no saowt
01-29-2004, 12:44 AM
المصارف الاسلامية تحوّل المتعاملين شركاء وتجذب للبنان استثمارات ومدخرات عربية
بقلم ريمون يوسف فرحات *
اصبحت العمليات المصرفية في مجتمع اليوم، مقوماً مهماً وركناً اساساً تندرج عليه الحياة المجتمعية العادية، الى كونها، في الوقت عينه، معطى اقتصادياً فاعلاً. من هنا القول ان المصرف لم يعد ترفاً حضارياً او انجازاً علمياً بقدر ما هو عنصر فاعل في المجتمع المدني. وقد لا تكتمل الحياة المجتمعية اذا ما حاولنا الاستغناء عن وجوده. وهذا ما يدخل في صلب المعادلة القائمة ما بين الحاجة والوسيلة او التقدم والاختراع. فالوسيلة، اذا ما هي استنبطت لسد حاجة ما، والانجاز اذا ما هو حقق لدفع مسيرة معينة، يمسيان من مكونات هذه الحاجة ومن مراحل تلك المسيرة ولا تستقيم الامور من دونهما في ما بعد ولا يمكن الاستغناء عنهما تالياً.
واذا ما حاولنا تحديد العمليات المصرفية فلا نجد لذلك اطاراً شاملاً ولا وصفاً دقيقاً او سرداً معبراً. فالنظام القانوني الانكليزي، وهو اول من وضع البنك في المكانة التي يستحقها في العصور الحديثة، وبشكل دقيق في القرن السابع عشر، فضّل الايحاء بمعايير معينة يمكن اعتمادها بغية منح صفة بنك للمؤسسة المالية التي تقوم عليها.
ومن مستلزمات العمليات المصرفية ان تكون دوماً متحركة ومتطوّرة وان تتوسع باستمرار، ان من الناحية النوعية وان من الناحية الكمية. وما دامت حاجات الحياة المجتمعية الحديثة مقبلة على التجدد والتطوّر والتزايد فلا بد من ان تواكبها العمليات المصرفية المتممة لها. وقد بلغ هذا التطوّر شوطاً بعيداً في القرن العشرين. وكان من ابرز ملامحه، التوسع التكنولوجي المذهل من حيث وسائل المصرف وعملانيته. وان ظهور فئة المصارف الاسلامية، لامر لافت اذ هو يحمل نوعية جديدة ويضيف جمالية معينة الى العالم المصرفي الراهن.
واذا كان ثمة صعوبة في تحديد مفاهيم المصارف في شكل عام فالامر كذلك بالنسبة الى المصارف الاسلامية التي تعتبر، بالمفهوم المؤسسي للمصارف، كيانات حديثة اطلّت في الربع الاخير من القرن العشرين. وقد بدأت التجربة في مدينة "ميت غمر" التابعة لمحافظة الدقهلية لجمهورية مصر العربية الا انها لم تستمر الا سنوات. وعام 1971 تأسس "بنك ناصر الاجتماعي" الذي نص قانون انشائه على عدم التعامل بالفوائد اخذاً او عطاء. وعام 1975 انشئ مصرفان اسلاميان، الاول هو "البنك الاسلامي للتنمية" في جدة وهو مؤسسة دولية للتمويل الانمائي وتنمية التجارة الخارجية وتوفير وسائل التدريب والقيام بالابحاث اللازمة وتساهم فيه جميع الدول الاسلامية. والثاني هو "بنك دبي الاسلامي" الذي يعتبر البداية الحقيقية للعمل المصرفي الاسلامي اذ تميز بتقديم كامل الخدمات المصرفية. وعام 1977 أًُسس "بنك فيصل المصري" و"بنك فيصل السوداني". وبذلك زاد عدد المصارف الاسلامية الى ان قارب المئتي مصرف انتشرت في انحاء العالم كافة.
