالأتراك -في رأي الكاتب- يبحثون عن أمل وعن شيء جديد، والمسيحية هي هذا الشيء الجديد الذي يبحث عنه الأتراك. ولم يفهم كاتب المقالة أن ما حدث في تركيا لم يكن يعكس فكر ولا مطالب الجماهير التركية.
في السنة التالية -أي في سنة 1928م- تذكر المجلة وقوع مصيبة كبيرة في تركيا وهي: "منع تدريس الدين في المدارس ومنع الدعاية الدينية فيها". وتشير المجلة إلى هذا المنع بأنه مثال على "عدم التسامح الديني". وهو ما من شأنه منع الدعاية النصرانية في المدارس، إضافة لمنع الدين الإسلامي بالطبع. وقصة هذا المنع هي ورود نبأ عن تنصر أربع طالبات في إحدى المدارس الثانوية المدارة من قبل مؤسسة تبشيرية أمريكية في مدينة بورصة، وأن هذا النبأ أحدث ضجة كبيرة بين السكان. وعندما وصل الخبر إلى المسئولين في أنقرة قاموا بإغلاق هذه المدرسة واستجواب هيئتها التدريسية. هذه هي الحادثة التي سجلتها هذه المجلة إشارة إلى التعصب، وعدم المسامحة الموجودة لدى الأتراك.
غير أننا نلاحظ اقترابا للمجلة من الواقع، بعيدا عن الطموح والآمال؛ فنقرأ في العدد نفسه مقالة أخرى تحت عنوان: "الثمن المدفوع لتنصير المسلمين" بقلم "هـ.ج.لاين سميث" (H.J.Lane Smith) جاء فيها: "ليس تنصير المسلمين مجرد كلام سهل يطلق هكذا جزافا"، و"إن الإسلام أكبر دين ظهر بعد المسيحية".
وكاتب المقالة مبشر يقوم بالتبشير في الهند، وهو يبدي دهشته لأنه في مقابل سهولة تنصير غير المسلمين من الهنود فإنه يصطدم بصعوبة غير متوقعة عند محاولة تنصير المسلمين. وأمام هذا الأمر يقوم بنقد ذاتي وتقديم مقترحات جديدة. والشيء الذي أدهش هذا المبشر هو قيام المسلمين بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم؛ فهو مذهول من هذا الأمر ومعجب به غاية الإعجاب، ويعتبره مقياسا لقوة ارتباط المسلمين بدينهم وتوقيرهم له، وهو يقارن هذا بحال المسيحيين فيقول بأسى:
"كم مسيحيًّا يؤدي عبادته مثل المسلمين؟ أي مسيحي يقوم بالعبادة لا خمس مرات في اليوم بل ثلاث مرات؟ لا بل كم مسيحيا يؤدي العبادة مرة واحدة فقط كل يوم؟... إذن... أنا أرى بأن على المسيحيين أداء عبادة ولو قصيرة في النهار بين الساعة الثانية عشرة صباحا والساعة الثانية ظهرا؛ ففي هذا فائدة كبيرة من ناحية النشاط التبشيري". ولا يرى هذا كافيا؛ بل يشير إلى أهمية شكل العبادة وكيفية أداء الصلاة، ولعله أعجب بحركات الصلاة في الإسلام وكيف تشير إلى عبودية الإنسان وتواضعه وركوعه وسجوده أمام خالقه. ويقول بأن على المبشرين تشجيع المسيحيين على أداء هذه العبادة بالخشوع والصدق الذي يبدو في صلاة المسلمين.
وهناك مقالة أخرى في العدد نفسه كتبها من القاهرة "س.ا. موريسون" تحت عنوان: "التطورات الحديثة في بلاد المسلمين"، تحمل رصدا دقيقا؛ فالكاتب يقول بأن المسيحية أصبحت في بلاد المسلمين تذكر مع العالم المسيحي المستعمِر، ومع الأقلية المسيحية الموجودة في هذه البلدان التي تتسم بضعف الولاء للوطن، وتذكر كذلك الحروب الصليبية ومع الإدارة الإنجليزية المتسمة بالغرور والعجرفة، ومع أوربا الغارقة في أوحال المادية والتحلل. ويقول في نهاية المقالة:
"بينما العقائد والمذاهب الأخرى في طور الانقراض والزوال؛ فإن الإسلام لا يزال منتصبا أمامنا وواقفا على قدميه". ثم يقول: "قد يكون من الصعب حمل الصليب في البلدان المسيحية، ولكنه أصعب بكثير في البلدان الإسلامية".
ونرى مقالة أخرى مهمة في هذا العدد كتبها "أرنست بي" (Ernest Pye)، يذهب فيها إلى أن الإسلام لم يضعف في تركيا، ويقارن بين تدين المسلمين وتدين المسيحيين فيقول:
"في مقابل كنائسنا التي تظل فارغة طوال أسبوع كامل، والتي تكون فارغة أو في أفضل الأحوال تمتلئ حتى النصف في أيام الآحاد، نرى شيئا مناقضا تماما عندما نلقي نظرة على الجوامع. فهذه الجوامع تمتلئ تماما مرة واحدة في الأقل كل يوم. أما في الأعياد فإن المصلين يملئون الشوارع المحيطة بالجوامع بعد امتلائها في الداخل. والمسلمون ينظرون إلى المجتمعات المسيحية كمجتمعات بعيدة عن العبادة؛ لذا فهل ترون هناك أي احتمال أن يحترم المسلم -الحريص على أداء عباداته- أي مجتمع بعيد عن العبادة، أو يأخذه مأخذ الجد؟".
