من هناك
02-07-2011, 10:37 PM
http://almoslim.net/node/141110
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
فإن الأمة العربية تمر هذه الأيام بأحداث عصيبة وعسيرة؛ تنبئ عن تغيرٍ كبيرٍ ربما طال بعضًا من الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً من الزمن، ويتابع الناس أحداث تونس ومصر بكل اهتمام وشغف، وقلوبهم معلقة بآمال المستقبل المجهول، وما يدري المرء هل ستلحق دولٌ أخرى بأختيها أم لا؟
وفي خضم هذه الأحداث تدور أسئلةٌ كثيرةٌ في أذهان كثيرٍ من الشباب، ويجري نقاشٌ عريضٌ عبر مجالسهم، ونواديهم، وعبر التقنيات الحديثة من مجموعات بريدية، ومواقع اجتماعية، كالموقع الشهير (الفيسبوك) وغيره، ويتساءلون عن مشروعية الاحتجاجات الجماعية وجدواها، وهل هي صورة من صور الخروج على الحاكم؟ وما الموقف الصحيح منها؟ ولماذا لا نرى بعض الرموز الدعوية تشارك فيها وتقود المسيرة؟ وهل هذا خطأ منهم أو صواب؟ وهل سيجني ثمرتها الإسلاميون أم سيقطفها غيرهم؟ وغيرها من الإشكالات والاستفسارات التي يبحثون لها عن إجابات؛ وللأسف لا يجدون!
فأقول وبالله أستعين:
أما الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بشرع الله، وقد أقام في المسلمين الصلاة، ولم يروا منه كفراً بواحاً، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في تحريمه، ولو جار أو ظلم، لحديث: ((ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم، ولحديث: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان)) رواه الشيخان، وقد كان هناك خلاف بين السلف في حكم الخروج على الحاكم الجائر، ثم استقر أمرهم على ما سبق، نص على ذلك القاضي عياض والنووي كما في شرحه لمسلم (11/433)، وابن تيمية في منهاج السنة (4/529)، وابن حجر في تهذيب التهذيب (1/399)، وغيرهم، وهو الحق إن شاء الله، وكأنه إجماع منهم.
وأما من نحَّى شريعة الله ولم يحكم بها، وأظهر الكفر البواح؛ فقد أجاز العلماء الخروج عليه بشرط القدرة حتى لا تُسفك دماءٌ معصومة، وتزهق أرواحٌ بريئة، قال الإمام ابن باز رحمه الله: (لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين، أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان. والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه) (مجموع فتاوى ابن باز) (8/206)
وأعني بالخروج هنا: الخروج بالقوة بحيث يتقاتل الطرفان، ويحمل كلٌّ منهما السلاح في وجه الآخر.
وقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من حركات الخروج هذه، حيث ذهبت فيها أرواحٌ كثيرة دون طائل، لكن تسمية المطالبات بالحقوق الدينية والدنيوية - ولو كانت جماعية - خروجاً فيه نظر، وقياس الوفيات التي قد تحدث فيها سواء بسب الازدحام والاختناق أو بسبب الاعتداء عليهم؛ قياس ذلك على الدماء التي تُسفك عند الخروج المسلَّح قياسٌ مع الفارق، فشتان بين هذا وبين الهرج والمرج الذي يحصل عند الخروج بالسيف كما حصل في ثورة ابن الأشعث وغيرها.
و التاريخ الإسلامي حافلٌ بمثل هذا النوع من الخروج بكل أسفٍ، لكن هذا النوع من المطالبات الجماعية السلمية حديثة على العالم الإسلامي، ولا يُعرف لها مثيل في تاريخ المسلمين، والمستجدات العصرية في وسائل التغيير والتعبير لا ينبغي إغفالها وإهمالها، طالما لم يرد نصٌّ بإلغائها وإبطالها، ولعلَّها لا تخرج عن نطاق "المصالح المرسلة"، وقاعدة: "الوسائل لها أحكام المقاصد". و وجود بعض المفاسد عند استخدام مثل هذه الوسائل، ليس قاطعاً على حرمتها، فإن هذه المفاسد قد تسوغ مقابل دفع مفاسد أعظم منها: عملاً بقاعدة: "جواز ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما"، فشريعة الله قائمة على مراعاة مصالح العباد. والمهم الآن هو القول بأن مطالبة الإنسان بحقوقه الدينية والدنيوية مطالبة مشروعة في أصلها، ما لم يُرتكب فيها محرم كإتلاف الأموال وإزهاق الأنفس، وخاصة إذا كان هذا الحاكم مستبداً ظالماً ناهباً لخيرات الأمة، يسجن ويقتل منهم المئات بل الآلاف.
