بشرى
05-28-2004, 12:27 PM
ما أحلى طعم الموت
عقارب الساعة تكاد تتجاوز الثانية ظهراً، يلملم عبد السلام حاجاته مسرعاً؛ فلم يتبق على بدء حظر التجوال سوى ساعتين.. يجب أن يخرج من المكتب قبل أن تزدحم شوارع فلسطين بالعائدين إلى بيوتهم؛ فما زال أمامه المرور على طفليه لإحضارهما من المدرسة، ثم شراء مستلزمات البيت حتى الغد، ثم السير لأكثر من عشرين دقيقة فالباص لا يمر إلا بالشوارع الرئيسية.. إنها معاناة كل يوم.
يخرج عبد السلام من المكتب متعجلاً؛ يتجاهل حتى رد السلام؛ فربما يجره رد السلام إلى ثرثرةٍ لا طائل منها سوى التأخير وإضاعة الوقت.
- الحمد لله لم يتأخر الباص؛ سأصل إلى المدرسة قبل خروج الأطفال.
- ما شاء الله.. مقعدان خاليان بالباص..
أعتقد أن الجلوس بجوار هذا الصبي الصغير سيكون أفضل من الجلوس بجوار السيدة.
تفحص عبد السلام الصبي سريعاً.. فلم ير إلا جسده النحيل؛ إنه لا يتجاوز الخامسة عشرة؛ ولكن لماذا يدور ببصره من خلال النافذة وكأنه يبحث عن شيء ما؟ إنه حتى لا يشعر بوجودي.. بماذا يتمتم؟ لعله يهمس لنفسه بكلمات إحدى تلك الأغنيات الغريبة التي يسمعها الصبية هذه الأيام..
أفضل شيء أن أحاول الاسترخاء قليلاً، فما زال الطريق طويلاً، وأنا أشعر اليوم بأنني منهكٌ تماماً. التفت الصبي إليه فجأة، وكأنه يتساءل: منذ متى وأنت هنا؟
بادله عبد السلام بنظرة ترحاب؛ تجاهلها الصبي؛ ليعود إلى النافذة..
- من الواضح أن هذا الصبي غريب الأطوار.. ربما يمر بأزمة عاطفية؛ أو ربما هي أعراض الحب الأول..
وقبل أن يهمّ عبد السلام بالضحك في أعماقه.. التفت إليه الصبي فجأة..
- هل ذقت طعم الموت يا سيدي؟
- ماذا؟ طعم ماذا؟.. قالها عبد السلام متعجباً فزعاً من هذا السؤال المفاجئ!
- الموت يا سيدي..
شعر عبد السلام بأن كلمة غريب الأطوار كانت مجحفة لشخصية هذا الصبي.. ولكن لا بأس؛ فالحوار يقتل دقائق الانتظار للوصول إلى المدرسة..
- وماذا يعرف صبي في مثل عمرك عن الموت؟
- ليس أكثر مما تعرفه أنت يا سيدي.. وليس أقل.. فماذا تعرف أنت عن الموت؟
- الموت يا بني.. الموت هو الموت..
- هل رأيت يا سيدي؟ نحن لا نعرف شيئاً عن الموت، فمن منا يستطيع أن يصف ملامح الموت؟ وكذلك الموت.. لا يعرفنا.. فهو لا يميز صغيرنا من كبيرنا، ولا ضعيفنا من قويّنا، ولا فقيرنا من غنيّنا.
يا سيدي نحن والموت كمسافرين في قطارين متعاكسين.. لا نلتقي إلا للحظاتٍ معدودة؛ لا تكفي للتعارف.
- صدقت يا بني، ولكن من في مثل عمرك لا يتحدث عن الموت!
- ولماذا يا سيدي؟ الموت سلعة بائرة لا يشتريها الكبار عندما يجب عليهم ذلك.. لذا يجدها الصغار في الأسواق بأرخص الأثمان.
- ربما!! قالها مفضلاً قطع هذا الحوار السخيف، ومتعجباً من هذه الفلسفة الغريبة التي ورطته الصدفة في الإنصات إليها.