ان الهدف الرئيسي للمصارف الاسلامية هو تطبيق شرع الله في المعاملات المالية والمصرفية. فمعيار الحلال والحرام والتمييز بين الطيّب والخبيث هدف اساسي للمصارف الاسلامية. وكذلك تطهير المعاملات المالية والمصرفية من جميع المحرمات كالربا والضرر والجهالة.. وقد ورد تحريم الربا في القرآن الكريم في اربعة مواضع: في سورة الروم "وما آتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلا يربوا عند الله". وفي سورة آل عمران "لا تأكلوا الربا اضعافاً مضاعفة" كما في سورة النساء "واخذهم الربا وقد نهوا عنه". وجاء في صورة البقرة "الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرّم الربا.. يمحق الله الربا ويربي الصدقات.. يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".
وترمي المصارف الاسلامية ايضاً الى جمع المدخرات واستثمارها طبقاً للاحكام الشرعية. وكذلك تأصيل المبادئ والاخلاق في مجال المعاملات وتجسيدها على ارض الواقع، كما تعمل على المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية اذ تؤكد على عدم احتكار المال او كنزه بل توجيهه لخدمة المجتمع. وهو ما يمكن اعتباره اخراج زكاة الاموال. وتقوم معاملاتها على المشاركة مع المتعاملين في الربح والخسارة، بدل علاقات دائن ومدين. ولو تكلمنا لغة المصارف العصرية لقلنا ان المصارف الاسلامية هي مصارف متعددة الوظيفة تؤدي دور البنوك التجارية وبنوك الاعمال وبنوك الاستثمار وبنوك التنمية. ولا يقتصر عملها على الاجلين القصير كالبنوك التجارية ولا على الاجل المتوسط والطويل كالبنوك غير التجارية. انها لا تتعامل في الائتمان فهي ليست مقرضة ولا مقترضة ولا بالفائدة اخذاً او عطاء وانما تقدم التمويل علي اساس تحمل الاخطار والمشاركة في النتائج ربحاً ام خسارة. وهي اذ تقدم هذا التمويل لا تتاجر بالديون. ولعل ما يميز المصارف الاسلامية هو نوعية ارتباطها بعملائها سواء كانوا اصحاب موارد ام مستثمرين. انها علاقة مشاركة ومتاجرة وليست علاقة دائنية ومديونية كما هي الحال في البنوك التقليدية.
وقد احدث ظهور المصارف والمؤسسات المالية الاسلامية في دول عديدة من العالمين العربي والاسلامي ظاهرة امتدت الى بعض الدول في افريقيا واوروبا واميركا. ويدرك متتبع هذا الامر ان نمواً كبيراً قد حدث في عدد المصارف وفي حجم اعمالها خلال الفترة الاخيرة. فبعدما كان عددها عام 1979 لا يزيد عن سبعة مصارف برأسمال لا يتجاوز بضعة ملايين من الدولارات، اصبح عددها اليوم يفوق المئتي مصرف تنتشر جغرافياً في معظم القارات. ولها شبكة من الفروع تزيد على خمسة آلاف فرع. ووصل حجم استثماراتها الى اكثر من مئة مليار دولار. وفي العالم الغربي ابدت المؤسسات الاكاديمية اهتماماً كبيراً بالمصارف الاسلامية حيث اقامت الندوات الخاصة بها، حتى ان بعض الدول قامت بتدريس مادة المصارف الاسلامية في جامعاتها. ونشير في هذه المناسبة الى انه غالباً ما سُئلنا خلال دوراتنا في الجامعات الاوروبية عن هذا الموضوع. وكان السائلون، وهم من اصحاب الرأي والعلم، يتشوقون لسماع التفاصيل ومتابعة التطورات.
