من طرابلس
02-26-2004, 10:50 AM
رغم قصر عمر حركة طالبان (خمس سنوات) إلا أنها حظيت بكثير من الاهتمام باختلاف دواعي هذا الاهتمام وأدواته، فقد قدمت الحركة أحد النماذج الصارخة للإسلام الحاكم، رغم علم كافة الأطراف المهتمة بهذا اللون من الممارسة الإسلامية أنها لا تعبر عن حقيقة روح الإسلام أو حتى منهج وأدبيات الحركات العاملة للإسلام، إلا إنها كانت المادة الأخصب والأسهل تناولاً لكل من يتصيد زلات المنادين بالحكم الإسلامي.
ولعل أبرز المشاهد التي تمَّ التركيز عليها في معظم التغطيات الإعلامية العربية والإسلامية قبل غيرها هو مشاهد التشدد وقصور أفق الحركة في التعامل مع المجتمع الأفغاني، وتحديدًا في موضوع المرأة (تعليمها وخروجها وعملها)، ثم تعاملها مع أدوات الإعلام والترفيه من تلفاز وغناء وأفلام، وهي ممارسات تبدو عصية على الاستيعاب والعالم يلج القرن الحادي والعشرين، وتتداخل فيه المجتمعات حضاريًّا وتتفاعل رغمًا عنها تتأثر وتؤثر بصورة قسرية يصعب لَجْمُها، إلا أن حركة طالبان تُصِرُّ على الخروج عن سكة الحديد التي يسير عليها العالم وتتخذ لنفسها نموذجًا خاصًّا لا يجد العالم المتلاطم قدرة على استيعابه؛ ولهذا تصَوَّر حركة طالبان على أنها الحركة السلبية التي ابتلي بها الشعب الأفغاني، ويستحق كل عون من الخارج لإنقاذ البلاد من شرورها وانغلاقها.
ربما تكون حركة طالبان مدانة في خلق هذه الصورة السلبية عن سياستها ونظام حكمها وهي التي تطرح نفسها كحكومة إسلامية (إمارة)، لكن في المقابل ولإنصاف الحركة وعدم الانجرار وراء آلة الإعلام الغربية في استغلال هفوات (أو أخطاء) طالبان لتشويه والتشكيك في صلاحية النظام الإسلامي كنظام حكم، فإنه ينبغي أن ننظر إلى زوايا ومشاهد أخرى في تجربة الحركة والخروج بنظرة موضوعية لهذه التجربة ذات الخصوصية.
مجتمع متشدد بطبعه
أولاً: ينبغي أن ندرك أن طالبان تحكم الشعب الأفغاني وليس شعبًا أوروبيًّا أو عربيًّا متحررًا ومتغربًا، فعندما تمنع الحركة النساء من التعليم بعد سن البلوغ وعمل المرأة فإنها أولاً تبرر ذلك بعجزها عن توفير التعليم والعمل لذكور البلاد في ظل ظروف الحرب والفقر التي تعصف بباقي مقومات الحياة في أفغانستان، ثم إن الحركة لم تسحب المرأة من مواقع التعليم والعمل وتحبسها في بيتها؛ لأنها لم تخرج منه أصلاً لهذه الميادين، فطبيعة المجتمع الأفغاني المبالغ في التشدد تجاه كل ما يمس المرأة واختلاطها بالرجال يتقبل مثل هذه الإجراءات دون حرج؛ لأن هذه هي ثقافة المجتمع، ولا يخدعن أحد، ببعض الفتيات الكابُوليات (نسبة إلى كابول) التي تستنطقها بعض وسائل الإعلام لاستنكار همجية وتخلف الحركة الحاكمة لسهولة العثور على مثل هذه النوعية المتحررة من النساء في أي تجمع قروي وليس العاصمة، كما أن طبيعة التحرر والتحلل من العادات الأفغانية التقليدية سمة معروفة عن سكان كابول، فهذه النماذج التي تتلقفها وسائل الإعلام لا تعبر عن موقف ورَدَّة فعل الشارع الأفغاني تجاه سياسة طالبان، وكانت الموضوعية تقضي بنقل صورة الحياة اليومية في القرى والأرياف الأفغانية وكيف تسير على النمط الطالباني دون حاجة إلى عصا مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تنشط في كابول.