أعاد الصبي النظر من النافذة، ثم ما لبث أن التفت ثانيةً إلى عبد السلام..
- لم تجبني يا سيدي؟
- بماذا يا بني؟
- هل ذقت طعم الموت؟
- يا بني، الموتى فقط هم من يذوقون طعم الموت، أما الأحياء فلا.
- يا سيدي، الموتى لا يتذوقون.. إنهم موتى؛ ألا تفهم؟ إنهم موتى..
- يا بني، إذا كان الموتى لا يذوقون طعم الموت، فكيف تدّعي أن الأحياء يذوقونه؟
- لأن الأحياء هم من أنعم الله عليهم بالإدراك.. لذلك فهم يتذوقون..
- ولكن.. ألم تقل يا بني أننا لا نعرف شيئاً عن الموت؟
- صحيح يا سيدي.. ولكننا نستطيع أن نشم رائحته؛ أن نذوق طعمه..
- كيف؛ ونحن لا نعرفه؟
- يا سيدي.. عندما تخرج من بيتك كل صباحٍ تتلمّس الموت.. تذوق طعمه..
عندما تجوب الشوارع والطرقات تفتش عن الموت.. تذوق طعمه.. عندما تطارده بجسدك الضعيف غير مبالٍ.. تذوق طعمه.. عندما تشعر به يفر من أمامك مذعوراً.. تذوق طعمه.. عندما تجده أجبن من أن يحصدك.. تذوق طعمه.. عندما تعود إلى دارك آخر النهار مهموماً لأنك لم تمسك بالموت.. تذوق طعمه..
يا سيدي.. عندما تخرج لسانك للموت.. تذوق طعم الموت..
نظر عبد السلام إلى الصبي مرتاباً وقد سرت بأطرافه قشعريرة باردة.. ربما يكون به مساً!! نفض الفكرة عن ذهنه سريعاً.. ربما الحديث عن الموت هو ما يفزعه، ولم لا؟ فالنفس البشرية تجزع من الموت.. ولكن ما بال هذا الصبي يتحدث عن الموت وكأنه صديقٌ حميم يعرفه جيداً؟ هل يكون روحاً؟!!
ما هذا يا عبد السلام؟ هل تفقدك عبارات بلهاء يهذي بها صبيٌ مخبولٌ صوابك.
تمنى عبد السلام لو يعاود الصبي حديثه، فربما قطعت الكلمات هذا السيل من الأفكار البلهاء التي تحاصره.. وكأن الصبي يتعمد أن يدعه لأفكاره تعبث به.. مكتفياً بالنظر من خلال نافذته. حاول عبد السلام مجاذبة الصبي أطراف الحديث مرة أخرى..
- إلى أين أنت ذاهب يا بني؟
- إلى داري..
- هل كنت في المدرسة؟
- لا
- هل تعمل؟
نظر إليه الصبي نظرات استهزاء..
- أبي لا يجد عملاً.. وكذلك أخي الأكبر..
- إذاً من أين قدمت؟
- من بيتي!
- ألم تقل منذ لحظات إنك في طريقك إلى بيتك؟
- لا يا سيدي.. وإنما قلت أنا في طريقي إلى داري!
- تراقصت الحيرة في عينيّ عبد السلام مغلفةً كلماته: قادم من بيتك.. وفي طريقك إلى دارك؟
- نعم يا سيدي.. قادم من بيتي وفي طريقي إلى داري.. ما الغريب في هذا؟
- لا شيء يا بني.. لا شيء!!
شعر عبد السلام بالرغبة في النهوض سريعاً.. بالتأكيد هذا الصبي ليس طبيعياً.. تمنى لو يسرع هذا الباص قليلاً لينهي هذا العبث.. تمنى لو لم يستقل هذا الباص؛ لم يره.. أحس بالندم لأنه لم يرد السلام على زميله أثناء خروجه.. ربما شغلهما الحديث حينها فعمي عن رؤية هذا الباص اللعين.
وكأنما أدرك الصبي أنه قد نال من عبد السلام.. فتحركت ملامحه الجامدة ليمتلأ وجهه لأول مرة بابتسامة مودة:
- هل لديك أطفال يا سيدي؟
- نعم؛ لدي (نضال) عمره ثماني سنوات، و(جهاد) عمرها ست سنوات، و(صلاح الدين) عمره ثلاث سنوات.
