من هناك
11-17-2010, 03:32 PM
التأصيل الشرعي للتصوف ( العلامة ابن بيه )
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
التأصيل الشرعي للتصوف
(1)
أيها الإخوة الأكارم
معالي الوزير
مقدمة
إن الخصومة الفكرية بين مختلف الطوائف الإسلامية لم تسلم منها طائفة , فلم يكن من الغريب ولا الشاذ أن تقحم الطائفة الصوفية في هذه الخصومة أصلاً وفرعاً . وفي هذه الكلمة إنما يستأثر باهتمامنا هو الأصل وليس الفروع ؛ لأن سلامة الأصل تيسر محاكمة الفروع على ضوئه ؛ لأن كل فرع مردود إلى أصله ومعتبر به . فإن وافقه حكم له بحكمه صوابه أو خطإه ، وإن لم يوافقه انتفى نسبه وانقطع سببه ، وحكم له بحكم نفسه ، ورد إلى نوعه وجنسه .
ولهذا فأول ما نفتتح به هذا البحث هو الإسم والعنوان : الصوفية والتصوف .
ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فلا بد من تعريف ماهيته بحد أو رسم أو تفسير ، كما يقول سيدي أحمد زروق .
وقد اختلف الناس في تعريف هذا اللفظ إلى ألفي قول ، كما يقول سيدي أحمد زروق في قواعده ، لكنه في نفس القاعدة يرده إلى صدق التوجه إلى الله تعالى وهو الإحسان .
قال السيوطي في النقاية : التصوف " تجريد القلب لله واحتقار ما سواه بالنسبة إليه " . وقال بعضهم : " هو السلو عن الأعراض بالسمو إلى الأغراض " .
واختلاف التعريفات - كما يقول ابن أبي شريف - راجع إلى مقام من مقامات التصوف غلب على قائله النظر إليه ، فعرفه به باعتباره الركن الأعظم ، كما عرف النبي عليه الصلاة و السلام الحج بقوله : " الحج عرفة " باعتبار ركنه الأعظم .
وقد أشار البستي إلى هذا الخلاف في تعريف التصوف بقوله :
تخالف الناس في الصوفي واختلـــــفوا جهلاً وظنوه مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الإسم غير فتـــــــــى صاف فصوفي حتى سمي الصـــوفي
فإذا كان لنا أن نجري مقارنة حتى تتميز الأمور ، لأنه بذلك تتبين الأشياء ، فلنقل مع أبي حامد الغزالي : إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر وعلم باطن ، فعلم الظاهر هو أعمال الجوارح وعلم الباطن هو أعمال القلوب ، والوارد على القلوب - التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت - إما محمود أو مذموم .
فالتصوف هو النظر لأحوال القلوب ، كما أن النظر لأحوال أعمال الجوارح سمي فقها إذ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية .
ولا ينبغي التوقف عند الاسم والعنوان فلا مشاحة في الاصطلاح ، والأسماء إنما تعتبر بحسب محتواها وفحواها عند أهلها فإذا كان هذا المحتوى حسنا كانت الأسماء حسنة والعكس صحيح . ولعل ذلك مندرج في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها) .
فما هو فحوى التصوف وما هو محتواه ؟
إنه : صدق التوجه . إنه الإحسان الذي هو الجزء الثالث من أجزاء هذا الدين ، والذي كان حديث جبريل فيه يعتبر درس مراجعة لما درسه الصحابة في العشرين سنة السابقة . فقد جاء جبريل عليه السلام يسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يلخص رسالته العظيمة في الإسلام والإيمان والإحسان .
