من هناك
02-11-2010, 03:55 AM
الددو: أقنعنا السلفيين بترك العنف
حاوره محمد أعماري-الدوحة
قال العالم الموريتاني ورئيس مركز تكوين العلماء الشيخ محمد الحسن ولد الدّدو إن لجنة العلماء التي قادت حوارا مع السجناء السلفيين في البلاد نجحت في إقناعهم ببطلان الأفكار التي تبنوها.
وأضاف -في مقابلة مع الجزيرة نت- أن هؤلاء السجناء تبرؤوا من أفكار العنف وتعهدوا بعدم حمل السلاح، ومن كان منهم عضوا في تنظيم القاعدة تبرأ منه، باستثناء سجينين. وفي ما يلي نص المقابلة.
كيف جاءت فكرة الحوار مع المعتقلين السلفيين في السجون الموريتانية، خصوصا وأنكم صاحب هذه المبادرة؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فمن المعلوم أن هذا الفكر قد شاع في العالم الإسلامي منذ فترة وانتشر، وقد ترتب عليه كثير من العمليات والمشكلات داخل البلاد الإسلامية.
وقد اختلفت معالجات الحكومات الإسلامية له، وأغلبها كان يتجه في الاتجاه الأمني وبالإرهاب المضاد، وأدى ذلك إلى مفاسد كبيرة ولم يؤد إلى الآن إلى أي حل في أي بلد من البلدان، فكل البلدان التي عولج فيها مشكل الإرهاب علاجا أمنيا لم يؤد إلى نتيجة ولم يثمر ولم يؤد إلى المقصود منه إلى الآن.
وبعض البلدان انتهجت منهجا آخر هو الحوار وأدى ذلك إلى نتائج ملموسة، ومن ذلك ما حصل في الجزائر من مصالحة وطنية وفي ليبيا من حوار أدى إلى خروج بعض الإخوة من السجن، ومثل ذلك ما حصل في السودان أيضا وما انتهجته دولة قطر من حوار ليس مع أشخاص من هذا المستوى ولكن مع الذين لديهم شيء منها أو يفهم من كلامهم أو يمكن أن يتأثر بهم من سواهم، وكذا ما حدث في السعودية من حوار في فترة ماضية. هذا النوع من الحوار له أثر بالغ، ولذلك أنا مقتنع أن الفكر لا يحارب إلا بالفكر، وأن كل من لديه فكر لا يمكن أن يزال منه بمجرد العقاب.
لماذا بادرتم إلى طرح هذه الفكرة، لماذا أنتم بالذات؟
أنا كنت سجينا في السجون الموريتانية لمدة ثلاث سنوات في آخر عهد نظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، ولما سقط هذا النظام خرجنا وتركنا وراءنا بعض الذين كنا نعرفهم داخل السجون، وبعضهم ليس لديهم هذا الفكر أصلا ولا لهم هذا التصور، وهم مظلومون، وكان من واجبهم علينا ألا نخذلهم وأن نسعى لاستخراجهم من السجن.
وخلفنا كذلك وراءنا في السجون من لديهم هذا الفكر ولم يكن ممكنا أن نتركهم عرضة للتعذيب فيزداد لديهم هذا الفكر رسوخا، ولذلك تقدمت إلى الرئيس الأسبق علي ولد محمد فال بطلب للحوار معهم وإخراج بعضهم وتعجيل محاكماتهم، وقد استجاب بإطلاق سراح بعض الإخوة من السجن دون أن يتم الحوار.
ولما انتخب الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لقيته بعد تنصيبه مباشرة قبل ممارسته مهامه، فناقشته في هذه القضية وأبدى تفهما وعجل محاكمة مجموعة كانت موجودة في السجن في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك حصلت أحداث في البلد أدت إلى قتل بعض الأشخاص وأسفرت عما يشبه حربا، فاعتقل بسببها عدد جديد وكلمت الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز في هذا الموضوع فأبدى تجاوبا ووجدت لديه قناعة بأن من حق هؤلاء أن يعدل معهم على الأقل.
وبذلك استجابت الدولة الموريتانية لهذه المبادرة، وكانت الخطوة الأولى أن يقام مؤتمر تنظمه وزارة الشؤون الإسلامية يتناول هذا الفكر بشيء من التأصيل والمناقشة وأقيم المؤتمر فعلا وحضره رئيس الدولة وجميع الوزراء والعلماء ودعي له حتى قادة الأركان والمنتخبون ونجح نجاحا باهرا وكان من توصياته إقامة الحوار المباشر مع السجناء في السجن.
وكلفت لجنة من ثلاثة وزراء هم وزير الشؤون الإسلامية ووزير الداخلية ووزير العدل بالإعداد له، وهذه اللجنة دعت إلى اجتماع موسع لـ17 من العلماء وطلبة العلم، فاجتمعوا وخططوا لهذا الحوار وانطلق على بركة الله، ولما بدأ خطواته العملية كنت أنا أول من دخل السجن إلى السجناء في أول الحوار.
قبل أن ندخل في تفاصيل الحوار، ما مدى صحة ما راج عن أن السلطات الموريتانية كانت رافضة للفكرة في البداية، ثم بعد أن وافقت كانت تريد أن يدار الحوار بلجنة وزارية ورفضتم ذلك مصرين على أن يعهد به إلى العلماء؟
بالنسبة للسلطات الموريتانية مكثت فترة من التأبي عن الحوار لأنها لا تجد له أرضية، وعندما طالبت أنا به في التلفزيون الموريتاني في حلقة إثر تفجير أحد الشباب نفسه قرب السفارة الفرنسية، جاء عدد من الرسميين في حلقة موالية وقالوا إن الحوار ليس له أرضية ولا يمكن أن يتم، واعتبروا أنه محكوم عليه بالفشل قبل ميلاده.
أما ما ذكرتم عن اللجنة الوزارية فهي لم ترد مباشرة الحوار، لكن أرادت أن تضع هي الخطة وينفذها العلماء، لكننا قلنا إنه لا بد أن يكون العلماء هم من يضعون الخطة لأنهم هم من سينفذونها، وأكدنا أنه لا بد أن تترك للعلماء الحرية في هذا الأمر، ولا مانع لدينا أن يكون أعضاء اللجنة الوزارية أعضاء في لجنة الحوار.
كيف استطعتم أن تزيلوا هذا التردد عند السلطات الموريتانية؟
السلطات الموريتانية لديها تفهم وتعقل وهي تعرف هذه المشكلة ودرستها واطلعت على التجارب السابقة، وأنا أطلعتها أيضا على ما شاركت فيه في السودان وليبيا والجزائر من تجارب للحوار.
(مقاطعا) هل كانت لدى السلطات تخوفات محددة من هذا الحوار؟
كان بعض الناس وما يزال إلى الآن يرى أنه لا أرضية للحوار مع أصحاب هذا الفكر، ويصفهم بالمتشددين والمتطرفين وغير العقلاء.
بعد أن اقتنعت السلطات وشكلتم لجنة، كيف بدأتم الحوار؟
كنت أول من دخل إلى السجناء للحوار، وأنا أعرف من قبل أنهم ثلاثة أقسام، قسم ادعيت عليهم أفعال إجرامية من قتل ونهب ومواجهة مع الدولة وحمل السلاح فيها وإدخال السلاح للبلد، والقسم الثاني ادعيت عليهم أفكار منحرفة، والقسم الثالث مظلومون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقد وزعنا الأفراد على أساس هذا التصنيف أثناء الحوار معهم.