اما في لبنان فقد سادت حال ترقب رغم الحاجة الملحة لتناول موضوع المصارف الاسلامية. ذاك ان القطاع المصرفي اللبناني يود المحافظة على مركزه المتقدم في المنطقة. وهو لا يستطيع ذلك الا اذا لحظ كل التطورات واهمها نشأة المصارف الاسلامية. فهي اصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها اذا ما اردنا جذب المزيد من العملاء والمستثمرين والتجار الذين ينشدون المصارف التي تقدم بديلاً مما هو موجود وما يتلاءم مع حاجاتهم التجارية والاقتصادية ولا يتعارض مع ايمانهم ومعتقداتهم. فهذه المصارف تجذب حجماً ضخماً من المدخرات العربية داخل الوطن العربي. وهي عامل مشجع لاستقطاب اموال جديدة كما تساعد على استعادة اموال كانت خارج دورة النشاط الاقتصادي. وتساهم في زيادة سيولة الاسواق المالية واتساعها. وتدعم عملية التبادل التجاري بين لبنان وبين العديد من الدول الاسلامية وتساعده في ان يكون مركزاً مصرفياً ونقطة التقاء لاكثر من مئتي مصرف اسلامي منتشرين في العالم.
اما والحالة هذه فكيف السبيل الى ادخال هذه الكيانات المصرفية الجديدة الى لبنان فيتم التلاقي بينها وبين بقية المصارف ويثمر التفاعل وتنتج منه عمليات مصرفية ناجزة ناجعة للجهتين معاً؟ ان الطريق الى ذلك مرسومة ملامحها من ضمن مشروع قانون انشاء المصارف الاسلامية في لبنان وهو قيد الدرس. وتواكب هذا المشروع تحضيرات ومؤتمرات "كالمؤتمر الثاني لأعمال الصيرفة والتمويل الاسلامي" الذي نظمته المجموعة الدولية المتحدة للاعمال بالتعاون مع هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية. وقد اعتبره الخبراء والمراقبون توجها جديدا من جانب الحكومة اللبنانية نحو المصارف الاسلامية. وثمة دراسات ورسالات ولقاءات بحث تتناول هذا الموضوع يأتي في طليعتها الانجاز العلمي الاكاديمي الذي حققه فادي محمد الرفاعي، الذي يسرنا ان نقدمه الى كل دارس متمعن وقارئ حصيف. وحسب فادي الرفاعي حامل الاجازة في الحقوق بتفوق وبعدها شهادة الدراسات العليا في قانون الاعمال بامتياز ان يقرب هذا الموضوع بكل جدارة واهتمام واحترام فيوليه ما يستحقه من دراسة ويمنحه ما يتوجب له من عناية فيصل الى طرح الموضوع مجددا على بساط البحث ويرده الى دائرة الضوء فيصيب ويجيد ويفيد.
وفي النتيجة ان دخول المصارف الاسلامية الى الساحة المصرفية العالمية في شكل عام والى الساحة المصرفية اللبنانية في شكل خاص لامر مفيد للجهات المعنية كلها. وان الحاق الصفة الدينية بالتسمية المصرفية لا يعوقها بمقدار ما يحصنها ويميزها. فهذه التسميات ذات الطابع الديني ليست بجديدة، فمنذ القرون الوسطى كان هناك ما يسمى، وفي اوروبا المزدهرة بالذات، "مصارف جبل التقوى"، و"مصارف الرجاء الصالح"، وحتى "مصارف الروح القدس" التي اكسبها هذا الروح دعما اضافيا فكانت من اهم مصارف زمانها. وهي لا تزال ناشطة الى اليوم. وان ثمة حميمية ما بين المصرف والمعبد، نشأت منذ فجر التاريخ. وقد ألمح المؤرخون الى ان المصرف ولد في عتبات المعبد حيث كان الكهنة يتقبلون الهدايا الوفيرة والمتنوعة فإذا ما هي فاضت عمدوا الى مقايضتها بما يعادلها من نوعية اخرى. وهذا ما يعدل توزيعها ويحول دون تلفها. وهكذا نشأت العمليات المصرفية الاولى. وقد كان مهدها، كما يؤكد العالمان "هامل" و"شميث"، في المعبد الاحمر في مدينة "اوروك" في بلاد ما بين النهرين، عراق اليوم. وكان الكهنة موظفيها والمقربون عملاءها والهيكل مركزها.
