من هناك
01-14-2010, 06:35 AM
حزب أردوغان والاحتيال على أتاتورك
تتعدّد الآراء في شأن تجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي في الحكم، من حيث هو حزب ذو جذور إسلامية، محافظ اجتماعياً، ليبراليّ اقتصادياً، وعلماني في السياسة الخارجية. إلّا أنّ هناك شبه إجماع على أنّه، من بين جميع تجلّيات الحركة الإسلامية التركية، القديمة قدم تأسيس الجمهورية، كان الأبرع في اكتشاف «من أين تؤكَل كتف الكمالية الأتاتوركية»
إعداد: أرنست خوري
يعترف جميع المراقبين، حتى معارضو حزب «العدالة والتنمية»، بأنّه تعلّم من جميع دروس الماضي، وعرف الخطوط الحمراء التي لا يجدر تجاوزها مع العسكر والمؤسسات العلمانية في تركيا. عرف أنّ الخطوط الحمراء هذه، لو أحسن التعاطي معها، تفقد لونها، وتفقد صفة «ممنوع اللمس»، وأنّ كلّ شيء برسم الوقت يصبح ممكناً. حزب خفض سقف شعاراته الإسلامية إلى حدّ الصفر زمن التأسيس، ليصبح قادراً في ما بعد على المجاهرة بإسلامية حديثة ومعتدلة لا حرج فيها. لعب على وتر الكارثة الاقتصادية ليصوّر نفسه، وليكون بالفعل، «المنقذ» الاقتصادي، وليقنع الناس بأنّه قادر على جعل تركيا كإسطنبول، التي قدّم رجب طيب أردوغان نموذجاً في نهضتها زمن ترؤسه بلديتها. استفاد من فساد خصومه ومن صورة الضحية التي كانها رموزه لعقود، ليتحوّل إلى اليد الأنظف الجديرة بالثقة. ناور على جبهة بحث الغرب والولايات المتحدة عن نموذج إسلامي صالح للتعميم، فانتهت به الحال إلى المجاهرة بأنه حزب وريث لإسلام سياسي يؤمن بقيم الليبرالية في السياسة، وبالغرب في العلمانية وبالرأسمالية في الاقتصاد، وقادر على أن يقول بعبارة واحدة إنّ «تركيا إسلامية وأوروبية ومتوسّطية وشرقية وغربية وقوقازية وآسيوية في آن واحد».
إسلامه مختلف عن جميع نماذج الإسلام السياسي، ليس في تركيا فحسب، بل في العالم كله تقريباً. فهو إسلام يعمل بالتقسيط. لا حسب طريقة شغل «الإخوان المسلمين» اعتماداً على أسلمة المجتمع تمهيداً لإعلان الدولة الإسلامية، ولا وفق أساليب الإسلام الردايكالي الذي يهدف إلى ضرب مؤسسات الدولة العلمانية لإسقاط الإسلام، ولو بالقوة، على المجتمع، على الطريقة الجزائرية. لا هذا ولا ذاك، ولا حتى بينهما. إنّه حزب ينطلق من أنّ الإيمان الديني للمسؤول السياسي هو الركن الأساس لممارسة إسلامه في الحكم، بالتقية حيناً أو بالمجاهرة أحياناً، بحسب مقتضيات الظروف. أحسن أركانه العمل خطوة خطوة بصبر لا يُضاهى. جعلوا من قضية حق زوجاتهنّ في ارتداء الحجاب الإسلامي أولوية الأولويات، على اعتبار أنها لا تمسّ، ديناً ولا إيماناً، بل حقاً فردياً وحرية شخصية. ربحوا الرهان ونالوا تأييداً واسعاً من دون أن يضطروا إلى خوض معركة فيها شعار إسلامي واحد. أدركوا أنّ الحدّ من ظواهر «الإسلاموفوبيا» في تركيا على الصعيد الوطني، سيقلّب قطاعات واسعة ضدهم بحجّة العمل على «أسلمة الدولة»، فانتظروا حتى سيطر ممثلوهم على محافظات وبلديات عديدة، ليبادر العديد منها إلى رفع الضرائب على الكحول مثلاً، أو منعها في بعض الأحياء بمبررات أمنية وقانونية لا دينية، لتبقى «خطط الأسلمة» محصورة في إطار التقارير الصحافية غير المثبَتة بدليل، إلا إذا كان تقدير النوايا ومحاسبة الرغبات دليلاً في معجم «الأعداء» الكثر لأردوغان ورفاقه.
مثال آخر معبّر؛ الحجاب طبعاً. رفض الرجلان الأول والثاني في الحزب، أردوغان وعبد الله غول، خوض معركته عند تأسيس حزبهما الذي «لن يبحث عن المتاعب الدستورية والسياسية» مع أرباب العقيدة الكمالية المتشدّدة. التفّ أردوغان وصحبه على الموضوع. دخلوا إليه من باب الحرية الفردية ليس بشكل عام، بل الحرية الفردية لزوجة أردوغان المحجبة، أمينة، وزوجة غول المحجبة أيضاً، خير النساء. ربحوا معركة دخول محجَّبة إلى قصر شنقايا عند انتخاب غول رئيساً في 2007، مع معرفتهم أنّ الفوز بمعركة خير النساء غول، أسهل من الفوز بمعركة إلغاء منع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية. حينها، استفاد هؤلاء من كسر الخط الأحمر، فطرقوا عام 2008 باب إلغاء الحظر المفروض على حجاب طالبات الجامعات. حرب كادت تكلّف الحزب الحاكم حياته، إلا أنه ربح المعركة.
أربكان يرى أنهم تنازلوا إسلامياً وهم يرون أنه لم يحسن لا التفاوض ولا التأقلم مع الظروف
وفي جميع معاركهم، تسلّح أردوغان وشركاؤه بورقة لا تقاوَم، واستغلّوها أحسن استغلال لإحراج خصومهم ولتمرير مشروعهم: عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وبما أنّ القوى التركية التي تجاهر برفض انضمام دولتهم إلى النادي الأوروبي، نادرة، فقد غلّف رجال «العدالة والتنمية» معظم إصلاحاتهم بالمطالب الأوروبية المستعجلة دائماً. من هنا طُرح مشروع دستور جديد. انتظر أردوغان وزملاؤه نحو 6 سنوات من الحكم قبل أن يتفوّهوا بكلمة عن نيتهم طرح دستور عصري جديد وبديل عن الدستور العسكري المستمر منذ 1982، أكثر ديموقراطية ويساوي بين جميع المكونات التركية على أساس المواطنة فحسب. وفي 2008 فقط، بدأ أردوغان يلمّح إلى نيّته، ليس تعديل الدستور الحالي، بل طرح دستور جديد بالكامل على الاستفتاء الشعبي بعد أول انتخابات تشريعية تؤلّف مجلساً نيابياً يكون بمثابة لجنة تأسيسية لـ «تركيا جديدة». تركيا لا يشك خصوم أردوغان في أنها ستكون إسلامية الحكم، رغم أنه يكرر ويكرر أنْ لا أجندة مخفية لديه.