وتتأكد هذه المشروعية إذا كان -مع منعهم من حقوقهم الدنيوية- يمنعهم من حقوقهم الدينية، ويجاهر بمحاربة الدين صباح مساء ويعلن أن نظامه نظامٌ علماني، ويفضل القانون الوضعي على شريعة رب العالمين.
لكن لمـَّا كانت هذه المطالبات الجماعية يشترك فيها عامة الناس، المثقفون منهم والغوغائيون، وقد تحصل فيها فوضى وشغب، ومنكرات عديدة: كتبرجٍ سافرٍ من بعض النساء -هداهن الله- واختلاطٍ مشين، واحتكاكٍ بالرجال بسبب الزحام، وصوت موسيقى في بعض هذه التجمعات، ورفع راياتٍ عُميَّةٍ وشعاراتٍ جاهلية، وربما شارك بعضَها أصحابُ أحزابٍ علمانية وأتباع دياناتٍ أخرى، إلى غير ذلك؛ فإن مشاركة العلماء وطلاب العلم الكبار ورموز الدعوة وقادتها، قد تتعذر حينئذٍ، ولا تلزمهم، ويكفي منهم التأييد العام بالبيانات والكلمات والخطب مع توجيه العامة نحو ما يحفظ على البلاد أمنها وممتلكاتها، وعدم ارتكاب محظورات في أثناء هذه المطالبات.
كما أن سكوتهم فضلاً عن معارضتهم لها، قد يفقد ثقة الناس فيهم، ويتسبب في انفضاضهم عنهم، وربما يتجهون إلى أصحاب الدعوات الباطلة؛ لأنهم سيرون أنهم هم وحدهم الذين وقفوا معهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة.
ولا شك أن غياب العلماء والدعاة حضوراً أو توجيهاً وانزواءهم في الزوايا فيه مفسدة
ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ..... إذا جلس الأكابرُ في الزوايا
وقد يستشكل بعض الناس مشروعية هذه المطالبة مع ما قد يحصل معها من فوضى وشغب، وربما تُسفك بسببها دماء، ولا شك أن هذه مفاسد لكنها قد تُحتمل مقابل المصالح العظيمة التي تحصل من تغيير أحوال الشعوب الدينية والدنيوية إلى حال أحسن، وهنا تتفاوت أنظار العلماء وتختلف اجتهاداتهم في تقدير المصلحة وتوقع لمن تكون الغلبة، وعلماء كل بلد أعرف بحاله، مع التأكيد على عدم جواز ارتكاب أي من هذه المفاسد، وأن تكون المطالب سلمية بالشروط والأحوال المذكورة آنفاً.
وتظل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد الدقيقة، التي تختلف في توصيفها الأنظار، ويتردد المرء فيها ويحار، فلا ينبغي أن تكون سبباً للفرقة وإلقاء التهم وإساءة الظن.
وينبغي أن يُعلم أن ما يصح أو يصلح أن يقال في بلد لا يصح ولا يصلح أن يقال في بلد آخر، إذا كانت مفسدة المطالبة فيه أعظم من السكوت عنها.
فمثلاً بلدٌ كاليمن، أهله مسلَّحون، وفيه قبائل متناحرة، وتنظيمات بدعيَّة مسلحة لها (أجندات) خاصة، ومطالبات انفصالية في أجزاء منه، وفوضى عارمة، قد لا يكون من المصلحة قيام ثورات فيه، لمظنة وقوع هرج ومرْج وفساد عريض، وقد يستثمر مثل هذه الثورات أصحاب الفرق الضالة المنظمة المسلحة المدعومة من الخارج في حين أن أهل السنة فيه مختلفون متناحرون، وقل مثل ذلك في بلد نسبة أهل السنة فيه أقل من أهل البدع ولو ظهرت فيه مثل هذه الثورات لكان أهل البدع أقرب للوصول إلى السلطة من أهل السنة، فلا شك أنه في مثل هذه الحالات التي يغلب على الظن أن تؤدي المطالبات الجماعية فيها إلى وضع وحالٍ أسوأ مما هو عليه = أنها لا تجوز، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و جاءت لتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من كتبه وفتاويه، وخلاصة الأمر أن هذه المطالبات الجماعية تختلف من بلد إلى آخر، والحكم عليها خاضعٌ للنظر في المصالح والمفاسد، وهي بهذا تُعد من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين.