في البداية وجدنا تخوفا من بعض السجناء من هذا الحوار وتأبيا عنه، لأنهم لم يكونوا يرون منه فائدة ولا يرون له أرضية، ولا يرون في الأفق أنه سيترتب عنه أي فوائد، فقلنا لهم إن المقصود من الحوار إبداء الحق وإظهاره، وأن هذا هو المطلوب، وأنه لو كان الحق مع السجناء فيجب علينا أن نقتنع به، ولو كان معنا نحن الحق فمن الواجب عليهم أن يقتنعوا به.
وأوضحنا لهم أيضا أن المرجع في هذا الحوار هو الوحي الذي لا يمتنع عنه مسلم ولا يأبى عنه عاقل، فلذلك قبلوا الحوار وامتنع عنه اثنان فقط من أصل سبعين سجينا، والاثنان أحدهما غير موريتاني وهو من دولة عربية أخرى وانتهى الحوار ولم يشارك فيه قط، والآخر شاب موريتاني لم يشارك، أما البقية فتحمسوا للحوار وقبلوه ووقع 55 منهم على موافقتهم على ما يقول العلماء، والآخرون وقعوا فيما بعد.
وكان في مراحل الحوار يقع الخلاف في بعض النقاط، لكننا لمسنا لدى السجناء جميعا إنصافا وقبولا للحق، وجميع من لقيناهم من هم لديهم قابلية للحق وقبول للنصوص الشرعية واحترام للوحي، وليس فيهم أحد يستنكف عن الحق.
نشرت بعض وسائل الإعلام الموريتانية رسالة لأحد هؤلاء السجناء السلفيين ينتقد الحوار ويعتبره تحقيقا استخباريا معهم، واتهم العلماء الذين أشرفوا عليه بأنهم جاهلون بالكثير من مسائل الإيمان والكفر، ما رأيكم في ذلك؟
هذا هو الأخ الموريتاني الذي ذكرت من قبل أنه لم يقبل الحوار، وهذا اختلاف في وجهات النظر بينه وبين العلماء وبين من قبلوا الحوار من السجناء، وبالنسبة لهذا الحوار فلا علاقة له بأي تحقيق استخباري، بل هو حوار بين العلماء والسجناء، في بداية الجلسة الافتتاحية حضره بعض أعضاء أجهزة الأمن وبعض الوزراء كغيرهم من الحاضرين، لكن الجلسات الحوارية التي كانت مع المشايخ والعلماء كانت جلسات علمية، وأكثر العلماء الذين كانوا يحاورون هم غير موظفين للدولة أصلا، ولا يتقاضون أي راتب منها، ولا يمثلون الدولة.
ما هي القضايا التي ناقشتموها مع السجناء في حواركم معهم؟
المجموعة الأولى المكونة من 55 شخصا، ليس لديهم شيء كبير يناقشون فيه، لأنهم مقتنعون بأن الحاكم مسلم وأن البلد بلد إسلامي وأنه لا يحل التعرض للمسلمين فيه ولا المستأمنين، وليس بيننا وبينهم خلاف عقدي وفكري، بل يستفسرون في بعض القضايا ويسمعون بعض المحاضرات من بعض المشايخ، ولم أحضر جلسات الحوار معهم كلها.
والقسم الثاني هم من الذين لديهم بعض الإشكالات ولكن لا ينتمون إلى تنظيم القاعدة وهؤلاء كان الحوار معهم أيضا حوارا شرعيا يطرحون أدلتهم ويجابون عليها، وذلك أساسا في قضية تكفيرهم رأس النظام الموريتاني ومن يساعده في مستوى معين، وأيضا يرون إباحة دماء المستأمنين من الرعايا الغربيين في البلد وأموالهم، ويرون أن أمانهم غير صحيح لأنه صادر من غير مسلم في اعتقادهم.
فكان الحوار في هاتين القضيتين وتعمق أيضا مع الإخوة المنتسبين لتنظيم القاعدة، وكانت فيه جلسات طويلة، بعضها فردي وبعضها جماعي، والحمد لله استجابوا جميعهم لأمرين، حيث اتفقنا في قضية التكفير أن الدار دار إسلام وأن الشعب مسلم وأن الإيمان والكفر توقيفيان ولا يمكن أن يعرفا إلا بوحي، وأن من ثبت له أصل الإيمان بيقين لا يخرج منه إلا بيقين، وبقي التفصيل في الأشخاص هل فلان ثبت له الإيمان أو لا، وهذه قضية سهلة ولم نركز عليها كثيرا، لكن الذي ركزنا عليه هو قضية التكفير عموما والشبهات التي اعتمدوا عليها.
ومن ذلك شبهة تعطيل الأحكام الشرعية، فقلنا لهم إننا لا ننكر أن الكثير من الدول الإسلامية عطلت الكثير من الأحكام الشرعية ونحن نطالبها بتنفيذها، لكننا نرى أن هذا التعطيل ليس تبديلا، والتبديل كفر والتعطيل ليس كفرا، وعدم التفريق بين التعطيل والتبديل هو الذي أدى إلى حصول هذا الانحراف في الفكر، وقد أقنعناهم أن الذي يُكفّر به هو تبديل شرع الله.
وأوضحنا لهم أيضا أن التبديل قسمان: تبديل اليهود الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وهو أنهم يأتون بشيء من عند أنفسهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، أي أنهم يبدلون شرع الله بشرع من عند أنفسهم ويزعمون أن هذا الذي أتوا به هو شرع الله وهو كتاب الله، وهذا شر التبديل ولا خلاف في التكفير به.
والنوع الثاني من التبديل هو أن يأتي الإنسان بشرع من عند نفسه لا يزعم أنه من عند الله ولكنه يرى أنه أفضل من شرع الله، أو مساو له، وهذا أيضا مثل سابقه، أما التعطيل فمعناه أن يكون الإنسان مقتنعا أن شرع الله هو الحق وأنه لا يمكن أن يأتي مساو له أو ما هو أفضل منه، لكنه عاجز عن تطبيقه فذلك أيضا أنواع ودرجات، ومنه ما يكون الإنسان معذورا فيه مثل ما إذا ثبت العجز عن تطبيق شرع الله، أو كان الإنسان متأولا يرى أنه عاجز ولو لم نوافقه على عجزه، فهذا لا يُفسق به وليس جريمة.
والقسم الثاني ما يكون تعطيلا لشرع الله بسبب ظلم كأخذ رشوة أو طلب بقاء في منصب أو مداهنة للكفار أو نحو ذلك، فهذا ظلم وفسق لكنه لا يصل إلى درجة الكفر، فاتفقنا تقريبا على هذه النقاط، وذكرنا بما ورد من النصوص الشرعية في تحريم تكفير المسلمين، وهم أيضا أتوا بما يعتمدون عليه من الآيات مثل قوله تعالى (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (سورة الأنعام آية 121)، وكان النقاش حول دلالة هذه الآية هل هي صريحة في تكفير الحكام الذين أطاعوا الكفار في تعطيل الشريعة أو نحو ذلك، وأجبنا بأن الضمير في قوله تعالى (وإن أطعتموهم) هل يرجع إلى الشياطين أو إلى أوليائهم، وهذا محل خلاف في دلالة الآية، والذي يتضح منه أنه يرجع إلى الشياطين، وسبب نزول الآية يبين هذا وهو ما حصل في مكة من مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في الميتة، فقالوا: تزعم أن ما ذبحته أنت بيدك حلال وأن ما ذبحه الله بشمشار (كلمة أصلها فارسي وتعني السيف) من ذهب حرام، وهذا من وحي الشياطين ليجادلوه، والشياطين هنا اختُلف فيهم هل هم شياطين الجن أم شياطين الإنس، ومن المفسرين من يرى أن المقصود بالشياطين هنا اليهود، ومنهم من يرى أنهم شياطين الجن، وعموما فالآية قابلة لكل ذلك ولا مانع من حملها على المحملين.