ومتشدد فقهيًّا
ثانيًا: إن حركة طالبان فقهيًّا هي امتداد للحركة الديوبندية (المذهب الحنفي التقليدي) وهو منتشر في أفغانستان وباكستان والهند، وطبيعة هذا التيار لا تسمح بالتساهل في أحكام الدين ويعتبر حكم المذهب قولاً واحدًا لا يحتمل الأخذ والرد حوله، فإذا كان هذا التيار في موقع الحكم فإن إنزال هذه الأحكام وفرضها على الشعب يعتبر واجبًا دينيًّا لا مناص من تنفيذه، وسياسيًّا فإن الحركة هي في حقيقتها امتدادًا لفصائل المجاهدين السبعة، فإذا كانت
نشأت الحركة باكستانية وامتدادًا للحركة الديوبندية، فإنها في رحلة السيطرة على الولايات والمدن الأفغانية الكبيرة كان كثير من هذه المواقع تُسْلِم للحركة وتنظم لها بقيادتها وميليشياتها وعتادها؛ ولذلك فإن رأس الحركة ديوبندي متشدد فيما جسمها يتكون من مزيج الفصائل الأفغانية التي غادرت الساحة أو توارت لسبب أو آخر، فما أريد قوله إن حركة طالبان ليست نبتًا شيطانيًّا ظهر على سطح الأرض الأفغانية دون جذور، وإنما هي نتاج ومركب يتكون من العناصر الأفغانية، قد يكون حكم فصيل آخر أكثر عقلانية ودبلوماسية من حركة طالبان لكن الهوة لن تكون واسعة.
فرض الأمان
ثالثًا: إن حركة طالبان أعادت لأفغانستان ما افتقدته على مدى عشرين عامًا في خضم الحرب وتحت لافتة الفوضى، طالبان حققت الأمن والاستقرار الكامل في المناطق التي تسيطر عليها، وهذا بشهادة شخصيات مناهضة لحركة طالبان، وكانت هذه الظاهرة (فرض الأمن على المناطق التي تسيطر عليها الحركة) هي أحد أبرز دواعي استسلام كثير من القيادات الميدانية لطالبان دون قتال، ولهذا كانت المدن والمواقع الإستراتيجية تتهاوى تباعًا أمام الحركة دون عناء، فبين سيطرة الحركة على مدينة قندهار باكورة انتصاراتها العسكرية إلى سقوط كابول مرورًا بالولايات الجنوبية والشرقية والغربية لم تستغرق رحلة المعارك سوى سنة واحدة بين نوفمبر 1995م وسبتمبر 1996م، فيما كانت الولاية الواحدة تحتاج إلى أشهر من المعارك الضارية لحسمها، فيمكن القول إن الشعب الأفغاني الذي يقال إنه احترف مهنة القتال ولا يطيق عيشًا بعيدًا عن السلاح وغبار المعارك، يبدو أنه قد تعب حقًّا من هذه المهنة وآثر التقاعد؛ ولذلك أغرته حالة الأمان التي فرضتها الحركة على مناطقها ومسحت من ذاكرة الشعب ظاهرة أمراء الحرب وحكام القرى والمدن والأرياف التي كان يفرضها كل قائد ميداني على منطقته، ولا يعدل نعمة الأمان على النفس والمال حتى نعمة المعيشة عند من عاش سنوات الحرب والخوف، فطالبان آمنت الشعب من خوف وإن لم تطعمه من جوع؛ لأنها ورثت دولة حطام، وهيكل بلاد دون مقومات ولا تزال لعنة الحرب تقضي على ما تبقى من عظام هذا الهيكل، ثم تكمل على ما تبقى- إن تبقى شيء - الأمم المتحدة بعقوباتها التي أملتها واشنطن لموقف طالبان المشرف تجاه تسليم بن لادن، غير عابئة بما سيترتب عليها وعلى حكمها وشعبها من معاناة جراء هذا الموقف، ورغم ذلك لا نرى حركات عصيان وثورات على نظام طالبان في 90% من أراضي أفغانستان، والمنطق يقضي بالقول إن الشعب لا يرى في حركة طالبان ما يراه الإعلام الغربي والعربي من تخلف وقسوة.
العبث خير من الدمار
نعم.. حركة طالبان لا تقدم للعالم صورة حضارية للإسلام ولا تعرضه بدبلوماسية ناعمة، ولا يبدو أن لها فلسفة خاصة بالحكم ونظمه على المنهج الإسلامي، هذه قراءة المجهر الخارجي لطالبان، لكن علينا أن ننصف الحركة بأن نقرأها من خلال المجهر الأفغاني الداخلي وألا نغفل البيئة التي تتحرك الحركة في إطارها وهي أفغانستان، ودون أن نعي معطيات هذه البلاد وشعبها وثقافته، فلن نصل إلى حكم عادل، كنت أتمنى أن تقبض شخصية قوية وواعية مثل أحمد شاه مسعود على حكم البلاد، هذا إذا كان لنا أن نتمنى ونختار، لكن والحال كما هو حاصل، لا طاقة له بالحركة، ومن غير المتوقع أن تجتاح قواته أفغانستان كاملة، وأقصى إنجازاته أن يبقى في وادي الشمال الصعب يصدُّ هجمات طالبان، فإن مصلحة أفغانستان في أن تكمل طالبان سيطرتها على كامل البلاد وتنهي فصول الدمار، فأَنْ تعبث الحركة بالبلاد سياسيًّا واجتماعيًّا - إن كانت تعبث - خير من توالي مشاهد الحرب وفصول الدمار إلى ما لا نهاية.
