ابن المدينة
07-15-2010, 07:27 AM
يوم السقيفة الذي اجتمع فيه بعض المهاجرين مع جماعة من الأنصار رضي الله عنهم يوم أغرّ أبلج، مشرق يومه، ومزهر ليله، تمكن فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسقاط إرث الجاهلية وعاداتها وتقاليدها وثقافتها في اختيار سادتها وقادتها وأئمتها، يوم انتصر فيه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمخت فيه الشورى، وتألق فيه الحوار العلمي الشرعي العملي الهادف المثمر، يوم ظهر فيه الانقياد إلى الدليل الشرعي المنبثق من صفحات الكتاب والسنة، وأُقصي فيه المفهوم القبلي والحزبي والطائفي والإقليمي، وتقدمت فيه الكفاءة المجردة على ما سواها من وسائل الوصول إلى قيادة الأمة، فسقط في يوم السقيفة العرف القائل بأن الامبراطور يلد امبراطوراً وبأن السلطان حكرٌ على أبناء الذوات أو أبناء الطائفة حتى لو كانوا من القاصرين أو العجزة أو المتبذلين، أو ممن تعبث بهم قوى خارجة عن إطار الأمة ومتناقضة مع مصالحها وهويتها وغريبة عن عقيدتها أو محاربة لها، وكل ذلك يثبت رسوخ قيم الرسالة في قلوب الصحابة وأفعالهم ومواقفهم على المستويات كافة، ولا سيما قيم الحوار والشورى والانقياد لنتائجها، مصداقاً لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى: 38).
فيوم السقيفة تجلّت فيه طاقات أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وعميق فهمه، وقدراته القياديه الشورية التحاورية الخارقة، ومكانته الباذخة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رضي الله عنه كان فلتة من فلتات الزمان التي لن يجود بمثلها، في علمه وفهمه، وحلمه ونباهته، وتمسكه بعقيدته، وحرصه على وحدة أمته؛ وعلى وجوب سيرها على منهج نبيها صلى الله عليه وسلم من غير تبديل، فاعتزّ في ذلك اليوم الإسلام وأهله، وذلت فيه الجاهلية وامتداداتها ومراجعها، تأكد ذلك حين انقاد الجميع لحجج خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه القطعية التي لا تقبل تأويلاً ولا تفسيراً، بل كانت بيّنات واضحات وشموس ساطعات، استنار بها المؤمنون، وأعادت بوهج أنوارها التائهين والمترددين إلى صف الأمة وجماعة المسلمين.
فيوم السقيفة أثبت للمسلين أنهم في قيمهم السامية، هم الأرقى والأنقى والأتقى، وفي تعاملهم هم الأوفى والأرحم، وأن منظومتهم الأخلاقية الإسلامية برجالها وقيمها هي الأولى بسياسة الدنيا وقيادة البشرية، وكل ذلك اتضح وتبلور في عصر لا حكم فيه عند قياصرة الصليب وأكاسرة المجوس وغيرهم من عباد الوثن في شؤون الحكم وتداول السلطة إلا للسيف أو المكر والخديعة والمساومات الهابطة التي تجتاح القيم وتُسقط مصالح الشعوب والأمم، وتبتز الضعفاء والأتباع ومن لا ناصر له، لكل هذا ولغيره أصبح يوم السقيفة هدفاً لبهتان أعداء الصحابة ومن يتبنى شبهاتهم وأباطيلهم من المستشرقين العلمانيين، واليهود، والصليبيين، لينزعوا من ميراث أمة الكتاب والسنة، كل ما يؤهلها للسيادة والقيادة ويرفع من شأنها ويشيد بنيانها، مما يوجب على كل مسلم أن يثق بميراث الصحابة رضي الله عنهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن الميراث العسكري في الجهاد والفتوح الذي لا يجهله إلا من في قلبه مرض، وأن يعلم الجميع يقيناً أنّ ذلك الميراث الأشم هو محل القدوة والصدارة لكل ميراث أنتجته حضارة إنسانية على مر العصور.