ثم ناقشنا مع هؤلاء السجناء أيضا الاستدلال بقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (سورة المائدة آية 45)، وكان النقاش فيها أكثر حدة من سابقتها لأنها آية يستدل بها الجميع، وقد بينا لهم أن هذه الآية تضمنت عمومين، عموم "من" وعموم "ما"، وكلاهما من العام الذي هو ثلاثة أقسام:
عام باق على عمومه
وعام مراد به الخصوص
وعام مخصوص،
فمن أي الأنواع الثلاثة هذان العامان في هذه الآية؟ فقالوا في البداية إنهما من العام الباقي على عمومه، وانطلقنا معهم من هذا المبدأ، وقلنا إذا كان كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر،
فسألناهم هل أنتم حكمتم بما أنزل الله؟
فأجابوا بالنفي وبالقول إنهم ليسوا حكاما، فقلنا إن العام الباقي على عمومه يتناولكم لأن الله لم يقل ومن لم
يحكم من الحاكمين بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا الأمر يشمل جميع الخلق إذا أبقي على عمومه.
وكذلك قوله تعالى (ما أنزل الله)، العام الذي فيها إذا قلتم هو باق على عمومه فيشمل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عموم ما أنزل الله يشمل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والناسخ والمنسوخ وكل ما أنزل الله، ولا أعلم أحدا على وجه الأرض حكم بكل ما أنزل الله، بما في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الأنبياء والرسل، فهل يكفرون بهذا؟
وحينئذ عرفوا يقينا أن العام في الموضعين ليس من العام الباقي على عمومه، وأنه العام المخصوص ثم بحثنا في هذه المسألة وزالت الشبهة والحمد لله.
وهكذا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرفنا الإيمان وقبله ما كنا نعرفه، بل قد قال الله له (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (سورة الشورى آية 52)، فلم يكن هو يدري الإيمان قبل نزول القرآن عليه، فعرفنا بالإيمان وقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما هو إيمان فهو إيمان، وما يقابله أيضا مما بينه فهو الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال "لا يواظب على الوضوء إلا مؤمن"، وسقنا أقوال أهل العلم في هذه المسألة مثل ما ذكره الذهبي وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وما قاله الأشعري وما قاله عدد من الأئمة في هذا من عدم تكفير من يواظب على الوضوء، وغير ذلك.
كما بينا موانع التكفير وشروطه، وقلنا إن التكفير حكم قضائي لا يصلح كل أحد لإصداره، إضافة إلى تصحيحنا شبهة أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه الشبهة ليست على إطلاقها، وهي تنطلق أولا من معرفة من هو الكافر، ومعنى هذه القاعدة أن من لم يكفر بما يُكفَّر به فزعم أن المشركين واليهود والنصارى مسلمون وأنهم غير كفار، لكن من لم يكفر شخصا بعينه لم يعرفه أصلا لا يمكن أن تتناوله هذه القاعدة.
وكذلك ناقشنا معهم ما يتعلق بقضية الولاء والبراء، وهي قضية بحثناها كثيرا لأن بعض الإخوة يفهمون الولاء فهما شموليا فيرون أن كل معاملة للكفار هي موالاة لهم، وقد بينا لهم بطلان ذلك وأن الله سبحانه وتعالى فصل بين الكفار فقال (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (سورة الممتحنة آية 8-9)
وقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة آية 8)،
وقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله) (سورة المائدة آية 2)، والآيتان الأخيرتان في سورة المائدة وهي آخر ما أنزل من آيات الأحكام.
وبينا لهم أن الله تعالى أذن في الزواج بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، ولا يمكن أن يقول إنه يجوز لك أن تتزوجها ويجب عليك أن تبغضها، فهذا مستحيل عقلا، بل يجوز أن تحبها حبا طبعيا وذلك غير مناف للبراء من دينها وملتها، وبينا أن الولاء هو النصرة في الدين وأن الله بين ذلك في قوله (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا، أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) (سورة الأنفال آية 72).
وكان مما قلناه لمن يكفرون الحكام لأنهم أعانوا الأميركيين أو فتحوا لهم قواعدهم لتدمير العراق وأفغانستان، أن سألناهم لو أن حكام المسلمين غزوا العراق وأفغانستان مثلما غزتهما أميركا ودمروها على رؤوس أهلها، هل يكفرون بذلك فقالوا لا، فقلنا كيف تكفرونهم بعونهم على هذا الفعل رغم أن مباشرة الفعل نفسه لا تكفرهم. والمباشرة تقطع حكم التسبب والتسبب لا يقطع حكم المباشرة.
فتبين إذن أن المقصود بالولاء هو النصرة في الدين، وضربنا لهم مثالا في ذلك لو أن قبيلتين متجاورتين إحداهما مسلمة والأخرى كافرة فاقتتلتا على أرض بينهما، فزعمت القبيلة المسلمة أنها لها وزعمت الكافرة أنها أرضها، فساعد بعض المسلمين تلك القبيلة الكافرة ضد القبيلة المسلمة بسبب هذا الخلاف، فهل يكفرون بذلك؟ فقالوا لا لأن هذا قتال ليس في الدين.
وبعد هذا أيضا كان النقاش في ما يتعلق بالمستأمنين عموما فذكرنا الإخوة بما أخرجه البخاري في الصحيح وغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قتل معاهدا في عهده لم يرح رائحة الجنة)، وكذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من أحاديث في هذا الباب، وكان الإخوة يرون أن هؤلاء دخلوا بأمان كاذب وهو أمان غير مسلم، وكان من أجوبة ذلك أن سألناهم أرأيتم هل هؤلاء المستأمنون يكفرون الحكام أو لا يكفرونهم، فقالوا لا يكفرونهم بل يرونهم حكاما مسلمين، فقلنا لهم إنه من المنصوص فقها أن المستأمَن إذا أخذ الأمان من أحد رعايا الدولة الإسلامية يظنه مسلما فبان كافرا فإن الأمان صحيح، وهذا محل اتفاق.
وأثبتنا لهم أن الإسلام دين السلم والأمان، ولذلك إذا أشار المسلم إلى الكافر إشارة فهمها الكافر بالأمان فإن الأمان جار عليه، وقد عصم دمه، وكذلك إذا قال له تعال اعطني السكين لأذبحك ففهمها على أن معناها "أنت في أماني" فإنه يكون مستأمنا ولا يحل الاعتداء عليه، وهكذا، إضافة إلى أن الذمة تصدر من أدنى المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يقوم بذمتهم أدناهم"، وتصدر من الطفل غير البالغ إذا أمّن أحدا، وتصدر من الفاسق أيضا. والواقع أن الإخوة الذين حاورناهم كان لهم إلمام جيد بهذه الأحكام واطلعوا على الكثير من هذا، لذلك قبلوا الحق لما سمعوه.
لمستم لديهم ثقافة شرعية ورسوخا في الحجاج؟
طبعا، فهؤلاء الشباب أكثرهم من المثقفين والدارسين في المحاضر (مدارس للقرآن والعلوم الشرعية)، بل إن بعضهم يشار إليه بالعلم وبعضهم من الخطباء.
هل معنى هذا أن فكر القاعدة في أغلبه يستند على شبهات أم أن له فعلا مستندات شرعية؟
نحن لا نعرف فكر من لم نناقشه، أما الذين ناقشناهم فقد ذكرنا في ما سبق حججهم والرد عليهم أيضا، ومن لم نلقهم لا ندري ما لديهم من الحجج.