والإحسان كمال لا حدود له ، وتسامٍ لا سقف له فهو شعور بالحضور والشهود مقارناً للعبادة ، فلا العبادة في نفسها تمثل الإحسان ، ولا ذلك الشعور المتسامي والشهود المتعالي يمثل الإحسان حتى يجتمعا معاً ، وكانت كلمته عليه الصلاة والسلام إعجازاً " أن تعبد الله كأنك تراه " ، وهو يخاطب الأمة من خلال الروح الأمين الذي كان يصدقه في كل ما يقول ولهذا عجب الصحابة من هذا الطالب الغريب الذي يصدق الأستاذ : " عجبنا له يسأله ويصدقه " والمفروض أنه لا يعرف ما يسأل عنه . إن تصديقه له دليل على أنه على علم بما يسأل عنه .
والمعنى الذي أشرت إليه وهو مقارنة العبادة للشهود وإن كان غير متداول فقد أشار بعضهم إليه كسيدي أحمد زروق في القاعدة 21 حيث أشار إلى التلازم بين العلم والعمل قائلاً : وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس ، فالعمل شرط كماله ، وقد قيل : العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل .
كيف يتوصل إلى الإحسان الذي هو من أعمال القلوب ؟
إن الصوفية تقدم أنواعاً شتى من الوسائل مستقاة من الكتاب والسنة والتجارب الروحية الخاصة اعتمادا على قوله تعالى : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .
فجدوا في العبادة وألزموا أنفسهم الأوراد في الأوقات وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق .
وشددوا في الامتثال : فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الإعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة . والكلام للشاطبي في الموافقات.
واشتغلوا بالأذكار فرتعوا في رياض الجنة كما في الحديث الصحيح " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قيل : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر "
وكأن الشاطبي الآخر وهو الإمام أبو القاسم صاحب القرآن رحمه الله يعنيهم بقوله :
روى القلب ذكر الله فاستسـق مقبـلاً .... ولا تعـد روض الـذاكــــريـن فتـمحلا
ولهذا قال الجنيد رحمه الله : ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال ، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال .
فأصولهم في الكتاب والسنة وأفعال السلف قد تكون دقيقة وقد ضرب سيدي أحمد زروق في قواعده أمثلة في القاعدة 33 بقوله : ومثال الصوفي : حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار ، فقال : أبغني شاهداً. فقال : ( كفى بالله شهيداً )، فقال : أبغني كفيلاً ، فقال : ( كفى بالله كفيلاً ) . فرضي . ثم لما حضر الأجل ، خرج يلتمس مركباً فلم يجده ، فنقر خشبه ، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية ، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت . ثم جاءه بألف أخرى وفاء بحق الشريعة . أخرجه البخاري في جامعه .
ومنه : ( إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا ) ، فجعل متعلق الخوف وهو يوم القيامة مستقلاً عن الحامل على العمل وهو وجه الله والله أعلم .
وقد قال رجل للشلبي رحمه الله : كم في خمس من الإبل ؟ قال : شاة في الواجب ، فأما عندنا فكلها لله . قال له : فما أصلك في ذلك؟ قال : أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله . ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر ، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان ، ومن ترك الدنيا فليس بعلم . انتهى وهو عظيم في بابه. اهـ
وقد قال الجنيد : " علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه عن المتأدبين: أفسد من اتبعه " .
ولما كان الإحسان أعلى مرتبة في بناء هذا الدين لا يمكن أن يحلق إليها من لم يمر بمرتبتي الإسلام والإيمان فكيف يبني الدور الأعلى قبل بناء الأرضية ؟ ، ولهذا ذكره عليه الصلاة والسلام أخيرا لإشعار السامع بأنه لا مطمع في الإحسان لمن لم يتحل بالإسلام والإيمان ، وأنه درجة لا منتهى وراءها ولاغاية بعد مداها فلأجل ذلك كان التشبيه مشهداً من أحوال القلوب يملك على النفس أقطارها وترفع فيه الحجب أستارها " كأنك تراه " .
ولكنه عليه الصلاة والسلام ، لما رأى عز المقام ووعورة الطريق ، نزل بالسامع درجة وأشار له بأن دون ذلك رتبة ، لكنها تظل جليلة وهي رتبة العلم . فإن لم تكن مشاهداً فليكن في علمك أنه عليك شاهد . " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
فتصور أي إقبال وأي بهجة وأي هيبة لمن يرى الباري جل وعلا ، بل أي فناء وانمحاء للأكوان في هذه الحالة .
فالتصوف كحال ومقام هو ما تقدم ، ولكنه كعلم وعمل ومعاملة هو البحث عن طرق الوصول والممارسة بمختلف الوسائل التي سموها مقامات من توبة وصبر وشكر ويقين وصدق ومعرفة وتخلية وتحلية .
فاخلع نعال الكون جملة وجي تكن على طول المناجاة نجي
كما يقول للأخضري في القدسية .
فأحوال القلوب وحالات النفوس ووارداتها كلها لا يبحث عنها إلا في هذا العلم ولقد أشكل على البعض ممن لم تكمل معرفته ولم يتسع صدره .
فالإسلام المتمثل في أعمال الجوارح يخص علمها الباحث عنها بإسم علم الفقه . والإيمان يتعين بإسم أصول الدين وكذا الإحسان وضع له الباحثون عن طرق الوصول إليه علما أسموه التصوف .
البحث عن الإشراق وطريق المحبة
• حديث حنظلة قال : " لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات " . رواه مسلم .
• حديث أبي بن كعب قال : " كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه , ثم دخل رجل آخر , فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه , فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلت : يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه . فأمرهما رسول الله فقرءا فحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما فوقع في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية , فلما رأى رسول الله ما غشيني , ضرب في صدري ففضت عرقاً كأنما أنظر إلى الله فرقا " .... إلى آخر الحديث . رواه مسلم .
• وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : إن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله أخرجه البخاري. إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالاحتفاظ له بحق المحبة، (والذين آمنوا أشد حبا لله) وكما يقول ابن جزي: اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين إحداهما المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن وهي واجبة، والأخرى المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات وغاية المطلوبات فإن سائر مقامات الصالحين كالخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس.
• وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين ". رواه مسلم
• وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: " ويلك وما أعددت لها". قال ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله قال:" إنك مع من أحببت ". فقلنا ونحن كذلك؟ قال: نعم. ففرحنا يومئذ فرحا شديدا. رواه البخاري
• وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " وأسألك لذة النظر في وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة"
• وفي الحديث : " ليتني لقيت إخواني فإني أحبهم "، فقال أبو بكر: أليس نحن إخوانك، قال: لا. أنتم أصحابي، إخواني الذين لم يروني وآمنوا بي وصدقوني وأحبوني، حتى إني أحب إلى أحدهم من والده وولده ألا تحب يا أبا بكر قوما أحبوك بحبي إياك، قال بلى يا رسول لله قال فأحبهم ما أحبوك بحبي إياك ".(أبو نعيم في فضائل الصحابة عن نافع بن هرمز عن أنس، وأبو هرمز متروك أخرجه أيضا: ابن قدامة المقدسي في كتاب المتحابين في الله (1/70، رقم 78).
• وفي حديث أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال:" ما شئت". والحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك للحاكم.
هذا الفضاء المترع بالمحبة والمشرق بالأنوار وهذه الرؤى والأشواق والحب والشفافية ولواعج النفوس والإلهامات والمرائي والأسرار ليس لها ناظم يجمعها ولا سياق يسوقها بإزاء صور الأعمال مع الاعتراف بحاجة كل منهما للآخر، كما لا غنى للجسد عن الروح ولا للروح عن الجسد.
إنها كمالات تسعى إليها الهمم العالية ولهذا بحث العلماء عن ناظم يتمثل في علم له قواعده ومصطلحاته.فكانت أحيانا تأخذ عنوان " الرقائق " أو " الرقاق " كما في البخاري، وأحيانا تحت عنوان "الزهد" كما في كتب السنة القديمة. ثم استقر الاصطلاح على اسم " التصوف"، كما وصل علم الأحكام إلى اسم الفقه.
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
التأصيل الشرعي للتصوف
(1)
أيها الإخوة الأكارم
معالي الوزير
مقدمة
إن الخصومة الفكرية بين مختلف الطوائف الإسلامية لم تسلم منها طائفة , فلم يكن من الغريب ولا الشاذ أن تقحم الطائفة الصوفية في هذه الخصومة أصلاً وفرعاً . وفي هذه الكلمة إنما يستأثر باهتمامنا هو الأصل وليس الفروع ؛ لأن سلامة الأصل تيسر محاكمة الفروع على ضوئه ؛ لأن كل فرع مردود إلى أصله ومعتبر به . فإن وافقه حكم له بحكمه صوابه أو خطإه ، وإن لم يوافقه انتفى نسبه وانقطع سببه ، وحكم له بحكم نفسه ، ورد إلى نوعه وجنسه .
ولهذا فأول ما نفتتح به هذا البحث هو الإسم والعنوان : الصوفية والتصوف .
ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فلا بد من تعريف ماهيته بحد أو رسم أو تفسير ، كما يقول سيدي أحمد زروق .
وقد اختلف الناس في تعريف هذا اللفظ إلى ألفي قول ، كما يقول سيدي أحمد زروق في قواعده ، لكنه في نفس القاعدة يرده إلى صدق التوجه إلى الله تعالى وهو الإحسان .
قال السيوطي في النقاية : التصوف " تجريد القلب لله واحتقار ما سواه بالنسبة إليه " . وقال بعضهم : " هو السلو عن الأعراض بالسمو إلى الأغراض " .
واختلاف التعريفات - كما يقول ابن أبي شريف - راجع إلى مقام من مقامات التصوف غلب على قائله النظر إليه ، فعرفه به باعتباره الركن الأعظم ، كما عرف النبي عليه الصلاة و السلام الحج بقوله : " الحج عرفة " باعتبار ركنه الأعظم .
وقد أشار البستي إلى هذا الخلاف في تعريف التصوف بقوله :
تخالف الناس في الصوفي واختلـــــفوا جهلاً وظنوه مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الإسم غير فتـــــــــى صاف فصوفي حتى سمي الصـــوفي
فإذا كان لنا أن نجري مقارنة حتى تتميز الأمور ، لأنه بذلك تتبين الأشياء ، فلنقل مع أبي حامد الغزالي : إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر وعلم باطن ، فعلم الظاهر هو أعمال الجوارح وعلم الباطن هو أعمال القلوب ، والوارد على القلوب - التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت - إما محمود أو مذموم .
فالتصوف هو النظر لأحوال القلوب ، كما أن النظر لأحوال أعمال الجوارح سمي فقها إذ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية .
ولا ينبغي التوقف عند الاسم والعنوان فلا مشاحة في الاصطلاح ، والأسماء إنما تعتبر بحسب محتواها وفحواها عند أهلها فإذا كان هذا المحتوى حسنا كانت الأسماء حسنة والعكس صحيح . ولعل ذلك مندرج في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها) .
فما هو فحوى التصوف وما هو محتواه ؟
إنه : صدق التوجه . إنه الإحسان الذي هو الجزء الثالث من أجزاء هذا الدين ، والذي كان حديث جبريل فيه يعتبر درس مراجعة لما درسه الصحابة في العشرين سنة السابقة . فقد جاء جبريل عليه السلام يسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يلخص رسالته العظيمة في الإسلام والإيمان والإحسان .
والإحسان كمال لا حدود له ، وتسامٍ لا سقف له فهو شعور بالحضور والشهود مقارناً للعبادة ، فلا العبادة في نفسها تمثل الإحسان ، ولا ذلك الشعور المتسامي والشهود المتعالي يمثل الإحسان حتى يجتمعا معاً ، وكانت كلمته عليه الصلاة والسلام إعجازاً " أن تعبد الله كأنك تراه " ، وهو يخاطب الأمة من خلال الروح الأمين الذي كان يصدقه في كل ما يقول ولهذا عجب الصحابة من هذا الطالب الغريب الذي يصدق الأستاذ : " عجبنا له يسأله ويصدقه " والمفروض أنه لا يعرف ما يسأل عنه . إن تصديقه له دليل على أنه على علم بما يسأل عنه .