ولعل أبرز المشاهد التي تمَّ التركيز عليها في معظم التغطيات الإعلامية العربية والإسلامية قبل غيرها هو مشاهد التشدد وقصور أفق الحركة في التعامل مع المجتمع الأفغاني، وتحديدًا في موضوع المرأة (تعليمها وخروجها وعملها)، ثم تعاملها مع أدوات الإعلام والترفيه من تلفاز وغناء وأفلام، وهي ممارسات تبدو عصية على الاستيعاب والعالم يلج القرن الحادي والعشرين، وتتداخل فيه المجتمعات حضاريًّا وتتفاعل رغمًا عنها تتأثر وتؤثر بصورة قسرية يصعب لَجْمُها، إلا أن حركة طالبان تُصِرُّ على الخروج عن سكة الحديد التي يسير عليها العالم وتتخذ لنفسها نموذجًا خاصًّا لا يجد العالم المتلاطم قدرة على استيعابه؛ ولهذا تصَوَّر حركة طالبان على أنها الحركة السلبية التي ابتلي بها الشعب الأفغاني، ويستحق كل عون من الخارج لإنقاذ البلاد من شرورها وانغلاقها.
ربما تكون حركة طالبان مدانة في خلق هذه الصورة السلبية عن سياستها ونظام حكمها وهي التي تطرح نفسها كحكومة إسلامية (إمارة)، لكن في المقابل ولإنصاف الحركة وعدم الانجرار وراء آلة الإعلام الغربية في استغلال هفوات (أو أخطاء) طالبان لتشويه والتشكيك في صلاحية النظام الإسلامي كنظام حكم، فإنه ينبغي أن ننظر إلى زوايا ومشاهد أخرى في تجربة الحركة والخروج بنظرة موضوعية لهذه التجربة ذات الخصوصية.
مجتمع متشدد بطبعه
أولاً: ينبغي أن ندرك أن طالبان تحكم الشعب الأفغاني وليس شعبًا أوروبيًّا أو عربيًّا متحررًا ومتغربًا، فعندما تمنع الحركة النساء من التعليم بعد سن البلوغ وعمل المرأة فإنها أولاً تبرر ذلك بعجزها عن توفير التعليم والعمل لذكور البلاد في ظل ظروف الحرب والفقر التي تعصف بباقي مقومات الحياة في أفغانستان، ثم إن الحركة لم تسحب المرأة من مواقع التعليم والعمل وتحبسها في بيتها؛ لأنها لم تخرج منه أصلاً لهذه الميادين، فطبيعة المجتمع الأفغاني المبالغ في التشدد تجاه كل ما يمس المرأة واختلاطها بالرجال يتقبل مثل هذه الإجراءات دون حرج؛ لأن هذه هي ثقافة المجتمع، ولا يخدعن أحد، ببعض الفتيات الكابُوليات (نسبة إلى كابول) التي تستنطقها بعض وسائل الإعلام لاستنكار همجية وتخلف الحركة الحاكمة لسهولة العثور على مثل هذه النوعية المتحررة من النساء في أي تجمع قروي وليس العاصمة، كما أن طبيعة التحرر والتحلل من العادات الأفغانية التقليدية سمة معروفة عن سكان كابول، فهذه النماذج التي تتلقفها وسائل الإعلام لا تعبر عن موقف ورَدَّة فعل الشارع الأفغاني تجاه سياسة طالبان، وكانت الموضوعية تقضي بنقل صورة الحياة اليومية في القرى والأرياف الأفغانية وكيف تسير على النمط الطالباني دون حاجة إلى عصا مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تنشط في كابول.
ومتشدد فقهيًّا
ثانيًا: إن حركة طالبان فقهيًّا هي امتداد للحركة الديوبندية (المذهب الحنفي التقليدي) وهو منتشر في أفغانستان وباكستان والهند، وطبيعة هذا التيار لا تسمح بالتساهل في أحكام الدين ويعتبر حكم المذهب قولاً واحدًا لا يحتمل الأخذ والرد حوله، فإذا كان هذا التيار في موقع الحكم فإن إنزال هذه الأحكام وفرضها على الشعب يعتبر واجبًا دينيًّا لا مناص من تنفيذه، وسياسيًّا فإن الحركة هي في حقيقتها امتدادًا لفصائل المجاهدين السبعة، فإذا كانت
نشأت الحركة باكستانية وامتدادًا للحركة الديوبندية، فإنها في رحلة السيطرة على الولايات والمدن الأفغانية الكبيرة كان كثير من هذه المواقع تُسْلِم للحركة وتنظم لها بقيادتها وميليشياتها وعتادها؛ ولذلك فإن رأس الحركة ديوبندي متشدد فيما جسمها يتكون من مزيج الفصائل الأفغانية التي غادرت الساحة أو توارت لسبب أو آخر، فما أريد قوله إن حركة طالبان ليست نبتًا شيطانيًّا ظهر على سطح الأرض الأفغانية دون جذور، وإنما هي نتاج ومركب يتكون من العناصر الأفغانية، قد يكون حكم فصيل آخر أكثر عقلانية ودبلوماسية من حركة طالبان لكن الهوة لن تكون واسعة.