لا تُحصى النماذج عن تجربة «العدالة والتنمية» الذي لا يزال قادته يرفضون تصنيفه في خانة «الأحزاب الإسلامية» إلّا إذا أضيفت إليها الأوصاف التالية: ديموقراطي يؤمن بالحريات العامة والحقوق الفردية ولا يؤمن بالنضال المسلَّح. أصلاً، تميز الإسلام السياسي في تركيا بأنّ أياً من فصائله الوطنية لم يعتمد النضال المسلح يوماً. على أي حال، فإنّ براغماتية هذا الحزب وواقعيته واعتداله وتوسّله السياسة حصراً للوصول إلى أهدافه المعلنة التي لا ترد فيها أي إشارة إلى الإسلام، عوامل جعلت العديد من التيارات الإسلامية في تركيا والعالم العربي وخارجهما، ترى أنّ الحزب لا يمتّ إلى الإسلام إلّا بصلات القشور. ويتساءل هؤلاء: هل يمكن الاكتفاء بمطالبة حزب ما بأن تكون «حقوق المسلمين في تركيا متساوية مع غير المسلمين»، كما كان يكرّر أستاذ ومرشد أردوغان وغول، نجم الدين أربكان، لكي يصبح جائزاً اعتباره إسلامياً؟ ثمّ ألم يرَ خلفاء أربكان في حزب «السعادة»، يتقدمهم زعيم الحزب رجائي قوطان، أنّ «جماعة العدالة والتنمية» أصبحوا بمثابة «الخوارج»؟ حتى إنّ هؤلاء لجأوا إلى جميع الوسائل لتشويه صورة أردوغان وصحبه، وخصوصاً خلال عدوان غزة في العام الماضي، حين ثار غضب «السعادة» وآخرين على الحزب الحاكم على خلفية «الرد الناعم» ضد «المجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني المسلم». سلوك شبيه باليوم الذي لم يتمالك فيه قوطان نفسه، عندما رأى زميله السابق أردوغان يعلن ولادة حزب «العدالة والتنمية» ورمزه «اللمبة»، «فبادر إلى تكسير كل اللمبات في منزله، ووزّع تعميماً على جميع مراكز حزبه لنزع اللمبات منها واستبدالها بلمبات الفلوريسان»، وفق ما يرويه الأستاذ محمد نور الدين.
هو نفسه «العدالة والتنمية» الذي أقلّ ما يقول فيه خصومه العلمانيون الداخليون إنّه يمثّل «الرجعية والنازية بصيغتها الإسلامية» لتشدّد قادته وعقيدته.
ولأنّ «العدالة والتنمية» وريث تيارات أبي الإسلام التركي أربكان وأحزابه الإسلامية العديدة (النظام الوطني، السلامة الوطني، الرفاه، الفضيلة، والسعادة)، يجدر التذكير بأنّ مصائب أربكان وأحزابه، التي انضمّ إليها معظم قادة «العدالة والتنمية» في فترات متفاوتة، جعلت هؤلاء يتعلّمون من تجاربهم ومن «أخطاء» أربكان وتشدّده ورغبته في الوصول إلى أهدافه بالطرق الأكثر مباشرة. هكذا، فإنّ «الانقلاب الأبيض» ضد حكومة وحزب أربكان في 1997، وما رافقه من هجمة أكثر من شرسة على كل ما يمتّ إلى الإسلام بصلة، جعلا أردوغان وغول ورفاقهما يفهمون أنّه حان الوقت لإعادة تقويم كامل لتجربتهم السياسية من ناحية التعاطي مع العسكر ومع قيم جمهورية أتاتورك ومع القيّمين عليها.
وفي إطار هذه المراجعة النقدية، بدا أنه كان على أردوغان، خرّيج معاهد «إمام خطيب» الدينية التي جعلته متشدّداً في إسلامه، أن يتعرّض للسجن 4 أشهر، وللمنع من مزاولة العمل السياسي، ليقتنع بأنّ هناك مجالاً للعمل باسم حزب إسلامه «غير فظّ»، وبطريقة تتفادى مواجهة المؤسسة الكمالية العسكرية والمدنية، والعمل بطريقة يصبح معها الانقضاض على الحزب أمراً مستحيلاً. ويرى كثيرون أنّ هذا هو الوضع الذي نجح في تثبيته أردوغان ورفاقه، إذ إنّ هناك شبه إجماع، اليوم، على أنّ خيار الانقلاب العسكري أصبح شبه مستحيل. وبفضل الاحتضان الشعبي واعتداله ونجاحه الاقتصادي، وفي السياسة الخارجية، أصبح بإمكانه التفلّت أكثر من القيود التي فرضها على نفسه زمن التأسيس من ناحية التنصل من أي طابع إسلامي، وذلك من دون إثارة مخاوف الانقضاض عليه.
وقليلاً ما خاض أركان الحزب الجديد معارك كلامية مع معلّمهم وأستاذهم السابق «الخوجة» أربكان. حتى إنهم حاولوا ردّ شيء من الجميل إليه عندما أصدر الرئيس غول عفواً رئاسياً عنه في 18 آب 2008 بسبب تدهور حالته الصحية، وهو المحكوم بالسجن لعامين بتهمة اختلاس أموال حزبه «الرفاه».
حزب ليبرالي في الاقتصاد ومحافظ في المجتمع وعلماني في السياسة الخارجية
ابتعد أصحاب «العدالة والتنمية» عن «الإسلام السياسي التقليدي»، الذي لا يزال أربكان يجسّده، انطلاقاً من خلاف لا يقتصر على التفاصيل؛ رأوا أنّ أستاذهم في أحزابه لم ينجح، أولاً في مواكبة التغيرات الداخلية من ناحية المعركة المصيرية في تغيير وجه العلمانية. ثانياً، في التحديات الخارجية، حيث لم يطوّر خطابه ليصبح قادراً على قول ما كتبه ويمارسه أركان «العدالة والتنمية» اليوم عن أنّ تركيا دولة ذات أوجه إسلامية وغربية ومتوسطية وشرقية وغربية... وأنّها تستطيع أن تكون إسلامية، وأن تتحدث بكل لغات العالم في آن واحد، لأنّ الاسلام كدين، لا يتناقض مع هويات ثقافية أخرى. وأمام هذا الخلاف في وجهات النظر، فضّل أردوغان وصحبه الاكتفاء بالعمل الذي يُظهر الفوارق الكبيرة بين ما يفهمونه عن هذا الإسلام التجديدي الليبرالي، وبين ما ترجمه «الخوجة» في تجربته. رأى أربكان وخلفاؤه أنّ «العدالة والتنمية» تنازل كثيراً، بينما هم أركان الحزب يرون أنّ أباهم الروحي لم يحسن لعبة التفاوض ولا المساومة بطريقة كافية لتغيير الأوضاع في هذه «التركيا».
أراد مؤسّسو «العدالة والتنمية» القول إنهم نموذج مختلف عما قدّمه مرشدهم، فأوكلوا مهمة الكلمة التأسيسية لحزبهم إلى أردوغان، الذي أظهر كيف يستطيع المرء أن يكون براغماتياً للغاية، وحذراً في انتقاء كلماته: وقف أمام صورة لأتاتورك على أنغام النشيد الوطني التركي، لكنه لم يذكر في كلمته العامّة، لا الإسلام ولا أتاتورك. كل ما قاله، وما سيكون الخطوط العريضة لسياسة حزبه، إنّ «الدين ليس عامل تقسيم للمجتمع، بل على العكس، عامل توحيد له»، وإنّ العلمانية «تضع قيوداً للدولة لا للأفراد». إضافةً إلى أنّ المرجعية الفكرية لحزبه هي «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية». وأكمل الرجل الثاني في الحزب، عبد الله غول، الكشف عن هوية تنظيمه الجديد، فهو «ليس حزباً دينياً، ولا يريد إقامة دولة إسلامية، بل يريد إرساء الحريات الدينية وتمثيل جميع شرائح المجتمع: إسلاميون وغير إسلاميين، أثرياء وفقراء». كان خطاباً تأسيسياً أقنع 51 نائباً من الحزب الإسلامي المحظور «الفضيلة» بالانضمام إلى «العدالة والتنمية»، أو «الحزب الأبيض»، في مقابل تفضيل النواب الإسلاميين الآخرين الـ 48 حزب «السعادة»، الذي تأسّس على أنقاض «الفضيلة» قبل نحو شهر من تأسيس «العدالة والتنمية».