وهنا يتساءل بعض الناس، ما الموقف الصحيح مما يجري على الساحة اليوم؟
والجواب: لا شك أن زوال طاغية محارب لدين الله مما يثلج صدور المؤمنين لاسيما إذا لم يُتيقن مجيء من هو أسوأ منه، لأن الفرح إنما يكون بزواله ولا أحدَ يعلم الغيب، ولا بمن سيأتي بعده. وقد فرح المسلمون بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقلت لنا كتب التاريخ سجود الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز شكراً لله على موته، ولما أُخبر إبراهيم النخعي بموته بكى من الفرح، ولما بُشِّر طاووس بموته فرح وتلا قول الله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وما كانوا يدرون من يحكمهم بعده. وفي عالمنا المعاصر فرح المسلمون والعلماء بزوال الاستعمار، وحُقَّ لهم ذلك، بل شارك بعض العلماء في الثورات التي أخرجته من بلدان المسلمين رغم أنه خَلَفَهم بعد ذلك في بعض الدول من هو أسوأ منه، فهذا الفرح والدعاء بزوال كل محارب للدين هو أقل ما يجب على العبد المسلم المعظِّم لشرع الله؛ إذْ رفعُ الظلم وإقامةُ العدل مقصودٌ لذاته في الشريعة الإسلامية، وفي الفِطَر السوية، والعقول السليمة. أما المشاركة فقد سبق القول أنها تخضع للمصالح والمفاسد يقدرها علماء كل بلد.
والقول بأن تأييد ذهاب أمثال هؤلاء فيه إعانة على من سيأتي بعدهم من أهل السوء، قولٌ صحيح، لكن هاهنا ثلاثة أمور ينبغي التفطن لها:
أولاً: أن زوال أمثال هؤلاء مقصود لذاته كما سبق بيانه.
ثانياً: أن بقاءهم متيقن في استمرار الفساد في حين مجيء غيرهم مظنة أن يكون أفضل منه، وزوال مفسدة متيقنة أولى من بقائها خشية من مفسدة مظنونة، وإنما يُمنع من زوال المفسدة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أعظم منها كما سبق بيانه.
ثالثاً: أنه مما لاشك فيه أن الأمة إذا تخلصت من أمثال هؤلاء أنها ستعيش عقب ذلك فترة من الزمن تستعيد فيها حقوقها الدينية والدنيوية لأن كل من سيأتي بعدهم أياً كان سيحسب لمثل هذه المواقف ألف حساب، وهذا وحده مصلحة غالبة الظن.
ويتساءل آخرون: لماذا لا يستثمر الإسلاميون هذه الأوضاع؟
والجواب: إن كان المقصود بالاستثمار المشاركة في السلطة فلا أظن أنهم في حالٍ تمكنهم من ذلك (والمراد بالإسلاميين هنا أعداء الديمقراطية). أما إن كان المقصود المشاركة في اختيار الأصلح أو الأقل سوءًا فهذا ممكن مع كثير من الحرج. لكن واجب الوقت الآن هو استثمار الحدث بالقرب من الناس وتوجيههم، وتسجيل مواقف تدفع بدعوتهم إلى الأمام بعد هدوء العاصفة.
