من هناك
01-17-2012, 05:09 PM
الكاتب: د. محمد عباس
تاريخ النشر: الثلاثاء، 10/01/2012
كان ذلك منذ ما يقرب من ربع قرن.. كنت قد جاوزت الأربعين.. وذات يوم سألني صديق:
-ألاحظ أنك وصلت إلى نتائج حاسمة في معظم المعضلات الفكرية..
وأجبته ضاحكا وجادا في الوقت نفسه:
-انتهيت من إنشاء المدينة ورسم شوارعها وتشييد مسلحاتها ومد المرافق فيها ويبقى عمليات التشطيب والتجميل.
بعدها بأيام حدث زلزال.. فانهارت المدينة.. ودخلت مدينة أخرى.. كنت أنظر إليها من بعيد بتحفظ.. لم أتخيل أنني سأدخلها.. فإذا بها تصبح مدينتي.. بل عالمي.
***
كانت البداية في فندق ماريوت بالقاهرة. كان هناك معرض للحاسب الآلي، وحان وقت صلاة الجمعة، وبدأت البحث عن مسجد الفندق، لكنه كان واسعا جدا فتهت في دروبه. قيل لي إن مساحة الفندق عشرات الأفدنة، وتذكرت واقعة فساد صاخبة، حين نشرت الأهرام أيامها – وهي من صحف النظام- أن أرض فندق ماريوت تساوي 900 مليون جنيه وتم التقييم ب 700 ألف جنيه فقط، وكنت أسرع الخطو لاهثا باحثا ملهوفا، عندما اهتديت أخيرا إلى المسجد كان الإمام قد فرغ من الصلاة.
أصابني ألم حاد لأنني لم أدرك صلاة الجمعة (أظن في حدود ذاكرتي أنها لم تفتني ولو مرة واحدة خلال الأربعين عاما الأخيرة .. حتى أثناء سفري إلى الخارج) هرعت إلى خارج الفندق باحثا عن مساجد حوله متتبعا أذني اللتين راحتا تسترقان السمع إلى صوت خطيب، فكلما وصلت إلى مسجد وجدتهم يفرغون لتوهم من الصلاة.
وازداد ألمي، ورحت أقرع نفسي، لماذا لم أذهب إلى المسجد مبكرا، صحيح أن خطبة الجمعة كانت آنذاك تمثل بالنسبة لي كل أسبوع محنة، ذلك أن جهود الدولة في تجفيف المنابع – على عكس كل جهودها الأخرى – قد نجحت أيما نجاح، طاردت الدولة كل خطيب مفوه عالم وتركت من يستطيع أن ينفر لا أن يبشر، وكنت أعلم بالطبع الرخصة التي يمنحنيها السفر فضلا عن آراء بعض الفقهاء التي تدفع الكثيرين لصلاة الظهر بعد الجمعة حيث إنهم لا يثقون في شروط صحتها، لكن بقيت للجمعة معزة في قلبي، وأدركت أنني سأظل حزينا ما لم أدركها.
وتذكرت مسجدا في شارع رمسيس – عرفت بعد ذلك أن اسمه مسجد التوحيد-، وكنت في أيام الجمعة أؤدي صلاتي ثم أقضي شئوني، وأثناء عودتي أجد أن خطيبه ما يزال يخطب، وكنت بالطبع حريصا على عدم الصلاة فيه، أنا الذي لا أطيق خطيب المسجد ربع ساعة فكيف أحتمله ساعتين.
وأتذكر في كل مرة كنت أمر فيها على المسجد أنني كنت أدهش لعدد المصلين، قيل لي فيما بعد إن عدد المصلين في المسجد يصل أيام الجمعة إلى عشرين أو ثلاثين ألفا، وإن كنت أحسبهم أكثر من خمسين ألفا. كان شارع رمسيس رغم اتساعه يضيق بمن يصلون خارج المسجد على امتداد أكثر من كيلومتر.
تذكرت كل ذلك فكنت كالغريق الذي يفاجأ بقارب إلى جواره، هرعت إلى سيارتي، وتوجهت إلى مسجد التوحيد، ووجدت أن خطيب المسجد لم ينته من الخطبة الأولى بعد. غمرني الفرح، وجلست وسط المصلين في الشارع.
لاحظت قوة ضخمة من الأمن تحيط بالمسجد وتتخلل المصلين. ثلاثة لواءات وأكثر من عشرة عمداء ومئات الجنود وسبع سيارات ضخمة من سيارات الأمن المركزي.
جذبني الخطيب بصوته وانفعاله وعلمه ومنهجه.
لم أعرف إلا بعد ذلك أن اسمه : " الشيخ نشأت".
وكانت تجربة روحية لا أنساها أبدا.
وبدأ الرجل يسيطر عليَّ شيئا فشيئا.
لقد أكرمني الله بالصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، لكن منهج هذا الرجل كان زلزالا.. إذ إنه لم يفصل الدين عن الدولة.. ولا الآخرة عن الدنيا.. وكانت البصيرة عنده أوثق من البصر.. وعالم الغيب لا يقل حضورا عن عالم الشهادة.. علم غزير بالدين.. ومعرفة واسعة بالسياسة.. وثقافة موسوعية تجمع فلسفات الشرق والغرب.. وربط عبقري بين ذلك جميعا.. حيث ينصهر كل ذلك في بوتقة وجدان متأجج.
رحت أرقب المصلين في ذهول وقد تنامت إلى أذني همهمات نشيجهم. ثم تحول النشيج إلى نحيب..
لم أكن قد برئت تماما من ضلالات الفكر الغربي والتسلح بما يسمونه الموضوعية، كنت قد بدأت الطريق قبلها بأكثر من ربع قرن، لكنني ضللته طويلا في محاولة التوفيق بين الإسلام وطوائف المسلمين المختلفة وأمل لم أدرك إلا بعد ذلك مدى سذاجته واستحالته. كنت أظن أن المشكلة مشكلة فكرية وأن تغيير الطرح وزيادة الفهم سيأتي بالشيعي مع السلفي مع الصوفي مجمعين ومزمعين ألا يضلوا أبدا وأن ينسوا كل خلافاتهم فلا يتبعون إلا كتاب الله وسنة رسوله.. وجمحت أحلامي فضممت القوميين والشيوعيين بل والنصارى واليهود إلى دائرة أحلامي، وتمخضت سذاجاتي عن خيبة أمل مرة.. لأننا نواجههم بنصاعة الإسلام وصدقه بينما يواجهوننا بغوايات الشيطان وكذبه، بل لعل الصورة لم تنجل أمامي بكاملها إلا بعد أزمة الوليمة، حين اكتشفت كم تجذرت العمالة والخيانة بل والإلحاد والفساد والانحراف في النخبة، وكيف خدعونا دائما بأنهم يتبنون الإسلام المستنير، كأنما يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير! كان بعضهم على الأقل يبطن الكفر ويظهر الإسلام لا ليتبعه أو ينصره بل ليهدمه من داخله. وكنا ننخدع بهم ونصدقهم ونحاول مد الجسور بيننا وبينهم.. وكان الشيخ نشأت يكشف ذلك العوار ويحذر منه.
