fakher
01-24-2004, 06:46 AM
ران السكوت فجأة، كما لو أن السيارة تسير بدون ركاب او سائق. صوته فقط هيمن على المكان فانطلق مخترقا الحدود، وأطلّ مثل معلم متجهم إقتحم فصلا علا ضجيجه.
إنطلق الصوت فقطع جملا من الثرثرة الهادئة الدائرة في حينها، وأعلن أسراره المرعبة " هنا إذاعة .." ثم قدّم موجز النشرة ، وفيها خبر عن هذه البلاد. رمى الصوت الاذاعي بطعمه مستدرجا خمسة أشخاص في سيارة أجرة، خمسة غرباء ألقوا بشجاعتهم من نوافذ الخوف وانشدّوا الى صوته منتظرين النشرة المفصلة.
قبل عشر دقائق على الخوف، كان التاكسي الذي يحمل راكبا في المقعد الامامي قد توقف لفتاتين في شارع مزدحم بالمحلات بمركز المدينة. اجتازتا الباب الخلفي الايمن باتجاه المقعد، كما لو أنهما تستعدان للنوم فوقه من شدة التعب. كادت السيارة ان تتحرك فاستوقفها شخص رابع: " طريقكم الى شارع النصر؟".
أجابه السائق بنظرة أحالته الى الفتاتين:
"هل تسمحان؟"..
ردّت احداهما وهي تنظر باتجاه الراكب الامامي:
" لم يعد إسمه تاكسي .. ثلاث توصيلات؟".
إسترحمهما الشاب:
" ساعة بأكملها ولم أعثر على تاكسي.. ينوبكم خير ".
تبادلت الفتاتان النظرات واتخذتا القرار: " تفضل"..
فتح الباب وحشر جسده في مقعد ضمبالاضافة للفتاتين، مشترياتهما.
تحركت السيارة، ثم علا حوار مشترك حول أزمة سيارات الاجرة في المدينة التي تزداد حرارة وسكانا.
و راح الحوار يتفتت ويتوزع. السائق ومعه الراكب الى جواره، إنشغلا في حديث عن أعباء إقتناء سيارة ، أعطال لا تنتهي وكذلك المصاريف. وكان الراكب الخلفي يشاركهما الرأي أحيانا.
الفتاتان في المقعد الخلفي إنشغلتا في حوار هامس ، وبدا أن إحداهما تعاني من مشكلة خاصة. على أية حال لم تتعارض الأصوات، ولم ينزعج أحد من الاشخاص الخمسة من أصوات الآخرين، فقد كان صوت أم كلثوم يشكل حاجزا، أو خلفية مناسبة لتلك الثرثرة الهادئة.
كان ذلك قبل أن ينطلق صوت مذيع النشرة مشيرا إلي أحداث هامة تقع في البلاد "إعتقالات سياسية واسعة، ومنظمة العفو الدولية تقدم إجتجاجا على إعتقال عدد من الافراد دون محاكمة..و...".
قد لا يبدو أن هذا الصمت مبررا، أعني أن يخرس سكان ركاب السيارة وسائقها لمجرد أن مذيعا في مدينة أخرى بعيدة يتحدث عن هذه البلاد. لنحاول إذن تصور سيناريو مقنع لهذا لهذا الصمت:
تردد السائق في تغيير مؤشر الراديو لأنه منذ سنوات فقد السيطرة على حساب العواقب بحس سليم، ما هو الصح وما هو الغلط. فماذا عن فعل هذه اللحظة .. هل يغيّر المؤشر مطلقا شتائمه ، واصفا الإذاعة بالكذب والتلفيق؟.. لكنه يعلم تماما أن المذيع الغريب يعلن الحقيقة الغائبة. إذن هل يتركه يسترسل فيشي به أحد الركاب، ويتهمه بالمساهمة في ترويج إشاعات مغرضة تمس مصالح البلاد؟.
الركاب الأربعة أداروا رؤوسهم باتجاه النوافذ ، متمنين لو انهم كانوا هناك، في أي هناك. بعيدا عن هذا المكان المأزق كي يحتموا من أي ردة فعل تسجلها مرآة السائق، أو تلتقطها عيون زملاء التاكسي.
حتى الفتاتان صمتتا عن مناقشة مشكلة إحداهما، وأشاحت كل منهما بوجهها عن الاخرى، خشية ان تفضحهما نظراتهما في حوار الصمت المشترك.
الشاب المجاور لهما في المقعد، تذكر شقيقه الغائب في مكان ما منذ أربع سنوات ، فوضع يديه في جيوبه، وراح يضغط على محتوياتها، علها تمتص توتره.
حسنا هل تشعرون أن هذا الحدث لا يصلح مادة لقصة؟..
أعني أن يجتمع خمسة أشخاص في سيارة أجرة، وفجأة يتبادلون الاتهامات السرية الصامتة، شبهة الخيانة وكتابة التقارير المباحثية، بافتراض غير مبني سوى على الخوف.. ولمجرد أن صوت مديع نشرة أخبار في إذاعة بعيدة إندس بين أرواحهم، فجمّد إنشغالاتهم اليومية وأطلق المخفي والخوف معا؟..
