no saowt
08-25-2004, 08:13 PM
قد يكون هذا الكتاب أخطر ما صدر وما يمكن أن يصدر من كتب عن الحرب اللبنانية. هذه الحرب التي لا يمكن أن تجد تفسيراً نهائياً لها, إلا في الواقعة الطائفية اللبنانية داخلياً, وفي الاستغلال العربي والإسرائيلي لها خارجياً.
ولست أدري, وأنا أطالع هذا الكتاب بشغف ما بعده شغف, كيف فرض التشبيه نفسه عليّ: فقد بدا لي أن مؤلفه, آلان مينارغ, أشبه ما يكون بشهرزاد الحرب اللبنانية. لكن بدلاً من "ألف ليلة وليلة", فإنه يروي لنا "ألف سر وسر", وهذا من دون أن يسكت, عكس صنيع شهرزاد, لا عن الكلام المباح, ولا عن الكلام غير المباح.
ولنقل بادئ ذي بدء إن مؤلف "أسرار الحرب اللبنانية" - الذي آثر أن يصمت عشرين سنة قبل أن يتكلم - هو الابن الميداني لهذه الحرب. فقد أمضى في لبنان, كمراسل لـ"راديو فرنسا", خمسة عشر عاماً. ثم عكف على الأرشيف خمسة أعوام, محاولاً استنطاق صمته, وقرأ خلالها طناً بكامله من الأوراق والوثائق ومحاضر الضبط بالفرنسية والانكليزية, كما بالعربية والعبرية. ثم تحول عن المادة الميتة إلى المادة الحية ليجري مئة وستين مقابلة مع صانعي تلك الحرب من سياسيين وعسكريين وميليشيين, ومن جنود وجنرالات, من لبنانيين وإسرائيليين وفلسطينيين وسوريين, ومن مسيحيين ودروز وسنيين وشيعيين ويهود, في لبنان وإسرائيل وتونس والعراق والولايات المتحدة. وكانت هذه الحصيلة من خمسمئة وخمسين صفحة التي لا تغطي, في محصلة الحساب, سوى فترة محدودة للغاية, ولكن حاسمة الأهمية للغاية أيضاً, من الحرب اللبنانية, هي فترة الـ722 يوماً الممتدة من 27 أيلول (سبتمبر) 1980, وهو اليوم الذي تقرر فيه - بناء على تقرير استراتيجي أعده ميشال عون وانطوان نجم (ونص هذا التقرير منشور في ملاحق الكتاب) - البدء بتنفيذ خطة استيلاء بشير الجميل على السلطة, إلى 21 أيلول 1982, وهو اليوم الذي انتخب فيه أمين الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية بديلاً عن أخيه الذي كان لقي مصرعه غيلة في عملية تفجير مركز الكتائب في الأشرفية في 14 أيلول 1982.
ومثله مثل الروائي الجيد, فإن آلان مينارغ لا يتدخل البتة في مجرى الأحداث ليعلق أو ليصدر حكماً من خارج السياق. بل هو يترك للوقائع نفسها أن تنطق, وهي تنطق بأقوى ما يكون النطق لتقول كل قسوة الحرب اللبنانية, وكل عبثيتها في آن معاً. فعدا كلفتها الباهظة بالأرواح البشرية, كانت نموذجاً لحرب الرابح فيها خاسر واللاعب ملعوب به. يصدق ذلك على أبطالها جميعاً, بمن فيهم بطلها الأكبر الذي كان بلا منازع بشير الجميل الذي هو, في الوقت نفسه, الشخصية المحورية التي تدور حولها كل فصول كتاب "أسرار الحرب اللبنانية".
وشخصياً, لا أكتم القارئ انني وجدت في هذا الكتاب أجوبة عن كثير من الأسئلة التي كانت بقيت في ذاكرتي بلا جواب - وقد كنت واحداً من معايشي هذه الحرب على مدى عشر سنوات بكاملها - لا سيما منها ما يتعلق بواحد من أكثر فصولها دموية: مذابح صبرا وشاتيلا التي أعقبت مقتل بشير الجميل بيوم واحد.