يا إلهي..
ماذا يقول هذا الرجل؟!
لطالما أخفيت داخل جوانحي الاستعلاء الغبي على الفكر السلفي..!
كنت أدرك علمهم ونقاءهم ففسرت الأمر لنفسي أنهم يشبهون الدول المتخلفة .. يملكون المواد الخام لكنهم لا يجيدون تصنيعها ولا تسويقها ولا عرضها.. أو أنهم يملكون كل الأجزاء لسيارة قوية فارهة لكنها تحتاج لتركيب يفتقدون آلياته.
الآن أكتشف أنني كنت أنا الأعمى.. ولم أكن أفهم. كان هذا الرجل يقول ما أبحث عنه.. وما عجزت عن الوصول إليه.. ثم أنه يثبت لي أنني أنا الذي أعرض بضاعة مغشوشة أو على الأقل غير أصيلة..
ذهلت.. ذعرت.. تشبثت بأرضي.. وحاولت أن أقاومه. كنت كصخرة وكان كسيل، وحاولت الصخرة أن تثبت مكانها فلم تلبث إلا قليلا. وفي محاولة التشبث تلك، والرجل يغزوني فتنهار مقاومتي أمامه قلت لنفسي إن به طاقة غريبة وإنه يبدو كما لو كان ينوم جمهور المصلين تنويما مغناطيسيا. وآليت على نفسي أن أقاوم تنويمه المغناطيسي كي يتسنى لي بحث الأمر بفكر موضوعي.. وأنني لكي أقيم تلك التجربة الوجدانية يجب أن أظل خارجها.. يجب ألا أسمح له بالسيطرة على مشاعري.. أحاول أن أقاوم.. أحاول أن أثبت.. أي علم هذا.. أي انفعال هذا.. أي وعي هذا.. أي قلب هذا.. أي عقل هذا؟!
إن الرجل يتحدث عن الدنيا والآخرة.. عن الدين والسياسة.. يذكر مقتطفات طويلة من فلاسفة الغرب – التي كنت أزدهي بها وأتخيل أنه لا يعرف شيئا عنها- ويرد عليها باستعلاء فيحطمها تحطيما.. ويعلّم الناس ماذا يقول الدين في حكامهم.. يربط تفاصيل الدنيا بالآخرة.. يدعو إلى الزهد في الفاني والتعلق بالباقي.. لكن الزهد الذي يدعو إليه ليس زهد انصراف ولا زهد عجز ولا زهد تواكل، إنه زهد من قد تكون الدنيا في يده لكنها لا تدخل قلبه.. فهو الزهد عن المغريات والتفرغ لجلائل الأعمال فقد خلقنا الله في الدنيا لكي نعمرها لا لكي ننصرف عنها.. وأن التفوق والسبق في كل مجالات الحياة فرض على المسلم يأثم إن لم يفعله.. ليس مجرد التفوق في العبادة بل التفوق في العلم والقوة في الزراعة والصناعة والتجارة والصواريخ والقنابل النووية .. لكن المسلم وهو يفعل ذلك عليه أن يلتزم دائما بخلق الإسلام.
كان الرجل يختنق بالعبرات فيبكي خلفه خمسون ألفا..
وكان يصرخ فيصرخ معه خمسون ألفا..
وكانت تغلبه الشهقات والزفرات فيكاد نفسه أن ينقطع.
في لحظة من اللحظات حين طال صمته بعد شهقة طويلة خشيت أن يكون قد مات. كانت الصخرة قد تخلخلت وتزلزلت قواعدها وفقدت ثباتها..وكنت ما زلت أحاول مقاومة سيطرة الرجل عليّ.. كنت أقاوم النشيج مع الناشجين والنحيب مع المنتحبين.
وعندما أوشكت على فقدان زمام السيطرة على نفسي لجأت إلى حيلة أخري.. رحت أهرب منه .. لو بكيت سأفقد موضوعيتي.. عليّ أن أفهم.. لا أن أنفعل.. ولجأت إلى حيلة أخرى فرحت أحاول تذكر أشياء بعيدة عما يقوله الرجل.. وفشلت.. فرحت أرقب الشارع والسيارات التي لم يبق لها من الشارع إلا حارة ضيقة تسير فيها متشاغلاً بذلك .. وفشلت.. فرحت أرقب رجال الأمن أعدهم وأعد سياراتهم وأرقب ملامح الجنود والضباط..
وكان ثمة عميد شرطة يتجول بين المصلين .. فقد خطط الأمن مكان الصلاة بحيث توجد أماكن غير مفروشة يستطيع التجول فيها للسيطرة على المصلين ومراقبتهم وكبحهم إذا ما تظاهروا.. قلت لنفسي إن هذا العميد في أسوأ حال.. فعندما يتحدث الشيخ نشأت عن الطاغوت والجبروت والظلم والتعذيب والتزوير فكأنما يقصده هو.. ورحت أسأل نفسي: كيف يستطيع أن يتوازن؟! وماذا يكتب في تقريره المباحثي.
انتبهت فجأة إلى أمين الشرطة الذي يسير خلفه. كان الرجل يتقلص، وخطر ببالي أنه هو الآخر يقاوم البكاء. قلت لنفسي إن ضراوة هجمة الفساد والانحراف قد ركزت على الفئات الأعلى من المجتمع، فكلما ارتفعت رتبة الرجل - أو منصبه أو جاهه أو ثراؤه- في المجتمع كلما ازداد فساده وانحرافه وابتعاده عن الدين.. لقد شربوا أكثر من الماء الملوث.. كنت أدرك أن ذلك لابد أن يفضي إلى أن القيمة الإنسانية للبسطاء أعلى منها للعظماء.. وللفقراء أكثر من الأغنياء.. ولأمين الشرطة أعظم من العميد.. نعم.. ثمة تناسب عكسي أفرزه نظام مختل.. رحت أرقبهما محاولا الانصراف عن تأثير الشيخ نشأت..