وختاماً:
فإنَّ على عامة المسلمين في مثل هذه الأوضاع الاسترشاد بالعلماء الربانين والدعاة الموثوقين، والصدور عن رأيهم فيما يشكل عليهم، وعلى العلماء والدعاة تقدير المصالح والمفاسد وفق المنهج الشرعي، مع التحلي بالرويَّة والأناة والحلم في مثل هذه المواقف، وألا يتسرعوا في اتخاذ المواقف إقداماً أو إحجاماً، وأن يجعلوا أمرهم شورى بينهم.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يولي على المسلمين خيارهم، ويدفع عنهم شرارهم، وأن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
فإن الأمة العربية تمر هذه الأيام بأحداث عصيبة وعسيرة؛ تنبئ عن تغيرٍ كبيرٍ ربما طال بعضًا من الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً من الزمن، ويتابع الناس أحداث تونس ومصر بكل اهتمام وشغف، وقلوبهم معلقة بآمال المستقبل المجهول، وما يدري المرء هل ستلحق دولٌ أخرى بأختيها أم لا؟
وفي خضم هذه الأحداث تدور أسئلةٌ كثيرةٌ في أذهان كثيرٍ من الشباب، ويجري نقاشٌ عريضٌ عبر مجالسهم، ونواديهم، وعبر التقنيات الحديثة من مجموعات بريدية، ومواقع اجتماعية، كالموقع الشهير (الفيسبوك) وغيره، ويتساءلون عن مشروعية الاحتجاجات الجماعية وجدواها، وهل هي صورة من صور الخروج على الحاكم؟ وما الموقف الصحيح منها؟ ولماذا لا نرى بعض الرموز الدعوية تشارك فيها وتقود المسيرة؟ وهل هذا خطأ منهم أو صواب؟ وهل سيجني ثمرتها الإسلاميون أم سيقطفها غيرهم؟ وغيرها من الإشكالات والاستفسارات التي يبحثون لها عن إجابات؛ وللأسف لا يجدون!
فأقول وبالله أستعين:
أما الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بشرع الله، وقد أقام في المسلمين الصلاة، ولم يروا منه كفراً بواحاً، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في تحريمه، ولو جار أو ظلم، لحديث: ((ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم، ولحديث: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان)) رواه الشيخان، وقد كان هناك خلاف بين السلف في حكم الخروج على الحاكم الجائر، ثم استقر أمرهم على ما سبق، نص على ذلك القاضي عياض والنووي كما في شرحه لمسلم (11/433)، وابن تيمية في منهاج السنة (4/529)، وابن حجر في تهذيب التهذيب (1/399)، وغيرهم، وهو الحق إن شاء الله، وكأنه إجماع منهم.
وأما من نحَّى شريعة الله ولم يحكم بها، وأظهر الكفر البواح؛ فقد أجاز العلماء الخروج عليه بشرط القدرة حتى لا تُسفك دماءٌ معصومة، وتزهق أرواحٌ بريئة، قال الإمام ابن باز رحمه الله: (لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين، أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان. والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه) (مجموع فتاوى ابن باز) (8/206)
وأعني بالخروج هنا: الخروج بالقوة بحيث يتقاتل الطرفان، ويحمل كلٌّ منهما السلاح في وجه الآخر.
وقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من حركات الخروج هذه، حيث ذهبت فيها أرواحٌ كثيرة دون طائل، لكن تسمية المطالبات بالحقوق الدينية والدنيوية - ولو كانت جماعية - خروجاً فيه نظر، وقياس الوفيات التي قد تحدث فيها سواء بسب الازدحام والاختناق أو بسبب الاعتداء عليهم؛ قياس ذلك على الدماء التي تُسفك عند الخروج المسلَّح قياسٌ مع الفارق، فشتان بين هذا وبين الهرج والمرج الذي يحصل عند الخروج بالسيف كما حصل في ثورة ابن الأشعث وغيرها.
و التاريخ الإسلامي حافلٌ بمثل هذا النوع من الخروج بكل أسفٍ، لكن هذا النوع من المطالبات الجماعية السلمية حديثة على العالم الإسلامي، ولا يُعرف لها مثيل في تاريخ المسلمين، والمستجدات العصرية في وسائل التغيير والتعبير لا ينبغي إغفالها وإهمالها، طالما لم يرد نصٌّ بإلغائها وإبطالها، ولعلَّها لا تخرج عن نطاق "المصالح المرسلة"، وقاعدة: "الوسائل لها أحكام المقاصد". و وجود بعض المفاسد عند استخدام مثل هذه الوسائل، ليس قاطعاً على حرمتها، فإن هذه المفاسد قد تسوغ مقابل دفع مفاسد أعظم منها: عملاً بقاعدة: "جواز ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما"، فشريعة الله قائمة على مراعاة مصالح العباد. والمهم الآن هو القول بأن مطالبة الإنسان بحقوقه الدينية والدنيوية مطالبة مشروعة في أصلها، ما لم يُرتكب فيها محرم كإتلاف الأموال وإزهاق الأنفس، وخاصة إذا كان هذا الحاكم مستبداً ظالماً ناهباً لخيرات الأمة، يسجن ويقتل منهم المئات بل الآلاف.