ومنذ اللحظة الأولى، ظهر الفارق بين إسلام «العدالة والتنمية» وإسلام أربكان: أعلن غول، بعد يوم واحد من تأسيس الحزب الجديد، أنه لن يبحث عن المشاكل مع النظام، وبالتالي لن يرشّح نساءً محجّبات، ولن يسعى إلى تعديل الدستور. كما صرّح أنّ الحزب السياسي ليس وسيلة للتبشير ولا للدعوة ولا للتبليغ. كلام يرجّح أن القصد منه كان الإشارة إلى «مللي غوريش» (النظرة الوطنية)، وهي الجمعية الإسلامية التي أسّسها أربكان في السبعينيات، ولا تزال تجذب مؤسّساتها أعداداً كبيرة من مسلمي أوروبا، وخصوصاً ذوي الجذور التركية، وهي تعدّ الخطّ المسيّر لأحزاب أربكان كلها.
وحتى لو أنّ خلف «العدالة والتنمية» يقف إمبراطور ديني ومالي بحجم الداعية المعتدل المنفي في الولايات المتحدة فتح الله غولن، فإنّ هذا الدعم والإسناد لم يطولا يوماً ما قد يسمح للعسكر وللمغالين في العلمانية باتهام الحكومة أو الحزب الحاكم بالاحتكام إلى المرجعية الدينية في عملهم السياسي.
اختلف مؤسّسو الحزب الجديد حول رمز (اللمبة أو زهرة دوار الشمس) واسم مولودهم (الحزب التجديدي أو العدالة والتنمية)، لكنهم اتفقوا على شعار غاية في الرمزية: «الانفتاح على التنوير والانغلاق على العتمة».
تعميم إسطنبول يُعَدّ رجب طيب أردوغان نموذجاً يمكن تدريسه عن الشخص الذي حمل حزباً على ظهره. رجل أبلى بلاءً حسناً في بلدية إسطنبول، أكبر المدن التركية وأكثرها حداثةً وتطوراً، فقدّم نموذجاً جعل ملايين الناس ينتخبون حزبه في ما بعد، لعلّه يفعل بتركيا ما فعله بهذه المدينة. صحياً واقتصادياً واجتماعياً ورياضياً، جعل أردوغان من إسطنبول، منذ تولّيه رئاسة بلديتها عام 1994، مدينة نموذجية. وعام 2002، كان أردوغان ممنوعاً من الترشّح للانتخابات حتى، لكن ذلك لم يمنع حزبه من تولّي الحكومة، التي ورثت ليرة تركية لا قيمة لها، وديوناً هائلة، وفساداً مستشرياً تتحمل مسؤوليته حكومات بولنت أجاويد ومسعود يلماظ ودولة بهشلي وطبعاً كمال درويش، ملهم الليبرالية الاقتصادية والخصخصة في تركيا.
سريعاً، انتقلت تركيا من المرتبة الـ115 على مستوى العالم في مسألة جذب الاستثمارات إلى المرتبة الـ23، وها هي اليوم تحتل الموقع الـ16 في قائمة أكبر الدول من حيث الحجم الاقتصادي. معطيات تتصدر الأجوبة عن السؤال الدائم: لماذا كل هذه الشعبية؟
«أسلمة» السياسة الخارجيّة صحيح أنّ الغرب أراد تعميم نموذج إسلامي يناسبه على دول المنطقة، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ الإسلام التركي، بعد أحداث 11 أيلول 2001، أراد الاستفادة من هذه الثقة الغربية الموضوعة فيه لتؤدّي تركيا دور القوة الإقليمية العظمى في منطقة كانت، لقرون، ملعبها الاستعماري الكبير. لكنّ هذا الغرب كان، ولا يزال، واقعاً في تناقض واضح في ما يخصّ رؤيته لتركيا: يريدها نموذجاً قائماً لإسلام «معتدل»، لكنه لا يودّ أن تعود إلى العالم العربي ومحيطها الحيوي الذي انسلخت عنه بفعل خسارة الحرب العالمية الأولى.
موقف اتفق عليه جمهوريّو الولايات المتحدة وديموقراطيّوها المتحمّسون إلى رؤية تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي. هكذا خرق الرئيس الأميركي السابق جورج بوش البروتوكول، واستقبل رجب طيب أردوغان بحفاوة نادرة في البيت الأبيض بعد الفوز المدوّي لـ«العدالة والتنمية» في 2002، رغم أنّ الرجل كان في حينها، مجرد زعيم للحزب. كان عود حكّام «العدالة والتنمية» طريّاً في السلطة عندما وجب عليهم مواجهة أصعب موقف ممكن في العلاقات الدولية: التعاطي مع احتلال العراق. كثرت حسابات أردوغان ورفاقه: تكريس موقع التابع الوفي للسيد الأميركي وفتح الأراضي والأجواء التركية أمام الغزاة، وإمكان استعادة الموصل وتحييد كركوك وتركمانها عن أحلام الأكراد. أو التجرّؤ على قول «لا» للإمبراطورية، وتحمّل تبعات الوضع بما أنّ عدم تغطية غزو العراق لم يكن الخيار الغالب في المنطقة في حينها. ومعروف أن دول الخليج عموماً وإيران، كانت موافقة ضمناً على الغزو، وقلّة كانت الحكومات الرافضة له، سوريا في مقدمتها.
قالت تركيا «لا» التاريخية، ومثّلت لعدد لا يستهان به من الشعوب العربية، تلك الدولة المسلمة التي تحاكي موقفهم غير المتفق كالعادة مع حكّامهم. «لا» كانت صدمة في العلاقات الأميركية ـــــ التركية، لم تصل إلى حدّ القطيعة، لكنها فتحت باباً واسعاً لتكريس هذه الدولة قطباً جديداً وإسلامياً لا يمكن تجاوزه.
وفي السياسة الخارجية التركية للحكام الجدد، كان الإسلام موجّهاً حيناً، ومعياراً أحياناً، لكن دائماً على صورة إسلام عصري لا تتناقض أسسه مع قيم الاتحاد الأوروبي، وهو ما كان نقطة خلافية أساسية بينهم وبين أستاذهم السابق نجم الدين أربكان، الذي لم يكن يرى في الاتحاد الأوروبي، سوى «نادٍ مسيحيّ بالٍ».
سمح الإسلاميون الجدد لأنفسهم بالتحرر من عيب القول إننا مسلمون في السياسة الخارجية: تحدّوا التنين الصيني عندما اندلعت أزمة الأويغور المسلمين. في فلسطين هزّوا عرش تحالفهم الاستراتيجي مع الدولة العبرية التي «تقتل المسلمين وغير المسلمين». في السودان، دافعوا عن عمر حسن البشير «المسلم». خاض مواطنهم إكمال الدين إحسان أوغلو حملات الدفاع عن المسلمين منذ تولّى الأمانة العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي عام 2005. اقترحوا «السوق الإسلامية المشتركة» في منتدى جدّة. كانوا أول من اعترف باستقلال إقليم كوسوفو المسلم وصمّموا علمه. بحثوا عن الأقليات المسلمة المضطهدة في أوروبا ليرفعوا لواء إحقاقها... والآتي أعظم.