كان أمين الشرطة ممزقا بين خوفه من العميد الذي يسير أمامه وبين تأثره بكلام الشيخ نشأت.. وطفقت أتخيل ما يدور بذهنه من مظالم ارتكبها – بأوامر عميده – ومن فظائع اجترأ عليها ومن محارم انتهكها وهو يطيع المخلوق في معصية الخالق. . ورحت أراهن نفسي: هل سيصمد الشيطان فيه أم سيحترق مع الشحنات الصاعقة للشيخ .. وفجأة وجدته - أمين الشرطة - ينهار.. فيكبو على الأرض ويصرخ وينبش التراب بأظافره ويحثوه على وجهه مستغيثا بأمه شاكيا لها بصوت جهير أنه هلك.. وأنه من أصحاب النار.. ونظر العميد إليه في غضب وخوف وهو يلمحنا بطرف خفي ثم يهرب من المكان.
وانهارت مقاومتي فبكيت.. وفتحت كل مسامعي وكل خلاياي للمنطق الذي لم أعرفه قبل ذلك..
للمنطق الذي تعاليت عليه تعاليا غبيا..
كنت فريسة وضحية للأمن الذي شوههم وللإعلام الذي نكل بهم.. فصدقت بعض هذا وبعض ذاك..
هل قلت: كنت فريسة؟ لا والله.. بل كنت شريكا لم أتنبه فوقعت في شرك الصياد الخبيث وسقطت في حفرته..
تعاليت بغباء
وكنت أنا الغبي..
خفف من غلوائك أيها العييّ..
كنت مزهوا بمعارفي في الفلسفة والعلوم والأدب والتاريخ..
وكنت أقول لنفسي: من يقرأ للشاطبي والعقاد وللغزالي ونيتشة وابن رشد وهيجل وابن تيمية وكيركجارد وابن القيم وأرسطو ومحمود شاكر وأفلاطون والرافعي ونعوم تشومسكي ومحمد محمد حسين وجان بول سارتر لا يحتاج لهؤلاء السلفيين..
غفلت عن أن كل علوم الأدب والعروض قد تعجز عن صنع شاعر.. فالشعر موهبة من المولى عز وجل..
وقد منح مثل هذه الموهبة لعلماء على نمط الشيخ نشأت..
يا مسكين.. يا ربان.. كدت تتوه في بحر الظلمات وقد جاوزت الأربعين وليس لديك وقت لبداية الطريق من جديد..
وكان يمكن أن تضل الطريق لتغرق في بحر الظلمات لولا ربابنة من نوع الشيخ نشأت..
***
عار عليك يا مثقف.. فكيف لم تنتبه إلى ما قاله الشهيد –إن شاء الله- سيد قطب:
إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة . كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع فـي معظم حقول المعرفة الإنسانية .. ما هو من تخصصه وما هو مـن هواياته .. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره . فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم - وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك - وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره . فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها … وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها كذلك! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي!
***
بعد ذلك أصبح مسجد التوحيد مقصدي ومبتغاي كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.. ومن خطباء ذلك المسجد تعلمت الكثير .. ليس في أحداث التاريخ.. ولا في السير.. ولا في التراجم.. ولا حتى في التفسير والسيرة..
تعلمت منهم- وهذا هو المذهل- في السياسة والفلسفة وربط النظريات بالواقع..
لم أتعلم منهم عن الآخرة بقدر ما تعلمت عن الدنيا..
وتعلمت من المسجد أن حل الكوارث التي تحيق بالمسلمين لا يمكن أن يكون جزئيا.. وأن حل مشكلة فلسطين لن يتم بمعزل عن دفع الظلم عنهم في الشيشان وأفغانستان وبورما والفلبين..و.. ..
لم يكن مجرد " جامع" بل كان جامعة.. كان يعيد إلى المسجد نموذجه في عصور الإسلام الأولى..
والمسجد مكون من ستة طوابق تكتظ بالمصلين الذين يفيضون في الشوارع.. بني بالجهود الذاتية.. يقوم بنشر الوعي الديني في محاضرات يحتشد لها ألوف.. كما أنه لم ينس واجبه الاجتماعي.. واعتمادا على التبرعات كان يعول ألفا ومائتى أسرة لكل أسرة من أسر المعدمين مائة جنيه شهريا، وإزاء اقتناع الناس بما يسمعون انهالت التبرعات حتي تمكنت إدارة المسجد من شراء قطعة أرض بجوار المسجد.. واعتزموا بناءها كمستشفى خيري.
***
وأنا..
أنا الذي لم أكن أحتمل أكثر من ربع ساعة من خطبة الجمعة أصبحت أسعى إليها ساعات سفر طويلة لأشعر بالحزن الشديد إذا ما قلت مدتها عن ساعتين.
أصبحت أسافر مبكرا لأقترب من المنبر.. ورأيت الشيوخ بل الشباب وهم يخطبون فيخلبون لبي ويغسلون أدران روحي بدموعي.. كانوا كثيرين.. أذكر منهم الآن الشيخ نشأت والشيخ فوزي.. كانا شابين شديدي النحافة .. وظللت أذهب إليهما وأحض أصحابي على ذلك بعد أن استبدلت مدينتي.. وأصبحت سلفيا..!!
وظللت أشق الرحال إلى علمهما لا إلى المسجد عشرة أعوام أو يزيد.
ظللت.. ظللت حتى جاء القرار بضم المسجد للأوقاف وهبط عدد رواده المصلين من خمسين ألفا إلى أقل من مائتين.
طعن قلبي..
كان منارة علم أطفئوها.. لعن الله من أطفأها..
وكففت عن الذهاب..
وكان قرار تبعية المسجد للأوقاف يعني تبعيته للدولة.. وكانت تبعيته للدولة تعني تبعيته لأمريكا وإسرائيل.
لكن كانت هذه هي المرارة التي سرعان ما شغلتني عنها مرارات أشد..
***
بعدها بأعوام فوجئت بأخبار تنشرها بعض الصحف على استحياء عن القبض على تنظيم متهم بتسريب السلاح إلى الفدائيين الفلسطينيين.. وقلت لنفسي إن الذي فعل ذلك قد غطى عوراتنا وحمانا من فقدان آخر قطرة شرف.