في تلك السنوات نرى تغيرا في طابع مقالات هذه المجلة التي أسست لتنصير المسلمين. فقد تخلت هذه المجلة عن كتابة المقالات التي ترسم آمالا وردية في موضوع التنصير، وذلك بعد تعاقب الأخبار المثبطة للهمم من العالم الإسلامي، وبدأت المقالات تتجه نحو النقد الذاتي؛ أي البحث عن الفشل في هذا الموضوع.
النهاية.. من التبشير إلى الأكاديمية
الدكتورة أنجريد ماتسون
في ظل هذه الأجواء حلت سنة 1938م، وفيها تغيرت مرة أخرى الجهة المسئولة عن هذه المجلة؛ حيث انتقلت إلى إشراف وقف Hartford Seminary، وهو معهد لاهوتي دولي عريق تأسس سنة 1834م من أجل إعداد الكوادر التبشيرية وإرسالهم إلى شتى أنحاء العالم.
بعد انتقال المجلة إلى هذا المعهد نقرأ في العدد الأول منها مقالة بقلم البروفيسور Duncan B.Macdonald وهو من كبار المسئولين في هذا المعهد، ويعترف في مقالته بما يأتي:
"علينا أن نعترف بكل صدق بأن الذين تناولوا الإسلام باسم المسيحية لم يكونوا يعرفون عن الإسلام إلا النزر اليسير". ويعطي مثالا على هذا فيقول: "قبل ثلاثين سنة كان العديد من المبشرين المسيحيين على جهل تام بأن الإسلام يملك أدبا وفكرا لاهوتيا (تصوفيا) غنيا وواسعا يماثل ما تملكه الكنيسة".
لم تكن المجلة قد تخلت عن أهدافها التبشيرية؛ لذا نرى هذا الكاتب يقول:
"ما يزال الهدف النهائي لهذه المجلة هو تحويل قلوب وعقول أكبر عدد من المسلمين إلى المسيحية".. الهدف ما يزال هو الهدف، ولكن رأوا أن من الصعب أن يصلوا إلى هذا الهدف بأسلوب من التعصب الأعمى والفكر المسبق وجهل بالإسلام؛ فهذا الأسلوب لن يجدي، ولن يفيد. بل يتطلب الأسلوب العصري فهم الإسلام ومعرفته عن قرب؛ فليس الإسلام دينا ساذجا وبسيطا، بل هو دين عميق وغني؛ لذا فليس من السهل أبدا الصراع معه بأسلوب بدائي.. هذه هي النتيجة التي انتهوا إليها بعد 27 عاما من إصدار المجلة.
في العدد نفسه نرى مقالة أخرى طويلة كتبها Edwin E.Calverley تحت عنوان "الإسلام.. تفسير وتحليل". في هذه المقالة نرى الاتجاه نفسه؛ فهو يقول بأنه من الصعب جدا أو من المستحيل القيام بسل الإسلام وإخراجه من قلب المسلم في الوقت الذي تغلغل الإسلام في جميع مظاهر الحياة وساحاتها. ثم يقول بأنه آن الأوان لترك المقولات السطحية والجاهلة التي تدعي أن الإسلام قد انتشر بالسيف؛ لأنه ما دام الإسلام قد أعطى لليهود والمسيحيين وضع أهل الذمة، ولم يجبرهم على اعتناق الإسلام.. إذن فمن الضروري إعادة تقييم الإسلام على ضوء الحقائق، وفي جو هادئٍ، بعيدا عن التشنج. وينهي مقالته بالقول: "إن الإسلام يحيط بجميع شئون الحياة، وهو يبدو أكثر جاذبية من أي دين آخر؛ فهو أكثر الأديان جلبا للثقة".
والخلاصة أن القائمين بإصدار المجلة بدأوا يدركون مدى صعوبة التبشير بين المسلمين.
في سنة 1947م حدث تحول أساسي في المجلة؛ فقد انسحب صموئيل زويمر من رئاسة التحرير بعد أن عمل فيها سبعا وثلاثين سنة، وجاء السيد Edwin E.Calverley إلى رئاسة التحرير.
في العدد الأخير لسنة 1947 أعلنت المجلة أنها ستغير اسم المجلة من The Moslem World إلى The Muslim World. وتغييرا آخر نشهده وهو تركهم استعمال كلمة "المحمديين"، وهو تراجع عن خطأ قديم ومزمن في تسمية المسلمين. وتغيير ثالث وهو قيامهم بحذف عبارة "عرض نجاح المبشرين المسيحيين في بلدان العالم الإسلامي" التي ظلت على غلاف المجلة مدة 37 عاما؛ ذلك لأنه لم يكن هناك أي نجاح يذكر في هذا الصدد لكي يتم عرضه.
لم تحدث هذه التغييرات إلا بعد انسحاب صموئيل زويمر من رئاسة التحرير ومن توجيه سياسة المجلة؛ فقد كان مبشرا متعصبا ضد الإسلام حتى النخاع.
ولم يكن هذا الأمر يعني بالطبع أن المجلة تخلت تماما عن أحلامها القديمة في تنصير المسلمين؛ لأنها ظلت تنشر مثل هذه المقالات من حين لآخر، وكانت تنشر أيضا المقالات التي تؤكد صعوبة تنصير المسلمين، وأحيانا تحيل هذا الأمر إلى الله تعالى، فتنشر من حين لآخر أدعية حارة تتضرع إلى الله تعالى أن يرحم المسلمين، ويهديهم إلى المسيح المنقذ. ولكن لم يكن يفوت المرء هنا ملاحظة وقوع تغير مهم في المجلة وهو تحولها من مجلة تبشيرية متعصبة لا ترى الحقيقة إلى مجلة بدأت المقالات الأكاديمية الرصينة تأخذ مكانها في صفحاتها. حتى أن رئيس التحرير الجديد السيد أدوين كتب يقول بأن أبواب هذه المجلة أصبحت موصدة أمام التقييمات والتحليلات الخاطئة حول الإسلام، وأنه لن يسمح بنشر الأكاذيب حول الإسلام، وأنه يرحب بالمقالات وبالبحوث الجامعية والأكاديمية الرصينة حول الإسلام.
