أبو عقاب الشامي
05-16-2010, 09:25 AM
السلام عليكم
تعقيبا على مقالة لأحد المفكرين الذي ينكر وجود العلة الغائية في الوجود أي يجعل تصرفات الأشياء وسلوكها تجري دون تخطيط فكري مسبق.
وبهذه المناسبة -وردا على إنكار فكرة الغائية- فأود أن اسرد على حضراتكم القصة التالية:
مر رجل بأرض موات فوجد بقربها نبعا من الماء فحدثته نفسه بأن يقوم بإحياء هذه الأرض فعزم أن يزرعها ويسقيها بهذا الماء المتدفق الجاري، وكان أن فعل فقام باستغلال الماء لسقي مزروعاته في تلك الأرض وأخذت الحياة تدب فيها بعد أن كانت مواتا بورا.
مرت أيام وأيام إلى أن مر بهذا الرجل جار قريب، فسلم عليه متعرفا سائلا إياه ماذا ينوي أن يفعل بهذه الأرض، فأجابه الرجل بما يدور في رأسه من خطط مستقبلية من زراعة للأشجار والمحاصيل والخضار والفواكه مستبشرا بما سيجني من أرباح بعد حصادها. فسأله ذلك الجار عن مصدر المياه فقال له: أنه نبع ماء وجده بقرب الأرض، فابدي الجار استغرابه وصحبه لرؤية ذلك النبع، فلما وصلا فإذا هما بماء يخرج من باطن الأرض ويتدفق ويشق طريقه مشكلا مجرى خاصا به كما يشكل النهر مجراه.
استدرك الجار قائلا ولكنني أعيش في هذا الجزء من البلدة منذ سنين عديدة، ولم تلحظ عيناي وجود نبع للماء فيها، فلربما هناك سبب يفسر وجود هذا الماء، وقد أخذ الفكر بالجار لتذكر قيام البلدية بتنفيذ مشروعا للماء في تلك المنطقة قبل بضعة سنين، وقد يكون هذا الماء ليس بنبع بل إنه ماء متدفق من أنبوب مدفون في باطن الأرض، فطلب من الرجل حفر الأرض ليكتشف بنفسه مصدر الماء.
قام الرجل بالحفر فوجد أن الماء يتدفق فعلا من أنبوب من جوف هذه الأرض، فطلب منه جاره أن يذهب للبلدية فيطلب منهم أن يمدوه بوصلة رسمية وعداد للمياه مقابل أن يدفع ثمن من يستهلكه من كمية. فما كان من الرجل إلا أن رفض ذلك بحجة أن هذا الماء ليس ملكا للبلدية وأن له الحق في استغلاله ما دام يخرج طبيعيا من الأرض وينزل طبيعيا من السماء الدنيا، مضمرا في نفسه -لقصر نظره- أن لا يدفع ثمن شيء يأتي إليه الآن مجانا بلا ثمن، فلماذا يكلف نفسه تكاليف وأعباء وأثمانا هو في غنى عنها.
أخبره الجار بأن هناك لجنة صيانة بلدية تفحص الشبكات دوريا كل فترة، وأنهم إذا اكتشفوا أمرة فيحاسب وسيعاقب على فعلته ومن ثم سيدفع الثمن مضاعفا. أخذت الرجل العزة بالإثم وأخذ يعاند الجار ويصد عن نفسه بحجج علمية، ويحاول أن يقنع الجار بأن الماء يخرج طبيعيا وعشوائيا من أرضه وليس لأحد فضل عليه، وأن هذا الماء الخارج من الأنبوب ليس ملكا لأحد ولا غاية لأحد في دفن أنبوب تحت الثرى، بل هو موجود هكذا وفق قوانين الفيزيائية والكيميائية للطبيعة التي تتفاعل فيما بينها لتشكل عناصرها ومنها الماء ثم يجري هذا الماء عبر الصخور والتربة ثم يخرج من مناطق الشقوق الأرضية وفق علوم الأرض والجيولوجيا ودورة المياه الطبيعية المعروفة.
قال له جاره: يا صاحبي ولكن هذا الماء ليس ماء الطبيعة المملوك ملكية عامة لكل الناس ينتفعون منه، بل هذا ماء له خصوصية يسير في نظام أنجزته البلدية بهدف أن تمد الناس بالماء للشرب لسد حاجاتهم، وأنه باستطاعته أن يريه بنفسه هذا النظام المائي التابع للبلدة، وكيف أنه نظام وجد من قبل جهة منظمة حكيمة تدرس وتخطط وتنفَّذ وتستثمر الأموال وتستقدم مهندسين خبراء في هذا المجال يعرفون قوانين الماء والجيولوجيا ويستخدمون هذه القوانين لغاية وهدف فليس الأمر عشواء وهناك فرق تسهر على تشغيل وصيانة هذا النظام المائي.