تسربت الأنباء بعد ذلك أن من بين المتهمين الشيخ نشأت..
أشيع أن المحققين كانوا متعاطفين مع المتهمين، وكان الاتهام أنهم كونوا مجموعة لتهريب السلاح إلى فلسطين. وقيل إن السلطة كانت خجلى من توجيه مثل هذا الاتهام إليهم إزاء زخم المشاعر الشعبية التي ستعتبر مثل هذا الاتهام شرفا يستحقون عليه وساما. حتى الصحف القومية التي تصدر خارج مصر كالقدس العربي.. وعلى الرغم من أن قضية ما سموه بـ "تنظيم الوعد" كان ينبغي لها أن تكون في صلب اهتمامات هذه الصحيفة، إلا أنها لم تفعل. فخلاصة الأمر، أن ما يسمى بتنظيم الوعد، قد قام بأقصى ما تطمح إليه صحيفة القدس العربي، وهو تهريب السلاح إلى الفلسطينيين، لكنه ارتكب ذنبا لا يمكن أن يغفره التيار القومي، وهذا الذنب: هو كونه مسلما!
***
ثم حدثت أحداث 11 سبتمبر. وتطوع صحافي من المشهورين بعلاقتهم بأجهزة الأمن بأن ينشر في صحيفته على نطاق واسع أن هذا التنظيم على علاقة بتنظيم القاعدة، لقد حسب الكاتب الهمام أنه بذلك يسدي معروفا إلى النظام في بلادنا، وزاد الأحمق من جرعة أكاذيبه فقال إن من بين أعضاء التنظيم من تدرب على الطيران في أمريكا تمهيدا للقيام بأعمال إرهابية في مصر، وكان يظن أنه بذلك يضع مصر في نفس الصف مع أمريكا، لكن أمريكا كشرت عن أنيابها متسائلة عن سبب عدم إبلاغها بهذا التنظيم، وبدا أن تقصير (!!) أجهزة الأمن المصري في إبلاغ أمريكا كارثة، إذ إنهم لو أخطروا أمريكا في الوقت المناسب فلربما أمكن توقي ما حدث في 11 سبتمبر. وحاولت السلطة في أعلى مستوياتها إصلاح ما أفسده الكاتب الدب فصرحت بأنه لا علاقة بين تنظيم الوعد وتنظيم القاعدة.
لكنهم وقد وصل الأمر إلى ما وصل إليه سارعوا بتحويل التنظيم كله إلى محاكمة عسكرية.
***
بعدها.. تصدع قلبي.. فقد تسربت الأنباء عن تعذيب الشيخ..
فلقد عذبوه عذابا وحشيا مجنونا.. ..
عذبوا الشيخ الجليل واستمر تعذيبه أياما وأسابيع وشهورًا حتى تعرض للموت.. كان الكلاب يساومونه لكي يعترف على بعض الدعاة السلفيين لإدخالهم ظلما في القضية أمثال الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ فوزي السعيد وسيد العربي ومحمد حسان، إلا أنه رفض وفضل تحمل آلام التعذيب على توريط بعض الدعاة بغير حق أو ذنب.. بعد ثلاثة أعوام شوهد الشيخ نشأت يمشى على عكاز بعد خروجه الأخير من المعتقل..
وتم القبض على مجموعة من الشباب من تلاميذه تعرضوا جميعاً للتعذيب حتى شلَّت أيدي الكثير منهم جراء التعذيب، وما زالت آثار التعذيب باقية على أجسادهم حتى اليوم.
وقالت والدة الشيخ نشأت لوكالة فرانس برس إن ابنها "أخضع لتعذيب غير إنساني" خلال اعتقاله على يد أجهزة الأمن.
***
يا رب،
يا قهار،
يا جبار،
انتقم!
يا قهار يا جبار يا عزيز يا مذل،
***
مر علينا الزمن حتى هرمنا..
سألت عليه وعلى الشيخ فوزي كثيرا فعلمت أنهم قد منعوا من الخطابة.. حسبت أن الدنيا لن تجمع بيننا مرة أخرى ..
وفي الأسبوع الماضي كان ثمة مداخلة على قناة الحكمة في ذكرى جريمة حرب غزة.. جريمة الرصاص المسكوب.. وكان ثمة شيخين أعرفهما.. وأحدهما هو شيخ اسمه نشأت.. لم يخطر ببالي أبدا أن هذا الشيخ الهادئ الذي شاب شعره وشاخت ملامحه هو الشيخ نشأت القديم..
وفي نهاية الحلقة وجدته يقول:
-الحقيقة أشكر الدكتور محمد عباس.. ولعله يسمعني الآن.. وجزاه الله عني أنا شخصيا خير الجزاء.. لأنه أثناء القضية كتب مقالة .. ما أبكاني أثناء المحاكمة شيء كما أبكتني مقالته..فجزاه الله عني خير الجزاء والله يكافئه عن جهاده..
يـــــــــــــــــا اللــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــه..!
أهو أنت..
قفزت من مقعدي كالملدوغ لا أتمالك دمعي.. لم أربط أبدا مابين هذا الشيخ الجليل الهادئ-الذي أتابعه أحيانا- وذلك الشاب القديم شديد النحول شديد سواد الشعر الهادر كالطوفان..
من الأحق بالشكر..؟ مقالة عابرة أم عذاب السنين.. جمرة معنوية .. أم لهيب النار يحرق فعلا.. كلمة لاذعة أم سياط لاسعة.. وسجن طويل أم غربة داخل النفس..
ملأني الرعب..
إن كان أحد أولى بالشكر: فهو هو.. لا أنا..
وسيطر عليَّ هاجس مرعب مخيف.. إذ قلت لنفسي لعل هذه كانت هي الحسنة الوحيدة الباقية من حسناتي.. ولعلي لا أستحق أن تنتقل معي للآخرة.. فشكرني الشيخ الجليل كي يجزيني عن تلك الحسنة في الدنيا فأنتقل إلى الآخرة بلا حسنات..
أخشى مكر ربي..
كان سيدي وحبيبي ومولاي أبو بكر رضي الله عنه يخشى مكر ربه ولو كانت إحدى قدميه في الجنة..
فكيف لا أخشاه وأنا أظن في أحيان كثيرة أن كلتا قدميّ في النار..
ورحت في ألم ورعب أمني نفسي وأواسيها إذ أتلو:
والضحى والليل إذا سجى..