هكذا يتوزّع الأنصار طبقيّاً واجتماعيّاً حمل يوم تأسيس حزب «العدالة والتنمية» في 14 آب 2001، مجموعة من الرموز حول هوية المؤسّسين الـ 74: 13 امرأة من طبيبات إلى أساتذة جامعيات ومقدّمات برامج ومغنّيات ومحاميات، بينهنّ 6 محجّبات فقط. أمّا الرجال، فمجموعة من الرياضيين ورجال الأعمال والصناعيين والسياسيين بالوراثة ورجال الدين والأساتذة الجامعيين. ولفهم التركيبة الجغرافية ـــــ الطبقية ـــــ الاجتماعية ـــــ الاقتصادية التي يجسّد حزب رجب طيب أردوغان مصالحها، وجب اتخاذ الانتخابات الأولى التي حملته إلى السلطة، في 3 تشرين الثاني 2002، بمثابة عيّنة؛ حصد فيها «حزب اللمبة» 363 نائباً من أصل 550: 34.4 في المئة في مقابل 2.5 في المئة لـ«السعادة». «إبادة» سياسية. نجاح نموذج إسلامي هنا، وفشل ذريع هناك.
وتُقَدَّر القاعدة الانتخابية للإسلام السياسي في تركيا بنحو 15 في المئة، ذهب منها 2.5 في المئة إلى «السعادة»، وبالتالي نجح «العدالة والتنمية» بفضل ما بين 12 و13 في المئة فقط من أصوات الإسلاميين، وبواسطة 21 في المئة من الأصوات الآتية من خارج هذه البيئة. كذلك نجح حزب أردوغان في «سرقة» 4 في المئة من ناخبي اليسار الديموقراطي ونحو 15 في المئة من أصوات اليمين المحافظ. وحلّ أولاً في العاصمتين أنقرة واسطنبول، وثانياً في عاصمة الثراء والغرب التركي إزمير. وفي المقلب الآخر، نال 29 في المئة من الأصوات في جنوب وجنوب شرق الأناضول الكردي، أفقر مناطق تركيا، إضافة إلى التقدّم الأكبر في مناطق وسط وشمال الأناضول، الأقل تقدماً من الغرب الأوروبي للبلاد. نموذج لحزب قاعدته الشعبية شديدة التنوع. أما اجتماعياً، فيمثّل «العدالة والتنمية» الطبقة الوسطى والرأسمالية الصاعدة في الداخل التركي، أي في الأناضول، البعيد عن جنّات اسطنبول وأزمير.
والبورجوازية الجديدة في تركيا، رغم أنها صاعدة حديثاً في السلم الاجتماعي، إلا أنها قوية للغاية، وهي وليدة واقع تاريخي ظلمها منذ عهد أتاتورك. فعندما أعلن الرجل جمهوريته الجديدة، لم يكن لديه أكثر من بقايا إمبراطورية شاسعة، كانت تعيش على الجزيات والضرائب والعمولات التي تعيد توزيعها تحديداً على الجيش وضباطه في أحد أشكال إعادة إنتاج النظام الإقطاعي لنفسه. أراد «أبو الأتراك» بناء اقتصاد حقيقي، فما كان منه إلا أن حصر كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي بالدولة التي خطّطت وبنت الصناعات وأدارت التجارة والزراعة، و«لزّم» قطاعات كاملة لمجموعة قليلة من العائلات في المدن الكبرى، وخصوصاً الساحلية منها، مهملاً الداخل الأناضولي وجنوب وجنوب شرق البلاد، لكون هذه المناطق «متخلّفة» وبحاجة إلى سنوات ضوئية لتواكب مسيرة «التحديث» على الطريقة الأوروبية التي أرادها. لكنّ إدخال الرأسمالية أدى إلى ولادة طبقة وسطى وبورجوازية كان لا بد أن تسعى إلى احتلال موقعها في صنع القرار الاقتصادي والسياسي. ويربط عدد من الخبراء في الشأن التركي بين صعود «العدالة والتنمية»، ونموّ طبقة وسطى رأسمالية، بعيداً عن سيطرة الدولة على الاقتصاد. كذلك فإنّ هناك شبه إجماع على أنّ مصالح ناخبي ومموّلي «العدالة والتنمية»، وهم في جزء كبير منهم من الطبقة الوسطى والبورجوازية المغتنية حديثاً، أجبرت حزب أردوغان على تليين خطابه دينياً.
معتدلون ومتشدّدون وعلمانيّون تُظهر الصورة العامّة لحزب «العدالة والتنمية» أنّه كتلة حزبية عقائدية متجانسة بدليل التناغم الحاصل بين أركانه رجب طيب أردوغان وعبد الله غول وبولنت أرينش وعلي باباجان. إلّا أنّ الأتراك يعرفون أن هذا الحزب كان منذ تأسيسه، تجمّعاً لمجموعة متنوّعة من التيّارات الإسلامية المتفاوتة من حيث درجات التشدّد. حتى إنّه يضمّ عدداً لا بأس به من الشخصيات غير الإسلامية، لدرجة أنه يحتضن تياراً علمانياً، يمثّله وزير في الحكومة الحالية هو وزير السياحة إرتوغرول غوناي، الذي كان قيادياً في حزب أتاتورك، «الشعب الجمهوري».
بين إسلاميّي الحزب، هناك المتشدد دينياً (بولنت أرينش وعمر دينشر نموذجاً) والمعتدل. ويرى أتراك أن الحاصل حالياً هو بقاء السيطرة بين أيدي التيار المعتدل، الذي يمثّل أردوغان رمزه الأساسي. اعتدال لم يمنعه من إطلاق تصريحات «غريبة»، كأن يدافع قبل نحو شهرين عن الرئيس السوداني عمر حسن البشير، المتهم بارتكاب مجازر إبادة جماعية في دارفور، ويقول إنه واثق ببراءته، ببساطة لأنّ «شخصاً مسلماً لا يمكن أن يرتكب إبادة».
خلاف لا يفسد في الودّ قضيّة
لا تزال علاقة عبد الله غول ورجب طيب أردوغان موضع حيرة المراقبين. بعضهم يرى أنّ الرجلين نموذج للتناغم والاتفاق الكامل حتى على التفاصيل، وآخرون يجزمون أنّ خلافات مهمة تفرّق بينهما. فمنذ مرحلة التفكير في تأسيس الحزب الجديد، كان غول يفضّل أن يكون رمز الحزب زهرة دوّار الشمس بدل لمبة أردوغان. حسم الأمر لمصلحة الأخير. وخلال الاستعدادات الأميركية لغزو العراق، وقع الخلاف الكبير. كان الأميركيون مهتمين باجتياح بلاد الرافدين عبر تركيا: أردوغان كان مؤيّداً لوضع القواعد العسكرية لبلاده برسم القوات الغازية، وعوّل على أن تكون رغبة العسكر مماثلة. إلا أنّ غول، رئيس الحكومة في حينها، رفض الأمر، وفي النهاية رفض نواب الحزب، في الجلسة الشهيرة للبرلمان التركي في آذار 2003، فتح الأجواء والأراضي التركية أمام القوات الأميركية.