فمن ارتكب هذه المجازر؟ إسرائيل أم جيش لبنان الجنوبي أم ميليشيا القوات اللبنانية؟
آلان مينارغ لا يدع مجالاً للشك: ثلاثتهم معاً, وعلى التوالي, ولكن المخطط الأول والمنفذ الأول كان إسرائيل.
إسرائيل؟ بل ارييل شارون حصراً, الذي سارع, بعد تلقيه نبأ مقتل بشير الجميل, يعقد, بوصفه وزيراً للدفاع, مجلساً حربياً حقيقياً ضم رفائيل (رفول) ايتان رئيس الأركان, والجنرال يهوشوا ساغي رئيس جهاز الأمن, وناحوم عدموني رئيس جهاز الموساد, وأفراهام شالوم رئيس جهاز شين بيت للاستخبارات. وهؤلاء الخمسة هم الذين اتخذوا قرار دخول بيروت الغربية و"تنظيفها من الإرهابيين الفلسطينيين", وأوكلوا قيادة العملية التي اطلقوا عليها اسم "المخ الحديدي" إلى رفول ايتان. ويبدو أنهم قد خدعوا مناحيم بيغن نفسه, الذي كان في حينه رئيساً للحكومة الإسرائيلية, لأن شرطه الأول للموافقة على العملية كان عدم دخول الجنود الإسرائيليين إلى مخيمات صبرا أو شاتيلا أو الفاكهاني. والحال ان الجنود الاسرائيليين, الذين لم يدخلوا المخيمات رسمياً, دخلوها سراً إن جاز التعبير. فتحت تغطية من دبابات ميركافا, التي كانت طوقت المخيمات ظهر يوم الاربعاء 15 أيلول 1982, تسللت الى أزقتها عدة وحدات - وكل وحدة تتألف من عشرة أفراد - من القوات الخاصة التابعة لسرايا الاستطلاع في الجيش الاسرائيلي, وهي ترتدي لباس القتال, ولكن بدون أية شارات تنم عن هويتها. ولم يعرف من جميع هؤلاء "القتلة" سوى اسم عنصر واحد, هو الرقيب بني حاييم الذي أصيب بجرح في ساقه واضطر الى خلع حمّالة قنابله التي كان قد خبأ فيها بطاقة هويته. اما لماذا لقب "القتلة" هنا؟ فلأن هؤلاء العناصر الذين عملوا في وضح النهار, وأجمعت الشهادات اللاحقة على أن عدداً منهم كانوا شقر الشعور أو زرق العيون, كانوا يقرعون أبواب منازل الفلسطينيين واحداً واحداً, ثم ينادون على اسم ساكن المنزل, فإذا ما خرج أردوه قتيلاً برصاصة في رأسه. وهكذا تمت مقتلة باردة راح ضحيتها 63 فلسطينياً من المحامين والأطباء والمعلمين ممن كانوا آثروا البقاء في المخيم بعد عملية ترحيل المقاتلين الى تونس, توهماً منهم بأن وضعهم المدني اللامقاتل من شأنه أن يوفر حماية ما لهم.
ولم تكن هذه سوى الدفعة الأولى من المقتلة. فما كادت عناصر وحدات الاستطلاع الاسرائيلية تنسحب حتى حلت محلها, مع هبوط الليل, وتحت تغطية من الصواريخ الاسرائيلية المضيئة, عناصر وحدة قتالية من جيش لبنان الجنوبي تتألف من 150 عنصراً. وقبل ان تتقدم هذه الوحدة من موقعها في مفرق خلدة, التقى رفول ايتان شخصياً قائدها وأعطاه التعليمات التالية: "ان النتيجة التي ينبغي أن تحصلوا عليها هي هرب سكان المخيمات". ولم يتردد قائد الوحدة في تنفيذ هذه الوصية حرفياً: فقد أمر جنوده بأن يطلقوا النار على كل من يتحرك في المخيم. والحال ان سكان المخيم كانوا مضطرين الى "التحرك", لا سيما باتجاه مستشفى غزة أو مستشفى المقاصد الذي يقع على بعد 500 متر. وكانت "النتيجة" ان أبيدت عائلات بكاملها, مع نسائها وأطفالها.
وفي الساعة العاشرة من صبيحة 16 ايلول, ومع بداية تسرب الأنباء عن وقوع مجازر, أصدر رفول إيتان الأمر رقم 6 الذي يقضي بمنع دخول عناصر جيش الدفاع الاسرائيلي الى المخيمات, وبإيكال مهمة "تنظيف آخر المقاومين" - كما جاء في نص الأمر حرفياً - الى "الكتائب و/أو الجيش اللبناني". ولكن لما أبت قيادة الجيش اللبناني تنفيذ هذا الأمر بادر الجنرال أمير دوري, قائد الجبهة الشمالية في الجيش الاسرائيلي, الى الاجتماع بقائد القوات اللبنانية, وطلب اليه إدخال رجاله الى المخيمات لاستكمال عملية "التنظيف". وعلى هذا النحو, وفي تمام الساعة السادسة مساء من 16/9/1982, دخلت عناصر جهاز الأمن التابع لإيلي حبيقة الى مخيم شاتيلا من الجنوب ومخيم صبرا من الغرب من دون سابق علم من قبل أفرادها بأنها ثالث مجموعة تدخل الى المخيمين. وكانت الحصيلة, بعد ساعة واحدة, "أسر" نحو من خمسين امرأة وطفل. وعندما اتصل قائد الوحدة بالراديو برئيس جهاز الأمن, الذي كان متواجداً في تلك الساعة في مقر قيادة الجنرال آموس يارون, قائد عملية "سلام الجليل", جاءه الجواب: "هذه أول مرة تسألني فيها مثل هذا السؤال. انت تعرف تماماً ما ينبغي عليك عمله".
وباكتمال هذه الدفعة الثالثة من المقتلة, كان ثلاثمئة مدني فلسطيني على الأقل قد قتلوا, ومنهم من ذبحوا "ذبحاً" كما جاء في تقرير لزئيف شيف, المراسل الحربي لصحيفة "هآرتس" الذي يعتبر الصحافي الأكثر اطلاعاً في اسرائيل على شؤون وزارة الدفاع. وهذا ما أكده أيضاً الملازم آفي غرابوسكي, قائد رتل الدبابات المتمركزة عند مدخل مخيم شاتيلا.
ورغم الشائعات التي بدأت تتناقلها الصحافة اللبنانية والعالمية عن وقوع مجازر, أصر رفول ايتان على النفي, بل انه, في اجتماع عقده مع قادة القوات اللبنانية عصر يوم الجمعة 17 ايلول, هنأهم على كونهم نفذوا "عملية نظيفة وناجعة" على حد تعبيره. لكن سيناريو الإنكار هذا ما لبث ان انقلب الى نقيضه عندما تحركت المعارضة العمالية داخل اسرائيل, وعندما شرع المجتمع الدولي يدين العملية, بما في ذلك الرئيس الاميركي رونالد ريغان الذي نشر بياناً غير مسبوق اليه في القسوة في تاريخ العلاقات الاميركية - الاسرائيلية. وإزاء موجة الادانة الدولية هذه, لم تلبث القيادة الاسرائيلية ان غسلت يديها من دم الفلسطينيين لتحمّل المسؤولية كاملة للقوات اللبنانية وحدها. وعندما ادركت قيادة هذه القوات بدورها المقلب الذي أعد على هذا النحو لها, بدأت هي الأخرى تتبرأ من العملية لتلقي مسؤوليتها على عاتق جيش لبنان الجنوبي وحده. والمفارقة انه حتى الطرف "الوطني" في الحرب اللبنانية قد راق له أن يتبنى هذا التأويل. فهذا الطرف, الذي كان دخل في مساومة وفاق وطني مع أمين الجميل لانتخابه رئيساً بديلاً عن أخيه, كان يوافقه أن يحمل مسؤولية المجازر لجيش لبنان الجنوبي دون القوات اللبنانية. وقد عبرت جريدة "السفير" عن هذا الموقف عندما خرجت في عددها الصادر يوم الأحد 19/11 بمانشيت عريض يقول: "سكان بيروت الغربية لا يعتبرون الكتائب مسؤولة". وهذا ما كرره ايضاً صائب سلام الذي وضعت على لسانه القولة المشهورة, وذلك انه عندما أكّد بحضوره أحد الناجين من المذبحة قائلا: "انهم هم! لقد رأيت اسمهم, القوات اللبنانية, مكتوباً على لباسهم!" جاء جواب الزعيم السني: "ولك! منذ متى صرت تعرف تقرأ!".