ما ودعك ربك وما قلى...
تاريخ النشر: الثلاثاء، 10/01/2012
كان ذلك منذ ما يقرب من ربع قرن.. كنت قد جاوزت الأربعين.. وذات يوم سألني صديق:
-ألاحظ أنك وصلت إلى نتائج حاسمة في معظم المعضلات الفكرية..
وأجبته ضاحكا وجادا في الوقت نفسه:
-انتهيت من إنشاء المدينة ورسم شوارعها وتشييد مسلحاتها ومد المرافق فيها ويبقى عمليات التشطيب والتجميل.
بعدها بأيام حدث زلزال.. فانهارت المدينة.. ودخلت مدينة أخرى.. كنت أنظر إليها من بعيد بتحفظ.. لم أتخيل أنني سأدخلها.. فإذا بها تصبح مدينتي.. بل عالمي.
***
كانت البداية في فندق ماريوت بالقاهرة. كان هناك معرض للحاسب الآلي، وحان وقت صلاة الجمعة، وبدأت البحث عن مسجد الفندق، لكنه كان واسعا جدا فتهت في دروبه. قيل لي إن مساحة الفندق عشرات الأفدنة، وتذكرت واقعة فساد صاخبة، حين نشرت الأهرام أيامها – وهي من صحف النظام- أن أرض فندق ماريوت تساوي 900 مليون جنيه وتم التقييم ب 700 ألف جنيه فقط، وكنت أسرع الخطو لاهثا باحثا ملهوفا، عندما اهتديت أخيرا إلى المسجد كان الإمام قد فرغ من الصلاة.
أصابني ألم حاد لأنني لم أدرك صلاة الجمعة (أظن في حدود ذاكرتي أنها لم تفتني ولو مرة واحدة خلال الأربعين عاما الأخيرة .. حتى أثناء سفري إلى الخارج) هرعت إلى خارج الفندق باحثا عن مساجد حوله متتبعا أذني اللتين راحتا تسترقان السمع إلى صوت خطيب، فكلما وصلت إلى مسجد وجدتهم يفرغون لتوهم من الصلاة.
وازداد ألمي، ورحت أقرع نفسي، لماذا لم أذهب إلى المسجد مبكرا، صحيح أن خطبة الجمعة كانت آنذاك تمثل بالنسبة لي كل أسبوع محنة، ذلك أن جهود الدولة في تجفيف المنابع – على عكس كل جهودها الأخرى – قد نجحت أيما نجاح، طاردت الدولة كل خطيب مفوه عالم وتركت من يستطيع أن ينفر لا أن يبشر، وكنت أعلم بالطبع الرخصة التي يمنحنيها السفر فضلا عن آراء بعض الفقهاء التي تدفع الكثيرين لصلاة الظهر بعد الجمعة حيث إنهم لا يثقون في شروط صحتها، لكن بقيت للجمعة معزة في قلبي، وأدركت أنني سأظل حزينا ما لم أدركها.
وتذكرت مسجدا في شارع رمسيس – عرفت بعد ذلك أن اسمه مسجد التوحيد-، وكنت في أيام الجمعة أؤدي صلاتي ثم أقضي شئوني، وأثناء عودتي أجد أن خطيبه ما يزال يخطب، وكنت بالطبع حريصا على عدم الصلاة فيه، أنا الذي لا أطيق خطيب المسجد ربع ساعة فكيف أحتمله ساعتين.
وأتذكر في كل مرة كنت أمر فيها على المسجد أنني كنت أدهش لعدد المصلين، قيل لي فيما بعد إن عدد المصلين في المسجد يصل أيام الجمعة إلى عشرين أو ثلاثين ألفا، وإن كنت أحسبهم أكثر من خمسين ألفا. كان شارع رمسيس رغم اتساعه يضيق بمن يصلون خارج المسجد على امتداد أكثر من كيلومتر.
تذكرت كل ذلك فكنت كالغريق الذي يفاجأ بقارب إلى جواره، هرعت إلى سيارتي، وتوجهت إلى مسجد التوحيد، ووجدت أن خطيب المسجد لم ينته من الخطبة الأولى بعد. غمرني الفرح، وجلست وسط المصلين في الشارع.
لاحظت قوة ضخمة من الأمن تحيط بالمسجد وتتخلل المصلين. ثلاثة لواءات وأكثر من عشرة عمداء ومئات الجنود وسبع سيارات ضخمة من سيارات الأمن المركزي.
جذبني الخطيب بصوته وانفعاله وعلمه ومنهجه.
لم أعرف إلا بعد ذلك أن اسمه : " الشيخ نشأت".
وكانت تجربة روحية لا أنساها أبدا.
وبدأ الرجل يسيطر عليَّ شيئا فشيئا.
لقد أكرمني الله بالصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، لكن منهج هذا الرجل كان زلزالا.. إذ إنه لم يفصل الدين عن الدولة.. ولا الآخرة عن الدنيا.. وكانت البصيرة عنده أوثق من البصر.. وعالم الغيب لا يقل حضورا عن عالم الشهادة.. علم غزير بالدين.. ومعرفة واسعة بالسياسة.. وثقافة موسوعية تجمع فلسفات الشرق والغرب.. وربط عبقري بين ذلك جميعا.. حيث ينصهر كل ذلك في بوتقة وجدان متأجج.
رحت أرقب المصلين في ذهول وقد تنامت إلى أذني همهمات نشيجهم. ثم تحول النشيج إلى نحيب..
لم أكن قد برئت تماما من ضلالات الفكر الغربي والتسلح بما يسمونه الموضوعية، كنت قد بدأت الطريق قبلها بأكثر من ربع قرن، لكنني ضللته طويلا في محاولة التوفيق بين الإسلام وطوائف المسلمين المختلفة وأمل لم أدرك إلا بعد ذلك مدى سذاجته واستحالته. كنت أظن أن المشكلة مشكلة فكرية وأن تغيير الطرح وزيادة الفهم سيأتي بالشيعي مع السلفي مع الصوفي مجمعين ومزمعين ألا يضلوا أبدا وأن ينسوا كل خلافاتهم فلا يتبعون إلا كتاب الله وسنة رسوله.. وجمحت أحلامي فضممت القوميين والشيوعيين بل والنصارى واليهود إلى دائرة أحلامي، وتمخضت سذاجاتي عن خيبة أمل مرة.. لأننا نواجههم بنصاعة الإسلام وصدقه بينما يواجهوننا بغوايات الشيطان وكذبه، بل لعل الصورة لم تنجل أمامي بكاملها إلا بعد أزمة الوليمة، حين اكتشفت كم تجذرت العمالة والخيانة بل والإلحاد والفساد والانحراف في النخبة، وكيف خدعونا دائما بأنهم يتبنون الإسلام المستنير، كأنما يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير! كان بعضهم على الأقل يبطن الكفر ويظهر الإسلام لا ليتبعه أو ينصره بل ليهدمه من داخله. وكنا ننخدع بهم ونصدقهم ونحاول مد الجسور بيننا وبينهم.. وكان الشيخ نشأت يكشف ذلك العوار ويحذر منه.