تتعدّد الآراء في شأن تجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي في الحكم، من حيث هو حزب ذو جذور إسلامية، محافظ اجتماعياً، ليبراليّ اقتصادياً، وعلماني في السياسة الخارجية. إلّا أنّ هناك شبه إجماع على أنّه، من بين جميع تجلّيات الحركة الإسلامية التركية، القديمة قدم تأسيس الجمهورية، كان الأبرع في اكتشاف «من أين تؤكَل كتف الكمالية الأتاتوركية»
إعداد: أرنست خوري
يعترف جميع المراقبين، حتى معارضو حزب «العدالة والتنمية»، بأنّه تعلّم من جميع دروس الماضي، وعرف الخطوط الحمراء التي لا يجدر تجاوزها مع العسكر والمؤسسات العلمانية في تركيا. عرف أنّ الخطوط الحمراء هذه، لو أحسن التعاطي معها، تفقد لونها، وتفقد صفة «ممنوع اللمس»، وأنّ كلّ شيء برسم الوقت يصبح ممكناً. حزب خفض سقف شعاراته الإسلامية إلى حدّ الصفر زمن التأسيس، ليصبح قادراً في ما بعد على المجاهرة بإسلامية حديثة ومعتدلة لا حرج فيها. لعب على وتر الكارثة الاقتصادية ليصوّر نفسه، وليكون بالفعل، «المنقذ» الاقتصادي، وليقنع الناس بأنّه قادر على جعل تركيا كإسطنبول، التي قدّم رجب طيب أردوغان نموذجاً في نهضتها زمن ترؤسه بلديتها. استفاد من فساد خصومه ومن صورة الضحية التي كانها رموزه لعقود، ليتحوّل إلى اليد الأنظف الجديرة بالثقة. ناور على جبهة بحث الغرب والولايات المتحدة عن نموذج إسلامي صالح للتعميم، فانتهت به الحال إلى المجاهرة بأنه حزب وريث لإسلام سياسي يؤمن بقيم الليبرالية في السياسة، وبالغرب في العلمانية وبالرأسمالية في الاقتصاد، وقادر على أن يقول بعبارة واحدة إنّ «تركيا إسلامية وأوروبية ومتوسّطية وشرقية وغربية وقوقازية وآسيوية في آن واحد».
إسلامه مختلف عن جميع نماذج الإسلام السياسي، ليس في تركيا فحسب، بل في العالم كله تقريباً. فهو إسلام يعمل بالتقسيط. لا حسب طريقة شغل «الإخوان المسلمين» اعتماداً على أسلمة المجتمع تمهيداً لإعلان الدولة الإسلامية، ولا وفق أساليب الإسلام الردايكالي الذي يهدف إلى ضرب مؤسسات الدولة العلمانية لإسقاط الإسلام، ولو بالقوة، على المجتمع، على الطريقة الجزائرية. لا هذا ولا ذاك، ولا حتى بينهما. إنّه حزب ينطلق من أنّ الإيمان الديني للمسؤول السياسي هو الركن الأساس لممارسة إسلامه في الحكم، بالتقية حيناً أو بالمجاهرة أحياناً، بحسب مقتضيات الظروف. أحسن أركانه العمل خطوة خطوة بصبر لا يُضاهى. جعلوا من قضية حق زوجاتهنّ في ارتداء الحجاب الإسلامي أولوية الأولويات، على اعتبار أنها لا تمسّ، ديناً ولا إيماناً، بل حقاً فردياً وحرية شخصية. ربحوا الرهان ونالوا تأييداً واسعاً من دون أن يضطروا إلى خوض معركة فيها شعار إسلامي واحد. أدركوا أنّ الحدّ من ظواهر «الإسلاموفوبيا» في تركيا على الصعيد الوطني، سيقلّب قطاعات واسعة ضدهم بحجّة العمل على «أسلمة الدولة»، فانتظروا حتى سيطر ممثلوهم على محافظات وبلديات عديدة، ليبادر العديد منها إلى رفع الضرائب على الكحول مثلاً، أو منعها في بعض الأحياء بمبررات أمنية وقانونية لا دينية، لتبقى «خطط الأسلمة» محصورة في إطار التقارير الصحافية غير المثبَتة بدليل، إلا إذا كان تقدير النوايا ومحاسبة الرغبات دليلاً في معجم «الأعداء» الكثر لأردوغان ورفاقه.
مثال آخر معبّر؛ الحجاب طبعاً. رفض الرجلان الأول والثاني في الحزب، أردوغان وعبد الله غول، خوض معركته عند تأسيس حزبهما الذي «لن يبحث عن المتاعب الدستورية والسياسية» مع أرباب العقيدة الكمالية المتشدّدة. التفّ أردوغان وصحبه على الموضوع. دخلوا إليه من باب الحرية الفردية ليس بشكل عام، بل الحرية الفردية لزوجة أردوغان المحجبة، أمينة، وزوجة غول المحجبة أيضاً، خير النساء. ربحوا معركة دخول محجَّبة إلى قصر شنقايا عند انتخاب غول رئيساً في 2007، مع معرفتهم أنّ الفوز بمعركة خير النساء غول، أسهل من الفوز بمعركة إلغاء منع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية. حينها، استفاد هؤلاء من كسر الخط الأحمر، فطرقوا عام 2008 باب إلغاء الحظر المفروض على حجاب طالبات الجامعات. حرب كادت تكلّف الحزب الحاكم حياته، إلا أنه ربح المعركة.
أربكان يرى أنهم تنازلوا إسلامياً وهم يرون أنه لم يحسن لا التفاوض ولا التأقلم مع الظروف
وفي جميع معاركهم، تسلّح أردوغان وشركاؤه بورقة لا تقاوَم، واستغلّوها أحسن استغلال لإحراج خصومهم ولتمرير مشروعهم: عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وبما أنّ القوى التركية التي تجاهر برفض انضمام دولتهم إلى النادي الأوروبي، نادرة، فقد غلّف رجال «العدالة والتنمية» معظم إصلاحاتهم بالمطالب الأوروبية المستعجلة دائماً. من هنا طُرح مشروع دستور جديد. انتظر أردوغان وزملاؤه نحو 6 سنوات من الحكم قبل أن يتفوّهوا بكلمة عن نيتهم طرح دستور عصري جديد وبديل عن الدستور العسكري المستمر منذ 1982، أكثر ديموقراطية ويساوي بين جميع المكونات التركية على أساس المواطنة فحسب. وفي 2008 فقط، بدأ أردوغان يلمّح إلى نيّته، ليس تعديل الدستور الحالي، بل طرح دستور جديد بالكامل على الاستفتاء الشعبي بعد أول انتخابات تشريعية تؤلّف مجلساً نيابياً يكون بمثابة لجنة تأسيسية لـ «تركيا جديدة». تركيا لا يشك خصوم أردوغان في أنها ستكون إسلامية الحكم، رغم أنه يكرر ويكرر أنْ لا أجندة مخفية لديه.