اتبعت المجلة فعلا هذه السياسة وهذا النهج في مقالاتها في الخمسينيات والستينيات؛ فتحولت من مجلة تبشيرية ضيقة الأفق إلى مجلة أكاديمية أصبحت صالحة لتكون مصدرا علميا يستفيد منه الباحثون وتستفيد منه الجامعات التي تقوم بتدريس الإسلام. والشيء الذي شجع هذا الاتجاه هو أنه علاوة على تتابع الأحداث التي أظهرت استحالة تنصير العالم الإسلامي؛ فقد بدت هناك ظاهرة أخرى وهي ميل العديد من المسيحيين في الغرب إلى الإسلام واعتناقهم له.
في سنة 1970 نلاحظ تحولا آخر فيها، وأفضل إشارة لهذا التحول هو العبارة التي وضعت تحت اسم المجلة وهي: "مجلة لنشر البحوث الإسلامية والعلاقات المسيحية الإسلامية في الماضي وفي الحاضر".
أصبح للمجلة أربعة رؤساء تحرير من أشخاص بعيدين عن التعصب ضد الإسلام وعن نفسية المبشر. والأهم من كل هذا أن المجلة بدأت بفتح صفحاتها للبحوث الإسلامية المكتوبة من قبل المفكرين والباحثين المسلمين. كانت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام في تأصيل الطابع العلمي والأكاديمي المحايد للمجلة. وبعد عام 1979م -أي بعد وقوع الثورة الإيرانية وتزايد الاهتمام بالإسلام في الغرب- اكتسبت هذه المجلة بطابعها الأكاديمي الرصين سمعة جيدة في الغرب وانتشارا أوسع.
في سنة 1990 زال آخر رمز تبشيري لها، وهو علامة الصليب التي كانت موجودة على غلافها، ووضعت مكانها صورة الكرة الأرضية كإشارة واضحة إلى أن هذه المجلة أصبحت مجلة عالمية تخاطب الناس جميعا، وليست مجلة خاصة بالمسيحيين.
ولكن الخطوة الراديكالية في التغيير حدثت في عام 1992 عندما أصبح أحد العلماء المسلمين ضمن رئاسة تحرير المجلة، وهو السيد إبراهيم أبو ربيعة (وهو فلسطيني متجنس بالجنسية الأمريكية). وكانت رئاسة تحرير المجلة منذ عام 1970 تدار من قبل Willyem A.Bijlefeld وWadi Z.Haddad وDavid A.Kerr فأصبح أبو ربيعة هو الشخص الرابع في رئاسة التحرير. بعد سنتين خرج W.Bijlefeld من المجلة وأصبح أبو ربيعة رئيسا للتحرير، ودافيد كير والحداد معاونين له. وفي عام 1997 عين مسلم آخر كمعاون لرئيس التحرير وهو السيد علوي شهابي من إندونيسيا، وكان قد شغل منصب وزير الخارجية مدة في عهد ما بعد سوهارتو.
وأخيرا.. وفي نهاية القرن الماضي خطت المجلة خطوة أخرى مهمة إلى الأمام، عندما قررت تعيين الدكتورة "أنجريد ماتسون" (Dr.Ingrid Mattson) الكندية ضمن رئاسة التحرير، وهي عالمة كندية اعتنقت الإسلام في الثمانينيات وتحجبت، وكانت قد أكملت رسالة الدكتوراة في جامعة شيكاغو بقسم البحوث الإسلامية؛ أي أصبح هناك ضمن كادر التحرير مهتدية كندية ومحجبة. وحاليا فإن نصف المقالات المنشورة في هذه المجلة الأكاديمية تعود لكتاب مسلمين.
هذه هي بإيجاز قصة هذه المجلة التي ظهرت قبل قرن تقريبا في صورة مجلة تبشيرية متعصبة، ثم تطورت تدريجيا إلى وضعها الأكاديمي الحالي
تتناول هذه المقالة بإيجاز قصة أشهر مجلة تبشيرية مسيحية وهي مجلة "العالم الإسلامي" (The Muslim World)، والمراحل المختلفة التي مرت بها، والتحولات التي طرأت عليها وعلى سياستها ومنهجها.
قبل مائة عام تقريبا كان المسلمون يعيشون سنوات حالكات؛ فقد وقع ثلثا أراضي المسلمين في أيدي الاستعمار الغربي من إندونيسيا والهند شرقا إلى شمال أفريقيا غربا، مرورا بالشام وبلاد الهلال الخصيب، وكانت الدولة العثمانية تعالج ساعات الاحتضار، في حين انحصر مسلمو آسيا الوسطى بين عملاقين: الصين وروسيا.
وكانت اللحظة من السوء بحيث أغرت المؤسسات التبشيرية الغربية بانتهازها لتسجيل انتصارات متوقعة في الساحة الدينية للمسلمين؛ اعتقادا بأن التقهقر والهزيمة واليأس الذي أحاط بالمسلمين، ونزعة الاستعلاء والهيمنة الغربية ستسهل مهمة المبشرين، وتفتح أمامهم آفاقا رحبة لتحويل المسلمين إلى دين الغالبين.. إلى دين الغرب المنتصر والمتحضر!
في هذه الأجواء صدرت مجلة "العالم الإسلامي" (The Muslim World).