هل غيرت فعلا فكر وقناعات هؤلاء السجناء؟
الله أعلم، فنحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، لكن أشد هؤلاء في ما كانوا عليه هم المنتمون للقاعدة، وقد أقسموا وكتبوا في أغلبهم أنهم اقتنعوا الآن بأن ما فعلوه باطل وتابوا منه وأعلنوا توبتهم من قتل الفرنسيين ومن كل الممارسات التي فعلوها، وتعهدوا بألا يعودوا إلى مثلها وبألا يحملوا السلاح في بلاد موريتانيا لا على مسلم ولا على كافر، وأنهم حتى لو مكثوا في السجن مددا طويلة لن يحملهم هذا على تغيير ما توصلوا إليه، وأن ما وقع عليهم من ظلم أو تعذيب أو غير ذلك في المدد السابقة لا يغيرهم عما اقتنعوا بأنه شرع الله، بل بعضهم أقسم لنا قبل الحوار أننا لو أقنعناه بأن ما فعله مخالف لشرع الله لتاب منه حالا ولرجع ولأطاع ولي الأمر.
هل الدولة مقتنعة بما وصلتم إليه مع السجناء ومطمئنة إليه؟
لم ألتق كثيرا من عناصر الدولة الذين أشرفوا بشكل مباشر على الحوار، لكن رئيس الدولة مقتنع بأن هذا الحوار له فعلا أثره وفائدته.
إذن فالدولة مستعدة للمضي في تنزيل نتائجه؟
نحن نطالب الدولة الآن بتعجيل ترتيب خطوات إيجابية على هذا الحوار وقد قدمنا مطالبنا في هذا الخصوص إلى رئيس الدولة مباشرة، ووعد خيرا، ومن ذلك تعجيل إطلاق سراح المظلومين من هؤلاء الذين لم يقوموا بأعمال إجرامية من قبل وأيضا محاكمة الآخرين والعفو عنهم لأن هؤلاء لا يمكن تصنيفهم على أنهم محاربون ولا قطاع طرق، بل أقصى ما يمكن أن يصنفوا به بالنسبة لمن حمل منهم السلاح ضد الدولة أنه كان باغيا، والبغي كما قال النووي وغيره ليس فسقا، فقد بغى عدد من الصحابة وخرجوا في الفئة الباغية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، والجهة التي قتلت عمارا فيها معاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم.
ولذلك إذا تقرر ذلك ووصفوا بالبغي فإن القضاء لا يستطيع أن يحكم عليهم بالعقوبة بعد أن استسلموا ودخلوا في طاعة الدولة وألقوا السلاح، بل ليس له أن يعاقبهم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم موقعة الجمل نادى مناديه ألا يدفف على جريح وألا يتبع منهزم وألا تسبى سبية وألا تسبى غنيمة.
هل السلطات الموريتانية في نظركم مستعدة لأن تدمج هؤلاء في المجتمع وتتخذ تدابير لمنعهم من العودة إلى ما كانوا عليه من قبل؟
المجتمع عندنا مجتمع منفتح، فهؤلاء مندمجون فيه على كل حال، فهم أبناء أسر كريمة وعوائل عريقة وأبناء قبائل، والمجتمع عندنا ما زال قبليا كما كان، وعندهم أين سيذهبون ويندمجون لو خرجوا. والأهداف التي كانت متوخاة من الحوار ثلاثة أهداف:
الأول هدف شرعي وهو إظهار براءة الإسلام من الأفكار المنحرفة كالتكفير والاعتداء وحمل السلاح في بلاد المسلمين على المسلمين وعلى المستأمنين وإخافة الطريق ونحو ذلك، فهذا هدف نجحنا في تحقيقه والحمد لله، والهدف
الثاني هدف اجتماعي وهو رفع الظلم عن المظلومين وتخفيف معاناة هؤلاء السجناء الذين مضت عليهم سنوات لم يلتقوا فيها بأزواجهم ولم يقوموا بأعمالهم وأسرهم هم العائلون لها والقائمون عليها،
والهدف الثالث هدف أمني هو تجنيب البلاد مثل هذه المشكلات، وهذا لا يتحقق إلا باتفاق مع قيادتهم وهي في الخارج، إذا وقعت معها الدولة اتفاقا على ألا تقوم بأي أعمال إجرامية وألا تدخل أي سلاح إلى موريتانيا، فسيكون بذلك قد تحقق هذا الهدف.
ألا ترون أنه بهذه الطريقة فإن موريتانيا ستعقد صفقة مع تنظيم القاعدة تعطي الأمان لأعضائه مقابل أن يعطيها هو الأمان، وهذا ليس تغييرا لفكر بقدر ما هو هدنة وتحييد للقاعدة على الأراضي الموريتانية فقط؟
ليس الأمر بهذا الشكل، فالدول أقوى من التنظيمات والأفراد ولا تقارن أو تقاس بها، لكن هناك مصالح معينة منها أن موريتانيا مقبلة على استثمارات وعلى التنقيب عن النفط والغاز في مناطق نائية شاسعة، وتحتاج إلى أن يدخلها كثير من المستأمنين من الشركات الغربية والشرقية، ولا يمكن أن تستقر هذه وتستثمر إلا في أمن وأمان، فعلى الأقل إذا توصلت موريتانيا إلى مثل ما توصلت إليه مالي مع القاعدة بألا يدخلوا السلاح إلى أراضيها وألا ينشطوا فيها، فآنذاك لن تكون لهم مشكلة مع موريتانيا ولن يدخلوها، وموريتانيا أيضا ليس من شأنها أن تحاربهم نيابة عن أميركا أو نحو ذلك.
لكن ألن يعرض ذلك موريتانيا لضغوط من الغربيين بدعوى أنها لا تحارب ما يسمونه الإرهاب؟
هذا ليس صحيحا في ما أرى، بل إن موريتانيا إذا توصلت إلى مثل هذه النتيجة تستطيع أن تضمن للبلدان الغربية سلامة رعاياها الموجودين على الأراضي الموريتانية، لأن الذين يمكن أن يتعرضوا لهم تغيرت أفكارهم وعرف أنهم أعطوا العهد ألا يحملوا سلاحا في البلد وألا يثيروا أي مشكلات، وبالنسبة لما حصل من العمليات الماضية تعرف أميركا وإسبانيا وفرنسا أنها ليست صادرة من موريتانيا وإنما من تنظيم موجود له قيادته خارج موريتانيا، فالحرب بينهم وبين القاعدة هي خارج حدود البلد، وبذلك ستنتقل هذه الحرب خارج موريتانيا.
هل معنى هذا أن موريتانيا طهرت أرضها من فكر القاعدة ولن تسمح مستقبلا بدخوله إليها؟
إن شاء الله، هذا بحسب الظاهر، ونحن قلنا إننا قوم نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، وليس المقصود أيضا أننا ناقشنا في هذا الحوار كل ما لدى القاعدة من فكر، وليس معنى ذلك أن كل ما لدى القاعدة خطأ مائة بالمائة، نحن لا نزعم ذلك، وليس معنى هذا أننا ناقشنا القاعدة بقيادتها وزعامتها، الذي نزعمه فقط أنا غيرنا أفكار هذه المجموعة المحدودة التي حاورناها، والمنتمون منهم إلى القاعدة على كل حال أفراد قلائل. والطرح الذي طرحه هؤلاء طرح شرعي وتبين لهم أنه مخالف للشريعة واقتنعوا بذلك.
هل سيكون لهذا الذي فعلتموه في موريتانيا تأثير على محيطها في المغرب العربي؟
إذا نجحت هذه التجربة فقطعا ستأخذ بها بعض الدول الأخرى، والمغرب الآن فيه لجنة لإنصاف المظلومين خلال عقود مضت، وقد وصلت إلى نتائج طيبة، ويمكن أن تصل هذه اللجنة أيضا إلى إنصاف المظلومين من أصحاب هذا الفكر.