لا تُحصى النماذج عن تجربة «العدالة والتنمية» الذي لا يزال قادته يرفضون تصنيفه في خانة «الأحزاب الإسلامية» إلّا إذا أضيفت إليها الأوصاف التالية: ديموقراطي يؤمن بالحريات العامة والحقوق الفردية ولا يؤمن بالنضال المسلَّح. أصلاً، تميز الإسلام السياسي في تركيا بأنّ أياً من فصائله الوطنية لم يعتمد النضال المسلح يوماً. على أي حال، فإنّ براغماتية هذا الحزب وواقعيته واعتداله وتوسّله السياسة حصراً للوصول إلى أهدافه المعلنة التي لا ترد فيها أي إشارة إلى الإسلام، عوامل جعلت العديد من التيارات الإسلامية في تركيا والعالم العربي وخارجهما، ترى أنّ الحزب لا يمتّ إلى الإسلام إلّا بصلات القشور. ويتساءل هؤلاء: هل يمكن الاكتفاء بمطالبة حزب ما بأن تكون «حقوق المسلمين في تركيا متساوية مع غير المسلمين»، كما كان يكرّر أستاذ ومرشد أردوغان وغول، نجم الدين أربكان، لكي يصبح جائزاً اعتباره إسلامياً؟ ثمّ ألم يرَ خلفاء أربكان في حزب «السعادة»، يتقدمهم زعيم الحزب رجائي قوطان، أنّ «جماعة العدالة والتنمية» أصبحوا بمثابة «الخوارج»؟ حتى إنّ هؤلاء لجأوا إلى جميع الوسائل لتشويه صورة أردوغان وصحبه، وخصوصاً خلال عدوان غزة في العام الماضي، حين ثار غضب «السعادة» وآخرين على الحزب الحاكم على خلفية «الرد الناعم» ضد «المجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني المسلم». سلوك شبيه باليوم الذي لم يتمالك فيه قوطان نفسه، عندما رأى زميله السابق أردوغان يعلن ولادة حزب «العدالة والتنمية» ورمزه «اللمبة»، «فبادر إلى تكسير كل اللمبات في منزله، ووزّع تعميماً على جميع مراكز حزبه لنزع اللمبات منها واستبدالها بلمبات الفلوريسان»، وفق ما يرويه الأستاذ محمد نور الدين.
هو نفسه «العدالة والتنمية» الذي أقلّ ما يقول فيه خصومه العلمانيون الداخليون إنّه يمثّل «الرجعية والنازية بصيغتها الإسلامية» لتشدّد قادته وعقيدته.
ولأنّ «العدالة والتنمية» وريث تيارات أبي الإسلام التركي أربكان وأحزابه الإسلامية العديدة (النظام الوطني، السلامة الوطني، الرفاه، الفضيلة، والسعادة)، يجدر التذكير بأنّ مصائب أربكان وأحزابه، التي انضمّ إليها معظم قادة «العدالة والتنمية» في فترات متفاوتة، جعلت هؤلاء يتعلّمون من تجاربهم ومن «أخطاء» أربكان وتشدّده ورغبته في الوصول إلى أهدافه بالطرق الأكثر مباشرة. هكذا، فإنّ «الانقلاب الأبيض» ضد حكومة وحزب أربكان في 1997، وما رافقه من هجمة أكثر من شرسة على كل ما يمتّ إلى الإسلام بصلة، جعلا أردوغان وغول ورفاقهما يفهمون أنّه حان الوقت لإعادة تقويم كامل لتجربتهم السياسية من ناحية التعاطي مع العسكر ومع قيم جمهورية أتاتورك ومع القيّمين عليها.
وفي إطار هذه المراجعة النقدية، بدا أنه كان على أردوغان، خرّيج معاهد «إمام خطيب» الدينية التي جعلته متشدّداً في إسلامه، أن يتعرّض للسجن 4 أشهر، وللمنع من مزاولة العمل السياسي، ليقتنع بأنّ هناك مجالاً للعمل باسم حزب إسلامه «غير فظّ»، وبطريقة تتفادى مواجهة المؤسسة الكمالية العسكرية والمدنية، والعمل بطريقة يصبح معها الانقضاض على الحزب أمراً مستحيلاً. ويرى كثيرون أنّ هذا هو الوضع الذي نجح في تثبيته أردوغان ورفاقه، إذ إنّ هناك شبه إجماع، اليوم، على أنّ خيار الانقلاب العسكري أصبح شبه مستحيل. وبفضل الاحتضان الشعبي واعتداله ونجاحه الاقتصادي، وفي السياسة الخارجية، أصبح بإمكانه التفلّت أكثر من القيود التي فرضها على نفسه زمن التأسيس من ناحية التنصل من أي طابع إسلامي، وذلك من دون إثارة مخاوف الانقضاض عليه.
وقليلاً ما خاض أركان الحزب الجديد معارك كلامية مع معلّمهم وأستاذهم السابق «الخوجة» أربكان. حتى إنهم حاولوا ردّ شيء من الجميل إليه عندما أصدر الرئيس غول عفواً رئاسياً عنه في 18 آب 2008 بسبب تدهور حالته الصحية، وهو المحكوم بالسجن لعامين بتهمة اختلاس أموال حزبه «الرفاه».
حزب ليبرالي في الاقتصاد ومحافظ في المجتمع وعلماني في السياسة الخارجية
ابتعد أصحاب «العدالة والتنمية» عن «الإسلام السياسي التقليدي»، الذي لا يزال أربكان يجسّده، انطلاقاً من خلاف لا يقتصر على التفاصيل؛ رأوا أنّ أستاذهم في أحزابه لم ينجح، أولاً في مواكبة التغيرات الداخلية من ناحية المعركة المصيرية في تغيير وجه العلمانية. ثانياً، في التحديات الخارجية، حيث لم يطوّر خطابه ليصبح قادراً على قول ما كتبه ويمارسه أركان «العدالة والتنمية» اليوم عن أنّ تركيا دولة ذات أوجه إسلامية وغربية ومتوسطية وشرقية وغربية... وأنّها تستطيع أن تكون إسلامية، وأن تتحدث بكل لغات العالم في آن واحد، لأنّ الاسلام كدين، لا يتناقض مع هويات ثقافية أخرى. وأمام هذا الخلاف في وجهات النظر، فضّل أردوغان وصحبه الاكتفاء بالعمل الذي يُظهر الفوارق الكبيرة بين ما يفهمونه عن هذا الإسلام التجديدي الليبرالي، وبين ما ترجمه «الخوجة» في تجربته. رأى أربكان وخلفاؤه أنّ «العدالة والتنمية» تنازل كثيراً، بينما هم أركان الحزب يرون أنّ أباهم الروحي لم يحسن لعبة التفاوض ولا المساومة بطريقة كافية لتغيير الأوضاع في هذه «التركيا».
أراد مؤسّسو «العدالة والتنمية» القول إنهم نموذج مختلف عما قدّمه مرشدهم، فأوكلوا مهمة الكلمة التأسيسية لحزبهم إلى أردوغان، الذي أظهر كيف يستطيع المرء أن يكون براغماتياً للغاية، وحذراً في انتقاء كلماته: وقف أمام صورة لأتاتورك على أنغام النشيد الوطني التركي، لكنه لم يذكر في كلمته العامّة، لا الإسلام ولا أتاتورك. كل ما قاله، وما سيكون الخطوط العريضة لسياسة حزبه، إنّ «الدين ليس عامل تقسيم للمجتمع، بل على العكس، عامل توحيد له»، وإنّ العلمانية «تضع قيوداً للدولة لا للأفراد». إضافةً إلى أنّ المرجعية الفكرية لحزبه هي «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية». وأكمل الرجل الثاني في الحزب، عبد الله غول، الكشف عن هوية تنظيمه الجديد، فهو «ليس حزباً دينياً، ولا يريد إقامة دولة إسلامية، بل يريد إرساء الحريات الدينية وتمثيل جميع شرائح المجتمع: إسلاميون وغير إسلاميين، أثرياء وفقراء». كان خطاباً تأسيسياً أقنع 51 نائباً من الحزب الإسلامي المحظور «الفضيلة» بالانضمام إلى «العدالة والتنمية»، أو «الحزب الأبيض»، في مقابل تفضيل النواب الإسلاميين الآخرين الـ 48 حزب «السعادة»، الذي تأسّس على أنقاض «الفضيلة» قبل نحو شهر من تأسيس «العدالة والتنمية».