وكان من شأن السقيفة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه مريضاً فاجتمع عنده بعض الأنصار رضي الله عنهم وكان من الطبيعي أن يتحدثوا بأمر خلافة النبي صلى الله عليه وسلم وبمن هو الأصلح لذلك والأولى به، فكان ذلك المجلس منتدى عرضت فيه بعض الأفكار والمقترحات التي جرت على ألسنة من تحدث بها، ولم تكن لها أية امتدادات فكرية ولا تجمعات قبلية أو تحالفات حزبية، وإنما أفكار بريئة تؤكد حرص المشاركين فيها على خدمة دينهم ووحدة أمتهم بكل أمانة وشفافية، لكن أعداء الصحابة وإخوانهم المستشرقين اهتبلوا ذلك المجلس وتلك الآراء، ليصنعوا منها وقائع تعبر عما في نفوسهم من أحقاد على هذه الأمة، وأماني يتمنونها في تمزق صفها، وانصرافها عن كتاب ربها وسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى خيب آمالهم وآمانيهم، حين جاء بعض الأنصار إلى عمر الفاروق ليخبره بأن هناك أفكارا تطرح حول خلافة النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، فأخبر عمر أبا بكر الصدّيق رضي الله عنهما فسارا إلى إخوانهم الأنصار فتبعهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، أما عامة الصحابة فكانوا مشغولين في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان في المسجد يذكر الله تعالى ويستعين بالصبر والصلاة على ما أصاب المسلمين من مصيبة لن يصابوا بمثلها أبدا.
فما إن وصل الصدّيق والفاروق والأمين رضي الله عنهم حتى شاركوا إخوانهم الأنصار فيما كانوا يتحدثون به من أمر الخلافة إذ أنّه أمر لا يمكن إلا التحدث به، ولا يمكن السكوت عنه، سواء طرحه عامة الأنصار أو بعضهم أو غيرهم، فكان ذلك المجلس بركة على أمّة الكتاب والسنّة، وأساساً صلباً لتأصيل أخلاق الشورى والحوار في الأمة، وخيراً ساقه الله إلى المصابين بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث بيّن وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لإخوانهم الأنصار ولأبناء أمتهم أهميّة الخلافة وما سيتبع ذلك من مهام وأعمال، ثم بينوا لهم الأولى والأصلح للأمة شرعاً وسياسة، فما كان من الجميع إلا أن التفّوا حول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديقرضي الله عنه، الذي يعلم الجميع أنه هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما كان يقوم به من جهاد وسياسة وتدبير لشؤون الأمة، وهو الأدرى بما كان يستشرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يصلح عليها مستقبل أمته، فلم يكن بين الصحابة من يقبل التقدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك أن إشارات الكتاب والسنة جلية بينة لا يمكن لمؤمن تجاوزها.
فيوم السقيفة يوم فريد بين أيام المجد الإسلامي الذي سطره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم تعانق فيه المهاجرون والأنصار يجددون فيه العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلمأخوّة وإيثاراً وصبراً وإبداعاً وجهاداً وعدلاً وفتوحاً ورحمة، يوم سادت فيه قيم الكتاب والسنة في إقرار نظام المحاسبة الشاملة للخليفة وللولاة وخضوع الجميع لدستور الكتاب والسنة، وعلى ذات الطريق التي رسمها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم يؤكدون ذلك لأمتهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم قبل أن يوارى الثرى، لتتساقط في ذلك اليوم الأغر أماني المنافقين، وتتهاوى فيه مخططات المرتدين، وتتقاصر فيه تطلعات اليهود والصليبيين، وتُسحق فيه تدابير المجوس الحاقدين الذين انقلبوا من بين النّاس إلى أعداء باطنية، ومنظمات سبئية، وضغائن شعوبية، وأدوات جاسوسية، وعقائد قبورية، وتحالفات عدوانية، لا همّ لها سوى الكيد والمكر بأمّة الكتاب والسنّة النبوية! جاحدين أيادي العرب المؤمنين الفاتحين الذين حرروهم من طغيان الأكاسرة، وأخرجوهم إلى عدل الخلافة الراشدة، ومن وثنية عبادة النار، إلى نور التوحيد والإخلاص لله رب العالمين، ومن الإباحية والمشاعية الأخلاقية التي كانوا عليها، إلى العفاف والطهر والمودة والرحمة، فكافؤوا من أنقذهم من تلك الظلمات والموبقات، بالغدر والاغتيال، والإفك والبهتان، فضلاً عن التزييف والتشويه لجهادهم وعدلهم ونبل معدنهم الذي تعاملوا به معهم، فأعداء الشورى التي أُنجزت يوم السقيفة، ومبغضو رجالها البررة، كانوا ولا زالوا أكثر الناس جحوداً ونكراناً للجميل والمعروف ولحقوق الجوار، وألدهم عداوة لمن أحسن إليهم من أمة الكتاب والسنة.
فلما كان أعداء الصحابة وبجميع أصنافهم يعلمون جيداً أنّ يوم السقيفة بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يوم من أيام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، شنّوا عليه حملات الإفك والبهتان والتزييف والنكران! لكنهم اصطدموا بما له رضي الله عنه من مكانة أسس لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلته في قلوب المؤمنين وفي ضمائر الموحدين، فلم يدع النّبي صلى الله عليه وسلم مناسبة ذات شأن تمر بالمسلمين إلا وأكد على تقديم صاحبه الصدّيق رضي الله عنه فيها؛ تارة بالتطبيق كما في تأميره على الحج، وفي تقديمه إماماً للصلاة بالأمة وبحضور أئمة الصحابة وقادتهم ورجال آل البيت وسادتهم، وفي مقدمتهم العباس وعلي رضي الله عن الآل والصحب جميعاً، وتارة أخرى بالقول أو الإشارة إلى ذلك بعلامات واضحة ثابتة، كما هو في الصحيحين والسنن، وبما لا يمكن لجاحد ردها، ولا لمؤمنن الجهل بها.
ظهر ذلك في عامة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلمفضلاً عمّا ورد من إشارات على ذلك في القرآن الكريم، لهذا فلا تردد في تقديم أبي بكر رضي الله عنه على سائر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تهاون في البراءة ممن يرفض خلافته في الماضي والحاضر، بل إنّ أي تهاون أو تردد في ذلك إنما هو قبول بنقض إقرار وخيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ لإجماع المهاجرين والأنصار، وهدم لبناء الأمة في عصور خيريتها التي لا زالت هي الأساس الذي يجب أن يشيد عليه اللاحقون في المعتقد والفكر والهوية، فلا يرفض نتائج الشورى يوم السقيفة إلا مرتد أو من في قلبه مرض، أو ضال تائه لا قيمة لأقواله ولا لمواقفه في موازين العقيدة والقيم، فمسألة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا تقبل نقاشاً ولا حواراً فهي من المسلّمات التي تلقتها أمّة الكتاب والسنّة بالقبول والتسليم والرضا، والحمد لها ولكل ما تمخض عنها من قرارات حاسمة ونتائج مفعمة بالعطاء والسداد والتوفيق، فلم يخرج على تلك الخلافة الراشدة إلا مسيلمة الكذاب ومن وافقه من المرتدين والمنافقين، وهذا يؤكد وجوب الحذر ممن يدعو إلى إخضاع مثل هذه المسلمات للآراء القاصرة، أو للروايات الفاسدة المبنية على نوايا ومقاصد سيئة، ظهرت في معتقدات وثقافة في مثل متاهات التقريب المخادعة، التي يعمل أدواتها على تقزيم السنّة النبوية ورجالها الأفذاذ، وتضخيم وإقرار البدع السبئية وأقزامها الأشرار، والتطاول على خيار رسول الله صلى الله عليه وسلموإجماع المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم من أمّة النّبي المختار صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). منقول من الراصد نت
فيوم السقيفة تجلّت فيه طاقات أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وعميق فهمه، وقدراته القياديه الشورية التحاورية الخارقة، ومكانته الباذخة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رضي الله عنه كان فلتة من فلتات الزمان التي لن يجود بمثلها، في علمه وفهمه، وحلمه ونباهته، وتمسكه بعقيدته، وحرصه على وحدة أمته؛ وعلى وجوب سيرها على منهج نبيها صلى الله عليه وسلم من غير تبديل، فاعتزّ في ذلك اليوم الإسلام وأهله، وذلت فيه الجاهلية وامتداداتها ومراجعها، تأكد ذلك حين انقاد الجميع لحجج خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه القطعية التي لا تقبل تأويلاً ولا تفسيراً، بل كانت بيّنات واضحات وشموس ساطعات، استنار بها المؤمنون، وأعادت بوهج أنوارها التائهين والمترددين إلى صف الأمة وجماعة المسلمين.
فيوم السقيفة أثبت للمسلين أنهم في قيمهم السامية، هم الأرقى والأنقى والأتقى، وفي تعاملهم هم الأوفى والأرحم، وأن منظومتهم الأخلاقية الإسلامية برجالها وقيمها هي الأولى بسياسة الدنيا وقيادة البشرية، وكل ذلك اتضح وتبلور في عصر لا حكم فيه عند قياصرة الصليب وأكاسرة المجوس وغيرهم من عباد الوثن في شؤون الحكم وتداول السلطة إلا للسيف أو المكر والخديعة والمساومات الهابطة التي تجتاح القيم وتُسقط مصالح الشعوب والأمم، وتبتز الضعفاء والأتباع ومن لا ناصر له، لكل هذا ولغيره أصبح يوم السقيفة هدفاً لبهتان أعداء الصحابة ومن يتبنى شبهاتهم وأباطيلهم من المستشرقين العلمانيين، واليهود، والصليبيين، لينزعوا من ميراث أمة الكتاب والسنة، كل ما يؤهلها للسيادة والقيادة ويرفع من شأنها ويشيد بنيانها، مما يوجب على كل مسلم أن يثق بميراث الصحابة رضي الله عنهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن الميراث العسكري في الجهاد والفتوح الذي لا يجهله إلا من في قلبه مرض، وأن يعلم الجميع يقيناً أنّ ذلك الميراث الأشم هو محل القدوة والصدارة لكل ميراث أنتجته حضارة إنسانية على مر العصور.
وكان من شأن السقيفة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه مريضاً فاجتمع عنده بعض الأنصار رضي الله عنهم وكان من الطبيعي أن يتحدثوا بأمر خلافة النبي صلى الله عليه وسلم وبمن هو الأصلح لذلك والأولى به، فكان ذلك المجلس منتدى عرضت فيه بعض الأفكار والمقترحات التي جرت على ألسنة من تحدث بها، ولم تكن لها أية امتدادات فكرية ولا تجمعات قبلية أو تحالفات حزبية، وإنما أفكار بريئة تؤكد حرص المشاركين فيها على خدمة دينهم ووحدة أمتهم بكل أمانة وشفافية، لكن أعداء الصحابة وإخوانهم المستشرقين اهتبلوا ذلك المجلس وتلك الآراء، ليصنعوا منها وقائع تعبر عما في نفوسهم من أحقاد على هذه الأمة، وأماني يتمنونها في تمزق صفها، وانصرافها عن كتاب ربها وسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى خيب آمالهم وآمانيهم، حين جاء بعض الأنصار إلى عمر الفاروق ليخبره بأن هناك أفكارا تطرح حول خلافة النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، فأخبر عمر أبا بكر الصدّيق رضي الله عنهما فسارا إلى إخوانهم الأنصار فتبعهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، أما عامة الصحابة فكانوا مشغولين في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان في المسجد يذكر الله تعالى ويستعين بالصبر والصلاة على ما أصاب المسلمين من مصيبة لن يصابوا بمثلها أبدا.
فما إن وصل الصدّيق والفاروق والأمين رضي الله عنهم حتى شاركوا إخوانهم الأنصار فيما كانوا يتحدثون به من أمر الخلافة إذ أنّه أمر لا يمكن إلا التحدث به، ولا يمكن السكوت عنه، سواء طرحه عامة الأنصار أو بعضهم أو غيرهم، فكان ذلك المجلس بركة على أمّة الكتاب والسنّة، وأساساً صلباً لتأصيل أخلاق الشورى والحوار في الأمة، وخيراً ساقه الله إلى المصابين بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث بيّن وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لإخوانهم الأنصار ولأبناء أمتهم أهميّة الخلافة وما سيتبع ذلك من مهام وأعمال، ثم بينوا لهم الأولى والأصلح للأمة شرعاً وسياسة، فما كان من الجميع إلا أن التفّوا حول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديقرضي الله عنه، الذي يعلم الجميع أنه هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما كان يقوم به من جهاد وسياسة وتدبير لشؤون الأمة، وهو الأدرى بما كان يستشرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يصلح عليها مستقبل أمته، فلم يكن بين الصحابة من يقبل التقدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك أن إشارات الكتاب والسنة جلية بينة لا يمكن لمؤمن تجاوزها.
فيوم السقيفة يوم فريد بين أيام المجد الإسلامي الذي سطره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم تعانق فيه المهاجرون والأنصار يجددون فيه العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلمأخوّة وإيثاراً وصبراً وإبداعاً وجهاداً وعدلاً وفتوحاً ورحمة، يوم سادت فيه قيم الكتاب والسنة في إقرار نظام المحاسبة الشاملة للخليفة وللولاة وخضوع الجميع لدستور الكتاب والسنة، وعلى ذات الطريق التي رسمها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم يؤكدون ذلك لأمتهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم قبل أن يوارى الثرى، لتتساقط في ذلك اليوم الأغر أماني المنافقين، وتتهاوى فيه مخططات المرتدين، وتتقاصر فيه تطلعات اليهود والصليبيين، وتُسحق فيه تدابير المجوس الحاقدين الذين انقلبوا من بين النّاس إلى أعداء باطنية، ومنظمات سبئية، وضغائن شعوبية، وأدوات جاسوسية، وعقائد قبورية، وتحالفات عدوانية، لا همّ لها سوى الكيد والمكر بأمّة الكتاب والسنّة النبوية! جاحدين أيادي العرب المؤمنين الفاتحين الذين حرروهم من طغيان الأكاسرة، وأخرجوهم إلى عدل الخلافة الراشدة، ومن وثنية عبادة النار، إلى نور التوحيد والإخلاص لله رب العالمين، ومن الإباحية والمشاعية الأخلاقية التي كانوا عليها، إلى العفاف والطهر والمودة والرحمة، فكافؤوا من أنقذهم من تلك الظلمات والموبقات، بالغدر والاغتيال، والإفك والبهتان، فضلاً عن التزييف والتشويه لجهادهم وعدلهم ونبل معدنهم الذي تعاملوا به معهم، فأعداء الشورى التي أُنجزت يوم السقيفة، ومبغضو رجالها البررة، كانوا ولا زالوا أكثر الناس جحوداً ونكراناً للجميل والمعروف ولحقوق الجوار، وألدهم عداوة لمن أحسن إليهم من أمة الكتاب والسنة.
فلما كان أعداء الصحابة وبجميع أصنافهم يعلمون جيداً أنّ يوم السقيفة بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يوم من أيام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، شنّوا عليه حملات الإفك والبهتان والتزييف والنكران! لكنهم اصطدموا بما له رضي الله عنه من مكانة أسس لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلته في قلوب المؤمنين وفي ضمائر الموحدين، فلم يدع النّبي صلى الله عليه وسلم مناسبة ذات شأن تمر بالمسلمين إلا وأكد على تقديم صاحبه الصدّيق رضي الله عنه فيها؛ تارة بالتطبيق كما في تأميره على الحج، وفي تقديمه إماماً للصلاة بالأمة وبحضور أئمة الصحابة وقادتهم ورجال آل البيت وسادتهم، وفي مقدمتهم العباس وعلي رضي الله عن الآل والصحب جميعاً، وتارة أخرى بالقول أو الإشارة إلى ذلك بعلامات واضحة ثابتة، كما هو في الصحيحين والسنن، وبما لا يمكن لجاحد ردها، ولا لمؤمنن الجهل بها.
ظهر ذلك في عامة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلمفضلاً عمّا ورد من إشارات على ذلك في القرآن الكريم، لهذا فلا تردد في تقديم أبي بكر رضي الله عنه على سائر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تهاون في البراءة ممن يرفض خلافته في الماضي والحاضر، بل إنّ أي تهاون أو تردد في ذلك إنما هو قبول بنقض إقرار وخيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ لإجماع المهاجرين والأنصار، وهدم لبناء الأمة في عصور خيريتها التي لا زالت هي الأساس الذي يجب أن يشيد عليه اللاحقون في المعتقد والفكر والهوية، فلا يرفض نتائج الشورى يوم السقيفة إلا مرتد أو من في قلبه مرض، أو ضال تائه لا قيمة لأقواله ولا لمواقفه في موازين العقيدة والقيم، فمسألة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا تقبل نقاشاً ولا حواراً فهي من المسلّمات التي تلقتها أمّة الكتاب والسنّة بالقبول والتسليم والرضا، والحمد لها ولكل ما تمخض عنها من قرارات حاسمة ونتائج مفعمة بالعطاء والسداد والتوفيق، فلم يخرج على تلك الخلافة الراشدة إلا مسيلمة الكذاب ومن وافقه من المرتدين والمنافقين، وهذا يؤكد وجوب الحذر ممن يدعو إلى إخضاع مثل هذه المسلمات للآراء القاصرة، أو للروايات الفاسدة المبنية على نوايا ومقاصد سيئة، ظهرت في معتقدات وثقافة في مثل متاهات التقريب المخادعة، التي يعمل أدواتها على تقزيم السنّة النبوية ورجالها الأفذاذ، وتضخيم وإقرار البدع السبئية وأقزامها الأشرار، والتطاول على خيار رسول الله صلى الله عليه وسلموإجماع المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم من أمّة النّبي المختار صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). منقول من الراصد نت