حاوره محمد أعماري-الدوحة
قال العالم الموريتاني ورئيس مركز تكوين العلماء الشيخ محمد الحسن ولد الدّدو إن لجنة العلماء التي قادت حوارا مع السجناء السلفيين في البلاد نجحت في إقناعهم ببطلان الأفكار التي تبنوها.
وأضاف -في مقابلة مع الجزيرة نت- أن هؤلاء السجناء تبرؤوا من أفكار العنف وتعهدوا بعدم حمل السلاح، ومن كان منهم عضوا في تنظيم القاعدة تبرأ منه، باستثناء سجينين. وفي ما يلي نص المقابلة.
كيف جاءت فكرة الحوار مع المعتقلين السلفيين في السجون الموريتانية، خصوصا وأنكم صاحب هذه المبادرة؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فمن المعلوم أن هذا الفكر قد شاع في العالم الإسلامي منذ فترة وانتشر، وقد ترتب عليه كثير من العمليات والمشكلات داخل البلاد الإسلامية.
وقد اختلفت معالجات الحكومات الإسلامية له، وأغلبها كان يتجه في الاتجاه الأمني وبالإرهاب المضاد، وأدى ذلك إلى مفاسد كبيرة ولم يؤد إلى الآن إلى أي حل في أي بلد من البلدان، فكل البلدان التي عولج فيها مشكل الإرهاب علاجا أمنيا لم يؤد إلى نتيجة ولم يثمر ولم يؤد إلى المقصود منه إلى الآن.
وبعض البلدان انتهجت منهجا آخر هو الحوار وأدى ذلك إلى نتائج ملموسة، ومن ذلك ما حصل في الجزائر من مصالحة وطنية وفي ليبيا من حوار أدى إلى خروج بعض الإخوة من السجن، ومثل ذلك ما حصل في السودان أيضا وما انتهجته دولة قطر من حوار ليس مع أشخاص من هذا المستوى ولكن مع الذين لديهم شيء منها أو يفهم من كلامهم أو يمكن أن يتأثر بهم من سواهم، وكذا ما حدث في السعودية من حوار في فترة ماضية. هذا النوع من الحوار له أثر بالغ، ولذلك أنا مقتنع أن الفكر لا يحارب إلا بالفكر، وأن كل من لديه فكر لا يمكن أن يزال منه بمجرد العقاب.
لماذا بادرتم إلى طرح هذه الفكرة، لماذا أنتم بالذات؟
أنا كنت سجينا في السجون الموريتانية لمدة ثلاث سنوات في آخر عهد نظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، ولما سقط هذا النظام خرجنا وتركنا وراءنا بعض الذين كنا نعرفهم داخل السجون، وبعضهم ليس لديهم هذا الفكر أصلا ولا لهم هذا التصور، وهم مظلومون، وكان من واجبهم علينا ألا نخذلهم وأن نسعى لاستخراجهم من السجن.
وخلفنا كذلك وراءنا في السجون من لديهم هذا الفكر ولم يكن ممكنا أن نتركهم عرضة للتعذيب فيزداد لديهم هذا الفكر رسوخا، ولذلك تقدمت إلى الرئيس الأسبق علي ولد محمد فال بطلب للحوار معهم وإخراج بعضهم وتعجيل محاكماتهم، وقد استجاب بإطلاق سراح بعض الإخوة من السجن دون أن يتم الحوار.
ولما انتخب الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لقيته بعد تنصيبه مباشرة قبل ممارسته مهامه، فناقشته في هذه القضية وأبدى تفهما وعجل محاكمة مجموعة كانت موجودة في السجن في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك حصلت أحداث في البلد أدت إلى قتل بعض الأشخاص وأسفرت عما يشبه حربا، فاعتقل بسببها عدد جديد وكلمت الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز في هذا الموضوع فأبدى تجاوبا ووجدت لديه قناعة بأن من حق هؤلاء أن يعدل معهم على الأقل.
وبذلك استجابت الدولة الموريتانية لهذه المبادرة، وكانت الخطوة الأولى أن يقام مؤتمر تنظمه وزارة الشؤون الإسلامية يتناول هذا الفكر بشيء من التأصيل والمناقشة وأقيم المؤتمر فعلا وحضره رئيس الدولة وجميع الوزراء والعلماء ودعي له حتى قادة الأركان والمنتخبون ونجح نجاحا باهرا وكان من توصياته إقامة الحوار المباشر مع السجناء في السجن.
وكلفت لجنة من ثلاثة وزراء هم وزير الشؤون الإسلامية ووزير الداخلية ووزير العدل بالإعداد له، وهذه اللجنة دعت إلى اجتماع موسع لـ17 من العلماء وطلبة العلم، فاجتمعوا وخططوا لهذا الحوار وانطلق على بركة الله، ولما بدأ خطواته العملية كنت أنا أول من دخل السجن إلى السجناء في أول الحوار.
قبل أن ندخل في تفاصيل الحوار، ما مدى صحة ما راج عن أن السلطات الموريتانية كانت رافضة للفكرة في البداية، ثم بعد أن وافقت كانت تريد أن يدار الحوار بلجنة وزارية ورفضتم ذلك مصرين على أن يعهد به إلى العلماء؟
بالنسبة للسلطات الموريتانية مكثت فترة من التأبي عن الحوار لأنها لا تجد له أرضية، وعندما طالبت أنا به في التلفزيون الموريتاني في حلقة إثر تفجير أحد الشباب نفسه قرب السفارة الفرنسية، جاء عدد من الرسميين في حلقة موالية وقالوا إن الحوار ليس له أرضية ولا يمكن أن يتم، واعتبروا أنه محكوم عليه بالفشل قبل ميلاده.
أما ما ذكرتم عن اللجنة الوزارية فهي لم ترد مباشرة الحوار، لكن أرادت أن تضع هي الخطة وينفذها العلماء، لكننا قلنا إنه لا بد أن يكون العلماء هم من يضعون الخطة لأنهم هم من سينفذونها، وأكدنا أنه لا بد أن تترك للعلماء الحرية في هذا الأمر، ولا مانع لدينا أن يكون أعضاء اللجنة الوزارية أعضاء في لجنة الحوار.
كيف استطعتم أن تزيلوا هذا التردد عند السلطات الموريتانية؟
السلطات الموريتانية لديها تفهم وتعقل وهي تعرف هذه المشكلة ودرستها واطلعت على التجارب السابقة، وأنا أطلعتها أيضا على ما شاركت فيه في السودان وليبيا والجزائر من تجارب للحوار.
(مقاطعا) هل كانت لدى السلطات تخوفات محددة من هذا الحوار؟
كان بعض الناس وما يزال إلى الآن يرى أنه لا أرضية للحوار مع أصحاب هذا الفكر، ويصفهم بالمتشددين والمتطرفين وغير العقلاء.
بعد أن اقتنعت السلطات وشكلتم لجنة، كيف بدأتم الحوار؟
كنت أول من دخل إلى السجناء للحوار، وأنا أعرف من قبل أنهم ثلاثة أقسام، قسم ادعيت عليهم أفعال إجرامية من قتل ونهب ومواجهة مع الدولة وحمل السلاح فيها وإدخال السلاح للبلد، والقسم الثاني ادعيت عليهم أفكار منحرفة، والقسم الثالث مظلومون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقد وزعنا الأفراد على أساس هذا التصنيف أثناء الحوار معهم.