والمعنى الذي أشرت إليه وهو مقارنة العبادة للشهود وإن كان غير متداول فقد أشار بعضهم إليه كسيدي أحمد زروق في القاعدة 21 حيث أشار إلى التلازم بين العلم والعمل قائلاً : وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس ، فالعمل شرط كماله ، وقد قيل : العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل .
كيف يتوصل إلى الإحسان الذي هو من أعمال القلوب ؟
إن الصوفية تقدم أنواعاً شتى من الوسائل مستقاة من الكتاب والسنة والتجارب الروحية الخاصة اعتمادا على قوله تعالى : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .
فجدوا في العبادة وألزموا أنفسهم الأوراد في الأوقات وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق .
وشددوا في الامتثال : فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الإعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة . والكلام للشاطبي في الموافقات.
واشتغلوا بالأذكار فرتعوا في رياض الجنة كما في الحديث الصحيح " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قيل : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر "
وكأن الشاطبي الآخر وهو الإمام أبو القاسم صاحب القرآن رحمه الله يعنيهم بقوله :
روى القلب ذكر الله فاستسـق مقبـلاً .... ولا تعـد روض الـذاكــــريـن فتـمحلا
ولهذا قال الجنيد رحمه الله : ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال ، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال .
فأصولهم في الكتاب والسنة وأفعال السلف قد تكون دقيقة وقد ضرب سيدي أحمد زروق في قواعده أمثلة في القاعدة 33 بقوله : ومثال الصوفي : حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار ، فقال : أبغني شاهداً. فقال : ( كفى بالله شهيداً )، فقال : أبغني كفيلاً ، فقال : ( كفى بالله كفيلاً ) . فرضي . ثم لما حضر الأجل ، خرج يلتمس مركباً فلم يجده ، فنقر خشبه ، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية ، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت . ثم جاءه بألف أخرى وفاء بحق الشريعة . أخرجه البخاري في جامعه .
ومنه : ( إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا ) ، فجعل متعلق الخوف وهو يوم القيامة مستقلاً عن الحامل على العمل وهو وجه الله والله أعلم .
وقد قال رجل للشلبي رحمه الله : كم في خمس من الإبل ؟ قال : شاة في الواجب ، فأما عندنا فكلها لله . قال له : فما أصلك في ذلك؟ قال : أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله . ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر ، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان ، ومن ترك الدنيا فليس بعلم . انتهى وهو عظيم في بابه. اهـ
وقد قال الجنيد : " علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه عن المتأدبين: أفسد من اتبعه " .
ولما كان الإحسان أعلى مرتبة في بناء هذا الدين لا يمكن أن يحلق إليها من لم يمر بمرتبتي الإسلام والإيمان فكيف يبني الدور الأعلى قبل بناء الأرضية ؟ ، ولهذا ذكره عليه الصلاة والسلام أخيرا لإشعار السامع بأنه لا مطمع في الإحسان لمن لم يتحل بالإسلام والإيمان ، وأنه درجة لا منتهى وراءها ولاغاية بعد مداها فلأجل ذلك كان التشبيه مشهداً من أحوال القلوب يملك على النفس أقطارها وترفع فيه الحجب أستارها " كأنك تراه " .
ولكنه عليه الصلاة والسلام ، لما رأى عز المقام ووعورة الطريق ، نزل بالسامع درجة وأشار له بأن دون ذلك رتبة ، لكنها تظل جليلة وهي رتبة العلم . فإن لم تكن مشاهداً فليكن في علمك أنه عليك شاهد . " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
فتصور أي إقبال وأي بهجة وأي هيبة لمن يرى الباري جل وعلا ، بل أي فناء وانمحاء للأكوان في هذه الحالة .