ولست أدري, وأنا أطالع هذا الكتاب بشغف ما بعده شغف, كيف فرض التشبيه نفسه عليّ: فقد بدا لي أن مؤلفه, آلان مينارغ, أشبه ما يكون بشهرزاد الحرب اللبنانية. لكن بدلاً من "ألف ليلة وليلة", فإنه يروي لنا "ألف سر وسر", وهذا من دون أن يسكت, عكس صنيع شهرزاد, لا عن الكلام المباح, ولا عن الكلام غير المباح.
ولنقل بادئ ذي بدء إن مؤلف "أسرار الحرب اللبنانية" - الذي آثر أن يصمت عشرين سنة قبل أن يتكلم - هو الابن الميداني لهذه الحرب. فقد أمضى في لبنان, كمراسل لـ"راديو فرنسا", خمسة عشر عاماً. ثم عكف على الأرشيف خمسة أعوام, محاولاً استنطاق صمته, وقرأ خلالها طناً بكامله من الأوراق والوثائق ومحاضر الضبط بالفرنسية والانكليزية, كما بالعربية والعبرية. ثم تحول عن المادة الميتة إلى المادة الحية ليجري مئة وستين مقابلة مع صانعي تلك الحرب من سياسيين وعسكريين وميليشيين, ومن جنود وجنرالات, من لبنانيين وإسرائيليين وفلسطينيين وسوريين, ومن مسيحيين ودروز وسنيين وشيعيين ويهود, في لبنان وإسرائيل وتونس والعراق والولايات المتحدة. وكانت هذه الحصيلة من خمسمئة وخمسين صفحة التي لا تغطي, في محصلة الحساب, سوى فترة محدودة للغاية, ولكن حاسمة الأهمية للغاية أيضاً, من الحرب اللبنانية, هي فترة الـ722 يوماً الممتدة من 27 أيلول (سبتمبر) 1980, وهو اليوم الذي تقرر فيه - بناء على تقرير استراتيجي أعده ميشال عون وانطوان نجم (ونص هذا التقرير منشور في ملاحق الكتاب) - البدء بتنفيذ خطة استيلاء بشير الجميل على السلطة, إلى 21 أيلول 1982, وهو اليوم الذي انتخب فيه أمين الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية بديلاً عن أخيه الذي كان لقي مصرعه غيلة في عملية تفجير مركز الكتائب في الأشرفية في 14 أيلول 1982.
ومثله مثل الروائي الجيد, فإن آلان مينارغ لا يتدخل البتة في مجرى الأحداث ليعلق أو ليصدر حكماً من خارج السياق. بل هو يترك للوقائع نفسها أن تنطق, وهي تنطق بأقوى ما يكون النطق لتقول كل قسوة الحرب اللبنانية, وكل عبثيتها في آن معاً. فعدا كلفتها الباهظة بالأرواح البشرية, كانت نموذجاً لحرب الرابح فيها خاسر واللاعب ملعوب به. يصدق ذلك على أبطالها جميعاً, بمن فيهم بطلها الأكبر الذي كان بلا منازع بشير الجميل الذي هو, في الوقت نفسه, الشخصية المحورية التي تدور حولها كل فصول كتاب "أسرار الحرب اللبنانية".
وشخصياً, لا أكتم القارئ انني وجدت في هذا الكتاب أجوبة عن كثير من الأسئلة التي كانت بقيت في ذاكرتي بلا جواب - وقد كنت واحداً من معايشي هذه الحرب على مدى عشر سنوات بكاملها - لا سيما منها ما يتعلق بواحد من أكثر فصولها دموية: مذابح صبرا وشاتيلا التي أعقبت مقتل بشير الجميل بيوم واحد.
فمن ارتكب هذه المجازر؟ إسرائيل أم جيش لبنان الجنوبي أم ميليشيا القوات اللبنانية؟
آلان مينارغ لا يدع مجالاً للشك: ثلاثتهم معاً, وعلى التوالي, ولكن المخطط الأول والمنفذ الأول كان إسرائيل.