ومنذ اللحظة الأولى، ظهر الفارق بين إسلام «العدالة والتنمية» وإسلام أربكان: أعلن غول، بعد يوم واحد من تأسيس الحزب الجديد، أنه لن يبحث عن المشاكل مع النظام، وبالتالي لن يرشّح نساءً محجّبات، ولن يسعى إلى تعديل الدستور. كما صرّح أنّ الحزب السياسي ليس وسيلة للتبشير ولا للدعوة ولا للتبليغ. كلام يرجّح أن القصد منه كان الإشارة إلى «مللي غوريش» (النظرة الوطنية)، وهي الجمعية الإسلامية التي أسّسها أربكان في السبعينيات، ولا تزال تجذب مؤسّساتها أعداداً كبيرة من مسلمي أوروبا، وخصوصاً ذوي الجذور التركية، وهي تعدّ الخطّ المسيّر لأحزاب أربكان كلها.
وحتى لو أنّ خلف «العدالة والتنمية» يقف إمبراطور ديني ومالي بحجم الداعية المعتدل المنفي في الولايات المتحدة فتح الله غولن، فإنّ هذا الدعم والإسناد لم يطولا يوماً ما قد يسمح للعسكر وللمغالين في العلمانية باتهام الحكومة أو الحزب الحاكم بالاحتكام إلى المرجعية الدينية في عملهم السياسي.
اختلف مؤسّسو الحزب الجديد حول رمز (اللمبة أو زهرة دوار الشمس) واسم مولودهم (الحزب التجديدي أو العدالة والتنمية)، لكنهم اتفقوا على شعار غاية في الرمزية: «الانفتاح على التنوير والانغلاق على العتمة».
تعميم إسطنبول يُعَدّ رجب طيب أردوغان نموذجاً يمكن تدريسه عن الشخص الذي حمل حزباً على ظهره. رجل أبلى بلاءً حسناً في بلدية إسطنبول، أكبر المدن التركية وأكثرها حداثةً وتطوراً، فقدّم نموذجاً جعل ملايين الناس ينتخبون حزبه في ما بعد، لعلّه يفعل بتركيا ما فعله بهذه المدينة. صحياً واقتصادياً واجتماعياً ورياضياً، جعل أردوغان من إسطنبول، منذ تولّيه رئاسة بلديتها عام 1994، مدينة نموذجية. وعام 2002، كان أردوغان ممنوعاً من الترشّح للانتخابات حتى، لكن ذلك لم يمنع حزبه من تولّي الحكومة، التي ورثت ليرة تركية لا قيمة لها، وديوناً هائلة، وفساداً مستشرياً تتحمل مسؤوليته حكومات بولنت أجاويد ومسعود يلماظ ودولة بهشلي وطبعاً كمال درويش، ملهم الليبرالية الاقتصادية والخصخصة في تركيا.
سريعاً، انتقلت تركيا من المرتبة الـ115 على مستوى العالم في مسألة جذب الاستثمارات إلى المرتبة الـ23، وها هي اليوم تحتل الموقع الـ16 في قائمة أكبر الدول من حيث الحجم الاقتصادي. معطيات تتصدر الأجوبة عن السؤال الدائم: لماذا كل هذه الشعبية؟
«أسلمة» السياسة الخارجيّة صحيح أنّ الغرب أراد تعميم نموذج إسلامي يناسبه على دول المنطقة، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ الإسلام التركي، بعد أحداث 11 أيلول 2001، أراد الاستفادة من هذه الثقة الغربية الموضوعة فيه لتؤدّي تركيا دور القوة الإقليمية العظمى في منطقة كانت، لقرون، ملعبها الاستعماري الكبير. لكنّ هذا الغرب كان، ولا يزال، واقعاً في تناقض واضح في ما يخصّ رؤيته لتركيا: يريدها نموذجاً قائماً لإسلام «معتدل»، لكنه لا يودّ أن تعود إلى العالم العربي ومحيطها الحيوي الذي انسلخت عنه بفعل خسارة الحرب العالمية الأولى.
موقف اتفق عليه جمهوريّو الولايات المتحدة وديموقراطيّوها المتحمّسون إلى رؤية تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي. هكذا خرق الرئيس الأميركي السابق جورج بوش البروتوكول، واستقبل رجب طيب أردوغان بحفاوة نادرة في البيت الأبيض بعد الفوز المدوّي لـ«العدالة والتنمية» في 2002، رغم أنّ الرجل كان في حينها، مجرد زعيم للحزب. كان عود حكّام «العدالة والتنمية» طريّاً في السلطة عندما وجب عليهم مواجهة أصعب موقف ممكن في العلاقات الدولية: التعاطي مع احتلال العراق. كثرت حسابات أردوغان ورفاقه: تكريس موقع التابع الوفي للسيد الأميركي وفتح الأراضي والأجواء التركية أمام الغزاة، وإمكان استعادة الموصل وتحييد كركوك وتركمانها عن أحلام الأكراد. أو التجرّؤ على قول «لا» للإمبراطورية، وتحمّل تبعات الوضع بما أنّ عدم تغطية غزو العراق لم يكن الخيار الغالب في المنطقة في حينها. ومعروف أن دول الخليج عموماً وإيران، كانت موافقة ضمناً على الغزو، وقلّة كانت الحكومات الرافضة له، سوريا في مقدمتها.
قالت تركيا «لا» التاريخية، ومثّلت لعدد لا يستهان به من الشعوب العربية، تلك الدولة المسلمة التي تحاكي موقفهم غير المتفق كالعادة مع حكّامهم. «لا» كانت صدمة في العلاقات الأميركية ـــــ التركية، لم تصل إلى حدّ القطيعة، لكنها فتحت باباً واسعاً لتكريس هذه الدولة قطباً جديداً وإسلامياً لا يمكن تجاوزه.
وفي السياسة الخارجية التركية للحكام الجدد، كان الإسلام موجّهاً حيناً، ومعياراً أحياناً، لكن دائماً على صورة إسلام عصري لا تتناقض أسسه مع قيم الاتحاد الأوروبي، وهو ما كان نقطة خلافية أساسية بينهم وبين أستاذهم السابق نجم الدين أربكان، الذي لم يكن يرى في الاتحاد الأوروبي، سوى «نادٍ مسيحيّ بالٍ».
سمح الإسلاميون الجدد لأنفسهم بالتحرر من عيب القول إننا مسلمون في السياسة الخارجية: تحدّوا التنين الصيني عندما اندلعت أزمة الأويغور المسلمين. في فلسطين هزّوا عرش تحالفهم الاستراتيجي مع الدولة العبرية التي «تقتل المسلمين وغير المسلمين». في السودان، دافعوا عن عمر حسن البشير «المسلم». خاض مواطنهم إكمال الدين إحسان أوغلو حملات الدفاع عن المسلمين منذ تولّى الأمانة العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي عام 2005. اقترحوا «السوق الإسلامية المشتركة» في منتدى جدّة. كانوا أول من اعترف باستقلال إقليم كوسوفو المسلم وصمّموا علمه. بحثوا عن الأقليات المسلمة المضطهدة في أوروبا ليرفعوا لواء إحقاقها... والآتي أعظم.