وإثر هذا الجدال فقد اتفقا -من أجل أن يقنع أحدهما صاحبه- بأن يقوما بزيارة للنظام المائي ابتداء من نقطة خروج الماء، فسارا مشيا على الأقدام، وأخذ الجار يشرح له أن هذا الأنبوب جزء من نظام شبكة المياه وهو يتفرع من خط أكبر منه تحت الطريق الرئيسي، فأخذ يعاند ويقول ولكني لماذا لا يكون وجوده وضعا طبيعيا بفعل قوانين الفيزياء التي فعلت فعلها خلال عشرات الآلاف من السنين قبل أن يوجد بشر في هذه البلدة.
ثم مضيا ووصلا إلى خزان الماء الذي يعلو الجبل ويزود البلدة جميعها بالمياه، فقال له الجار: هذا الخزان الذي تراه خطط وبني لهدف وهو أن يكون قادرا على حفظ الماء اللازم لسقاية جميع سكان البلدة لمدة يوم ونصف، فأخذ الرجل يبتسم وينظر إلى صاحبه وإلى خزان المياه ويقول: هذا الخزان مكون من خرسانة وهو موجود بالاعتماد على عناصر الطبيعة والآليات التي تتفاعل بها تلك الطبيعة تماما مثل تكوين الصخور في طبقات الأرض كالصخور الرسوبية والصخور المتحولة بفعل عوامل طبيعية تماما.
فرد عليه جاره قائلا: ولكن يا صديقي هذا غير صحيح، انظر إلى نظام الخزان لا يمكن أن يوجد طبيعيا بهذا الشكل وهذا النظام المتناسق والحجم الملائم لاستهلاك أهل البلدة ثم انظر إلى الأنبوب الذي يقوم بملء الخزان وكذا الأنبوب الرئيسي الخارج منه وكيف يصل الماء إلى منسوب معين لا يتعداه داخل الخزان كل هذا لا بد له من فاعل وفعل منظم وترتيب وتنسيق مخطط له وغائي، قال وكيف تثبت ذلك؟ قال: تعال أريك العوامة التي تطفو على سطح الماء داخل الخزان حيث يصل منسوب الماء داخل الخزان إلى قدر معلوم فتعمل العوامة على وقف تدفق هذا الماء، فرفض الرجل هذا التفسير الغائي للموضوع وقال له: سآتيك بتفسير علمي لذلك. فقال له جاره: قل، أسمَع.
فقال الرجل: يا سيدي هذا الأمر ينبع من جوهر آلية التكيف الكائنة في ذات وصميم البنية، فقال له الجار: اشرح أكثر من فضلك؟ فقال: هذه تسمى علميا دارات تفاعلات مصححة للبنيات، وهي تقوم بعملها نتيجة التطور، فهي بدأت أولا بشكل مسيرة عشوائية ثم أخذت بالتعقيد ببطء شديد عبر آلاف السنين التي لا يمكن أن تتصورها، ومن خلال آلية التوجيه والتكيف وصلنا إلى هذه الدرجة التي تراها من التطور. وآلية التوجيه العلمية تأتي من صميم البنية، وحين كانت تحدث التحولات والتغيرات الطبيعية عبر السنين كانت هناك آلية التوجيه بالاعتماد على التغذية العكسية التصحيحية التي نشأت من صميم البنية أو بواسطة التكيف عبر منهج المحاولة والخطأ حتى وصلنا إلى ما تراه من تكيف ثابت ومتوازن تماما. فكل الأمر يا سيدي متعلق بالدارات التفاعلية المصححة للبنيات للتوافق مع الأوضاع والظروف المتغيرة والتي تستغرق عشرات الآلاف من السنين.