فالتصوف كحال ومقام هو ما تقدم ، ولكنه كعلم وعمل ومعاملة هو البحث عن طرق الوصول والممارسة بمختلف الوسائل التي سموها مقامات من توبة وصبر وشكر ويقين وصدق ومعرفة وتخلية وتحلية .
فاخلع نعال الكون جملة وجي تكن على طول المناجاة نجي
كما يقول للأخضري في القدسية .
فأحوال القلوب وحالات النفوس ووارداتها كلها لا يبحث عنها إلا في هذا العلم ولقد أشكل على البعض ممن لم تكمل معرفته ولم يتسع صدره .
فالإسلام المتمثل في أعمال الجوارح يخص علمها الباحث عنها بإسم علم الفقه . والإيمان يتعين بإسم أصول الدين وكذا الإحسان وضع له الباحثون عن طرق الوصول إليه علما أسموه التصوف .
البحث عن الإشراق وطريق المحبة
• حديث حنظلة قال : " لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات " . رواه مسلم .
• حديث أبي بن كعب قال : " كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه , ثم دخل رجل آخر , فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه , فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلت : يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه . فأمرهما رسول الله فقرءا فحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما فوقع في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية , فلما رأى رسول الله ما غشيني , ضرب في صدري ففضت عرقاً كأنما أنظر إلى الله فرقا " .... إلى آخر الحديث . رواه مسلم .
• وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : إن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله أخرجه البخاري. إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالاحتفاظ له بحق المحبة، (والذين آمنوا أشد حبا لله) وكما يقول ابن جزي: اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين إحداهما المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن وهي واجبة، والأخرى المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات وغاية المطلوبات فإن سائر مقامات الصالحين كالخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس.
• وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين ". رواه مسلم
• وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: " ويلك وما أعددت لها". قال ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله قال:" إنك مع من أحببت ". فقلنا ونحن كذلك؟ قال: نعم. ففرحنا يومئذ فرحا شديدا. رواه البخاري
• وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " وأسألك لذة النظر في وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة"
• وفي الحديث : " ليتني لقيت إخواني فإني أحبهم "، فقال أبو بكر: أليس نحن إخوانك، قال: لا. أنتم أصحابي، إخواني الذين لم يروني وآمنوا بي وصدقوني وأحبوني، حتى إني أحب إلى أحدهم من والده وولده ألا تحب يا أبا بكر قوما أحبوك بحبي إياك، قال بلى يا رسول لله قال فأحبهم ما أحبوك بحبي إياك ".(أبو نعيم في فضائل الصحابة عن نافع بن هرمز عن أنس، وأبو هرمز متروك أخرجه أيضا: ابن قدامة المقدسي في كتاب المتحابين في الله (1/70، رقم 78).
• وفي حديث أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال:" ما شئت". والحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك للحاكم.
هذا الفضاء المترع بالمحبة والمشرق بالأنوار وهذه الرؤى والأشواق والحب والشفافية ولواعج النفوس والإلهامات والمرائي والأسرار ليس لها ناظم يجمعها ولا سياق يسوقها بإزاء صور الأعمال مع الاعتراف بحاجة كل منهما للآخر، كما لا غنى للجسد عن الروح ولا للروح عن الجسد.
إنها كمالات تسعى إليها الهمم العالية ولهذا بحث العلماء عن ناظم يتمثل في علم له قواعده ومصطلحاته.فكانت أحيانا تأخذ عنوان " الرقائق " أو " الرقاق " كما في البخاري، وأحيانا تحت عنوان "الزهد" كما في كتب السنة القديمة. ثم استقر الاصطلاح على اسم " التصوف"، كما وصل علم الأحكام إلى اسم الفقه.