صدر العدد الأول من المجلة في الشهر الأول من عام 1911م. كان رئيس التحرير فيها صموئيل م. زويمر أحد الأسماء اللامعة في ميدان التبشير، ونجد تلخيصا لأهداف المجلة في العبارة الآتية التي وضعت تحت اسم المجلة مباشرة: "مجلة فصلية أدبية وفكرية تعرض نجاح المبشرين المسيحيين في العالم الإسلامي وحوادث وأخبار المحمديين". ويلاحظ أنها استعملت كلمة "المحمديين" بدلا من "المسلمين"، وفاتها أن المسلمين لا ينتسبون إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) مثلما ينتسب المسيحيون إلى المسيح (عليه السلام). والطريف أنها حددت نشاطها بأنها ستعرض "نجاح المبشرين المسيحيين في بلاد الإسلام"، دون أن تبين من أين لها أن تعلم بأن نشاط المبشرين سيتكلل بالنجاح!!
وتبدو الرسالة التبشيرية واضحة وصريحة منذ المقالة الافتتاحية للعدد الأول التي جاءت تتساءل أولا:
"أكانت هناك حاجة إلى إصدار مثل هذه المجلة حول العالم الإسلامي في الوقت الذي توجد هناك مجلات أخرى حول هذا الموضوع، مثل: المجلة الفرنسية Revuedo Monde Musluman (بدأت بالصدور عام 1900م)، والمجلة الألمانية Der Islam (بدأت بالصدور عام 1903)، وكذلك مع وجود دائرة المعارف الإسلامية Encyclopadia of Islam". وتجيب المقالة بالإيجاب على هذا السؤال؛ لأنها ترى أن الطابع الغالب على هاتين المجلتين وعلى دائرة المعارف الإسلامية طابع أكاديمي، وهي لا تهتم كثيرا بالتبشير، ولا تستطيع حل "المشكلة الإسلامية!!" أو "مشكلة المسلمين!!". في حين أن الحل عند مجلة العالم الإسلامي هو تنصير المسلمين؛ وهو ما لا تستطيع المجلتان الفرنسية والألمانية ولا دائرة المعارف الإسلامية القيام به، وهي المهمة التي تسعى المجلة للاضطلاع بها. فلا علاج لما أسمته المجلة بـ"المشكلة الإسلامية!!" إلا بالتنصير؛ إذ ما دام المسلمون باقين على دينهم؛ فهناك مشكلة ويجب حلها.
وللحق لم يخلُ العدد الأول من مقالات أكاديمية، غير أن أهم ما ورد فيها تفاصيل دقيقة عن مؤتمرين تبشيريين عقدا عام 1910م في ألمانيا وإنجلترا. كما نطالع في هذا العدد مقالة تقول بأن جميع الشروط والظروف أصبحت الآن مواتية لتنصير العالم الإسلامي. ولكنها تتعجب أشد العجب أمام ظاهرة لا تستطيع تفسيرها؛ وهي ظاهرة انتشار الإسلام في قارة إفريقيا مع وجود جميع عوامل الضعف والانهيار في البلدان الإسلامية. ولكن المقالة تستمر فتقول بأن هدف المسيحيين لا يقتصر على إيقاف انتشار الإسلام في إفريقيا؛ لأن الهدف المرسوم أكبر من هذا بكثير، وهو القيام بكسب قلوب المسلمين وتنصيرهم، ولن يتم هذا إلا بهز قواعد الإسلام في شمال إفريقيا، ولا سيما في المغرب وفي مصر حتى يتم انهيارها. كما توقعت المقالة هجوم الإسلام على المسيحية التي ستنتشر في إفريقيا.
أما أهم الطرق والاقتراحات التي تقدمها المجلة ليتم هذا التنصير فهي:
1- تدجين الإسلام.
2- تحديث الإسلام.
3- تهيئة قائمة بأسماء المسلمين الذين تنصروا، والاستفادة منها في شن حملة نفسية منظمة على المسلمين.
4- فتح المدارس والمستشفيات في البلدان الإسلامية والاستعانة بها في كسب عقول وقلوب المسلمين.
كما نقرأ في هذا العدد الدعاء الذي كتبه رئيس أساقفة دورهايم من أجل المبشرين المسيحيين العاملين في العالم الإسلامي.. يطلب من الله أن يهدي المسلمين -الذين أعمت الخطايا أعينهم كما يزعم- إلى المسيحية.
إذن فهدف هذه المجلة كان واضحا منذ صدور العدد الأول منها.. إما تنصير المسلمين بشكل مباشر، أو تحويل الإسلام في الأقل إلى دين يشبه النصرانية.
يسير العدد الثاني على النهج نفسه، غير أن المقالة الافتتاحية تلفت النظر بشكل خاص؛ فهي تذكر جميع الأديان الأخرى غير المسيحية، ولكنها تميز الإسلام عن باقي الأديان. فبينما تصف الأديان الأخرى بأنها "أديان غير مسيحية" تصف الإسلام وحده بأنه "الدين المعارض والمناقض الوحيد للمسيحية!!". ويكفي هذا لفهم مدى العداء والتعصب الموجود في هذه المجلة تجاه الإسلام مع أنه الدين الوحيد خارج المسيحية الذي يؤمن بالمسيح (عليه السلام) نبيا ورسولا كريما، ويؤمن بعذرية والدته، وبميلاده المعجز. وتستطرد المقالة فتقول بأن من الضروري حدوث تجديد في الإسلام كما حدث في المسيحية لكي يقترب الإسلام من الثقافة ومن المدنية المسيحية.