قال له الجار: إذن تعال معي وأريني كيف تفسر باقي أجزاء هذا النظام المائي، فذهبا حتى وصلا إلى سد الماء القريب من البلدة، فقال له: هذا هو مصدر الماء الرئيسي وهنا تم بناء السد لحجز وتخزين المياه لهدف وغاية وهي تجميع الماء وخزنه خلال فترة تساقط الأمطار ليسد حاجة الناس إليه أثناء فترة الجفاف. فقال له الجار: قل لي بالله عليك كيف تفسر ذلك علميا كما تدعي؟ فرد قائلا: إن التفسير العلمي لذلك هو أن المطر ينزل طبيعيا وفق قوانين فيزيائية من الغيوم ليهبط على الجبال والأودية، وهناك علم الأرصاد الجوية والهيدرولوجيا ونستطيع بهذه العلوم تفسير ذلك ونستطيع معرفة كمية الأمطار المتوقعة وكمية المياه الجارية في كل وادي بمعرفة مساحة المنطقة المغذية له ومعدل التساقط للأمطار ومعامل الجريان للمياه في المنطقة، فتحسب الكمية التي يمكن تخزينها في هذا الوادي.
فسأله الجار: ولكنك لم تفسر سبب احتجاز الماء خلف هذا السد، فأجاب قائلا: إن هذا السد مكون من عناصر الطبيعة من تراب وصخور وقد تشكلت بفعل عوامل التعرية والترسيب ربما عبر آلاف السنين، فلا تندهش –حسب علم الجيولوجيا-إذا أخبرتك أن جبالا قد زالت وأخرى قد ارتفعت بفعل عوامل باطنية في بنية طبقات الأرض كالضغط والحرارة. وهذا السد الذي تراه ما دام موجودا وما دمنا نستطيع تفسير وجوده بالاعتماد على العلم فلا حاجة بنا إلى القول بالغائية.
وأضاف: الغائية ليست تفسيرا علميا وإنما يلجأ إليها ضعفاء العقول والتفكير حين لا يستطيعون تفسير الظواهر الطبيعية بالاعتماد على الأسباب فيلجأون إلى التفسير الغيبي غير المنطقي، وما يعتقد أنه غائية ما هو في الحقيقة سوى نتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب، والحديث في العلوم الطبيعية غير الحديث في العلوم الإنسانية، في الطبيعة لا نتحدث عن غايات بل أسباب و نتائج و لا دليل على الغايات، أما في العلوم الإنسانية فيمكن أن نتحدث عن الغايات. فالسببية عندما تستطيع تفسير الظواهر لا تبقى حاجة إلى التفسير الغائي لأنه بفضل الأسباب تستطيع تفسير كافة أشكال البنيات ودارات التفاعل.
يتبع
تعقيبا على مقالة لأحد المفكرين الذي ينكر وجود العلة الغائية في الوجود أي يجعل تصرفات الأشياء وسلوكها تجري دون تخطيط فكري مسبق.
وبهذه المناسبة -وردا على إنكار فكرة الغائية- فأود أن اسرد على حضراتكم القصة التالية:
مر رجل بأرض موات فوجد بقربها نبعا من الماء فحدثته نفسه بأن يقوم بإحياء هذه الأرض فعزم أن يزرعها ويسقيها بهذا الماء المتدفق الجاري، وكان أن فعل فقام باستغلال الماء لسقي مزروعاته في تلك الأرض وأخذت الحياة تدب فيها بعد أن كانت مواتا بورا.
مرت أيام وأيام إلى أن مر بهذا الرجل جار قريب، فسلم عليه متعرفا سائلا إياه ماذا ينوي أن يفعل بهذه الأرض، فأجابه الرجل بما يدور في رأسه من خطط مستقبلية من زراعة للأشجار والمحاصيل والخضار والفواكه مستبشرا بما سيجني من أرباح بعد حصادها. فسأله ذلك الجار عن مصدر المياه فقال له: أنه نبع ماء وجده بقرب الأرض، فابدي الجار استغرابه وصحبه لرؤية ذلك النبع، فلما وصلا فإذا هما بماء يخرج من باطن الأرض ويتدفق ويشق طريقه مشكلا مجرى خاصا به كما يشكل النهر مجراه.
استدرك الجار قائلا ولكنني أعيش في هذا الجزء من البلدة منذ سنين عديدة، ولم تلحظ عيناي وجود نبع للماء فيها، فلربما هناك سبب يفسر وجود هذا الماء، وقد أخذ الفكر بالجار لتذكر قيام البلدية بتنفيذ مشروعا للماء في تلك المنطقة قبل بضعة سنين، وقد يكون هذا الماء ليس بنبع بل إنه ماء متدفق من أنبوب مدفون في باطن الأرض، فطلب من الرجل حفر الأرض ليكتشف بنفسه مصدر الماء.