يا إلهي..
ماذا يقول هذا الرجل؟!
لطالما أخفيت داخل جوانحي الاستعلاء الغبي على الفكر السلفي..!
كنت أدرك علمهم ونقاءهم ففسرت الأمر لنفسي أنهم يشبهون الدول المتخلفة .. يملكون المواد الخام لكنهم لا يجيدون تصنيعها ولا تسويقها ولا عرضها.. أو أنهم يملكون كل الأجزاء لسيارة قوية فارهة لكنها تحتاج لتركيب يفتقدون آلياته.
الآن أكتشف أنني كنت أنا الأعمى.. ولم أكن أفهم. كان هذا الرجل يقول ما أبحث عنه.. وما عجزت عن الوصول إليه.. ثم أنه يثبت لي أنني أنا الذي أعرض بضاعة مغشوشة أو على الأقل غير أصيلة..
ذهلت.. ذعرت.. تشبثت بأرضي.. وحاولت أن أقاومه. كنت كصخرة وكان كسيل، وحاولت الصخرة أن تثبت مكانها فلم تلبث إلا قليلا. وفي محاولة التشبث تلك، والرجل يغزوني فتنهار مقاومتي أمامه قلت لنفسي إن به طاقة غريبة وإنه يبدو كما لو كان ينوم جمهور المصلين تنويما مغناطيسيا. وآليت على نفسي أن أقاوم تنويمه المغناطيسي كي يتسنى لي بحث الأمر بفكر موضوعي.. وأنني لكي أقيم تلك التجربة الوجدانية يجب أن أظل خارجها.. يجب ألا أسمح له بالسيطرة على مشاعري.. أحاول أن أقاوم.. أحاول أن أثبت.. أي علم هذا.. أي انفعال هذا.. أي وعي هذا.. أي قلب هذا.. أي عقل هذا؟!
إن الرجل يتحدث عن الدنيا والآخرة.. عن الدين والسياسة.. يذكر مقتطفات طويلة من فلاسفة الغرب – التي كنت أزدهي بها وأتخيل أنه لا يعرف شيئا عنها- ويرد عليها باستعلاء فيحطمها تحطيما.. ويعلّم الناس ماذا يقول الدين في حكامهم.. يربط تفاصيل الدنيا بالآخرة.. يدعو إلى الزهد في الفاني والتعلق بالباقي.. لكن الزهد الذي يدعو إليه ليس زهد انصراف ولا زهد عجز ولا زهد تواكل، إنه زهد من قد تكون الدنيا في يده لكنها لا تدخل قلبه.. فهو الزهد عن المغريات والتفرغ لجلائل الأعمال فقد خلقنا الله في الدنيا لكي نعمرها لا لكي ننصرف عنها.. وأن التفوق والسبق في كل مجالات الحياة فرض على المسلم يأثم إن لم يفعله.. ليس مجرد التفوق في العبادة بل التفوق في العلم والقوة في الزراعة والصناعة والتجارة والصواريخ والقنابل النووية .. لكن المسلم وهو يفعل ذلك عليه أن يلتزم دائما بخلق الإسلام.
كان الرجل يختنق بالعبرات فيبكي خلفه خمسون ألفا..
وكان يصرخ فيصرخ معه خمسون ألفا..
وكانت تغلبه الشهقات والزفرات فيكاد نفسه أن ينقطع.
في لحظة من اللحظات حين طال صمته بعد شهقة طويلة خشيت أن يكون قد مات. كانت الصخرة قد تخلخلت وتزلزلت قواعدها وفقدت ثباتها..وكنت ما زلت أحاول مقاومة سيطرة الرجل عليّ.. كنت أقاوم النشيج مع الناشجين والنحيب مع المنتحبين.
وعندما أوشكت على فقدان زمام السيطرة على نفسي لجأت إلى حيلة أخري.. رحت أهرب منه .. لو بكيت سأفقد موضوعيتي.. عليّ أن أفهم.. لا أن أنفعل.. ولجأت إلى حيلة أخرى فرحت أحاول تذكر أشياء بعيدة عما يقوله الرجل.. وفشلت.. فرحت أرقب الشارع والسيارات التي لم يبق لها من الشارع إلا حارة ضيقة تسير فيها متشاغلاً بذلك .. وفشلت.. فرحت أرقب رجال الأمن أعدهم وأعد سياراتهم وأرقب ملامح الجنود والضباط..
وكان ثمة عميد شرطة يتجول بين المصلين .. فقد خطط الأمن مكان الصلاة بحيث توجد أماكن غير مفروشة يستطيع التجول فيها للسيطرة على المصلين ومراقبتهم وكبحهم إذا ما تظاهروا.. قلت لنفسي إن هذا العميد في أسوأ حال.. فعندما يتحدث الشيخ نشأت عن الطاغوت والجبروت والظلم والتعذيب والتزوير فكأنما يقصده هو.. ورحت أسأل نفسي: كيف يستطيع أن يتوازن؟! وماذا يكتب في تقريره المباحثي.
انتبهت فجأة إلى أمين الشرطة الذي يسير خلفه. كان الرجل يتقلص، وخطر ببالي أنه هو الآخر يقاوم البكاء. قلت لنفسي إن ضراوة هجمة الفساد والانحراف قد ركزت على الفئات الأعلى من المجتمع، فكلما ارتفعت رتبة الرجل - أو منصبه أو جاهه أو ثراؤه- في المجتمع كلما ازداد فساده وانحرافه وابتعاده عن الدين.. لقد شربوا أكثر من الماء الملوث.. كنت أدرك أن ذلك لابد أن يفضي إلى أن القيمة الإنسانية للبسطاء أعلى منها للعظماء.. وللفقراء أكثر من الأغنياء.. ولأمين الشرطة أعظم من العميد.. نعم.. ثمة تناسب عكسي أفرزه نظام مختل.. رحت أرقبهما محاولا الانصراف عن تأثير الشيخ نشأت..