في العدد نفسه نطالع مقالة أخرى بقلم "كارل مين هوف" يقول فيها: "بينما نرى انحسار الإسلام عن قارة أوربا وفقده لقوته وتأثيره فيها نراه يسجل تقدما كبيرا في إفريقيا، إذن فليس من السهل الصراع مع الإسلام". ويستطرد قائلا بأن المبشرين المسيحيين في العالم الإسلامي يجدون صعوبة كبيرة جدا ويقعون في اليأس. ثم يقول:
"تكاد القناعة العامة لدى هؤلاء المبشرين هي استحالة تحويل المسلمين إلى المسيحية؛ لذا نراهم يتهربون من إقامة علاقات وثيقة معهم". ولكنه يوصيهم بطرح اليأس جانبا؛ ليقول في الختام: "يجب تهيئة مبشرين يعرفون دقائق القرآن والحديث والتاريخ الإسلامي، فإذا نجحنا في هذا فقد نستطيع الوصول إلى الهدف".
تتناول المقالة الرئيسية في العدد الثالث من المجلة المدن الثلاث المهمة في العالم المحمدي حسب تعبيرها، وهي: مكة، القاهرة، وإستانبول، وتقول: "إن مكة هي قلبه، والقاهرة دماغه، وإستانبول يداه، فإذا سقطت هذه المدن الثلاث فلن يستطيع العالم الإسلامي القيام بمزيد من المقاومة. ولكن يستحيل التسلل إلى مكة؛ لأن دخول غير المسلمين إليها ممنوع. لذا كان على المبشرين تكثيف جهودهم واهتمامهم في القاهرة وإستانبول".
وفي مقالة أخرى بقلم "هنري و.دويت" نرى الكاتب وهو يعرب عن أمله وعن تفاؤله في أن تنقلب إستانبول في المستقبل إلى مدينة مسيحية. ولا تتوقف المجلة عن إعطاء معلومات جيدة عن نشاط المبشرين في مدينة إستانبول.
في العدد الرابع منها -أي في أواخر سنة 1911م- نقرأ مقالة طويلة جدا بقلم رئيس التحرير صموئيل زويمر تحت عنوان "نظرة عامة على أحوال العالم الإسلامي" تناول فيها بالتقييم جميع البلدان الإسلامية تقريبا من المغرب إلى إيران، ومن مصر إلى الصين، ومن أواسط إفريقيا إلى الهند وجاوا. والشيء المشترك الوحيد بين هذه البلدان هو طابع التقهقر والتراجع والفقر والجهل، والحل الوحيد أمام العالم الإسلامي -في رأي الكاتب- هو التحول إلى النصرانية؛ فلا يوجد حل آخر.
ولكننا نقرأ في مقالة أخرى في العدد نفسه تذكر بأن "أصعب مهمة للكنيسة المسيحية هي تأمين قبول المحمديين عيسى كَرَبٍّ وكمخلِّص لهم". كما نجد في العدد نفسه خبرا وتعليقا حول زيادة عدد المسلمين على الرغم من جميع الظروف السيئة المحيطة بهم، وعلى الرغم من جميع مؤشرات التراجع والسقوط في مختلف الميادين في هذه البلدان الإسلامية؛ حيث نقرأ أن قبيلة "منسا" الحبشية التي كان جميع أفرادها مسيحيين في عام 1860م قد تحول ثلثا القبيلة اليوم (أي عام 1911) إلى الإسلام. كما أن عدد المسلمين في قبيلة "بوغوس" كان قليلا جدا قبل خمسين عاما، أما الآن (أي في 1911) فنصف القبيلة من المسلمين. كما تحولت قبيلة "بت كوك" كلها إلى الإسلام، بينما لم تكن نسبة المسلمين فيها قبل خمسين عاما تصل إلى النصف.
التبشير.. متعة الحلم وصعوبة الفعل
مرت السنوات على هذا المنوال على هذه المجلة التبشيرية، تضع آمالا كبيرة، وتسرح في أحلام وردية، ثم تصدمها الحقائق في أرض الواقع؛ حتى نصل إلى سنة 1917م حيث تتغير الجهة الممولة لها بانتقالها إلى تبعية وتمويل جمعية تبشيرية أمريكية. غير أن هذا التغيير لا يؤدي إلى تغيير في كادر رئاسة التحرير ولا إلى تغيير في سياستها وأهدافها.
كانت المصائب تتوالى على العالم الإسلامي؛ ففي هذه السنة خسرت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، وانهارت ولم يعد هناك أي بلد مسلم خارج الاحتلال الأجنبي.
كان إلى جانب جنود الاحتلال الذين غزوا العالم الإسلامي جيش من المبشرين الذين انتعشت آمالهم بعد هزيمة دولة الخلافة التي كانت رمزا لوحدة المسلمين، رغم المناعة القوية ضد التنصير التي لمسوها في العالم الإسلامي؛ فإنهم لم ييئسوا، وقد أعطى لهم إلغاء الخلافة في 1923 وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها أملا جديدا. لذا نجد في عدد شهر نيسان 1924م مقالة بقلم "بول نلسون" بعنوان: "تركيا التي أراها من طرسوس" جاء فيها:
"لقد أصبح مصطفى كمال باشا رئيسا لدولة تركيا؛ لذا لم نعد نحن المبشرين تحت سلطة حكومة خلافة مستبدة".
جاء العدد الأول لعام 1924م مشحونا أيضا بالآمال الكبيرة التي انعكست على مقالتها الافتتاحية، كما كانت هناك مقالة حول فعاليات "الهيئة التعليمية الأمريكية" The American Board الموجودة في تركيا؛ لأن الآمال كانت معقودة على فعاليات التعليم في تنصير المسلمين. ومع أن المقالة كانت تقول: "لم يتم الحصول على أي شيء ذي بال طوال مائة سنة"، وتعترف بهذه الحقيقة فإنها كانت تستطرد، وتقول: "على الرغم من هذا الفشل الواضح في الماضي؛ فإن المبشرين الأبطال الذين لا يتملكهم اليأس أبدا ما يزالون يأملون في قيام الأتراك بقبول النصرانية".