إسرائيل؟ بل ارييل شارون حصراً, الذي سارع, بعد تلقيه نبأ مقتل بشير الجميل, يعقد, بوصفه وزيراً للدفاع, مجلساً حربياً حقيقياً ضم رفائيل (رفول) ايتان رئيس الأركان, والجنرال يهوشوا ساغي رئيس جهاز الأمن, وناحوم عدموني رئيس جهاز الموساد, وأفراهام شالوم رئيس جهاز شين بيت للاستخبارات. وهؤلاء الخمسة هم الذين اتخذوا قرار دخول بيروت الغربية و"تنظيفها من الإرهابيين الفلسطينيين", وأوكلوا قيادة العملية التي اطلقوا عليها اسم "المخ الحديدي" إلى رفول ايتان. ويبدو أنهم قد خدعوا مناحيم بيغن نفسه, الذي كان في حينه رئيساً للحكومة الإسرائيلية, لأن شرطه الأول للموافقة على العملية كان عدم دخول الجنود الإسرائيليين إلى مخيمات صبرا أو شاتيلا أو الفاكهاني. والحال ان الجنود الاسرائيليين, الذين لم يدخلوا المخيمات رسمياً, دخلوها سراً إن جاز التعبير. فتحت تغطية من دبابات ميركافا, التي كانت طوقت المخيمات ظهر يوم الاربعاء 15 أيلول 1982, تسللت الى أزقتها عدة وحدات - وكل وحدة تتألف من عشرة أفراد - من القوات الخاصة التابعة لسرايا الاستطلاع في الجيش الاسرائيلي, وهي ترتدي لباس القتال, ولكن بدون أية شارات تنم عن هويتها. ولم يعرف من جميع هؤلاء "القتلة" سوى اسم عنصر واحد, هو الرقيب بني حاييم الذي أصيب بجرح في ساقه واضطر الى خلع حمّالة قنابله التي كان قد خبأ فيها بطاقة هويته. اما لماذا لقب "القتلة" هنا؟ فلأن هؤلاء العناصر الذين عملوا في وضح النهار, وأجمعت الشهادات اللاحقة على أن عدداً منهم كانوا شقر الشعور أو زرق العيون, كانوا يقرعون أبواب منازل الفلسطينيين واحداً واحداً, ثم ينادون على اسم ساكن المنزل, فإذا ما خرج أردوه قتيلاً برصاصة في رأسه. وهكذا تمت مقتلة باردة راح ضحيتها 63 فلسطينياً من المحامين والأطباء والمعلمين ممن كانوا آثروا البقاء في المخيم بعد عملية ترحيل المقاتلين الى تونس, توهماً منهم بأن وضعهم المدني اللامقاتل من شأنه أن يوفر حماية ما لهم.
ولم تكن هذه سوى الدفعة الأولى من المقتلة. فما كادت عناصر وحدات الاستطلاع الاسرائيلية تنسحب حتى حلت محلها, مع هبوط الليل, وتحت تغطية من الصواريخ الاسرائيلية المضيئة, عناصر وحدة قتالية من جيش لبنان الجنوبي تتألف من 150 عنصراً. وقبل ان تتقدم هذه الوحدة من موقعها في مفرق خلدة, التقى رفول ايتان شخصياً قائدها وأعطاه التعليمات التالية: "ان النتيجة التي ينبغي أن تحصلوا عليها هي هرب سكان المخيمات". ولم يتردد قائد الوحدة في تنفيذ هذه الوصية حرفياً: فقد أمر جنوده بأن يطلقوا النار على كل من يتحرك في المخيم. والحال ان سكان المخيم كانوا مضطرين الى "التحرك", لا سيما باتجاه مستشفى غزة أو مستشفى المقاصد الذي يقع على بعد 500 متر. وكانت "النتيجة" ان أبيدت عائلات بكاملها, مع نسائها وأطفالها.