وتتأكد هذه المشروعية إذا كان -مع منعهم من حقوقهم الدنيوية- يمنعهم من حقوقهم الدينية، ويجاهر بمحاربة الدين صباح مساء ويعلن أن نظامه نظامٌ علماني، ويفضل القانون الوضعي على شريعة رب العالمين.
لكن لمـَّا كانت هذه المطالبات الجماعية يشترك فيها عامة الناس، المثقفون منهم والغوغائيون، وقد تحصل فيها فوضى وشغب، ومنكرات عديدة: كتبرجٍ سافرٍ من بعض النساء -هداهن الله- واختلاطٍ مشين، واحتكاكٍ بالرجال بسبب الزحام، وصوت موسيقى في بعض هذه التجمعات، ورفع راياتٍ عُميَّةٍ وشعاراتٍ جاهلية، وربما شارك بعضَها أصحابُ أحزابٍ علمانية وأتباع دياناتٍ أخرى، إلى غير ذلك؛ فإن مشاركة العلماء وطلاب العلم الكبار ورموز الدعوة وقادتها، قد تتعذر حينئذٍ، ولا تلزمهم، ويكفي منهم التأييد العام بالبيانات والكلمات والخطب مع توجيه العامة نحو ما يحفظ على البلاد أمنها وممتلكاتها، وعدم ارتكاب محظورات في أثناء هذه المطالبات.
كما أن سكوتهم فضلاً عن معارضتهم لها، قد يفقد ثقة الناس فيهم، ويتسبب في انفضاضهم عنهم، وربما يتجهون إلى أصحاب الدعوات الباطلة؛ لأنهم سيرون أنهم هم وحدهم الذين وقفوا معهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة.
ولا شك أن غياب العلماء والدعاة حضوراً أو توجيهاً وانزواءهم في الزوايا فيه مفسدة
ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ..... إذا جلس الأكابرُ في الزوايا
وقد يستشكل بعض الناس مشروعية هذه المطالبة مع ما قد يحصل معها من فوضى وشغب، وربما تُسفك بسببها دماء، ولا شك أن هذه مفاسد لكنها قد تُحتمل مقابل المصالح العظيمة التي تحصل من تغيير أحوال الشعوب الدينية والدنيوية إلى حال أحسن، وهنا تتفاوت أنظار العلماء وتختلف اجتهاداتهم في تقدير المصلحة وتوقع لمن تكون الغلبة، وعلماء كل بلد أعرف بحاله، مع التأكيد على عدم جواز ارتكاب أي من هذه المفاسد، وأن تكون المطالب سلمية بالشروط والأحوال المذكورة آنفاً.
وتظل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد الدقيقة، التي تختلف في توصيفها الأنظار، ويتردد المرء فيها ويحار، فلا ينبغي أن تكون سبباً للفرقة وإلقاء التهم وإساءة الظن.
وينبغي أن يُعلم أن ما يصح أو يصلح أن يقال في بلد لا يصح ولا يصلح أن يقال في بلد آخر، إذا كانت مفسدة المطالبة فيه أعظم من السكوت عنها.
فمثلاً بلدٌ كاليمن، أهله مسلَّحون، وفيه قبائل متناحرة، وتنظيمات بدعيَّة مسلحة لها (أجندات) خاصة، ومطالبات انفصالية في أجزاء منه، وفوضى عارمة، قد لا يكون من المصلحة قيام ثورات فيه، لمظنة وقوع هرج ومرْج وفساد عريض، وقد يستثمر مثل هذه الثورات أصحاب الفرق الضالة المنظمة المسلحة المدعومة من الخارج في حين أن أهل السنة فيه مختلفون متناحرون، وقل مثل ذلك في بلد نسبة أهل السنة فيه أقل من أهل البدع ولو ظهرت فيه مثل هذه الثورات لكان أهل البدع أقرب للوصول إلى السلطة من أهل السنة، فلا شك أنه في مثل هذه الحالات التي يغلب على الظن أن تؤدي المطالبات الجماعية فيها إلى وضع وحالٍ أسوأ مما هو عليه = أنها لا تجوز، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و جاءت لتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من كتبه وفتاويه، وخلاصة الأمر أن هذه المطالبات الجماعية تختلف من بلد إلى آخر، والحكم عليها خاضعٌ للنظر في المصالح والمفاسد، وهي بهذا تُعد من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين.