كانت هناك إشارات مشجعة لهم في تركيا؛ فقد طُرد الخليفة وجميع أفراد وأمراء آل عثمان، وألغيت الخلافة، ودُعي البروفيسور الأمريكي "جون دوي" من جامعة كولومبيا إلى تركيا من قبل الحكومة التركية لكي يقوم ببناء التعليم في تركيا ووضْع أسس ومناهج علمانية له. وهو ما انتبهت إليه المجلة: "إن هذا تغيير أساسي وعميق جدا، وهو يشكل فرصة ثمينة للمبشرين المسيحيين لكي ينفذوا إلى عقول وقلوب الجماهير التركية. يجب ترك الطرق القديمة وهجرها والاستفادة من هذه الفرصة المهمة وعدم تضييعها أو إهمالها".
ولنأت إلى عام 1927م -أي إلى ما بعد ثلاث سنوات- لنتصفح أعداد هذه المجلة.
في عدد شهر نيسان/ إبريل من هذا العام نقرأ مقالة بعنوان: "فكر المسلم الحالي في تركيا" بقلم "دبليو.م.ساك وول وورث" جاء فيها: "إن المسلم الذي يحاول حاليا متابعة وقراءة القرآن أو السنة يواجه صعوبات كبيرة في تركيا". وذلك إشارة إلى قلة وندرة الكتب الإسلامية، وإلى الإرهاب السائد ضد التعليم الديني بعد إغلاق جميع الطرق الصوفية وجميع الزوايا والتكايا، وإلى منع تدريس الدين في المدارس. وهو ما اعتبره الكاتب فرصة للمبشرين المسيحيين. إذن فالأتراك -في رأي الكاتب- يبحثون عن أمل وعن شيء جديد، والمسيحية هي هذا الشيء الجديد الذي يبحث عنه الأتراك. ولم يفهم كاتب المقالة أن ما حدث في تركيا لم يكن يعكس فكر ولا مطالب الجماهير التركية.
في السنة التالية -أي في سنة 1928م- تذكر المجلة وقوع مصيبة كبيرة في تركيا وهي: "منع تدريس الدين في المدارس ومنع الدعاية الدينية فيها". وتشير المجلة إلى هذا المنع بأنه مثال على "عدم التسامح الديني". وهو ما من شأنه منع الدعاية النصرانية في المدارس، إضافة لمنع الدين الإسلامي بالطبع. وقصة هذا المنع هي ورود نبأ عن تنصر أربع طالبات في إحدى المدارس الثانوية المدارة من قبل مؤسسة تبشيرية أمريكية في مدينة بورصة، وأن هذا النبأ أحدث ضجة كبيرة بين السكان. وعندما وصل الخبر إلى المسئولين في أنقرة قاموا بإغلاق هذه المدرسة واستجواب هيئتها التدريسية. هذه هي الحادثة التي سجلتها هذه المجلة إشارة إلى التعصب، وعدم المسامحة الموجودة لدى الأتراك.
غير أننا نلاحظ اقترابا للمجلة من الواقع، بعيدا عن الطموح والآمال؛ فنقرأ في العدد نفسه مقالة أخرى تحت عنوان: "الثمن المدفوع لتنصير المسلمين" بقلم "هـ.ج.لاين سميث" (H.J.Lane Smith) جاء فيها: "ليس تنصير المسلمين مجرد كلام سهل يطلق هكذا جزافا"، و"إن الإسلام أكبر دين ظهر بعد المسيحية".
وكاتب المقالة مبشر يقوم بالتبشير في الهند، وهو يبدي دهشته لأنه في مقابل سهولة تنصير غير المسلمين من الهنود فإنه يصطدم بصعوبة غير متوقعة عند محاولة تنصير المسلمين. وأمام هذا الأمر يقوم بنقد ذاتي وتقديم مقترحات جديدة. والشيء الذي أدهش هذا المبشر هو قيام المسلمين بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم؛ فهو مذهول من هذا الأمر ومعجب به غاية الإعجاب، ويعتبره مقياسا لقوة ارتباط المسلمين بدينهم وتوقيرهم له، وهو يقارن هذا بحال المسيحيين فيقول بأسى:
"كم مسيحيًّا يؤدي عبادته مثل المسلمين؟ أي مسيحي يقوم بالعبادة لا خمس مرات في اليوم بل ثلاث مرات؟ لا بل كم مسيحيا يؤدي العبادة مرة واحدة فقط كل يوم؟... إذن... أنا أرى بأن على المسيحيين أداء عبادة ولو قصيرة في النهار بين الساعة الثانية عشرة صباحا والساعة الثانية ظهرا؛ ففي هذا فائدة كبيرة من ناحية النشاط التبشيري". ولا يرى هذا كافيا؛ بل يشير إلى أهمية شكل العبادة وكيفية أداء الصلاة، ولعله أعجب بحركات الصلاة في الإسلام وكيف تشير إلى عبودية الإنسان وتواضعه وركوعه وسجوده أمام خالقه. ويقول بأن على المبشرين تشجيع المسيحيين على أداء هذه العبادة بالخشوع والصدق الذي يبدو في صلاة المسلمين.
وهناك مقالة أخرى في العدد نفسه كتبها من القاهرة "س.ا. موريسون" تحت عنوان: "التطورات الحديثة في بلاد المسلمين"، تحمل رصدا دقيقا؛ فالكاتب يقول بأن المسيحية أصبحت في بلاد المسلمين تذكر مع العالم المسيحي المستعمِر، ومع الأقلية المسيحية الموجودة في هذه البلدان التي تتسم بضعف الولاء للوطن، وتذكر كذلك الحروب الصليبية ومع الإدارة الإنجليزية المتسمة بالغرور والعجرفة، ومع أوربا الغارقة في أوحال المادية والتحلل. ويقول في نهاية المقالة:
"بينما العقائد والمذاهب الأخرى في طور الانقراض والزوال؛ فإن الإسلام لا يزال منتصبا أمامنا وواقفا على قدميه". ثم يقول: "قد يكون من الصعب حمل الصليب في البلدان المسيحية، ولكنه أصعب بكثير في البلدان الإسلامية".
ونرى مقالة أخرى مهمة في هذا العدد كتبها "أرنست بي" (Ernest Pye)، يذهب فيها إلى أن الإسلام لم يضعف في تركيا، ويقارن بين تدين المسلمين وتدين المسيحيين فيقول:
"في مقابل كنائسنا التي تظل فارغة طوال أسبوع كامل، والتي تكون فارغة أو في أفضل الأحوال تمتلئ حتى النصف في أيام الآحاد، نرى شيئا مناقضا تماما عندما نلقي نظرة على الجوامع. فهذه الجوامع تمتلئ تماما مرة واحدة في الأقل كل يوم. أما في الأعياد فإن المصلين يملئون الشوارع المحيطة بالجوامع بعد امتلائها في الداخل. والمسلمون ينظرون إلى المجتمعات المسيحية كمجتمعات بعيدة عن العبادة؛ لذا فهل ترون هناك أي احتمال أن يحترم المسلم -الحريص على أداء عباداته- أي مجتمع بعيد عن العبادة، أو يأخذه مأخذ الجد؟".
في تلك السنوات نرى تغيرا في طابع مقالات هذه المجلة التي أسست لتنصير المسلمين. فقد تخلت هذه المجلة عن كتابة المقالات التي ترسم آمالا وردية في موضوع التنصير، وذلك بعد تعاقب الأخبار المثبطة للهمم من العالم الإسلامي، وبدأت المقالات تتجه نحو النقد الذاتي؛ أي البحث عن الفشل في هذا الموضوع.
النهاية.. من التبشير إلى الأكاديمية
الدكتورة أنجريد ماتسون
في ظل هذه الأجواء حلت سنة 1938م، وفيها تغيرت مرة أخرى الجهة المسئولة عن هذه المجلة؛ حيث انتقلت إلى إشراف وقف Hartford Seminary، وهو معهد لاهوتي دولي عريق تأسس سنة 1834م من أجل إعداد الكوادر التبشيرية وإرسالهم إلى شتى أنحاء العالم.
بعد انتقال المجلة إلى هذا المعهد نقرأ في العدد الأول منها مقالة بقلم البروفيسور Duncan B.Macdonald وهو من كبار المسئولين في هذا المعهد، ويعترف في مقالته بما يأتي:
"علينا أن نعترف بكل صدق بأن الذين تناولوا الإسلام باسم المسيحية لم يكونوا يعرفون عن الإسلام إلا النزر اليسير". ويعطي مثالا على هذا فيقول: "قبل ثلاثين سنة كان العديد من المبشرين المسيحيين على جهل تام بأن الإسلام يملك أدبا وفكرا لاهوتيا (تصوفيا) غنيا وواسعا يماثل ما تملكه الكنيسة".
لم تكن المجلة قد تخلت عن أهدافها التبشيرية؛ لذا نرى هذا الكاتب يقول:
"ما يزال الهدف النهائي لهذه المجلة هو تحويل قلوب وعقول أكبر عدد من المسلمين إلى المسيحية".. الهدف ما يزال هو الهدف، ولكن رأوا أن من الصعب أن يصلوا إلى هذا الهدف بأسلوب من التعصب الأعمى والفكر المسبق وجهل بالإسلام؛ فهذا الأسلوب لن يجدي، ولن يفيد. بل يتطلب الأسلوب العصري فهم الإسلام ومعرفته عن قرب؛ فليس الإسلام دينا ساذجا وبسيطا، بل هو دين عميق وغني؛ لذا فليس من السهل أبدا الصراع معه بأسلوب بدائي.. هذه هي النتيجة التي انتهوا إليها بعد 27 عاما من إصدار المجلة.
في العدد نفسه نرى مقالة أخرى طويلة كتبها Edwin E.Calverley تحت عنوان "الإسلام.. تفسير وتحليل". في هذه المقالة نرى الاتجاه نفسه؛ فهو يقول بأنه من الصعب جدا أو من المستحيل القيام بسل الإسلام وإخراجه من قلب المسلم في الوقت الذي تغلغل الإسلام في جميع مظاهر الحياة وساحاتها. ثم يقول بأنه آن الأوان لترك المقولات السطحية والجاهلة التي تدعي أن الإسلام قد انتشر بالسيف؛ لأنه ما دام الإسلام قد أعطى لليهود والمسيحيين وضع أهل الذمة، ولم يجبرهم على اعتناق الإسلام.. إذن فمن الضروري إعادة تقييم الإسلام على ضوء الحقائق، وفي جو هادئٍ، بعيدا عن التشنج. وينهي مقالته بالقول: "إن الإسلام يحيط بجميع شئون الحياة، وهو يبدو أكثر جاذبية من أي دين آخر؛ فهو أكثر الأديان جلبا للثقة".
والخلاصة أن القائمين بإصدار المجلة بدأوا يدركون مدى صعوبة التبشير بين المسلمين.
في سنة 1947م حدث تحول أساسي في المجلة؛ فقد انسحب صموئيل زويمر من رئاسة التحرير بعد أن عمل فيها سبعا وثلاثين سنة، وجاء السيد Edwin E.Calverley إلى رئاسة التحرير.