وان لبنان مدعو، قبل غيره لأن يتلقى هذه الظاهرة المالية الاقتصادية الجديدة فيستقبلها ويستوعبها ويدخلها الى انماطه وفئاته المصرفية. فأما ان تتمازج مع واحدة او اكثر من الفئات المصرفية المعمول بها، او ان تستقل لذاتها في نمط جديد متكامل. فالمعروف ان في لبنان الانواع التالية من المصارف، هناك المصرف ذو الطابع العام او المصرف المركزي او مصرف لبنان. وهناك المصارف ذات الطابع المختلط او مصارف الانماء. ومن ثم المصارف ذات الطابع الخاص او المصارف التجارية. وان المصارف الاسلامية مخيّرة لأن تدخل الفئة الثانية او الثالثة من هذه المصارف او الاثنتين معا او ان يصار الى استضافتها كفئة مستقلة تقوم بذاتها. وتغني تعددية المصارف اللبنانية وتزكي تنوعها، وقد يكون هذا هو الحل الانسب.
واما في الاساس فإن فكرة المشاركة في معناها الشامل والتي اشرنا اليها سابقا جديرة بأن تؤدي دور البديل عن الفائدة التي يعرض عنها الشرع الاسلامي ويأباها. والمشاركة في مفهومها العام تتضمن معنى المساهمة في رأس المال Participation ou actionnariat كما تعني المقاسمة او المشاطرة في اتخاذ القرار Partenariat. وان اجتماع هذين المفهومين، بعضهما الى بعض في اطار المشاركة، يؤدي الى اشادة جسر يعبر عليه المصرف الاسلامي للوصول الى الساحة المصرفية العادية الكلاسيكية.
هنيئا لفادي محمد الرفاعي عمله الجديد، "المصارف الاسلامية". ومرحى به يلقي الضوء على كنوز مخفية تعد بكل وفر ويسر حلالين. ولعل توسمه الخير في ما يجهد فيه، يطلق خيرا عميما له ولسائر الافراد والجماعات والاوطان معا وللأمة جمعاء.
(*) العميد السابق لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية.
والمقال جاء تقديما لكتاب فادي الرفاعي "المصارف الاسلامية".
بقلم ريمون يوسف فرحات *
اصبحت العمليات المصرفية في مجتمع اليوم، مقوماً مهماً وركناً اساساً تندرج عليه الحياة المجتمعية العادية، الى كونها، في الوقت عينه، معطى اقتصادياً فاعلاً. من هنا القول ان المصرف لم يعد ترفاً حضارياً او انجازاً علمياً بقدر ما هو عنصر فاعل في المجتمع المدني. وقد لا تكتمل الحياة المجتمعية اذا ما حاولنا الاستغناء عن وجوده. وهذا ما يدخل في صلب المعادلة القائمة ما بين الحاجة والوسيلة او التقدم والاختراع. فالوسيلة، اذا ما هي استنبطت لسد حاجة ما، والانجاز اذا ما هو حقق لدفع مسيرة معينة، يمسيان من مكونات هذه الحاجة ومن مراحل تلك المسيرة ولا تستقيم الامور من دونهما في ما بعد ولا يمكن الاستغناء عنهما تالياً.
واذا ما حاولنا تحديد العمليات المصرفية فلا نجد لذلك اطاراً شاملاً ولا وصفاً دقيقاً او سرداً معبراً. فالنظام القانوني الانكليزي، وهو اول من وضع البنك في المكانة التي يستحقها في العصور الحديثة، وبشكل دقيق في القرن السابع عشر، فضّل الايحاء بمعايير معينة يمكن اعتمادها بغية منح صفة بنك للمؤسسة المالية التي تقوم عليها.
ومن مستلزمات العمليات المصرفية ان تكون دوماً متحركة ومتطوّرة وان تتوسع باستمرار، ان من الناحية النوعية وان من الناحية الكمية. وما دامت حاجات الحياة المجتمعية الحديثة مقبلة على التجدد والتطوّر والتزايد فلا بد من ان تواكبها العمليات المصرفية المتممة لها. وقد بلغ هذا التطوّر شوطاً بعيداً في القرن العشرين. وكان من ابرز ملامحه، التوسع التكنولوجي المذهل من حيث وسائل المصرف وعملانيته. وان ظهور فئة المصارف الاسلامية، لامر لافت اذ هو يحمل نوعية جديدة ويضيف جمالية معينة الى العالم المصرفي الراهن.
