أم ورقة
03-01-2011, 03:15 PM
أما بعد: فأوصيكم –أيها الناس- بتقوى الله والاستقامة على دينة، والدعوة إليه، والعمل به، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.
أيها الناس: إنه لا نجاح لأيِّ مجتمعٍ مسلمٍ دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهمٌ وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراكٍ لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص, ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم.
وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ (التخصص)، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضوٍ أو فردٍ أو جماعةٍ على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرّق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين.
وهو بلا شك، يزيد في الإتقان ويؤدِّي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع.
ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والإخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دورًا كبيرًا في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري –جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكِّد هذا الأمر تأكيدًا لا مجال للتنازع فيه.
فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
فقد دلّت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّامًا ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلّاحين أو دارسين أو غير ذلك.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].
ولم يقف التوجيه للتخصّص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفّل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصًا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة تأبير النخل: " أنتم أعلم بأمور دنياكم", وكقوله -صلى الله عليه وسلم- في حق الطب: "من تتطبّب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن"، فها هو صلى الله عليه وسلم هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذِّر من التطفُّل عليه, بل إنه يتوعَّد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله.
......كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال: "أفرضكم زيد" أي: أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه: "أقرأكم أبُي"، أي: أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أشاد بحسّان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن عليًا أقرأهم، ومعاذًا أعلمُهم بالحلال والحرام، وعلى أن عليًا أقضاهم ومعاذاً أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالدَ بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يؤمٌّ القوم أقرأهم لكتاب الله", الحديث.
والنصوص في ذلك من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابدّ لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك،كلاً في تخصصه ومجاله الذي يتقنه, وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (تحفة المولود): "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه –أي: تخصصه- وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصّر فيها أكثر مما يحسن".
إلا أنه من المؤسف -عباد الله- أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها, حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوساط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح.... دون هيبة للمرجعية ولا احترام للتخصص، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أعطوا كلَّ ذي حق حقة".
الا فاتقوا الله عباد الله. وحذار حذار من الفوضى، فحذار يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذار أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة ...
ألا فليعرف كل امرىءٍ قدره، وليتقِ الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءًا عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى،....
ألا رحم الله امرءًا سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطّن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الاسراء:36]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله وإن خطًأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا.
مقتطف من خطبة الشريم في يوم الجمعة 24/2/1431
أيها الناس: إنه لا نجاح لأيِّ مجتمعٍ مسلمٍ دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهمٌ وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراكٍ لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص, ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم.
وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ (التخصص)، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضوٍ أو فردٍ أو جماعةٍ على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرّق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين.
وهو بلا شك، يزيد في الإتقان ويؤدِّي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع.
ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والإخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دورًا كبيرًا في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري –جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكِّد هذا الأمر تأكيدًا لا مجال للتنازع فيه.
فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
فقد دلّت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّامًا ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلّاحين أو دارسين أو غير ذلك.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].
ولم يقف التوجيه للتخصّص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفّل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصًا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة تأبير النخل: " أنتم أعلم بأمور دنياكم", وكقوله -صلى الله عليه وسلم- في حق الطب: "من تتطبّب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن"، فها هو صلى الله عليه وسلم هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذِّر من التطفُّل عليه, بل إنه يتوعَّد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله.
......كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال: "أفرضكم زيد" أي: أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه: "أقرأكم أبُي"، أي: أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أشاد بحسّان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن عليًا أقرأهم، ومعاذًا أعلمُهم بالحلال والحرام، وعلى أن عليًا أقضاهم ومعاذاً أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالدَ بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يؤمٌّ القوم أقرأهم لكتاب الله", الحديث.
والنصوص في ذلك من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابدّ لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك،كلاً في تخصصه ومجاله الذي يتقنه, وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (تحفة المولود): "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه –أي: تخصصه- وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصّر فيها أكثر مما يحسن".
إلا أنه من المؤسف -عباد الله- أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها, حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوساط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح.... دون هيبة للمرجعية ولا احترام للتخصص، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أعطوا كلَّ ذي حق حقة".
الا فاتقوا الله عباد الله. وحذار حذار من الفوضى، فحذار يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذار أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة ...
ألا فليعرف كل امرىءٍ قدره، وليتقِ الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءًا عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى،....
ألا رحم الله امرءًا سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطّن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الاسراء:36]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله وإن خطًأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا.
مقتطف من خطبة الشريم في يوم الجمعة 24/2/1431