- قَرَّ الله بهم عينك..
- وأدامك الله لأهلك سالماً يا بني..
- عندما يكبر أطفالك يا سيدي؛ عندما ينضجون؛ عندما يفهمون؛ عندما يسألونك عن الموت.. قل لهم يا سيدي..
لم يمهلني الوقت للتفكير في معنى كلماته، فقد صرخ فجأة مستوقفاً السائق، ونهض مهرولاً إلى الباب الأمامي حتى كاد أن يزيحني من مقعدي..
وقبل أن يهبط من الباص.. توقف فجأة وكأنه نسي شيئاً هاماً، نظر إلى السيدة التي بجواري؛ عانقها بعينيه؛ قبّل يديها وسألها الدعاء.. أطالت النظر إليه وكأنها تحفر ملامحه في ذاكرتها؛ احتضنته بعينيها؛ خبأته في صدرها؛ طبعت على خديه قبلة عميقة.. رسم على شفتيه ابتسامة راضية وهبط من الباص مسرعاً..
أخذ يعدو في الطريق كالصاروخ المنطلق يخترق الزحام.. لا أدري لماذا أو إلى أين؟ إنه فعلاً صبي غريب.. حتى أفكاره وكلماته غريبة مثله.. انطلق الباص.. نظرت إلى السيدة أفتش في ملامحها عن سر هذا الصبي.. لقد تصلبت ملامحها حتى بدت كالموتى.. لم تمر سوى لحظات.. حتى دوى صوت انفجارٍ هائل.. توقف الباص فجأة، نهض كل من بداخله يتطلعون إلى الخلف..
لقد كانت سيارة عسكرية تحترق ككومة من القش.. قطع صمت الجميع بالباص زغرودة طويلة أطلقتها تلك السيدة.. لقد كانت أمه.. أبت إلا أن تصحبه إلى حفل عرسه!
*****
وعجلت إليك ربى لترضى..
عقارب الساعة تكاد تتجاوز الثانية ظهراً، يلملم عبد السلام حاجاته مسرعاً؛ فلم يتبق على بدء حظر التجوال سوى ساعتين.. يجب أن يخرج من المكتب قبل أن تزدحم شوارع فلسطين بالعائدين إلى بيوتهم؛ فما زال أمامه المرور على طفليه لإحضارهما من المدرسة، ثم شراء مستلزمات البيت حتى الغد، ثم السير لأكثر من عشرين دقيقة فالباص لا يمر إلا بالشوارع الرئيسية.. إنها معاناة كل يوم.
يخرج عبد السلام من المكتب متعجلاً؛ يتجاهل حتى رد السلام؛ فربما يجره رد السلام إلى ثرثرةٍ لا طائل منها سوى التأخير وإضاعة الوقت.
- الحمد لله لم يتأخر الباص؛ سأصل إلى المدرسة قبل خروج الأطفال.
- ما شاء الله.. مقعدان خاليان بالباص..
أعتقد أن الجلوس بجوار هذا الصبي الصغير سيكون أفضل من الجلوس بجوار السيدة.
تفحص عبد السلام الصبي سريعاً.. فلم ير إلا جسده النحيل؛ إنه لا يتجاوز الخامسة عشرة؛ ولكن لماذا يدور ببصره من خلال النافذة وكأنه يبحث عن شيء ما؟ إنه حتى لا يشعر بوجودي.. بماذا يتمتم؟ لعله يهمس لنفسه بكلمات إحدى تلك الأغنيات الغريبة التي يسمعها الصبية هذه الأيام..
أفضل شيء أن أحاول الاسترخاء قليلاً، فما زال الطريق طويلاً، وأنا أشعر اليوم بأنني منهكٌ تماماً. التفت الصبي إليه فجأة، وكأنه يتساءل: منذ متى وأنت هنا؟
بادله عبد السلام بنظرة ترحاب؛ تجاهلها الصبي؛ ليعود إلى النافذة..