في البداية وجدنا تخوفا من بعض السجناء من هذا الحوار وتأبيا عنه، لأنهم لم يكونوا يرون منه فائدة ولا يرون له أرضية، ولا يرون في الأفق أنه سيترتب عنه أي فوائد، فقلنا لهم إن المقصود من الحوار إبداء الحق وإظهاره، وأن هذا هو المطلوب، وأنه لو كان الحق مع السجناء فيجب علينا أن نقتنع به، ولو كان معنا نحن الحق فمن الواجب عليهم أن يقتنعوا به.
وأوضحنا لهم أيضا أن المرجع في هذا الحوار هو الوحي الذي لا يمتنع عنه مسلم ولا يأبى عنه عاقل، فلذلك قبلوا الحوار وامتنع عنه اثنان فقط من أصل سبعين سجينا، والاثنان أحدهما غير موريتاني وهو من دولة عربية أخرى وانتهى الحوار ولم يشارك فيه قط، والآخر شاب موريتاني لم يشارك، أما البقية فتحمسوا للحوار وقبلوه ووقع 55 منهم على موافقتهم على ما يقول العلماء، والآخرون وقعوا فيما بعد.
وكان في مراحل الحوار يقع الخلاف في بعض النقاط، لكننا لمسنا لدى السجناء جميعا إنصافا وقبولا للحق، وجميع من لقيناهم من هم لديهم قابلية للحق وقبول للنصوص الشرعية واحترام للوحي، وليس فيهم أحد يستنكف عن الحق.
نشرت بعض وسائل الإعلام الموريتانية رسالة لأحد هؤلاء السجناء السلفيين ينتقد الحوار ويعتبره تحقيقا استخباريا معهم، واتهم العلماء الذين أشرفوا عليه بأنهم جاهلون بالكثير من مسائل الإيمان والكفر، ما رأيكم في ذلك؟
هذا هو الأخ الموريتاني الذي ذكرت من قبل أنه لم يقبل الحوار، وهذا اختلاف في وجهات النظر بينه وبين العلماء وبين من قبلوا الحوار من السجناء، وبالنسبة لهذا الحوار فلا علاقة له بأي تحقيق استخباري، بل هو حوار بين العلماء والسجناء، في بداية الجلسة الافتتاحية حضره بعض أعضاء أجهزة الأمن وبعض الوزراء كغيرهم من الحاضرين، لكن الجلسات الحوارية التي كانت مع المشايخ والعلماء كانت جلسات علمية، وأكثر العلماء الذين كانوا يحاورون هم غير موظفين للدولة أصلا، ولا يتقاضون أي راتب منها، ولا يمثلون الدولة.
ما هي القضايا التي ناقشتموها مع السجناء في حواركم معهم؟
المجموعة الأولى المكونة من 55 شخصا، ليس لديهم شيء كبير يناقشون فيه، لأنهم مقتنعون بأن الحاكم مسلم وأن البلد بلد إسلامي وأنه لا يحل التعرض للمسلمين فيه ولا المستأمنين، وليس بيننا وبينهم خلاف عقدي وفكري، بل يستفسرون في بعض القضايا ويسمعون بعض المحاضرات من بعض المشايخ، ولم أحضر جلسات الحوار معهم كلها.
والقسم الثاني هم من الذين لديهم بعض الإشكالات ولكن لا ينتمون إلى تنظيم القاعدة وهؤلاء كان الحوار معهم أيضا حوارا شرعيا يطرحون أدلتهم ويجابون عليها، وذلك أساسا في قضية تكفيرهم رأس النظام الموريتاني ومن يساعده في مستوى معين، وأيضا يرون إباحة دماء المستأمنين من الرعايا الغربيين في البلد وأموالهم، ويرون أن أمانهم غير صحيح لأنه صادر من غير مسلم في اعتقادهم.
فكان الحوار في هاتين القضيتين وتعمق أيضا مع الإخوة المنتسبين لتنظيم القاعدة، وكانت فيه جلسات طويلة، بعضها فردي وبعضها جماعي، والحمد لله استجابوا جميعهم لأمرين، حيث اتفقنا في قضية التكفير أن الدار دار إسلام وأن الشعب مسلم وأن الإيمان والكفر توقيفيان ولا يمكن أن يعرفا إلا بوحي، وأن من ثبت له أصل الإيمان بيقين لا يخرج منه إلا بيقين، وبقي التفصيل في الأشخاص هل فلان ثبت له الإيمان أو لا، وهذه قضية سهلة ولم نركز عليها كثيرا، لكن الذي ركزنا عليه هو قضية التكفير عموما والشبهات التي اعتمدوا عليها.
ومن ذلك شبهة تعطيل الأحكام الشرعية، فقلنا لهم إننا لا ننكر أن الكثير من الدول الإسلامية عطلت الكثير من الأحكام الشرعية ونحن نطالبها بتنفيذها، لكننا نرى أن هذا التعطيل ليس تبديلا، والتبديل كفر والتعطيل ليس كفرا، وعدم التفريق بين التعطيل والتبديل هو الذي أدى إلى حصول هذا الانحراف في الفكر، وقد أقنعناهم أن الذي يُكفّر به هو تبديل شرع الله.
وأوضحنا لهم أيضا أن التبديل قسمان: تبديل اليهود الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وهو أنهم يأتون بشيء من عند أنفسهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، أي أنهم يبدلون شرع الله بشرع من عند أنفسهم ويزعمون أن هذا الذي أتوا به هو شرع الله وهو كتاب الله، وهذا شر التبديل ولا خلاف في التكفير به.
والنوع الثاني من التبديل هو أن يأتي الإنسان بشرع من عند نفسه لا يزعم أنه من عند الله ولكنه يرى أنه أفضل من شرع الله، أو مساو له، وهذا أيضا مثل سابقه، أما التعطيل فمعناه أن يكون الإنسان مقتنعا أن شرع الله هو الحق وأنه لا يمكن أن يأتي مساو له أو ما هو أفضل منه، لكنه عاجز عن تطبيقه فذلك أيضا أنواع ودرجات، ومنه ما يكون الإنسان معذورا فيه مثل ما إذا ثبت العجز عن تطبيق شرع الله، أو كان الإنسان متأولا يرى أنه عاجز ولو لم نوافقه على عجزه، فهذا لا يُفسق به وليس جريمة.
والقسم الثاني ما يكون تعطيلا لشرع الله بسبب ظلم كأخذ رشوة أو طلب بقاء في منصب أو مداهنة للكفار أو نحو ذلك، فهذا ظلم وفسق لكنه لا يصل إلى درجة الكفر، فاتفقنا تقريبا على هذه النقاط، وذكرنا بما ورد من النصوص الشرعية في تحريم تكفير المسلمين، وهم أيضا أتوا بما يعتمدون عليه من الآيات مثل قوله تعالى (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (سورة الأنعام آية 121)، وكان النقاش حول دلالة هذه الآية هل هي صريحة في تكفير الحكام الذين أطاعوا الكفار في تعطيل الشريعة أو نحو ذلك، وأجبنا بأن الضمير في قوله تعالى (وإن أطعتموهم) هل يرجع إلى الشياطين أو إلى أوليائهم، وهذا محل خلاف في دلالة الآية، والذي يتضح منه أنه يرجع إلى الشياطين، وسبب نزول الآية يبين هذا وهو ما حصل في مكة من مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في الميتة، فقالوا: تزعم أن ما ذبحته أنت بيدك حلال وأن ما ذبحه الله بشمشار (كلمة أصلها فارسي وتعني السيف) من ذهب حرام، وهذا من وحي الشياطين ليجادلوه، والشياطين هنا اختُلف فيهم هل هم شياطين الجن أم شياطين الإنس، ومن المفسرين من يرى أن المقصود بالشياطين هنا اليهود، ومنهم من يرى أنهم شياطين الجن، وعموما فالآية قابلة لكل ذلك ولا مانع من حملها على المحملين.