كان أمين الشرطة ممزقا بين خوفه من العميد الذي يسير أمامه وبين تأثره بكلام الشيخ نشأت.. وطفقت أتخيل ما يدور بذهنه من مظالم ارتكبها – بأوامر عميده – ومن فظائع اجترأ عليها ومن محارم انتهكها وهو يطيع المخلوق في معصية الخالق. . ورحت أراهن نفسي: هل سيصمد الشيطان فيه أم سيحترق مع الشحنات الصاعقة للشيخ .. وفجأة وجدته - أمين الشرطة - ينهار.. فيكبو على الأرض ويصرخ وينبش التراب بأظافره ويحثوه على وجهه مستغيثا بأمه شاكيا لها بصوت جهير أنه هلك.. وأنه من أصحاب النار.. ونظر العميد إليه في غضب وخوف وهو يلمحنا بطرف خفي ثم يهرب من المكان.
وانهارت مقاومتي فبكيت.. وفتحت كل مسامعي وكل خلاياي للمنطق الذي لم أعرفه قبل ذلك..
للمنطق الذي تعاليت عليه تعاليا غبيا..
كنت فريسة وضحية للأمن الذي شوههم وللإعلام الذي نكل بهم.. فصدقت بعض هذا وبعض ذاك..
هل قلت: كنت فريسة؟ لا والله.. بل كنت شريكا لم أتنبه فوقعت في شرك الصياد الخبيث وسقطت في حفرته..
تعاليت بغباء
وكنت أنا الغبي..
خفف من غلوائك أيها العييّ..
كنت مزهوا بمعارفي في الفلسفة والعلوم والأدب والتاريخ..
وكنت أقول لنفسي: من يقرأ للشاطبي والعقاد وللغزالي ونيتشة وابن رشد وهيجل وابن تيمية وكيركجارد وابن القيم وأرسطو ومحمود شاكر وأفلاطون والرافعي ونعوم تشومسكي ومحمد محمد حسين وجان بول سارتر لا يحتاج لهؤلاء السلفيين..
غفلت عن أن كل علوم الأدب والعروض قد تعجز عن صنع شاعر.. فالشعر موهبة من المولى عز وجل..
وقد منح مثل هذه الموهبة لعلماء على نمط الشيخ نشأت..
يا مسكين.. يا ربان.. كدت تتوه في بحر الظلمات وقد جاوزت الأربعين وليس لديك وقت لبداية الطريق من جديد..
وكان يمكن أن تضل الطريق لتغرق في بحر الظلمات لولا ربابنة من نوع الشيخ نشأت..
***
عار عليك يا مثقف.. فكيف لم تنتبه إلى ما قاله الشهيد –إن شاء الله- سيد قطب:
إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة . كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع فـي معظم حقول المعرفة الإنسانية .. ما هو من تخصصه وما هو مـن هواياته .. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره . فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم - وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك - وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره . فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها … وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها كذلك! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي!
***
بعد ذلك أصبح مسجد التوحيد مقصدي ومبتغاي كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.. ومن خطباء ذلك المسجد تعلمت الكثير .. ليس في أحداث التاريخ.. ولا في السير.. ولا في التراجم.. ولا حتى في التفسير والسيرة..
تعلمت منهم- وهذا هو المذهل- في السياسة والفلسفة وربط النظريات بالواقع..
لم أتعلم منهم عن الآخرة بقدر ما تعلمت عن الدنيا..
وتعلمت من المسجد أن حل الكوارث التي تحيق بالمسلمين لا يمكن أن يكون جزئيا.. وأن حل مشكلة فلسطين لن يتم بمعزل عن دفع الظلم عنهم في الشيشان وأفغانستان وبورما والفلبين..و.. ..
لم يكن مجرد " جامع" بل كان جامعة.. كان يعيد إلى المسجد نموذجه في عصور الإسلام الأولى..
والمسجد مكون من ستة طوابق تكتظ بالمصلين الذين يفيضون في الشوارع.. بني بالجهود الذاتية.. يقوم بنشر الوعي الديني في محاضرات يحتشد لها ألوف.. كما أنه لم ينس واجبه الاجتماعي.. واعتمادا على التبرعات كان يعول ألفا ومائتى أسرة لكل أسرة من أسر المعدمين مائة جنيه شهريا، وإزاء اقتناع الناس بما يسمعون انهالت التبرعات حتي تمكنت إدارة المسجد من شراء قطعة أرض بجوار المسجد.. واعتزموا بناءها كمستشفى خيري.
***
وأنا..
أنا الذي لم أكن أحتمل أكثر من ربع ساعة من خطبة الجمعة أصبحت أسعى إليها ساعات سفر طويلة لأشعر بالحزن الشديد إذا ما قلت مدتها عن ساعتين.
أصبحت أسافر مبكرا لأقترب من المنبر.. ورأيت الشيوخ بل الشباب وهم يخطبون فيخلبون لبي ويغسلون أدران روحي بدموعي.. كانوا كثيرين.. أذكر منهم الآن الشيخ نشأت والشيخ فوزي.. كانا شابين شديدي النحافة .. وظللت أذهب إليهما وأحض أصحابي على ذلك بعد أن استبدلت مدينتي.. وأصبحت سلفيا..!!
وظللت أشق الرحال إلى علمهما لا إلى المسجد عشرة أعوام أو يزيد.
ظللت.. ظللت حتى جاء القرار بضم المسجد للأوقاف وهبط عدد رواده المصلين من خمسين ألفا إلى أقل من مائتين.
طعن قلبي..
كان منارة علم أطفئوها.. لعن الله من أطفأها..
وكففت عن الذهاب..
وكان قرار تبعية المسجد للأوقاف يعني تبعيته للدولة.. وكانت تبعيته للدولة تعني تبعيته لأمريكا وإسرائيل.
لكن كانت هذه هي المرارة التي سرعان ما شغلتني عنها مرارات أشد..
***
بعدها بأعوام فوجئت بأخبار تنشرها بعض الصحف على استحياء عن القبض على تنظيم متهم بتسريب السلاح إلى الفدائيين الفلسطينيين.. وقلت لنفسي إن الذي فعل ذلك قد غطى عوراتنا وحمانا من فقدان آخر قطرة شرف.