- من الواضح أن هذا الصبي غريب الأطوار.. ربما يمر بأزمة عاطفية؛ أو ربما هي أعراض الحب الأول..
وقبل أن يهمّ عبد السلام بالضحك في أعماقه.. التفت إليه الصبي فجأة..
- هل ذقت طعم الموت يا سيدي؟
- ماذا؟ طعم ماذا؟.. قالها عبد السلام متعجباً فزعاً من هذا السؤال المفاجئ!
- الموت يا سيدي..
شعر عبد السلام بأن كلمة غريب الأطوار كانت مجحفة لشخصية هذا الصبي.. ولكن لا بأس؛ فالحوار يقتل دقائق الانتظار للوصول إلى المدرسة..
- وماذا يعرف صبي في مثل عمرك عن الموت؟
- ليس أكثر مما تعرفه أنت يا سيدي.. وليس أقل.. فماذا تعرف أنت عن الموت؟
- الموت يا بني.. الموت هو الموت..
- هل رأيت يا سيدي؟ نحن لا نعرف شيئاً عن الموت، فمن منا يستطيع أن يصف ملامح الموت؟ وكذلك الموت.. لا يعرفنا.. فهو لا يميز صغيرنا من كبيرنا، ولا ضعيفنا من قويّنا، ولا فقيرنا من غنيّنا.
يا سيدي نحن والموت كمسافرين في قطارين متعاكسين.. لا نلتقي إلا للحظاتٍ معدودة؛ لا تكفي للتعارف.
- صدقت يا بني، ولكن من في مثل عمرك لا يتحدث عن الموت!
- ولماذا يا سيدي؟ الموت سلعة بائرة لا يشتريها الكبار عندما يجب عليهم ذلك.. لذا يجدها الصغار في الأسواق بأرخص الأثمان.
- ربما!! قالها مفضلاً قطع هذا الحوار السخيف، ومتعجباً من هذه الفلسفة الغريبة التي ورطته الصدفة في الإنصات إليها.
أعاد الصبي النظر من النافذة، ثم ما لبث أن التفت ثانيةً إلى عبد السلام..
- لم تجبني يا سيدي؟
- بماذا يا بني؟
- هل ذقت طعم الموت؟
- يا بني، الموتى فقط هم من يذوقون طعم الموت، أما الأحياء فلا.
- يا سيدي، الموتى لا يتذوقون.. إنهم موتى؛ ألا تفهم؟ إنهم موتى..
- يا بني، إذا كان الموتى لا يذوقون طعم الموت، فكيف تدّعي أن الأحياء يذوقونه؟
- لأن الأحياء هم من أنعم الله عليهم بالإدراك.. لذلك فهم يتذوقون..
- ولكن.. ألم تقل يا بني أننا لا نعرف شيئاً عن الموت؟
- صحيح يا سيدي.. ولكننا نستطيع أن نشم رائحته؛ أن نذوق طعمه..
- كيف؛ ونحن لا نعرفه؟
- يا سيدي.. عندما تخرج من بيتك كل صباحٍ تتلمّس الموت.. تذوق طعمه..
عندما تجوب الشوارع والطرقات تفتش عن الموت.. تذوق طعمه.. عندما تطارده بجسدك الضعيف غير مبالٍ.. تذوق طعمه.. عندما تشعر به يفر من أمامك مذعوراً.. تذوق طعمه.. عندما تجده أجبن من أن يحصدك.. تذوق طعمه.. عندما تعود إلى دارك آخر النهار مهموماً لأنك لم تمسك بالموت.. تذوق طعمه..
يا سيدي.. عندما تخرج لسانك للموت.. تذوق طعم الموت..
نظر عبد السلام إلى الصبي مرتاباً وقد سرت بأطرافه قشعريرة باردة.. ربما يكون به مساً!! نفض الفكرة عن ذهنه سريعاً.. ربما الحديث عن الموت هو ما يفزعه، ولم لا؟ فالنفس البشرية تجزع من الموت.. ولكن ما بال هذا الصبي يتحدث عن الموت وكأنه صديقٌ حميم يعرفه جيداً؟ هل يكون روحاً؟!!