ثم ناقشنا مع هؤلاء السجناء أيضا الاستدلال بقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (سورة المائدة آية 45)، وكان النقاش فيها أكثر حدة من سابقتها لأنها آية يستدل بها الجميع، وقد بينا لهم أن هذه الآية تضمنت عمومين، عموم "من" وعموم "ما"، وكلاهما من العام الذي هو ثلاثة أقسام:
عام باق على عمومه
وعام مراد به الخصوص
وعام مخصوص،
فمن أي الأنواع الثلاثة هذان العامان في هذه الآية؟ فقالوا في البداية إنهما من العام الباقي على عمومه، وانطلقنا معهم من هذا المبدأ، وقلنا إذا كان كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر،
فسألناهم هل أنتم حكمتم بما أنزل الله؟
فأجابوا بالنفي وبالقول إنهم ليسوا حكاما، فقلنا إن العام الباقي على عمومه يتناولكم لأن الله لم يقل ومن لم
يحكم من الحاكمين بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا الأمر يشمل جميع الخلق إذا أبقي على عمومه.
وكذلك قوله تعالى (ما أنزل الله)، العام الذي فيها إذا قلتم هو باق على عمومه فيشمل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عموم ما أنزل الله يشمل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والناسخ والمنسوخ وكل ما أنزل الله، ولا أعلم أحدا على وجه الأرض حكم بكل ما أنزل الله، بما في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الأنبياء والرسل، فهل يكفرون بهذا؟
وحينئذ عرفوا يقينا أن العام في الموضعين ليس من العام الباقي على عمومه، وأنه العام المخصوص ثم بحثنا في هذه المسألة وزالت الشبهة والحمد لله.
وهكذا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرفنا الإيمان وقبله ما كنا نعرفه، بل قد قال الله له (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (سورة الشورى آية 52)، فلم يكن هو يدري الإيمان قبل نزول القرآن عليه، فعرفنا بالإيمان وقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما هو إيمان فهو إيمان، وما يقابله أيضا مما بينه فهو الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال "لا يواظب على الوضوء إلا مؤمن"، وسقنا أقوال أهل العلم في هذه المسألة مثل ما ذكره الذهبي وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وما قاله الأشعري وما قاله عدد من الأئمة في هذا من عدم تكفير من يواظب على الوضوء، وغير ذلك.
كما بينا موانع التكفير وشروطه، وقلنا إن التكفير حكم قضائي لا يصلح كل أحد لإصداره، إضافة إلى تصحيحنا شبهة أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه الشبهة ليست على إطلاقها، وهي تنطلق أولا من معرفة من هو الكافر، ومعنى هذه القاعدة أن من لم يكفر بما يُكفَّر به فزعم أن المشركين واليهود والنصارى مسلمون وأنهم غير كفار، لكن من لم يكفر شخصا بعينه لم يعرفه أصلا لا يمكن أن تتناوله هذه القاعدة.
وكذلك ناقشنا معهم ما يتعلق بقضية الولاء والبراء، وهي قضية بحثناها كثيرا لأن بعض الإخوة يفهمون الولاء فهما شموليا فيرون أن كل معاملة للكفار هي موالاة لهم، وقد بينا لهم بطلان ذلك وأن الله سبحانه وتعالى فصل بين الكفار فقال (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (سورة الممتحنة آية 8-9)
وقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة آية 8)،
وقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله) (سورة المائدة آية 2)، والآيتان الأخيرتان في سورة المائدة وهي آخر ما أنزل من آيات الأحكام.
وبينا لهم أن الله تعالى أذن في الزواج بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، ولا يمكن أن يقول إنه يجوز لك أن تتزوجها ويجب عليك أن تبغضها، فهذا مستحيل عقلا، بل يجوز أن تحبها حبا طبعيا وذلك غير مناف للبراء من دينها وملتها، وبينا أن الولاء هو النصرة في الدين وأن الله بين ذلك في قوله (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا، أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) (سورة الأنفال آية 72).
وكان مما قلناه لمن يكفرون الحكام لأنهم أعانوا الأميركيين أو فتحوا لهم قواعدهم لتدمير العراق وأفغانستان، أن سألناهم لو أن حكام المسلمين غزوا العراق وأفغانستان مثلما غزتهما أميركا ودمروها على رؤوس أهلها، هل يكفرون بذلك فقالوا لا، فقلنا كيف تكفرونهم بعونهم على هذا الفعل رغم أن مباشرة الفعل نفسه لا تكفرهم. والمباشرة تقطع حكم التسبب والتسبب لا يقطع حكم المباشرة.
فتبين إذن أن المقصود بالولاء هو النصرة في الدين، وضربنا لهم مثالا في ذلك لو أن قبيلتين متجاورتين إحداهما مسلمة والأخرى كافرة فاقتتلتا على أرض بينهما، فزعمت القبيلة المسلمة أنها لها وزعمت الكافرة أنها أرضها، فساعد بعض المسلمين تلك القبيلة الكافرة ضد القبيلة المسلمة بسبب هذا الخلاف، فهل يكفرون بذلك؟ فقالوا لا لأن هذا قتال ليس في الدين.
وبعد هذا أيضا كان النقاش في ما يتعلق بالمستأمنين عموما فذكرنا الإخوة بما أخرجه البخاري في الصحيح وغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قتل معاهدا في عهده لم يرح رائحة الجنة)، وكذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من أحاديث في هذا الباب، وكان الإخوة يرون أن هؤلاء دخلوا بأمان كاذب وهو أمان غير مسلم، وكان من أجوبة ذلك أن سألناهم أرأيتم هل هؤلاء المستأمنون يكفرون الحكام أو لا يكفرونهم، فقالوا لا يكفرونهم بل يرونهم حكاما مسلمين، فقلنا لهم إنه من المنصوص فقها أن المستأمَن إذا أخذ الأمان من أحد رعايا الدولة الإسلامية يظنه مسلما فبان كافرا فإن الأمان صحيح، وهذا محل اتفاق.
وأثبتنا لهم أن الإسلام دين السلم والأمان، ولذلك إذا أشار المسلم إلى الكافر إشارة فهمها الكافر بالأمان فإن الأمان جار عليه، وقد عصم دمه، وكذلك إذا قال له تعال اعطني السكين لأذبحك ففهمها على أن معناها "أنت في أماني" فإنه يكون مستأمنا ولا يحل الاعتداء عليه، وهكذا، إضافة إلى أن الذمة تصدر من أدنى المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يقوم بذمتهم أدناهم"، وتصدر من الطفل غير البالغ إذا أمّن أحدا، وتصدر من الفاسق أيضا. والواقع أن الإخوة الذين حاورناهم كان لهم إلمام جيد بهذه الأحكام واطلعوا على الكثير من هذا، لذلك قبلوا الحق لما سمعوه.
لمستم لديهم ثقافة شرعية ورسوخا في الحجاج؟
طبعا، فهؤلاء الشباب أكثرهم من المثقفين والدارسين في المحاضر (مدارس للقرآن والعلوم الشرعية)، بل إن بعضهم يشار إليه بالعلم وبعضهم من الخطباء.
هل معنى هذا أن فكر القاعدة في أغلبه يستند على شبهات أم أن له فعلا مستندات شرعية؟
نحن لا نعرف فكر من لم نناقشه، أما الذين ناقشناهم فقد ذكرنا في ما سبق حججهم والرد عليهم أيضا، ومن لم نلقهم لا ندري ما لديهم من الحجج.