واذا كان ثمة صعوبة في تحديد مفاهيم المصارف في شكل عام فالامر كذلك بالنسبة الى المصارف الاسلامية التي تعتبر، بالمفهوم المؤسسي للمصارف، كيانات حديثة اطلّت في الربع الاخير من القرن العشرين. وقد بدأت التجربة في مدينة "ميت غمر" التابعة لمحافظة الدقهلية لجمهورية مصر العربية الا انها لم تستمر الا سنوات. وعام 1971 تأسس "بنك ناصر الاجتماعي" الذي نص قانون انشائه على عدم التعامل بالفوائد اخذاً او عطاء. وعام 1975 انشئ مصرفان اسلاميان، الاول هو "البنك الاسلامي للتنمية" في جدة وهو مؤسسة دولية للتمويل الانمائي وتنمية التجارة الخارجية وتوفير وسائل التدريب والقيام بالابحاث اللازمة وتساهم فيه جميع الدول الاسلامية. والثاني هو "بنك دبي الاسلامي" الذي يعتبر البداية الحقيقية للعمل المصرفي الاسلامي اذ تميز بتقديم كامل الخدمات المصرفية. وعام 1977 أًُسس "بنك فيصل المصري" و"بنك فيصل السوداني". وبذلك زاد عدد المصارف الاسلامية الى ان قارب المئتي مصرف انتشرت في انحاء العالم كافة.
ان الهدف الرئيسي للمصارف الاسلامية هو تطبيق شرع الله في المعاملات المالية والمصرفية. فمعيار الحلال والحرام والتمييز بين الطيّب والخبيث هدف اساسي للمصارف الاسلامية. وكذلك تطهير المعاملات المالية والمصرفية من جميع المحرمات كالربا والضرر والجهالة.. وقد ورد تحريم الربا في القرآن الكريم في اربعة مواضع: في سورة الروم "وما آتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلا يربوا عند الله". وفي سورة آل عمران "لا تأكلوا الربا اضعافاً مضاعفة" كما في سورة النساء "واخذهم الربا وقد نهوا عنه". وجاء في صورة البقرة "الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرّم الربا.. يمحق الله الربا ويربي الصدقات.. يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".
وترمي المصارف الاسلامية ايضاً الى جمع المدخرات واستثمارها طبقاً للاحكام الشرعية. وكذلك تأصيل المبادئ والاخلاق في مجال المعاملات وتجسيدها على ارض الواقع، كما تعمل على المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية اذ تؤكد على عدم احتكار المال او كنزه بل توجيهه لخدمة المجتمع. وهو ما يمكن اعتباره اخراج زكاة الاموال. وتقوم معاملاتها على المشاركة مع المتعاملين في الربح والخسارة، بدل علاقات دائن ومدين. ولو تكلمنا لغة المصارف العصرية لقلنا ان المصارف الاسلامية هي مصارف متعددة الوظيفة تؤدي دور البنوك التجارية وبنوك الاعمال وبنوك الاستثمار وبنوك التنمية. ولا يقتصر عملها على الاجلين القصير كالبنوك التجارية ولا على الاجل المتوسط والطويل كالبنوك غير التجارية. انها لا تتعامل في الائتمان فهي ليست مقرضة ولا مقترضة ولا بالفائدة اخذاً او عطاء وانما تقدم التمويل علي اساس تحمل الاخطار والمشاركة في النتائج ربحاً ام خسارة. وهي اذ تقدم هذا التمويل لا تتاجر بالديون. ولعل ما يميز المصارف الاسلامية هو نوعية ارتباطها بعملائها سواء كانوا اصحاب موارد ام مستثمرين. انها علاقة مشاركة ومتاجرة وليست علاقة دائنية ومديونية كما هي الحال في البنوك التقليدية.