ما هذا يا عبد السلام؟ هل تفقدك عبارات بلهاء يهذي بها صبيٌ مخبولٌ صوابك.
تمنى عبد السلام لو يعاود الصبي حديثه، فربما قطعت الكلمات هذا السيل من الأفكار البلهاء التي تحاصره.. وكأن الصبي يتعمد أن يدعه لأفكاره تعبث به.. مكتفياً بالنظر من خلال نافذته. حاول عبد السلام مجاذبة الصبي أطراف الحديث مرة أخرى..
- إلى أين أنت ذاهب يا بني؟
- إلى داري..
- هل كنت في المدرسة؟
- لا
- هل تعمل؟
نظر إليه الصبي نظرات استهزاء..
- أبي لا يجد عملاً.. وكذلك أخي الأكبر..
- إذاً من أين قدمت؟
- من بيتي!
- ألم تقل منذ لحظات إنك في طريقك إلى بيتك؟
- لا يا سيدي.. وإنما قلت أنا في طريقي إلى داري!
- تراقصت الحيرة في عينيّ عبد السلام مغلفةً كلماته: قادم من بيتك.. وفي طريقك إلى دارك؟
- نعم يا سيدي.. قادم من بيتي وفي طريقي إلى داري.. ما الغريب في هذا؟
- لا شيء يا بني.. لا شيء!!
شعر عبد السلام بالرغبة في النهوض سريعاً.. بالتأكيد هذا الصبي ليس طبيعياً.. تمنى لو يسرع هذا الباص قليلاً لينهي هذا العبث.. تمنى لو لم يستقل هذا الباص؛ لم يره.. أحس بالندم لأنه لم يرد السلام على زميله أثناء خروجه.. ربما شغلهما الحديث حينها فعمي عن رؤية هذا الباص اللعين.
وكأنما أدرك الصبي أنه قد نال من عبد السلام.. فتحركت ملامحه الجامدة ليمتلأ وجهه لأول مرة بابتسامة مودة:
- هل لديك أطفال يا سيدي؟
- نعم؛ لدي (نضال) عمره ثماني سنوات، و(جهاد) عمرها ست سنوات، و(صلاح الدين) عمره ثلاث سنوات.
- قَرَّ الله بهم عينك..
- وأدامك الله لأهلك سالماً يا بني..
- عندما يكبر أطفالك يا سيدي؛ عندما ينضجون؛ عندما يفهمون؛ عندما يسألونك عن الموت.. قل لهم يا سيدي..
لم يمهلني الوقت للتفكير في معنى كلماته، فقد صرخ فجأة مستوقفاً السائق، ونهض مهرولاً إلى الباب الأمامي حتى كاد أن يزيحني من مقعدي..
وقبل أن يهبط من الباص.. توقف فجأة وكأنه نسي شيئاً هاماً، نظر إلى السيدة التي بجواري؛ عانقها بعينيه؛ قبّل يديها وسألها الدعاء.. أطالت النظر إليه وكأنها تحفر ملامحه في ذاكرتها؛ احتضنته بعينيها؛ خبأته في صدرها؛ طبعت على خديه قبلة عميقة.. رسم على شفتيه ابتسامة راضية وهبط من الباص مسرعاً..
أخذ يعدو في الطريق كالصاروخ المنطلق يخترق الزحام.. لا أدري لماذا أو إلى أين؟ إنه فعلاً صبي غريب.. حتى أفكاره وكلماته غريبة مثله.. انطلق الباص.. نظرت إلى السيدة أفتش في ملامحها عن سر هذا الصبي.. لقد تصلبت ملامحها حتى بدت كالموتى.. لم تمر سوى لحظات.. حتى دوى صوت انفجارٍ هائل.. توقف الباص فجأة، نهض كل من بداخله يتطلعون إلى الخلف..
لقد كانت سيارة عسكرية تحترق ككومة من القش.. قطع صمت الجميع بالباص زغرودة طويلة أطلقتها تلك السيدة.. لقد كانت أمه.. أبت إلا أن تصحبه إلى حفل عرسه!
*****
وعجلت إليك ربى لترضى..