هل غيرت فعلا فكر وقناعات هؤلاء السجناء؟
الله أعلم، فنحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، لكن أشد هؤلاء في ما كانوا عليه هم المنتمون للقاعدة، وقد أقسموا وكتبوا في أغلبهم أنهم اقتنعوا الآن بأن ما فعلوه باطل وتابوا منه وأعلنوا توبتهم من قتل الفرنسيين ومن كل الممارسات التي فعلوها، وتعهدوا بألا يعودوا إلى مثلها وبألا يحملوا السلاح في بلاد موريتانيا لا على مسلم ولا على كافر، وأنهم حتى لو مكثوا في السجن مددا طويلة لن يحملهم هذا على تغيير ما توصلوا إليه، وأن ما وقع عليهم من ظلم أو تعذيب أو غير ذلك في المدد السابقة لا يغيرهم عما اقتنعوا بأنه شرع الله، بل بعضهم أقسم لنا قبل الحوار أننا لو أقنعناه بأن ما فعله مخالف لشرع الله لتاب منه حالا ولرجع ولأطاع ولي الأمر.
هل الدولة مقتنعة بما وصلتم إليه مع السجناء ومطمئنة إليه؟
لم ألتق كثيرا من عناصر الدولة الذين أشرفوا بشكل مباشر على الحوار، لكن رئيس الدولة مقتنع بأن هذا الحوار له فعلا أثره وفائدته.
إذن فالدولة مستعدة للمضي في تنزيل نتائجه؟
نحن نطالب الدولة الآن بتعجيل ترتيب خطوات إيجابية على هذا الحوار وقد قدمنا مطالبنا في هذا الخصوص إلى رئيس الدولة مباشرة، ووعد خيرا، ومن ذلك تعجيل إطلاق سراح المظلومين من هؤلاء الذين لم يقوموا بأعمال إجرامية من قبل وأيضا محاكمة الآخرين والعفو عنهم لأن هؤلاء لا يمكن تصنيفهم على أنهم محاربون ولا قطاع طرق، بل أقصى ما يمكن أن يصنفوا به بالنسبة لمن حمل منهم السلاح ضد الدولة أنه كان باغيا، والبغي كما قال النووي وغيره ليس فسقا، فقد بغى عدد من الصحابة وخرجوا في الفئة الباغية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، والجهة التي قتلت عمارا فيها معاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم.
ولذلك إذا تقرر ذلك ووصفوا بالبغي فإن القضاء لا يستطيع أن يحكم عليهم بالعقوبة بعد أن استسلموا ودخلوا في طاعة الدولة وألقوا السلاح، بل ليس له أن يعاقبهم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم موقعة الجمل نادى مناديه ألا يدفف على جريح وألا يتبع منهزم وألا تسبى سبية وألا تسبى غنيمة.
هل السلطات الموريتانية في نظركم مستعدة لأن تدمج هؤلاء في المجتمع وتتخذ تدابير لمنعهم من العودة إلى ما كانوا عليه من قبل؟
المجتمع عندنا مجتمع منفتح، فهؤلاء مندمجون فيه على كل حال، فهم أبناء أسر كريمة وعوائل عريقة وأبناء قبائل، والمجتمع عندنا ما زال قبليا كما كان، وعندهم أين سيذهبون ويندمجون لو خرجوا. والأهداف التي كانت متوخاة من الحوار ثلاثة أهداف:
الأول هدف شرعي وهو إظهار براءة الإسلام من الأفكار المنحرفة كالتكفير والاعتداء وحمل السلاح في بلاد المسلمين على المسلمين وعلى المستأمنين وإخافة الطريق ونحو ذلك، فهذا هدف نجحنا في تحقيقه والحمد لله، والهدف
الثاني هدف اجتماعي وهو رفع الظلم عن المظلومين وتخفيف معاناة هؤلاء السجناء الذين مضت عليهم سنوات لم يلتقوا فيها بأزواجهم ولم يقوموا بأعمالهم وأسرهم هم العائلون لها والقائمون عليها،
والهدف الثالث هدف أمني هو تجنيب البلاد مثل هذه المشكلات، وهذا لا يتحقق إلا باتفاق مع قيادتهم وهي في الخارج، إذا وقعت معها الدولة اتفاقا على ألا تقوم بأي أعمال إجرامية وألا تدخل أي سلاح إلى موريتانيا، فسيكون بذلك قد تحقق هذا الهدف.
ألا ترون أنه بهذه الطريقة فإن موريتانيا ستعقد صفقة مع تنظيم القاعدة تعطي الأمان لأعضائه مقابل أن يعطيها هو الأمان، وهذا ليس تغييرا لفكر بقدر ما هو هدنة وتحييد للقاعدة على الأراضي الموريتانية فقط؟
ليس الأمر بهذا الشكل، فالدول أقوى من التنظيمات والأفراد ولا تقارن أو تقاس بها، لكن هناك مصالح معينة منها أن موريتانيا مقبلة على استثمارات وعلى التنقيب عن النفط والغاز في مناطق نائية شاسعة، وتحتاج إلى أن يدخلها كثير من المستأمنين من الشركات الغربية والشرقية، ولا يمكن أن تستقر هذه وتستثمر إلا في أمن وأمان، فعلى الأقل إذا توصلت موريتانيا إلى مثل ما توصلت إليه مالي مع القاعدة بألا يدخلوا السلاح إلى أراضيها وألا ينشطوا فيها، فآنذاك لن تكون لهم مشكلة مع موريتانيا ولن يدخلوها، وموريتانيا أيضا ليس من شأنها أن تحاربهم نيابة عن أميركا أو نحو ذلك.
لكن ألن يعرض ذلك موريتانيا لضغوط من الغربيين بدعوى أنها لا تحارب ما يسمونه الإرهاب؟
هذا ليس صحيحا في ما أرى، بل إن موريتانيا إذا توصلت إلى مثل هذه النتيجة تستطيع أن تضمن للبلدان الغربية سلامة رعاياها الموجودين على الأراضي الموريتانية، لأن الذين يمكن أن يتعرضوا لهم تغيرت أفكارهم وعرف أنهم أعطوا العهد ألا يحملوا سلاحا في البلد وألا يثيروا أي مشكلات، وبالنسبة لما حصل من العمليات الماضية تعرف أميركا وإسبانيا وفرنسا أنها ليست صادرة من موريتانيا وإنما من تنظيم موجود له قيادته خارج موريتانيا، فالحرب بينهم وبين القاعدة هي خارج حدود البلد، وبذلك ستنتقل هذه الحرب خارج موريتانيا.
هل معنى هذا أن موريتانيا طهرت أرضها من فكر القاعدة ولن تسمح مستقبلا بدخوله إليها؟
إن شاء الله، هذا بحسب الظاهر، ونحن قلنا إننا قوم نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، وليس المقصود أيضا أننا ناقشنا في هذا الحوار كل ما لدى القاعدة من فكر، وليس معنى ذلك أن كل ما لدى القاعدة خطأ مائة بالمائة، نحن لا نزعم ذلك، وليس معنى هذا أننا ناقشنا القاعدة بقيادتها وزعامتها، الذي نزعمه فقط أنا غيرنا أفكار هذه المجموعة المحدودة التي حاورناها، والمنتمون منهم إلى القاعدة على كل حال أفراد قلائل. والطرح الذي طرحه هؤلاء طرح شرعي وتبين لهم أنه مخالف للشريعة واقتنعوا بذلك.
هل سيكون لهذا الذي فعلتموه في موريتانيا تأثير على محيطها في المغرب العربي؟
إذا نجحت هذه التجربة فقطعا ستأخذ بها بعض الدول الأخرى، والمغرب الآن فيه لجنة لإنصاف المظلومين خلال عقود مضت، وقد وصلت إلى نتائج طيبة، ويمكن أن تصل هذه اللجنة أيضا إلى إنصاف المظلومين من أصحاب هذا الفكر.