في العدد الأخير لسنة 1947 أعلنت المجلة أنها ستغير اسم المجلة من The Moslem World إلى The Muslim World. وتغييرا آخر نشهده وهو تركهم استعمال كلمة "المحمديين"، وهو تراجع عن خطأ قديم ومزمن في تسمية المسلمين. وتغيير ثالث وهو قيامهم بحذف عبارة "عرض نجاح المبشرين المسيحيين في بلدان العالم الإسلامي" التي ظلت على غلاف المجلة مدة 37 عاما؛ ذلك لأنه لم يكن هناك أي نجاح يذكر في هذا الصدد لكي يتم عرضه.
لم تحدث هذه التغييرات إلا بعد انسحاب صموئيل زويمر من رئاسة التحرير ومن توجيه سياسة المجلة؛ فقد كان مبشرا متعصبا ضد الإسلام حتى النخاع.
ولم يكن هذا الأمر يعني بالطبع أن المجلة تخلت تماما عن أحلامها القديمة في تنصير المسلمين؛ لأنها ظلت تنشر مثل هذه المقالات من حين لآخر، وكانت تنشر أيضا المقالات التي تؤكد صعوبة تنصير المسلمين، وأحيانا تحيل هذا الأمر إلى الله تعالى، فتنشر من حين لآخر أدعية حارة تتضرع إلى الله تعالى أن يرحم المسلمين، ويهديهم إلى المسيح المنقذ. ولكن لم يكن يفوت المرء هنا ملاحظة وقوع تغير مهم في المجلة وهو تحولها من مجلة تبشيرية متعصبة لا ترى الحقيقة إلى مجلة بدأت المقالات الأكاديمية الرصينة تأخذ مكانها في صفحاتها. حتى أن رئيس التحرير الجديد السيد أدوين كتب يقول بأن أبواب هذه المجلة أصبحت موصدة أمام التقييمات والتحليلات الخاطئة حول الإسلام، وأنه لن يسمح بنشر الأكاذيب حول الإسلام، وأنه يرحب بالمقالات وبالبحوث الجامعية والأكاديمية الرصينة حول الإسلام.
اتبعت المجلة فعلا هذه السياسة وهذا النهج في مقالاتها في الخمسينيات والستينيات؛ فتحولت من مجلة تبشيرية ضيقة الأفق إلى مجلة أكاديمية أصبحت صالحة لتكون مصدرا علميا يستفيد منه الباحثون وتستفيد منه الجامعات التي تقوم بتدريس الإسلام. والشيء الذي شجع هذا الاتجاه هو أنه علاوة على تتابع الأحداث التي أظهرت استحالة تنصير العالم الإسلامي؛ فقد بدت هناك ظاهرة أخرى وهي ميل العديد من المسيحيين في الغرب إلى الإسلام واعتناقهم له.
في سنة 1970 نلاحظ تحولا آخر فيها، وأفضل إشارة لهذا التحول هو العبارة التي وضعت تحت اسم المجلة وهي: "مجلة لنشر البحوث الإسلامية والعلاقات المسيحية الإسلامية في الماضي وفي الحاضر".
أصبح للمجلة أربعة رؤساء تحرير من أشخاص بعيدين عن التعصب ضد الإسلام وعن نفسية المبشر. والأهم من كل هذا أن المجلة بدأت بفتح صفحاتها للبحوث الإسلامية المكتوبة من قبل المفكرين والباحثين المسلمين. كانت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام في تأصيل الطابع العلمي والأكاديمي المحايد للمجلة. وبعد عام 1979م -أي بعد وقوع الثورة الإيرانية وتزايد الاهتمام بالإسلام في الغرب- اكتسبت هذه المجلة بطابعها الأكاديمي الرصين سمعة جيدة في الغرب وانتشارا أوسع.
في سنة 1990 زال آخر رمز تبشيري لها، وهو علامة الصليب التي كانت موجودة على غلافها، ووضعت مكانها صورة الكرة الأرضية كإشارة واضحة إلى أن هذه المجلة أصبحت مجلة عالمية تخاطب الناس جميعا، وليست مجلة خاصة بالمسيحيين.
ولكن الخطوة الراديكالية في التغيير حدثت في عام 1992 عندما أصبح أحد العلماء المسلمين ضمن رئاسة تحرير المجلة، وهو السيد إبراهيم أبو ربيعة (وهو فلسطيني متجنس بالجنسية الأمريكية). وكانت رئاسة تحرير المجلة منذ عام 1970 تدار من قبل Willyem A.Bijlefeld وWadi Z.Haddad وDavid A.Kerr فأصبح أبو ربيعة هو الشخص الرابع في رئاسة التحرير. بعد سنتين خرج W.Bijlefeld من المجلة وأصبح أبو ربيعة رئيسا للتحرير، ودافيد كير والحداد معاونين له. وفي عام 1997 عين مسلم آخر كمعاون لرئيس التحرير وهو السيد علوي شهابي من إندونيسيا، وكان قد شغل منصب وزير الخارجية مدة في عهد ما بعد سوهارتو.
وأخيرا.. وفي نهاية القرن الماضي خطت المجلة خطوة أخرى مهمة إلى الأمام، عندما قررت تعيين الدكتورة "أنجريد ماتسون" (Dr.Ingrid Mattson) الكندية ضمن رئاسة التحرير، وهي عالمة كندية اعتنقت الإسلام في الثمانينيات وتحجبت، وكانت قد أكملت رسالة الدكتوراة في جامعة شيكاغو بقسم البحوث الإسلامية؛ أي أصبح هناك ضمن كادر التحرير مهتدية كندية ومحجبة. وحاليا فإن نصف المقالات المنشورة في هذه المجلة الأكاديمية تعود لكتاب مسلمين.
هذه هي بإيجاز قصة هذه المجلة التي ظهرت قبل قرن تقريبا في صورة مجلة تبشيرية متعصبة، ثم تطورت تدريجيا إلى وضعها الأكاديمي الحالي