قام الرجل بالحفر فوجد أن الماء يتدفق فعلا من أنبوب من جوف هذه الأرض، فطلب منه جاره أن يذهب للبلدية فيطلب منهم أن يمدوه بوصلة رسمية وعداد للمياه مقابل أن يدفع ثمن من يستهلكه من كمية. فما كان من الرجل إلا أن رفض ذلك بحجة أن هذا الماء ليس ملكا للبلدية وأن له الحق في استغلاله ما دام يخرج طبيعيا من الأرض وينزل طبيعيا من السماء الدنيا، مضمرا في نفسه -لقصر نظره- أن لا يدفع ثمن شيء يأتي إليه الآن مجانا بلا ثمن، فلماذا يكلف نفسه تكاليف وأعباء وأثمانا هو في غنى عنها.
أخبره الجار بأن هناك لجنة صيانة بلدية تفحص الشبكات دوريا كل فترة، وأنهم إذا اكتشفوا أمرة فيحاسب وسيعاقب على فعلته ومن ثم سيدفع الثمن مضاعفا. أخذت الرجل العزة بالإثم وأخذ يعاند الجار ويصد عن نفسه بحجج علمية، ويحاول أن يقنع الجار بأن الماء يخرج طبيعيا وعشوائيا من أرضه وليس لأحد فضل عليه، وأن هذا الماء الخارج من الأنبوب ليس ملكا لأحد ولا غاية لأحد في دفن أنبوب تحت الثرى، بل هو موجود هكذا وفق قوانين الفيزيائية والكيميائية للطبيعة التي تتفاعل فيما بينها لتشكل عناصرها ومنها الماء ثم يجري هذا الماء عبر الصخور والتربة ثم يخرج من مناطق الشقوق الأرضية وفق علوم الأرض والجيولوجيا ودورة المياه الطبيعية المعروفة.
قال له جاره: يا صاحبي ولكن هذا الماء ليس ماء الطبيعة المملوك ملكية عامة لكل الناس ينتفعون منه، بل هذا ماء له خصوصية يسير في نظام أنجزته البلدية بهدف أن تمد الناس بالماء للشرب لسد حاجاتهم، وأنه باستطاعته أن يريه بنفسه هذا النظام المائي التابع للبلدة، وكيف أنه نظام وجد من قبل جهة منظمة حكيمة تدرس وتخطط وتنفَّذ وتستثمر الأموال وتستقدم مهندسين خبراء في هذا المجال يعرفون قوانين الماء والجيولوجيا ويستخدمون هذه القوانين لغاية وهدف فليس الأمر عشواء وهناك فرق تسهر على تشغيل وصيانة هذا النظام المائي.
وإثر هذا الجدال فقد اتفقا -من أجل أن يقنع أحدهما صاحبه- بأن يقوما بزيارة للنظام المائي ابتداء من نقطة خروج الماء، فسارا مشيا على الأقدام، وأخذ الجار يشرح له أن هذا الأنبوب جزء من نظام شبكة المياه وهو يتفرع من خط أكبر منه تحت الطريق الرئيسي، فأخذ يعاند ويقول ولكني لماذا لا يكون وجوده وضعا طبيعيا بفعل قوانين الفيزياء التي فعلت فعلها خلال عشرات الآلاف من السنين قبل أن يوجد بشر في هذه البلدة.
ثم مضيا ووصلا إلى خزان الماء الذي يعلو الجبل ويزود البلدة جميعها بالمياه، فقال له الجار: هذا الخزان الذي تراه خطط وبني لهدف وهو أن يكون قادرا على حفظ الماء اللازم لسقاية جميع سكان البلدة لمدة يوم ونصف، فأخذ الرجل يبتسم وينظر إلى صاحبه وإلى خزان المياه ويقول: هذا الخزان مكون من خرسانة وهو موجود بالاعتماد على عناصر الطبيعة والآليات التي تتفاعل بها تلك الطبيعة تماما مثل تكوين الصخور في طبقات الأرض كالصخور الرسوبية والصخور المتحولة بفعل عوامل طبيعية تماما.
فرد عليه جاره قائلا: ولكن يا صديقي هذا غير صحيح، انظر إلى نظام الخزان لا يمكن أن يوجد طبيعيا بهذا الشكل وهذا النظام المتناسق والحجم الملائم لاستهلاك أهل البلدة ثم انظر إلى الأنبوب الذي يقوم بملء الخزان وكذا الأنبوب الرئيسي الخارج منه وكيف يصل الماء إلى منسوب معين لا يتعداه داخل الخزان كل هذا لا بد له من فاعل وفعل منظم وترتيب وتنسيق مخطط له وغائي، قال وكيف تثبت ذلك؟ قال: تعال أريك العوامة التي تطفو على سطح الماء داخل الخزان حيث يصل منسوب الماء داخل الخزان إلى قدر معلوم فتعمل العوامة على وقف تدفق هذا الماء، فرفض الرجل هذا التفسير الغائي للموضوع وقال له: سآتيك بتفسير علمي لذلك. فقال له جاره: قل، أسمَع.
فقال الرجل: يا سيدي هذا الأمر ينبع من جوهر آلية التكيف الكائنة في ذات وصميم البنية، فقال له الجار: اشرح أكثر من فضلك؟ فقال: هذه تسمى علميا دارات تفاعلات مصححة للبنيات، وهي تقوم بعملها نتيجة التطور، فهي بدأت أولا بشكل مسيرة عشوائية ثم أخذت بالتعقيد ببطء شديد عبر آلاف السنين التي لا يمكن أن تتصورها، ومن خلال آلية التوجيه والتكيف وصلنا إلى هذه الدرجة التي تراها من التطور. وآلية التوجيه العلمية تأتي من صميم البنية، وحين كانت تحدث التحولات والتغيرات الطبيعية عبر السنين كانت هناك آلية التوجيه بالاعتماد على التغذية العكسية التصحيحية التي نشأت من صميم البنية أو بواسطة التكيف عبر منهج المحاولة والخطأ حتى وصلنا إلى ما تراه من تكيف ثابت ومتوازن تماما. فكل الأمر يا سيدي متعلق بالدارات التفاعلية المصححة للبنيات للتوافق مع الأوضاع والظروف المتغيرة والتي تستغرق عشرات الآلاف من السنين.
قال له الجار: إذن تعال معي وأريني كيف تفسر باقي أجزاء هذا النظام المائي، فذهبا حتى وصلا إلى سد الماء القريب من البلدة، فقال له: هذا هو مصدر الماء الرئيسي وهنا تم بناء السد لحجز وتخزين المياه لهدف وغاية وهي تجميع الماء وخزنه خلال فترة تساقط الأمطار ليسد حاجة الناس إليه أثناء فترة الجفاف. فقال له الجار: قل لي بالله عليك كيف تفسر ذلك علميا كما تدعي؟ فرد قائلا: إن التفسير العلمي لذلك هو أن المطر ينزل طبيعيا وفق قوانين فيزيائية من الغيوم ليهبط على الجبال والأودية، وهناك علم الأرصاد الجوية والهيدرولوجيا ونستطيع بهذه العلوم تفسير ذلك ونستطيع معرفة كمية الأمطار المتوقعة وكمية المياه الجارية في كل وادي بمعرفة مساحة المنطقة المغذية له ومعدل التساقط للأمطار ومعامل الجريان للمياه في المنطقة، فتحسب الكمية التي يمكن تخزينها في هذا الوادي.
فسأله الجار: ولكنك لم تفسر سبب احتجاز الماء خلف هذا السد، فأجاب قائلا: إن هذا السد مكون من عناصر الطبيعة من تراب وصخور وقد تشكلت بفعل عوامل التعرية والترسيب ربما عبر آلاف السنين، فلا تندهش –حسب علم الجيولوجيا-إذا أخبرتك أن جبالا قد زالت وأخرى قد ارتفعت بفعل عوامل باطنية في بنية طبقات الأرض كالضغط والحرارة. وهذا السد الذي تراه ما دام موجودا وما دمنا نستطيع تفسير وجوده بالاعتماد على العلم فلا حاجة بنا إلى القول بالغائية.
وأضاف: الغائية ليست تفسيرا علميا وإنما يلجأ إليها ضعفاء العقول والتفكير حين لا يستطيعون تفسير الظواهر الطبيعية بالاعتماد على الأسباب فيلجأون إلى التفسير الغيبي غير المنطقي، وما يعتقد أنه غائية ما هو في الحقيقة سوى نتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب، والحديث في العلوم الطبيعية غير الحديث في العلوم الإنسانية، في الطبيعة لا نتحدث عن غايات بل أسباب و نتائج و لا دليل على الغايات، أما في العلوم الإنسانية فيمكن أن نتحدث عن الغايات. فالسببية عندما تستطيع تفسير الظواهر لا تبقى حاجة إلى التفسير الغائي لأنه بفضل الأسباب تستطيع تفسير كافة أشكال البنيات ودارات التفاعل.
يتبع