وهنا يتساءل بعض الناس، ما الموقف الصحيح مما يجري على الساحة اليوم؟
والجواب: لا شك أن زوال طاغية محارب لدين الله مما يثلج صدور المؤمنين لاسيما إذا لم يُتيقن مجيء من هو أسوأ منه، لأن الفرح إنما يكون بزواله ولا أحدَ يعلم الغيب، ولا بمن سيأتي بعده. وقد فرح المسلمون بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقلت لنا كتب التاريخ سجود الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز شكراً لله على موته، ولما أُخبر إبراهيم النخعي بموته بكى من الفرح، ولما بُشِّر طاووس بموته فرح وتلا قول الله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وما كانوا يدرون من يحكمهم بعده. وفي عالمنا المعاصر فرح المسلمون والعلماء بزوال الاستعمار، وحُقَّ لهم ذلك، بل شارك بعض العلماء في الثورات التي أخرجته من بلدان المسلمين رغم أنه خَلَفَهم بعد ذلك في بعض الدول من هو أسوأ منه، فهذا الفرح والدعاء بزوال كل محارب للدين هو أقل ما يجب على العبد المسلم المعظِّم لشرع الله؛ إذْ رفعُ الظلم وإقامةُ العدل مقصودٌ لذاته في الشريعة الإسلامية، وفي الفِطَر السوية، والعقول السليمة. أما المشاركة فقد سبق القول أنها تخضع للمصالح والمفاسد يقدرها علماء كل بلد.
والقول بأن تأييد ذهاب أمثال هؤلاء فيه إعانة على من سيأتي بعدهم من أهل السوء، قولٌ صحيح، لكن هاهنا ثلاثة أمور ينبغي التفطن لها:
أولاً: أن زوال أمثال هؤلاء مقصود لذاته كما سبق بيانه.
ثانياً: أن بقاءهم متيقن في استمرار الفساد في حين مجيء غيرهم مظنة أن يكون أفضل منه، وزوال مفسدة متيقنة أولى من بقائها خشية من مفسدة مظنونة، وإنما يُمنع من زوال المفسدة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أعظم منها كما سبق بيانه.
ثالثاً: أنه مما لاشك فيه أن الأمة إذا تخلصت من أمثال هؤلاء أنها ستعيش عقب ذلك فترة من الزمن تستعيد فيها حقوقها الدينية والدنيوية لأن كل من سيأتي بعدهم أياً كان سيحسب لمثل هذه المواقف ألف حساب، وهذا وحده مصلحة غالبة الظن.
ويتساءل آخرون: لماذا لا يستثمر الإسلاميون هذه الأوضاع؟
والجواب: إن كان المقصود بالاستثمار المشاركة في السلطة فلا أظن أنهم في حالٍ تمكنهم من ذلك (والمراد بالإسلاميين هنا أعداء الديمقراطية). أما إن كان المقصود المشاركة في اختيار الأصلح أو الأقل سوءًا فهذا ممكن مع كثير من الحرج. لكن واجب الوقت الآن هو استثمار الحدث بالقرب من الناس وتوجيههم، وتسجيل مواقف تدفع بدعوتهم إلى الأمام بعد هدوء العاصفة.
وختاماً:
فإنَّ على عامة المسلمين في مثل هذه الأوضاع الاسترشاد بالعلماء الربانين والدعاة الموثوقين، والصدور عن رأيهم فيما يشكل عليهم، وعلى العلماء والدعاة تقدير المصالح والمفاسد وفق المنهج الشرعي، مع التحلي بالرويَّة والأناة والحلم في مثل هذه المواقف، وألا يتسرعوا في اتخاذ المواقف إقداماً أو إحجاماً، وأن يجعلوا أمرهم شورى بينهم.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يولي على المسلمين خيارهم، ويدفع عنهم شرارهم، وأن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين