aboumoujahed
03-12-2004, 11:16 PM
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمـالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
هذه معالجة سريعة لهذا الموضوع المهم (الفطرة)، وبيان لأهمية مراعاتها، وموقف الإسلام منها، وموقف الجاهلية الأولى، والجاهلية المعاصرة.
وهي محاولة قابلة للتعديل والإصلاح، والمؤمنون نصحة، فرحم الله امرءًا نبهني على خطأ أو نقص لاستدراكه بإذن الله.
والله الموفــق،،،
المؤلـف
أيها الإخوة والأخوات:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به أُتي بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقال: اشرب أيهما شئت، فأخذ اللبن فشربه، فقيل: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك"(1).
وفي لفظ: "الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك"(2).
وفي لفظ: " أصبت أصاب الله بك، أمتك على الفطرة"(3).
وهذا الحديث مدار موضوعنا هذا، فقد بيَّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فوائد:
الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، رُكِّب عليها، وهي ما يسمى بـ"الفطرة"، فالفطرة: هي ما جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها خروجًا عن الإنسانية، أو إخلالاً بها.
وهذا المعنى يُفهم من كلام كثير من الأئمة: كابن القيم، وابن حجر، وابن دقيق العيد، والسيوطي..، وغيرهم من المحدثين، والمفسرين.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته، وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخصال (يعني المذكورة في حديث: "الفطرة خمس.."(4). فالأولى: تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن..".
الثانية: أن الرسالات السماوية جاءت موافقة للفطرة، مؤيدة لها، منطلقة منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ِ (الروم:30).
ويعبر عن ذلك في الحديث شربه - صلى الله عليه وسلم - للبن، فهو عبارة عن الإشباع الصحيح، والمنهج المنسجم مع الفطرة، وفي اللبن من الغذاء، والصحة، واللذة، والغناء عن غيره ما فيه، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: (إنه ليس شيء يجزي مكان الطعام أو الشراب غير اللبن)(5).
الثالثة: إن ثمة وسائل أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة، مخالفة لها، ويمثلها الخمر في الحديث، فهو رمز عن الإشباع المنحرف، وسلوك الطريق المصادمة للفطرة، وفي الخمر من الخبث، والطيش، والرجسية ما فيها، فهي تغتال العقول، والأموال، والأديان، والأبدان.
وسيكون حديثي في هذه الرسالة في ثلاث نقاط:
أولاهـا: ذكر الفطرة، والأشياء التي فُطر عليها الإنسان.
والثانيـة: موقف الإسلام من الفطرة.
والثالثـة: موقف الجاهلية والمناهج المنحرفة من الفطرة.
أولاً: الفطرة الإنسانية
الإنسان مفطور على أشياء كثيرة:
— مفطور على حب الحياة، والتعلق بالبقاء؛ ولذلك تجد أن الطفل -مثلاً- وهو صبي لا يعقل، لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار، أو في بئر، أو ترمي به من سيارة؛ فإنه يرتعد ويبكي خوفًا من الموت والفناء، وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى تعلمها؛ بل هي مخلوقة معه.
وكثيرًا ما تتحدث الإحصائيات عن نسبة الانتحار في العالم؛ لأنهم يعدُّون الانتحار تصرفًا شاذًًا، يدل على انحراف في تربية هذا المجتمع أو ذاك.
— مفطور على العبودية؛ فالإنسان -بطبيعته- ضعيف يحتاج إلى أن يتوجه إلى معبود يسد فقره، أيًّا كان هذا المعبود، سواء كان بحق أو بباطل.
— مفطور على حب الوطن، وحب الأرض التي نشأ فيها.
— ومن الفطرة: أن كلاًّ من الجنسين -الذكر والأنثى- يميل إلى الآخر بطبيعته.
— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الولد، ويحب المال.
— ومن الفطرة: أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتعرى أمام الناس؛ ولذلك يصف المتحدثون المجتمعات البدائية المتخلفة بأنها مجتمعات عارية، ليس فيها حجاب ولا لباس.
والطفل - منذ صغره - يحس شيئًا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أمام الآخرين.
— وكذلك غريزة حب الملكية -بكسر الميم-، فالإنسان منذ يولد يبدأ تعلقه بأشيائه التي يرى أنها خاصة، ويعدّ الاعتداء عليها ظلمًا له، فهو متعلق بلعبه، وحذائه، وملابسه، وفراشه! وقد تسوِّل له نفسه السطو على أشياء الآخرين، وادعاء ملكيتها.
والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد
ذا عفـة فلِـعِلَّةٍ لا يظلـم!
— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الاختلاط ببني جنسه ومعاشرتهم، فهو "مدني بالطبع"، كما يقول ابن خلدون نقلاً عن أرسطو.
وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جدًّا الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها قد تنمو مع نمو عقل الإنسان، ومع تربيته، ومع معايشته للمجتمع، لكنها موجودة في أصل الخلقة، بحيث لو لم يوجد شيء ينميها، ولا آخر يعارضها، لبرزت ونمت كما تنمو الشجرة من بذرتها؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة"(6).
وقال أهل العلم: لوتُرك مولود وشأنه وحيدًا في غرفة أو صحراء وكبُر؛ لنطق باسم "الله".
ثانيًا: موقف الإسلام من الفطرة
إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة، أن خالق هذه الفطرة هو منـزل هذا القرآن، وهو الله تعالى؛ فمن الطبعي أن نعلم يقينًا أن هذا الدين لابد أن يكون موافقًا للفطرة؛ إذ يستحيل أن يكون في دين الله،أو شـرعه أمر يخالف ويعارض ما فطره عليه، فالحكيم العالم بما خلق ومن خلق، يضع الشريعة المناسبة له، الملائمة لخلقه.
وكل أمر شرعي يخطر في بالك أنه يعارض الفطرة، فيجب أن تعلم أنه لا يخلو من أحد احتمالين:
- فإما أنه أمر شرعي، ولا يخالف الفطرة الصحيحة المستقيمة، فمخالفته للفطرة وهم.
- وإما أنه يخالف الفطرة فعلاً، ولكنه لا يكون أمرًا شرعيًّا، وإن نَسَبَهُ الناس إلى الدين بغير علم ولا هدى.
وألخص الكلام عن موقف الدين من الفطرة فيما يلي:
q إقرار الدين بالفطرة:
جاء الدين مقرًّا بالفطرة، غير متنكر لها، فمثلاً: حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يؤكد ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾(البقرة:196)، و (أَحْرَصَ) أفعل تفضيل تدل على اشتراك الناس جميعًا في الحرص على الحياة، ولكن اليهود أحرصهم عليها.
إذن فحب البقاء، والحرص على الحياة فطرة، يؤكد القرآن وجودها في الإنسان.
وكذلك غريزة: حب المال، وحب الزوج، وحب الولد، بيَّن الله تعالى وجودها في الناس: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾(آل عمران:14).
وهذا السياق بمجرده لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما هو إشارة إلى أنها فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعدُ ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة، ومتى تكون مذمومة؟ المهم أنها غريزة وفطرة.
ولذلك لما ذكر الله تعالى المؤمنين، ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون، عقَّب عليها بقوله: ﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(المعارج:30)، فكأن القضية قضية غريزة جبلِّية ليست -بذاتها- محل مدح أو ذم، ولكنها تُحمد أو تُذم بما يلابسها من القصد والنية، وطريقة الإشباع، وآدابه.
وفي قضية الزواج والنكاح، قد يستقذر الإنسان الجانب الجسدي فيها، خاصة الإنسان الذي فيه سمو وإشراق وحياء؛ ولهذا جاء ذلك التعقيب يدفع هذا الشعور المترفع، ويبين أن كمال الإنسان في الاستجابة لفطرته وفق ما يرضي الله.
وها هم رسل الله وأنبياؤه ينكحون ويتزوجون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾(الرعد:38)
وقد روى أهـل السير -وهو في سـنن ابن ماجه- عن حمنة بنت جحش - رضي الله عنها - وكانت تحت مصعب بن عمير رضي الله عنه- أنه قد قُتل أخوها وزوجها في أُحُد، فقيل لها:( قُتل أخوك)، فقالت: (- رحمه الله -، وإنا لله وإنا إليه راجعون)، قالوا: (قُتل زوجك)، قالت(: واحزناه!)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشـيء)(7). والحديث في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف(8).
وهذا المعنى الدال على فطرة الترابط بين الزوجين ثابت في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(الروم:210)، وقوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾( الأعراف: 189).
وقل مثل ذلك في مسألة حب التستر والتصون، حيث يمتن الله على عباده باللباس الساتر الجميل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾(الأعراف:26)، وتأمل هذه المعاني نفسها في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف:46).
q موافقة الدين للفطرة:
وجاء الدين موافقًا لهذه الفطرة في عقائده وأحكامه؛ ولذلك سمي "دين الفطرة"، فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء كلهم، والعبادة التي أمروا بها، توافق فطرة التوجه لله والتذلل له، المغروزة في قلب كل مخلوق.
وقل مثل ذلك في قضايا التشريع، فمثلاً: شرع الإسلام الزواج الذي يلبي فطرة غريزية عند الإنسان، وهي إشباع الظمأ العاطفي لدى الجنسين، وليس إشباع الغريزة الجنسية فحسب.
وأصل خلق الأنثى هو من الذكر: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾(النساء:1)، فالإلف يحنُّ لإلفه، والفرع يحنُّ لأصله، وإذا لم تجد هذه العاطفة وهذه الغريزة الطريق الحلال، اتجهت إلى الطريق الحرام.
كما جاء الدين آذنًا بالكسب الحلال الذي يلبي حاجة الإنسان إلى التملك والاستقلال.
q تنظيم الدين للفطرة:
وجاء الدين منظمًا للفطرة، ففتح أمامها الأبواب والطرق السليمة التي تلبي حاجتها، وتشبع جوعها؛ لئلا تنحرف إلى غيرها.
ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(البقرة:275). فأمام الفطرة (فطرة حب الملكية) طريقان: حلال يتمثل في البيع بجميع صوره المباحة -وهو مفتوح-، وحرام يتمثل في الربا، وهو من أخبث ضروب المكاسب المحرمة.
ولذلك -أيضًا- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفـق عليه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)(9).
وقد قال كثير من أهل العلم: إن الزواج على القادر المحتاج إلى الزواج واجب، بدلالة هذا الحديث، خاصة عند خشية الفتنة، كما في هذا الوقت الذي أصبحت المثيرات فيه لا تكاد تفارق الشاب، حتى في بيته؛ بل في غرفته الخاصة.
وفي مقابل ذلك حرم الإسلام الزنا، وعدَّه من الفواحش العظام.
وهكذا... لا يغلق الله - تعالى - في وجه عباده بابًا من أبواب الحرام، إلا ويفتح بابًا من أبواب الحلال هو خير منه، وأيسر وأنظف، وأحمد عاقبة، ولا يُعرض عن الطريق النظيف المشروع إلا منحرف الفطرة، ممسوخ الباطن.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الإسراء الطويلة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نـيّء خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبريل! من هؤلاء؟" قال: "هذا الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالاً، فيأتي المرأة الخبيثة، فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا، فتأتي الرجل الخبيث، فتبيت عنده حتى تصبح"(10).
والحديث رواه ابن جرير في التفسير، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والبزار، وغيرهم..، وفيه غرابة، ولكن يشهد لصحة هذا المعنى أن عقوبة الزاني المحصن أغلظ من عقوبة البكر.
q تزكية الدين للفطرة:
وجاء الدين مزكيًا للفطرة، موجهًا لها نحو الأفضل والأطهر، انظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة:24). إذًا فالإنسان يحب أباه، وابنه، وأخاه، وزوجه، وعشيرته، وماله، ومسكنه، ووطنه... لكن أن يصل ذلك إلى حد تفضيل هذه الأشياء على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، فهذا هو "الفسق" الذي يُهدَّد صاحِبُه، ويقال له: تربص وانتظر حتى يأتي الله بأمره!
ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾ (آل عمران:14، 15).
ولما ذكر أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا؛ عقب بقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(الكهف:46)
فرفع الإنسان من كونه حيوانًا يشبع غرائزه الفطرية، ثم يقف عند هذا الحد، إلى كونه مؤمنًا متطلعًا إلى اللذات الكاملة الدائمة في جنات النعيم. وشتان بين لذة الدنيا الفانية، ولذة الآخرة الباقية، شتان بين لذة عابرة خاطفة في هذه الدار، قبلها: الجوع، والعطش، والشبق، والحرمان، والبعد، وبعدها: الإعراض، والملل، والكراهية، وهي مشوبة بالأكدار والأحزان، والمخاوف، والآلام... وبين لذة في الجنة لا يسبقها حرمان، ولا يلحقها ملل، ولا يقارنها همّ ولا حزن.
وتأمل كل لذة في هذه الدنيا تجد قبلها، أو معها، أو بعدها، ما تستقذره النفس، وتشمئز منه، وهذه آية بينة لقوم يعقلون.
وحين كان المؤمنون يعون هذه المعاني ويتذوقونها اعتدلت الموازين في نفوسهم، فلم يُعرضوا عن المباح إعراض الرهبان، ولا أقبلوا عليه إقبال أهل الجحود والكفران؛ بل جعلوه سُلَّمًا لترقية النفس وتهذيبها، وضحَّوا به إذا دعا داعي البذل والجهاد.
وإذا كان حب الحياة من أعمق الغرائز في النفس، فانظر كيف استعلى المؤمنون على ذلك، فكانوا يحبون الموت في سبيل الله، كما يحب عدوهم الحياة.
فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما صدر من مِنى، أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: "اللهم كبرت سِنِّي، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرط.."، فما انسـلخ ذو الحجة حتى قتل - رحمه الله -(11). رواه مالك.
وكان يقول رضي الله عنهم -كما في البخاري-: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك"(12).
وما المواقف الشجاعة التي وقفها عمير بن الحمام، وأنس ابن النضر، ومصعب بن عمير، وعكرمة بن أبي جهل، والبراء ابن مالك - رضي الله عنهم -، ثم من بعدهم - على مدار التاريخ-... إلا حلقات في هذه السلسلة المتصلة.
ولقد كان الطرماح بن حكيم يتحدث باسمهم جميعًا حين قال:
وإني لمقتادٌ جـوادي فقـاذف
به وبنفسي العامَ إحدى المقاذفِ
فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن
على شَرْجعٍ(13) يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ(14)
ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبـةٍ
يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ
عصائب من شيبان ألَّف بينهـم
تُقى الله، نزَّالون عند التزاحـفِ
إذا فارقوا دنياهُم فارقـوا الأذى
وصاروا إلى موعود ما في المصاحفِ
فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمـي
كضغث(15) الخلا بين الرياح العواصفِ
ويصبح قبري بطن نسرٍ مقيلـه
بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ(16)
إن المـوت في سبيـل الله، مع هذه العصـابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله، وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف.
وهذا الوعد الموعود هو: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾. (آل عمران:15).
فإذا كان وجودك في هذه الدنيا مهددًا بالموت في كل لحظة، فالبقاء الأبدي الذي لا يطرأ عليه الفناء هو في الدار الآخرة الموعودة. وإذا كان الحب بين الزوجين غريزة موجودة لحكمة مشهودة، فإن المنغصات بينهما كثيرة، والمكروهات الجسدية والنفسية قائمة، والحياة الزوجية السعيدة بكل معاني السعادة إنما هي في الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وفي هذا إشارة إلى وجوب تقديم ما عند الله على ما في الدنيا، والتضحية بهذه من أجل تلك -إذا اقتضى الأمر-.
ولذلك لما أراد أحد المسلمين -وهو النابغة الجعدي، الشاعر- أن يخرج في سبيل الله مجاهدًا، أمسكت به زوجه، وهي تبكي وتسأله: كيف تخرج وتتركني وحدي؟ فولىَّ، وهو يغالب عواطفه ويقول:
باتت تُذكـِّرني بالله قاعـدة
والدمع ينهلّ من شأنيهما(17) سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني
كرهًا، وهل أمنعن الله ما فعلا؟
فإن رجعت فربُّ الناس يرجعني
وإن لـحقت بربي فابتغـي بدلا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني
أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا
ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان قد أسلم، فعلم به الروم فحبسوه، وأرادوه على الكفر، فأبى وأصر على الإسلام، فصلبوه إلى خشبة، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرجع بالقتل. ففي هذا الموقف الصعب يستمسك الرجل بعقيدته، وتمر في ذاكرته صورة المسلمين الذين لم ير منهم إلا أفرادًا قلائل، فيرسل إليهم السلام، ويبلغهم أنه صابر ثابت:
بلِّغ سـراة المسلمين بأنـني
سـلمٌ لربي أعظـمي ومقامي
نعم، أنا الآن أموت مسلمًا لله، قد خشع له لحمي وعظمي، وعصبي ومخي، إنه شعور عظيم لدى هذا المسلم المغترب.
ثم يتذكر حليلته وقرينة سفره، وحيدة متأيمًا، فيقول:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلهـا
على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يطرق الفحل أمها
مشذبـةٍ أطرافـه بالمناجـل
فهو مصلوب على ماء بفلسطين، اسمه "ماء عفراء"، على خشبه مشذبة أطرافها بالمناجل، وقد شبهها بالراحلة.
وهذا أبو طلحة الأنصاري، يسمع قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(آل عمران:92)، وكان أحب ماله إليه "بيرحاء"(18)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيّب، يأتي أبو طلحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برَّها وذخرها، فضعها حيث أراك الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (بخٍ بخٍ -وهي كلمة تعجّب- ذاك مال رابح، ذاك مال رابح..)(19) والحديث متفق عليه عن أنس.
وهكذا يستعلي المؤمن على ما يحب في هذه الدنيا من الأزواج، والشهوات، والأولاد، والأموال، والحياة؛ لإيمانه بأن الحياة ليست نهاية المطاف بل هي ساعات معدودة بالقياس إلى الخلود السرمدي الأبدي في الدار الآخرة.
وهل تظن أن المسلم الكريم وهو يضحي بهذه الأشياء لا يرغب فيها؟ كلا؛ بل هو يحب المال، فينفق مما يحب، ويحب الحياة، فيبذلها رخيصة في سبيل الله.
ومن الذي بذل الحياة رخيصـة
ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشترى؟
أتظن أن المسلم وهو يغالب شهواته، ويجاهد نفسه على الطهر والعفاف لا يجيش في نفسه الهوى؟ كلا؛ بل يتحرك في نفسه من النوازع مثل ما في نفوس الفجار أو أشد، ولكنه يخاف مقام ربه، فينهى النفس عن الهوى، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(النازعات:40 ، 41). وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتي قوة أربعين رجلاً في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة، ومع هذا تصفه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بأنه: (كان أملككم لإربه)(20) يعني لحاجته.
وهكذا يظهر كيف جاء الدين معترفًا بالفطرة، موافقًا لها، منظمًا لطريقة إشباعها، مزكيًا مهذبًا لها.
يتبع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمـالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
هذه معالجة سريعة لهذا الموضوع المهم (الفطرة)، وبيان لأهمية مراعاتها، وموقف الإسلام منها، وموقف الجاهلية الأولى، والجاهلية المعاصرة.
وهي محاولة قابلة للتعديل والإصلاح، والمؤمنون نصحة، فرحم الله امرءًا نبهني على خطأ أو نقص لاستدراكه بإذن الله.
والله الموفــق،،،
المؤلـف
أيها الإخوة والأخوات:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به أُتي بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقال: اشرب أيهما شئت، فأخذ اللبن فشربه، فقيل: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك"(1).
وفي لفظ: "الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك"(2).
وفي لفظ: " أصبت أصاب الله بك، أمتك على الفطرة"(3).
وهذا الحديث مدار موضوعنا هذا، فقد بيَّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فوائد:
الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، رُكِّب عليها، وهي ما يسمى بـ"الفطرة"، فالفطرة: هي ما جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها خروجًا عن الإنسانية، أو إخلالاً بها.
وهذا المعنى يُفهم من كلام كثير من الأئمة: كابن القيم، وابن حجر، وابن دقيق العيد، والسيوطي..، وغيرهم من المحدثين، والمفسرين.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته، وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخصال (يعني المذكورة في حديث: "الفطرة خمس.."(4). فالأولى: تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن..".
الثانية: أن الرسالات السماوية جاءت موافقة للفطرة، مؤيدة لها، منطلقة منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ِ (الروم:30).
ويعبر عن ذلك في الحديث شربه - صلى الله عليه وسلم - للبن، فهو عبارة عن الإشباع الصحيح، والمنهج المنسجم مع الفطرة، وفي اللبن من الغذاء، والصحة، واللذة، والغناء عن غيره ما فيه، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: (إنه ليس شيء يجزي مكان الطعام أو الشراب غير اللبن)(5).
الثالثة: إن ثمة وسائل أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة، مخالفة لها، ويمثلها الخمر في الحديث، فهو رمز عن الإشباع المنحرف، وسلوك الطريق المصادمة للفطرة، وفي الخمر من الخبث، والطيش، والرجسية ما فيها، فهي تغتال العقول، والأموال، والأديان، والأبدان.
وسيكون حديثي في هذه الرسالة في ثلاث نقاط:
أولاهـا: ذكر الفطرة، والأشياء التي فُطر عليها الإنسان.
والثانيـة: موقف الإسلام من الفطرة.
والثالثـة: موقف الجاهلية والمناهج المنحرفة من الفطرة.
أولاً: الفطرة الإنسانية
الإنسان مفطور على أشياء كثيرة:
— مفطور على حب الحياة، والتعلق بالبقاء؛ ولذلك تجد أن الطفل -مثلاً- وهو صبي لا يعقل، لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار، أو في بئر، أو ترمي به من سيارة؛ فإنه يرتعد ويبكي خوفًا من الموت والفناء، وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى تعلمها؛ بل هي مخلوقة معه.
وكثيرًا ما تتحدث الإحصائيات عن نسبة الانتحار في العالم؛ لأنهم يعدُّون الانتحار تصرفًا شاذًًا، يدل على انحراف في تربية هذا المجتمع أو ذاك.
— مفطور على العبودية؛ فالإنسان -بطبيعته- ضعيف يحتاج إلى أن يتوجه إلى معبود يسد فقره، أيًّا كان هذا المعبود، سواء كان بحق أو بباطل.
— مفطور على حب الوطن، وحب الأرض التي نشأ فيها.
— ومن الفطرة: أن كلاًّ من الجنسين -الذكر والأنثى- يميل إلى الآخر بطبيعته.
— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الولد، ويحب المال.
— ومن الفطرة: أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتعرى أمام الناس؛ ولذلك يصف المتحدثون المجتمعات البدائية المتخلفة بأنها مجتمعات عارية، ليس فيها حجاب ولا لباس.
والطفل - منذ صغره - يحس شيئًا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أمام الآخرين.
— وكذلك غريزة حب الملكية -بكسر الميم-، فالإنسان منذ يولد يبدأ تعلقه بأشيائه التي يرى أنها خاصة، ويعدّ الاعتداء عليها ظلمًا له، فهو متعلق بلعبه، وحذائه، وملابسه، وفراشه! وقد تسوِّل له نفسه السطو على أشياء الآخرين، وادعاء ملكيتها.
والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد
ذا عفـة فلِـعِلَّةٍ لا يظلـم!
— ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الاختلاط ببني جنسه ومعاشرتهم، فهو "مدني بالطبع"، كما يقول ابن خلدون نقلاً عن أرسطو.
وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جدًّا الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها قد تنمو مع نمو عقل الإنسان، ومع تربيته، ومع معايشته للمجتمع، لكنها موجودة في أصل الخلقة، بحيث لو لم يوجد شيء ينميها، ولا آخر يعارضها، لبرزت ونمت كما تنمو الشجرة من بذرتها؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة"(6).
وقال أهل العلم: لوتُرك مولود وشأنه وحيدًا في غرفة أو صحراء وكبُر؛ لنطق باسم "الله".
ثانيًا: موقف الإسلام من الفطرة
إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة، أن خالق هذه الفطرة هو منـزل هذا القرآن، وهو الله تعالى؛ فمن الطبعي أن نعلم يقينًا أن هذا الدين لابد أن يكون موافقًا للفطرة؛ إذ يستحيل أن يكون في دين الله،أو شـرعه أمر يخالف ويعارض ما فطره عليه، فالحكيم العالم بما خلق ومن خلق، يضع الشريعة المناسبة له، الملائمة لخلقه.
وكل أمر شرعي يخطر في بالك أنه يعارض الفطرة، فيجب أن تعلم أنه لا يخلو من أحد احتمالين:
- فإما أنه أمر شرعي، ولا يخالف الفطرة الصحيحة المستقيمة، فمخالفته للفطرة وهم.
- وإما أنه يخالف الفطرة فعلاً، ولكنه لا يكون أمرًا شرعيًّا، وإن نَسَبَهُ الناس إلى الدين بغير علم ولا هدى.
وألخص الكلام عن موقف الدين من الفطرة فيما يلي:
q إقرار الدين بالفطرة:
جاء الدين مقرًّا بالفطرة، غير متنكر لها، فمثلاً: حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يؤكد ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾(البقرة:196)، و (أَحْرَصَ) أفعل تفضيل تدل على اشتراك الناس جميعًا في الحرص على الحياة، ولكن اليهود أحرصهم عليها.
إذن فحب البقاء، والحرص على الحياة فطرة، يؤكد القرآن وجودها في الإنسان.
وكذلك غريزة: حب المال، وحب الزوج، وحب الولد، بيَّن الله تعالى وجودها في الناس: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾(آل عمران:14).
وهذا السياق بمجرده لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما هو إشارة إلى أنها فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعدُ ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة، ومتى تكون مذمومة؟ المهم أنها غريزة وفطرة.
ولذلك لما ذكر الله تعالى المؤمنين، ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون، عقَّب عليها بقوله: ﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(المعارج:30)، فكأن القضية قضية غريزة جبلِّية ليست -بذاتها- محل مدح أو ذم، ولكنها تُحمد أو تُذم بما يلابسها من القصد والنية، وطريقة الإشباع، وآدابه.
وفي قضية الزواج والنكاح، قد يستقذر الإنسان الجانب الجسدي فيها، خاصة الإنسان الذي فيه سمو وإشراق وحياء؛ ولهذا جاء ذلك التعقيب يدفع هذا الشعور المترفع، ويبين أن كمال الإنسان في الاستجابة لفطرته وفق ما يرضي الله.
وها هم رسل الله وأنبياؤه ينكحون ويتزوجون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾(الرعد:38)
وقد روى أهـل السير -وهو في سـنن ابن ماجه- عن حمنة بنت جحش - رضي الله عنها - وكانت تحت مصعب بن عمير رضي الله عنه- أنه قد قُتل أخوها وزوجها في أُحُد، فقيل لها:( قُتل أخوك)، فقالت: (- رحمه الله -، وإنا لله وإنا إليه راجعون)، قالوا: (قُتل زوجك)، قالت(: واحزناه!)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشـيء)(7). والحديث في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف(8).
وهذا المعنى الدال على فطرة الترابط بين الزوجين ثابت في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(الروم:210)، وقوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾( الأعراف: 189).
وقل مثل ذلك في مسألة حب التستر والتصون، حيث يمتن الله على عباده باللباس الساتر الجميل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾(الأعراف:26)، وتأمل هذه المعاني نفسها في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف:46).
q موافقة الدين للفطرة:
وجاء الدين موافقًا لهذه الفطرة في عقائده وأحكامه؛ ولذلك سمي "دين الفطرة"، فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء كلهم، والعبادة التي أمروا بها، توافق فطرة التوجه لله والتذلل له، المغروزة في قلب كل مخلوق.
وقل مثل ذلك في قضايا التشريع، فمثلاً: شرع الإسلام الزواج الذي يلبي فطرة غريزية عند الإنسان، وهي إشباع الظمأ العاطفي لدى الجنسين، وليس إشباع الغريزة الجنسية فحسب.
وأصل خلق الأنثى هو من الذكر: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾(النساء:1)، فالإلف يحنُّ لإلفه، والفرع يحنُّ لأصله، وإذا لم تجد هذه العاطفة وهذه الغريزة الطريق الحلال، اتجهت إلى الطريق الحرام.