هكذا يتوزّع الأنصار طبقيّاً واجتماعيّاً حمل يوم تأسيس حزب «العدالة والتنمية» في 14 آب 2001، مجموعة من الرموز حول هوية المؤسّسين الـ 74: 13 امرأة من طبيبات إلى أساتذة جامعيات ومقدّمات برامج ومغنّيات ومحاميات، بينهنّ 6 محجّبات فقط. أمّا الرجال، فمجموعة من الرياضيين ورجال الأعمال والصناعيين والسياسيين بالوراثة ورجال الدين والأساتذة الجامعيين. ولفهم التركيبة الجغرافية ـــــ الطبقية ـــــ الاجتماعية ـــــ الاقتصادية التي يجسّد حزب رجب طيب أردوغان مصالحها، وجب اتخاذ الانتخابات الأولى التي حملته إلى السلطة، في 3 تشرين الثاني 2002، بمثابة عيّنة؛ حصد فيها «حزب اللمبة» 363 نائباً من أصل 550: 34.4 في المئة في مقابل 2.5 في المئة لـ«السعادة». «إبادة» سياسية. نجاح نموذج إسلامي هنا، وفشل ذريع هناك.
وتُقَدَّر القاعدة الانتخابية للإسلام السياسي في تركيا بنحو 15 في المئة، ذهب منها 2.5 في المئة إلى «السعادة»، وبالتالي نجح «العدالة والتنمية» بفضل ما بين 12 و13 في المئة فقط من أصوات الإسلاميين، وبواسطة 21 في المئة من الأصوات الآتية من خارج هذه البيئة. كذلك نجح حزب أردوغان في «سرقة» 4 في المئة من ناخبي اليسار الديموقراطي ونحو 15 في المئة من أصوات اليمين المحافظ. وحلّ أولاً في العاصمتين أنقرة واسطنبول، وثانياً في عاصمة الثراء والغرب التركي إزمير. وفي المقلب الآخر، نال 29 في المئة من الأصوات في جنوب وجنوب شرق الأناضول الكردي، أفقر مناطق تركيا، إضافة إلى التقدّم الأكبر في مناطق وسط وشمال الأناضول، الأقل تقدماً من الغرب الأوروبي للبلاد. نموذج لحزب قاعدته الشعبية شديدة التنوع. أما اجتماعياً، فيمثّل «العدالة والتنمية» الطبقة الوسطى والرأسمالية الصاعدة في الداخل التركي، أي في الأناضول، البعيد عن جنّات اسطنبول وأزمير.
والبورجوازية الجديدة في تركيا، رغم أنها صاعدة حديثاً في السلم الاجتماعي، إلا أنها قوية للغاية، وهي وليدة واقع تاريخي ظلمها منذ عهد أتاتورك. فعندما أعلن الرجل جمهوريته الجديدة، لم يكن لديه أكثر من بقايا إمبراطورية شاسعة، كانت تعيش على الجزيات والضرائب والعمولات التي تعيد توزيعها تحديداً على الجيش وضباطه في أحد أشكال إعادة إنتاج النظام الإقطاعي لنفسه. أراد «أبو الأتراك» بناء اقتصاد حقيقي، فما كان منه إلا أن حصر كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي بالدولة التي خطّطت وبنت الصناعات وأدارت التجارة والزراعة، و«لزّم» قطاعات كاملة لمجموعة قليلة من العائلات في المدن الكبرى، وخصوصاً الساحلية منها، مهملاً الداخل الأناضولي وجنوب وجنوب شرق البلاد، لكون هذه المناطق «متخلّفة» وبحاجة إلى سنوات ضوئية لتواكب مسيرة «التحديث» على الطريقة الأوروبية التي أرادها. لكنّ إدخال الرأسمالية أدى إلى ولادة طبقة وسطى وبورجوازية كان لا بد أن تسعى إلى احتلال موقعها في صنع القرار الاقتصادي والسياسي. ويربط عدد من الخبراء في الشأن التركي بين صعود «العدالة والتنمية»، ونموّ طبقة وسطى رأسمالية، بعيداً عن سيطرة الدولة على الاقتصاد. كذلك فإنّ هناك شبه إجماع على أنّ مصالح ناخبي ومموّلي «العدالة والتنمية»، وهم في جزء كبير منهم من الطبقة الوسطى والبورجوازية المغتنية حديثاً، أجبرت حزب أردوغان على تليين خطابه دينياً.
معتدلون ومتشدّدون وعلمانيّون تُظهر الصورة العامّة لحزب «العدالة والتنمية» أنّه كتلة حزبية عقائدية متجانسة بدليل التناغم الحاصل بين أركانه رجب طيب أردوغان وعبد الله غول وبولنت أرينش وعلي باباجان. إلّا أنّ الأتراك يعرفون أن هذا الحزب كان منذ تأسيسه، تجمّعاً لمجموعة متنوّعة من التيّارات الإسلامية المتفاوتة من حيث درجات التشدّد. حتى إنّه يضمّ عدداً لا بأس به من الشخصيات غير الإسلامية، لدرجة أنه يحتضن تياراً علمانياً، يمثّله وزير في الحكومة الحالية هو وزير السياحة إرتوغرول غوناي، الذي كان قيادياً في حزب أتاتورك، «الشعب الجمهوري».
بين إسلاميّي الحزب، هناك المتشدد دينياً (بولنت أرينش وعمر دينشر نموذجاً) والمعتدل. ويرى أتراك أن الحاصل حالياً هو بقاء السيطرة بين أيدي التيار المعتدل، الذي يمثّل أردوغان رمزه الأساسي. اعتدال لم يمنعه من إطلاق تصريحات «غريبة»، كأن يدافع قبل نحو شهرين عن الرئيس السوداني عمر حسن البشير، المتهم بارتكاب مجازر إبادة جماعية في دارفور، ويقول إنه واثق ببراءته، ببساطة لأنّ «شخصاً مسلماً لا يمكن أن يرتكب إبادة».
خلاف لا يفسد في الودّ قضيّة
لا تزال علاقة عبد الله غول ورجب طيب أردوغان موضع حيرة المراقبين. بعضهم يرى أنّ الرجلين نموذج للتناغم والاتفاق الكامل حتى على التفاصيل، وآخرون يجزمون أنّ خلافات مهمة تفرّق بينهما. فمنذ مرحلة التفكير في تأسيس الحزب الجديد، كان غول يفضّل أن يكون رمز الحزب زهرة دوّار الشمس بدل لمبة أردوغان. حسم الأمر لمصلحة الأخير. وخلال الاستعدادات الأميركية لغزو العراق، وقع الخلاف الكبير. كان الأميركيون مهتمين باجتياح بلاد الرافدين عبر تركيا: أردوغان كان مؤيّداً لوضع القواعد العسكرية لبلاده برسم القوات الغازية، وعوّل على أن تكون رغبة العسكر مماثلة. إلا أنّ غول، رئيس الحكومة في حينها، رفض الأمر، وفي النهاية رفض نواب الحزب، في الجلسة الشهيرة للبرلمان التركي في آذار 2003، فتح الأجواء والأراضي التركية أمام القوات الأميركية.