وقد احدث ظهور المصارف والمؤسسات المالية الاسلامية في دول عديدة من العالمين العربي والاسلامي ظاهرة امتدت الى بعض الدول في افريقيا واوروبا واميركا. ويدرك متتبع هذا الامر ان نمواً كبيراً قد حدث في عدد المصارف وفي حجم اعمالها خلال الفترة الاخيرة. فبعدما كان عددها عام 1979 لا يزيد عن سبعة مصارف برأسمال لا يتجاوز بضعة ملايين من الدولارات، اصبح عددها اليوم يفوق المئتي مصرف تنتشر جغرافياً في معظم القارات. ولها شبكة من الفروع تزيد على خمسة آلاف فرع. ووصل حجم استثماراتها الى اكثر من مئة مليار دولار. وفي العالم الغربي ابدت المؤسسات الاكاديمية اهتماماً كبيراً بالمصارف الاسلامية حيث اقامت الندوات الخاصة بها، حتى ان بعض الدول قامت بتدريس مادة المصارف الاسلامية في جامعاتها. ونشير في هذه المناسبة الى انه غالباً ما سُئلنا خلال دوراتنا في الجامعات الاوروبية عن هذا الموضوع. وكان السائلون، وهم من اصحاب الرأي والعلم، يتشوقون لسماع التفاصيل ومتابعة التطورات.
اما في لبنان فقد سادت حال ترقب رغم الحاجة الملحة لتناول موضوع المصارف الاسلامية. ذاك ان القطاع المصرفي اللبناني يود المحافظة على مركزه المتقدم في المنطقة. وهو لا يستطيع ذلك الا اذا لحظ كل التطورات واهمها نشأة المصارف الاسلامية. فهي اصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها اذا ما اردنا جذب المزيد من العملاء والمستثمرين والتجار الذين ينشدون المصارف التي تقدم بديلاً مما هو موجود وما يتلاءم مع حاجاتهم التجارية والاقتصادية ولا يتعارض مع ايمانهم ومعتقداتهم. فهذه المصارف تجذب حجماً ضخماً من المدخرات العربية داخل الوطن العربي. وهي عامل مشجع لاستقطاب اموال جديدة كما تساعد على استعادة اموال كانت خارج دورة النشاط الاقتصادي. وتساهم في زيادة سيولة الاسواق المالية واتساعها. وتدعم عملية التبادل التجاري بين لبنان وبين العديد من الدول الاسلامية وتساعده في ان يكون مركزاً مصرفياً ونقطة التقاء لاكثر من مئتي مصرف اسلامي منتشرين في العالم.
اما والحالة هذه فكيف السبيل الى ادخال هذه الكيانات المصرفية الجديدة الى لبنان فيتم التلاقي بينها وبين بقية المصارف ويثمر التفاعل وتنتج منه عمليات مصرفية ناجزة ناجعة للجهتين معاً؟ ان الطريق الى ذلك مرسومة ملامحها من ضمن مشروع قانون انشاء المصارف الاسلامية في لبنان وهو قيد الدرس. وتواكب هذا المشروع تحضيرات ومؤتمرات "كالمؤتمر الثاني لأعمال الصيرفة والتمويل الاسلامي" الذي نظمته المجموعة الدولية المتحدة للاعمال بالتعاون مع هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية. وقد اعتبره الخبراء والمراقبون توجها جديدا من جانب الحكومة اللبنانية نحو المصارف الاسلامية. وثمة دراسات ورسالات ولقاءات بحث تتناول هذا الموضوع يأتي في طليعتها الانجاز العلمي الاكاديمي الذي حققه فادي محمد الرفاعي، الذي يسرنا ان نقدمه الى كل دارس متمعن وقارئ حصيف. وحسب فادي الرفاعي حامل الاجازة في الحقوق بتفوق وبعدها شهادة الدراسات العليا في قانون الاعمال بامتياز ان يقرب هذا الموضوع بكل جدارة واهتمام واحترام فيوليه ما يستحقه من دراسة ويمنحه ما يتوجب له من عناية فيصل الى طرح الموضوع مجددا على بساط البحث ويرده الى دائرة الضوء فيصيب ويجيد ويفيد.