كما جاء الدين آذنًا بالكسب الحلال الذي يلبي حاجة الإنسان إلى التملك والاستقلال.
q تنظيم الدين للفطرة:
وجاء الدين منظمًا للفطرة، ففتح أمامها الأبواب والطرق السليمة التي تلبي حاجتها، وتشبع جوعها؛ لئلا تنحرف إلى غيرها.
ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(البقرة:275). فأمام الفطرة (فطرة حب الملكية) طريقان: حلال يتمثل في البيع بجميع صوره المباحة -وهو مفتوح-، وحرام يتمثل في الربا، وهو من أخبث ضروب المكاسب المحرمة.
ولذلك -أيضًا- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفـق عليه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)(9).
وقد قال كثير من أهل العلم: إن الزواج على القادر المحتاج إلى الزواج واجب، بدلالة هذا الحديث، خاصة عند خشية الفتنة، كما في هذا الوقت الذي أصبحت المثيرات فيه لا تكاد تفارق الشاب، حتى في بيته؛ بل في غرفته الخاصة.
وفي مقابل ذلك حرم الإسلام الزنا، وعدَّه من الفواحش العظام.
وهكذا... لا يغلق الله - تعالى - في وجه عباده بابًا من أبواب الحرام، إلا ويفتح بابًا من أبواب الحلال هو خير منه، وأيسر وأنظف، وأحمد عاقبة، ولا يُعرض عن الطريق النظيف المشروع إلا منحرف الفطرة، ممسوخ الباطن.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الإسراء الطويلة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نـيّء خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبريل! من هؤلاء؟" قال: "هذا الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالاً، فيأتي المرأة الخبيثة، فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا، فتأتي الرجل الخبيث، فتبيت عنده حتى تصبح"(10).
والحديث رواه ابن جرير في التفسير، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والبزار، وغيرهم..، وفيه غرابة، ولكن يشهد لصحة هذا المعنى أن عقوبة الزاني المحصن أغلظ من عقوبة البكر.
q تزكية الدين للفطرة:
وجاء الدين مزكيًا للفطرة، موجهًا لها نحو الأفضل والأطهر، انظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة:24). إذًا فالإنسان يحب أباه، وابنه، وأخاه، وزوجه، وعشيرته، وماله، ومسكنه، ووطنه... لكن أن يصل ذلك إلى حد تفضيل هذه الأشياء على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، فهذا هو "الفسق" الذي يُهدَّد صاحِبُه، ويقال له: تربص وانتظر حتى يأتي الله بأمره!
ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾ (آل عمران:14، 15).
ولما ذكر أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا؛ عقب بقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(الكهف:46)
فرفع الإنسان من كونه حيوانًا يشبع غرائزه الفطرية، ثم يقف عند هذا الحد، إلى كونه مؤمنًا متطلعًا إلى اللذات الكاملة الدائمة في جنات النعيم. وشتان بين لذة الدنيا الفانية، ولذة الآخرة الباقية، شتان بين لذة عابرة خاطفة في هذه الدار، قبلها: الجوع، والعطش، والشبق، والحرمان، والبعد، وبعدها: الإعراض، والملل، والكراهية، وهي مشوبة بالأكدار والأحزان، والمخاوف، والآلام... وبين لذة في الجنة لا يسبقها حرمان، ولا يلحقها ملل، ولا يقارنها همّ ولا حزن.
وتأمل كل لذة في هذه الدنيا تجد قبلها، أو معها، أو بعدها، ما تستقذره النفس، وتشمئز منه، وهذه آية بينة لقوم يعقلون.
وحين كان المؤمنون يعون هذه المعاني ويتذوقونها اعتدلت الموازين في نفوسهم، فلم يُعرضوا عن المباح إعراض الرهبان، ولا أقبلوا عليه إقبال أهل الجحود والكفران؛ بل جعلوه سُلَّمًا لترقية النفس وتهذيبها، وضحَّوا به إذا دعا داعي البذل والجهاد.
وإذا كان حب الحياة من أعمق الغرائز في النفس، فانظر كيف استعلى المؤمنون على ذلك، فكانوا يحبون الموت في سبيل الله، كما يحب عدوهم الحياة.
فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما صدر من مِنى، أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: "اللهم كبرت سِنِّي، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرط.."، فما انسـلخ ذو الحجة حتى قتل - رحمه الله -(11). رواه مالك.
وكان يقول رضي الله عنهم -كما في البخاري-: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك"(12).
وما المواقف الشجاعة التي وقفها عمير بن الحمام، وأنس ابن النضر، ومصعب بن عمير، وعكرمة بن أبي جهل، والبراء ابن مالك - رضي الله عنهم -، ثم من بعدهم - على مدار التاريخ-... إلا حلقات في هذه السلسلة المتصلة.