تسربت الأنباء بعد ذلك أن من بين المتهمين الشيخ نشأت..
أشيع أن المحققين كانوا متعاطفين مع المتهمين، وكان الاتهام أنهم كونوا مجموعة لتهريب السلاح إلى فلسطين. وقيل إن السلطة كانت خجلى من توجيه مثل هذا الاتهام إليهم إزاء زخم المشاعر الشعبية التي ستعتبر مثل هذا الاتهام شرفا يستحقون عليه وساما. حتى الصحف القومية التي تصدر خارج مصر كالقدس العربي.. وعلى الرغم من أن قضية ما سموه بـ "تنظيم الوعد" كان ينبغي لها أن تكون في صلب اهتمامات هذه الصحيفة، إلا أنها لم تفعل. فخلاصة الأمر، أن ما يسمى بتنظيم الوعد، قد قام بأقصى ما تطمح إليه صحيفة القدس العربي، وهو تهريب السلاح إلى الفلسطينيين، لكنه ارتكب ذنبا لا يمكن أن يغفره التيار القومي، وهذا الذنب: هو كونه مسلما!
***
ثم حدثت أحداث 11 سبتمبر. وتطوع صحافي من المشهورين بعلاقتهم بأجهزة الأمن بأن ينشر في صحيفته على نطاق واسع أن هذا التنظيم على علاقة بتنظيم القاعدة، لقد حسب الكاتب الهمام أنه بذلك يسدي معروفا إلى النظام في بلادنا، وزاد الأحمق من جرعة أكاذيبه فقال إن من بين أعضاء التنظيم من تدرب على الطيران في أمريكا تمهيدا للقيام بأعمال إرهابية في مصر، وكان يظن أنه بذلك يضع مصر في نفس الصف مع أمريكا، لكن أمريكا كشرت عن أنيابها متسائلة عن سبب عدم إبلاغها بهذا التنظيم، وبدا أن تقصير (!!) أجهزة الأمن المصري في إبلاغ أمريكا كارثة، إذ إنهم لو أخطروا أمريكا في الوقت المناسب فلربما أمكن توقي ما حدث في 11 سبتمبر. وحاولت السلطة في أعلى مستوياتها إصلاح ما أفسده الكاتب الدب فصرحت بأنه لا علاقة بين تنظيم الوعد وتنظيم القاعدة.
لكنهم وقد وصل الأمر إلى ما وصل إليه سارعوا بتحويل التنظيم كله إلى محاكمة عسكرية.
***
بعدها.. تصدع قلبي.. فقد تسربت الأنباء عن تعذيب الشيخ..
فلقد عذبوه عذابا وحشيا مجنونا.. ..
عذبوا الشيخ الجليل واستمر تعذيبه أياما وأسابيع وشهورًا حتى تعرض للموت.. كان الكلاب يساومونه لكي يعترف على بعض الدعاة السلفيين لإدخالهم ظلما في القضية أمثال الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ فوزي السعيد وسيد العربي ومحمد حسان، إلا أنه رفض وفضل تحمل آلام التعذيب على توريط بعض الدعاة بغير حق أو ذنب.. بعد ثلاثة أعوام شوهد الشيخ نشأت يمشى على عكاز بعد خروجه الأخير من المعتقل..
وتم القبض على مجموعة من الشباب من تلاميذه تعرضوا جميعاً للتعذيب حتى شلَّت أيدي الكثير منهم جراء التعذيب، وما زالت آثار التعذيب باقية على أجسادهم حتى اليوم.
وقالت والدة الشيخ نشأت لوكالة فرانس برس إن ابنها "أخضع لتعذيب غير إنساني" خلال اعتقاله على يد أجهزة الأمن.
***
يا رب،
يا قهار،
يا جبار،
انتقم!
يا قهار يا جبار يا عزيز يا مذل،
***
مر علينا الزمن حتى هرمنا..
سألت عليه وعلى الشيخ فوزي كثيرا فعلمت أنهم قد منعوا من الخطابة.. حسبت أن الدنيا لن تجمع بيننا مرة أخرى ..
وفي الأسبوع الماضي كان ثمة مداخلة على قناة الحكمة في ذكرى جريمة حرب غزة.. جريمة الرصاص المسكوب.. وكان ثمة شيخين أعرفهما.. وأحدهما هو شيخ اسمه نشأت.. لم يخطر ببالي أبدا أن هذا الشيخ الهادئ الذي شاب شعره وشاخت ملامحه هو الشيخ نشأت القديم..
وفي نهاية الحلقة وجدته يقول:
-الحقيقة أشكر الدكتور محمد عباس.. ولعله يسمعني الآن.. وجزاه الله عني أنا شخصيا خير الجزاء.. لأنه أثناء القضية كتب مقالة .. ما أبكاني أثناء المحاكمة شيء كما أبكتني مقالته..فجزاه الله عني خير الجزاء والله يكافئه عن جهاده..
يـــــــــــــــــا اللــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــه..!
أهو أنت..
قفزت من مقعدي كالملدوغ لا أتمالك دمعي.. لم أربط أبدا مابين هذا الشيخ الجليل الهادئ-الذي أتابعه أحيانا- وذلك الشاب القديم شديد النحول شديد سواد الشعر الهادر كالطوفان..
من الأحق بالشكر..؟ مقالة عابرة أم عذاب السنين.. جمرة معنوية .. أم لهيب النار يحرق فعلا.. كلمة لاذعة أم سياط لاسعة.. وسجن طويل أم غربة داخل النفس..
ملأني الرعب..
إن كان أحد أولى بالشكر: فهو هو.. لا أنا..
وسيطر عليَّ هاجس مرعب مخيف.. إذ قلت لنفسي لعل هذه كانت هي الحسنة الوحيدة الباقية من حسناتي.. ولعلي لا أستحق أن تنتقل معي للآخرة.. فشكرني الشيخ الجليل كي يجزيني عن تلك الحسنة في الدنيا فأنتقل إلى الآخرة بلا حسنات..
أخشى مكر ربي..
كان سيدي وحبيبي ومولاي أبو بكر رضي الله عنه يخشى مكر ربه ولو كانت إحدى قدميه في الجنة..
فكيف لا أخشاه وأنا أظن في أحيان كثيرة أن كلتا قدميّ في النار..
ورحت في ألم ورعب أمني نفسي وأواسيها إذ أتلو:
والضحى والليل إذا سجى..
ما ودعك ربك وما قلى...