وفي الساعة العاشرة من صبيحة 16 ايلول, ومع بداية تسرب الأنباء عن وقوع مجازر, أصدر رفول إيتان الأمر رقم 6 الذي يقضي بمنع دخول عناصر جيش الدفاع الاسرائيلي الى المخيمات, وبإيكال مهمة "تنظيف آخر المقاومين" - كما جاء في نص الأمر حرفياً - الى "الكتائب و/أو الجيش اللبناني". ولكن لما أبت قيادة الجيش اللبناني تنفيذ هذا الأمر بادر الجنرال أمير دوري, قائد الجبهة الشمالية في الجيش الاسرائيلي, الى الاجتماع بقائد القوات اللبنانية, وطلب اليه إدخال رجاله الى المخيمات لاستكمال عملية "التنظيف". وعلى هذا النحو, وفي تمام الساعة السادسة مساء من 16/9/1982, دخلت عناصر جهاز الأمن التابع لإيلي حبيقة الى مخيم شاتيلا من الجنوب ومخيم صبرا من الغرب من دون سابق علم من قبل أفرادها بأنها ثالث مجموعة تدخل الى المخيمين. وكانت الحصيلة, بعد ساعة واحدة, "أسر" نحو من خمسين امرأة وطفل. وعندما اتصل قائد الوحدة بالراديو برئيس جهاز الأمن, الذي كان متواجداً في تلك الساعة في مقر قيادة الجنرال آموس يارون, قائد عملية "سلام الجليل", جاءه الجواب: "هذه أول مرة تسألني فيها مثل هذا السؤال. انت تعرف تماماً ما ينبغي عليك عمله".
وباكتمال هذه الدفعة الثالثة من المقتلة, كان ثلاثمئة مدني فلسطيني على الأقل قد قتلوا, ومنهم من ذبحوا "ذبحاً" كما جاء في تقرير لزئيف شيف, المراسل الحربي لصحيفة "هآرتس" الذي يعتبر الصحافي الأكثر اطلاعاً في اسرائيل على شؤون وزارة الدفاع. وهذا ما أكده أيضاً الملازم آفي غرابوسكي, قائد رتل الدبابات المتمركزة عند مدخل مخيم شاتيلا.
ورغم الشائعات التي بدأت تتناقلها الصحافة اللبنانية والعالمية عن وقوع مجازر, أصر رفول ايتان على النفي, بل انه, في اجتماع عقده مع قادة القوات اللبنانية عصر يوم الجمعة 17 ايلول, هنأهم على كونهم نفذوا "عملية نظيفة وناجعة" على حد تعبيره. لكن سيناريو الإنكار هذا ما لبث ان انقلب الى نقيضه عندما تحركت المعارضة العمالية داخل اسرائيل, وعندما شرع المجتمع الدولي يدين العملية, بما في ذلك الرئيس الاميركي رونالد ريغان الذي نشر بياناً غير مسبوق اليه في القسوة في تاريخ العلاقات الاميركية - الاسرائيلية. وإزاء موجة الادانة الدولية هذه, لم تلبث القيادة الاسرائيلية ان غسلت يديها من دم الفلسطينيين لتحمّل المسؤولية كاملة للقوات اللبنانية وحدها. وعندما ادركت قيادة هذه القوات بدورها المقلب الذي أعد على هذا النحو لها, بدأت هي الأخرى تتبرأ من العملية لتلقي مسؤوليتها على عاتق جيش لبنان الجنوبي وحده. والمفارقة انه حتى الطرف "الوطني" في الحرب اللبنانية قد راق له أن يتبنى هذا التأويل. فهذا الطرف, الذي كان دخل في مساومة وفاق وطني مع أمين الجميل لانتخابه رئيساً بديلاً عن أخيه, كان يوافقه أن يحمل مسؤولية المجازر لجيش لبنان الجنوبي دون القوات اللبنانية. وقد عبرت جريدة "السفير" عن هذا الموقف عندما خرجت في عددها الصادر يوم الأحد 19/11 بمانشيت عريض يقول: "سكان بيروت الغربية لا يعتبرون الكتائب مسؤولة". وهذا ما كرره ايضاً صائب سلام الذي وضعت على لسانه القولة المشهورة, وذلك انه عندما أكّد بحضوره أحد الناجين من المذبحة قائلا: "انهم هم! لقد رأيت اسمهم, القوات اللبنانية, مكتوباً على لباسهم!" جاء جواب الزعيم السني: "ولك! منذ متى صرت تعرف تقرأ!".