ولقد كان الطرماح بن حكيم يتحدث باسمهم جميعًا حين قال:
وإني لمقتادٌ جـوادي فقـاذف
به وبنفسي العامَ إحدى المقاذفِ
فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن
على شَرْجعٍ(13) يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ(14)
ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبـةٍ
يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ
عصائب من شيبان ألَّف بينهـم
تُقى الله، نزَّالون عند التزاحـفِ
إذا فارقوا دنياهُم فارقـوا الأذى
وصاروا إلى موعود ما في المصاحفِ
فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمـي
كضغث(15) الخلا بين الرياح العواصفِ
ويصبح قبري بطن نسرٍ مقيلـه
بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ(16)
إن المـوت في سبيـل الله، مع هذه العصـابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله، وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف.
وهذا الوعد الموعود هو: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ﴾. (آل عمران:15).
فإذا كان وجودك في هذه الدنيا مهددًا بالموت في كل لحظة، فالبقاء الأبدي الذي لا يطرأ عليه الفناء هو في الدار الآخرة الموعودة. وإذا كان الحب بين الزوجين غريزة موجودة لحكمة مشهودة، فإن المنغصات بينهما كثيرة، والمكروهات الجسدية والنفسية قائمة، والحياة الزوجية السعيدة بكل معاني السعادة إنما هي في الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وفي هذا إشارة إلى وجوب تقديم ما عند الله على ما في الدنيا، والتضحية بهذه من أجل تلك -إذا اقتضى الأمر-.
ولذلك لما أراد أحد المسلمين -وهو النابغة الجعدي، الشاعر- أن يخرج في سبيل الله مجاهدًا، أمسكت به زوجه، وهي تبكي وتسأله: كيف تخرج وتتركني وحدي؟ فولىَّ، وهو يغالب عواطفه ويقول:
باتت تُذكـِّرني بالله قاعـدة
والدمع ينهلّ من شأنيهما(17) سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني
كرهًا، وهل أمنعن الله ما فعلا؟
فإن رجعت فربُّ الناس يرجعني
وإن لـحقت بربي فابتغـي بدلا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني
أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا
ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان قد أسلم، فعلم به الروم فحبسوه، وأرادوه على الكفر، فأبى وأصر على الإسلام، فصلبوه إلى خشبة، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرجع بالقتل. ففي هذا الموقف الصعب يستمسك الرجل بعقيدته، وتمر في ذاكرته صورة المسلمين الذين لم ير منهم إلا أفرادًا قلائل، فيرسل إليهم السلام، ويبلغهم أنه صابر ثابت:
بلِّغ سـراة المسلمين بأنـني
سـلمٌ لربي أعظـمي ومقامي
نعم، أنا الآن أموت مسلمًا لله، قد خشع له لحمي وعظمي، وعصبي ومخي، إنه شعور عظيم لدى هذا المسلم المغترب.
ثم يتذكر حليلته وقرينة سفره، وحيدة متأيمًا، فيقول:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلهـا
على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يطرق الفحل أمها
مشذبـةٍ أطرافـه بالمناجـل
فهو مصلوب على ماء بفلسطين، اسمه "ماء عفراء"، على خشبه مشذبة أطرافها بالمناجل، وقد شبهها بالراحلة.
وهذا أبو طلحة الأنصاري، يسمع قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(آل عمران:92)، وكان أحب ماله إليه "بيرحاء"(18)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيّب، يأتي أبو طلحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برَّها وذخرها، فضعها حيث أراك الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (بخٍ بخٍ -وهي كلمة تعجّب- ذاك مال رابح، ذاك مال رابح..)(19) والحديث متفق عليه عن أنس.
وهكذا يستعلي المؤمن على ما يحب في هذه الدنيا من الأزواج، والشهوات، والأولاد، والأموال، والحياة؛ لإيمانه بأن الحياة ليست نهاية المطاف بل هي ساعات معدودة بالقياس إلى الخلود السرمدي الأبدي في الدار الآخرة.
وهل تظن أن المسلم الكريم وهو يضحي بهذه الأشياء لا يرغب فيها؟ كلا؛ بل هو يحب المال، فينفق مما يحب، ويحب الحياة، فيبذلها رخيصة في سبيل الله.
ومن الذي بذل الحياة رخيصـة
ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشترى؟
أتظن أن المسلم وهو يغالب شهواته، ويجاهد نفسه على الطهر والعفاف لا يجيش في نفسه الهوى؟ كلا؛ بل يتحرك في نفسه من النوازع مثل ما في نفوس الفجار أو أشد، ولكنه يخاف مقام ربه، فينهى النفس عن الهوى، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(النازعات:40 ، 41). وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتي قوة أربعين رجلاً في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة، ومع هذا تصفه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بأنه: (كان أملككم لإربه)(20) يعني لحاجته.
وهكذا يظهر كيف جاء الدين معترفًا بالفطرة، موافقًا لها، منظمًا لطريقة إشباعها، مزكيًا مهذبًا لها.
يتبع