وفي النتيجة ان دخول المصارف الاسلامية الى الساحة المصرفية العالمية في شكل عام والى الساحة المصرفية اللبنانية في شكل خاص لامر مفيد للجهات المعنية كلها. وان الحاق الصفة الدينية بالتسمية المصرفية لا يعوقها بمقدار ما يحصنها ويميزها. فهذه التسميات ذات الطابع الديني ليست بجديدة، فمنذ القرون الوسطى كان هناك ما يسمى، وفي اوروبا المزدهرة بالذات، "مصارف جبل التقوى"، و"مصارف الرجاء الصالح"، وحتى "مصارف الروح القدس" التي اكسبها هذا الروح دعما اضافيا فكانت من اهم مصارف زمانها. وهي لا تزال ناشطة الى اليوم. وان ثمة حميمية ما بين المصرف والمعبد، نشأت منذ فجر التاريخ. وقد ألمح المؤرخون الى ان المصرف ولد في عتبات المعبد حيث كان الكهنة يتقبلون الهدايا الوفيرة والمتنوعة فإذا ما هي فاضت عمدوا الى مقايضتها بما يعادلها من نوعية اخرى. وهذا ما يعدل توزيعها ويحول دون تلفها. وهكذا نشأت العمليات المصرفية الاولى. وقد كان مهدها، كما يؤكد العالمان "هامل" و"شميث"، في المعبد الاحمر في مدينة "اوروك" في بلاد ما بين النهرين، عراق اليوم. وكان الكهنة موظفيها والمقربون عملاءها والهيكل مركزها.
وان لبنان مدعو، قبل غيره لأن يتلقى هذه الظاهرة المالية الاقتصادية الجديدة فيستقبلها ويستوعبها ويدخلها الى انماطه وفئاته المصرفية. فأما ان تتمازج مع واحدة او اكثر من الفئات المصرفية المعمول بها، او ان تستقل لذاتها في نمط جديد متكامل. فالمعروف ان في لبنان الانواع التالية من المصارف، هناك المصرف ذو الطابع العام او المصرف المركزي او مصرف لبنان. وهناك المصارف ذات الطابع المختلط او مصارف الانماء. ومن ثم المصارف ذات الطابع الخاص او المصارف التجارية. وان المصارف الاسلامية مخيّرة لأن تدخل الفئة الثانية او الثالثة من هذه المصارف او الاثنتين معا او ان يصار الى استضافتها كفئة مستقلة تقوم بذاتها. وتغني تعددية المصارف اللبنانية وتزكي تنوعها، وقد يكون هذا هو الحل الانسب.
واما في الاساس فإن فكرة المشاركة في معناها الشامل والتي اشرنا اليها سابقا جديرة بأن تؤدي دور البديل عن الفائدة التي يعرض عنها الشرع الاسلامي ويأباها. والمشاركة في مفهومها العام تتضمن معنى المساهمة في رأس المال Participation ou actionnariat كما تعني المقاسمة او المشاطرة في اتخاذ القرار Partenariat. وان اجتماع هذين المفهومين، بعضهما الى بعض في اطار المشاركة، يؤدي الى اشادة جسر يعبر عليه المصرف الاسلامي للوصول الى الساحة المصرفية العادية الكلاسيكية.
هنيئا لفادي محمد الرفاعي عمله الجديد، "المصارف الاسلامية". ومرحى به يلقي الضوء على كنوز مخفية تعد بكل وفر ويسر حلالين. ولعل توسمه الخير في ما يجهد فيه، يطلق خيرا عميما له ولسائر الافراد والجماعات والاوطان معا وللأمة جمعاء.
(*) العميد السابق لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية.
والمقال جاء تقديما لكتاب فادي الرفاعي "المصارف الاسلامية".