فرض الأمان
ثالثًا: إن حركة طالبان أعادت لأفغانستان ما افتقدته على مدى عشرين عامًا في خضم الحرب وتحت لافتة الفوضى، طالبان حققت الأمن والاستقرار الكامل في المناطق التي تسيطر عليها، وهذا بشهادة شخصيات مناهضة لحركة طالبان، وكانت هذه الظاهرة (فرض الأمن على المناطق التي تسيطر عليها الحركة) هي أحد أبرز دواعي استسلام كثير من القيادات الميدانية لطالبان دون قتال، ولهذا كانت المدن والمواقع الإستراتيجية تتهاوى تباعًا أمام الحركة دون عناء، فبين سيطرة الحركة على مدينة قندهار باكورة انتصاراتها العسكرية إلى سقوط كابول مرورًا بالولايات الجنوبية والشرقية والغربية لم تستغرق رحلة المعارك سوى سنة واحدة بين نوفمبر 1995م وسبتمبر 1996م، فيما كانت الولاية الواحدة تحتاج إلى أشهر من المعارك الضارية لحسمها، فيمكن القول إن الشعب الأفغاني الذي يقال إنه احترف مهنة القتال ولا يطيق عيشًا بعيدًا عن السلاح وغبار المعارك، يبدو أنه قد تعب حقًّا من هذه المهنة وآثر التقاعد؛ ولذلك أغرته حالة الأمان التي فرضتها الحركة على مناطقها ومسحت من ذاكرة الشعب ظاهرة أمراء الحرب وحكام القرى والمدن والأرياف التي كان يفرضها كل قائد ميداني على منطقته، ولا يعدل نعمة الأمان على النفس والمال حتى نعمة المعيشة عند من عاش سنوات الحرب والخوف، فطالبان آمنت الشعب من خوف وإن لم تطعمه من جوع؛ لأنها ورثت دولة حطام، وهيكل بلاد دون مقومات ولا تزال لعنة الحرب تقضي على ما تبقى من عظام هذا الهيكل، ثم تكمل على ما تبقى- إن تبقى شيء - الأمم المتحدة بعقوباتها التي أملتها واشنطن لموقف طالبان المشرف تجاه تسليم بن لادن، غير عابئة بما سيترتب عليها وعلى حكمها وشعبها من معاناة جراء هذا الموقف، ورغم ذلك لا نرى حركات عصيان وثورات على نظام طالبان في 90% من أراضي أفغانستان، والمنطق يقضي بالقول إن الشعب لا يرى في حركة طالبان ما يراه الإعلام الغربي والعربي من تخلف وقسوة.
العبث خير من الدمار
نعم.. حركة طالبان لا تقدم للعالم صورة حضارية للإسلام ولا تعرضه بدبلوماسية ناعمة، ولا يبدو أن لها فلسفة خاصة بالحكم ونظمه على المنهج الإسلامي، هذه قراءة المجهر الخارجي لطالبان، لكن علينا أن ننصف الحركة بأن نقرأها من خلال المجهر الأفغاني الداخلي وألا نغفل البيئة التي تتحرك الحركة في إطارها وهي أفغانستان، ودون أن نعي معطيات هذه البلاد وشعبها وثقافته، فلن نصل إلى حكم عادل، كنت أتمنى أن تقبض شخصية قوية وواعية مثل أحمد شاه مسعود على حكم البلاد، هذا إذا كان لنا أن نتمنى ونختار، لكن والحال كما هو حاصل، لا طاقة له بالحركة، ومن غير المتوقع أن تجتاح قواته أفغانستان كاملة، وأقصى إنجازاته أن يبقى في وادي الشمال الصعب يصدُّ هجمات طالبان، فإن مصلحة أفغانستان في أن تكمل طالبان سيطرتها على كامل البلاد وتنهي فصول الدمار، فأَنْ تعبث الحركة بالبلاد سياسيًّا واجتماعيًّا - إن كانت تعبث - خير من توالي مشاهد الحرب وفصول الدمار إلى ما لا نهاية.