دمشق أيلول/سبتمبر 1990
وصلتني عبر الإيميل ... ولقد نشرتها لأنني عشت هذه الحادثة عدة مرات
إنطلق الصوت فقطع جملا من الثرثرة الهادئة الدائرة في حينها، وأعلن أسراره المرعبة " هنا إذاعة .." ثم قدّم موجز النشرة ، وفيها خبر عن هذه البلاد. رمى الصوت الاذاعي بطعمه مستدرجا خمسة أشخاص في سيارة أجرة، خمسة غرباء ألقوا بشجاعتهم من نوافذ الخوف وانشدّوا الى صوته منتظرين النشرة المفصلة.
قبل عشر دقائق على الخوف، كان التاكسي الذي يحمل راكبا في المقعد الامامي قد توقف لفتاتين في شارع مزدحم بالمحلات بمركز المدينة. اجتازتا الباب الخلفي الايمن باتجاه المقعد، كما لو أنهما تستعدان للنوم فوقه من شدة التعب. كادت السيارة ان تتحرك فاستوقفها شخص رابع: " طريقكم الى شارع النصر؟".
أجابه السائق بنظرة أحالته الى الفتاتين:
"هل تسمحان؟"..
ردّت احداهما وهي تنظر باتجاه الراكب الامامي:
" لم يعد إسمه تاكسي .. ثلاث توصيلات؟".
إسترحمهما الشاب:
" ساعة بأكملها ولم أعثر على تاكسي.. ينوبكم خير ".
تبادلت الفتاتان النظرات واتخذتا القرار: " تفضل"..
فتح الباب وحشر جسده في مقعد ضمبالاضافة للفتاتين، مشترياتهما.
تحركت السيارة، ثم علا حوار مشترك حول أزمة سيارات الاجرة في المدينة التي تزداد حرارة وسكانا.
و راح الحوار يتفتت ويتوزع. السائق ومعه الراكب الى جواره، إنشغلا في حديث عن أعباء إقتناء سيارة ، أعطال لا تنتهي وكذلك المصاريف. وكان الراكب الخلفي يشاركهما الرأي أحيانا.
الفتاتان في المقعد الخلفي إنشغلتا في حوار هامس ، وبدا أن إحداهما تعاني من مشكلة خاصة. على أية حال لم تتعارض الأصوات، ولم ينزعج أحد من الاشخاص الخمسة من أصوات الآخرين، فقد كان صوت أم كلثوم يشكل حاجزا، أو خلفية مناسبة لتلك الثرثرة الهادئة.
كان ذلك قبل أن ينطلق صوت مذيع النشرة مشيرا إلي أحداث هامة تقع في البلاد "إعتقالات سياسية واسعة، ومنظمة العفو الدولية تقدم إجتجاجا على إعتقال عدد من الافراد دون محاكمة..و...".
قد لا يبدو أن هذا الصمت مبررا، أعني أن يخرس سكان ركاب السيارة وسائقها لمجرد أن مذيعا في مدينة أخرى بعيدة يتحدث عن هذه البلاد. لنحاول إذن تصور سيناريو مقنع لهذا لهذا الصمت:
تردد السائق في تغيير مؤشر الراديو لأنه منذ سنوات فقد السيطرة على حساب العواقب بحس سليم، ما هو الصح وما هو الغلط. فماذا عن فعل هذه اللحظة .. هل يغيّر المؤشر مطلقا شتائمه ، واصفا الإذاعة بالكذب والتلفيق؟.. لكنه يعلم تماما أن المذيع الغريب يعلن الحقيقة الغائبة. إذن هل يتركه يسترسل فيشي به أحد الركاب، ويتهمه بالمساهمة في ترويج إشاعات مغرضة تمس مصالح البلاد؟.
الركاب الأربعة أداروا رؤوسهم باتجاه النوافذ ، متمنين لو انهم كانوا هناك، في أي هناك. بعيدا عن هذا المكان المأزق كي يحتموا من أي ردة فعل تسجلها مرآة السائق، أو تلتقطها عيون زملاء التاكسي.
حتى الفتاتان صمتتا عن مناقشة مشكلة إحداهما، وأشاحت كل منهما بوجهها عن الاخرى، خشية ان تفضحهما نظراتهما في حوار الصمت المشترك.
الشاب المجاور لهما في المقعد، تذكر شقيقه الغائب في مكان ما منذ أربع سنوات ، فوضع يديه في جيوبه، وراح يضغط على محتوياتها، علها تمتص توتره.
حسنا هل تشعرون أن هذا الحدث لا يصلح مادة لقصة؟..
أعني أن يجتمع خمسة أشخاص في سيارة أجرة، وفجأة يتبادلون الاتهامات السرية الصامتة، شبهة الخيانة وكتابة التقارير المباحثية، بافتراض غير مبني سوى على الخوف.. ولمجرد أن صوت مديع نشرة أخبار في إذاعة بعيدة إندس بين أرواحهم، فجمّد إنشغالاتهم اليومية وأطلق المخفي والخوف معا؟..
دمشق أيلول/سبتمبر 1990
وصلتني عبر الإيميل ... ولقد نشرتها لأنني عشت هذه الحادثة عدة مرات