أبو طه
10-27-2009, 10:36 AM
فضيلة الشيخ ما هو الحكم في شخص ظهر عندنا يقول بنفي العذر بالجهل في التكفير ، وهو يكفر حتى بعض قادة الجهاد ، وجاء بفتنة في بلادنا ؟!
الحمد لله ، والصلاة ، والسلام على نبيّنا محمّد ، وعلى آله ، وصحبه ، وسلّم :
فيجب أن يُعلم أن تكفيـر المسلم بغير حق ، من الموبقات المهلكة عياذاً بالله تعالى ، وقد ورد تغليظ الزجر عنها في النصوص ، من ذلك قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم : ( إذا قال المسلم لأخيه يا كافـر فقد باء بها أحدهما ) متفق عليه ، وقال : ( ومن دعارجلاً بالكفر ، أو قال عدوُّ الله ، وليس كذلك إلاّ حارَ عليه ) رواه مسلم ، وللترمذي : (ومن قذف مؤمنا بكفـر فهو كقاتله).
وقـد قال صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ذمّة الله ، ورسوله ) رواه البخاري.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : (إنَّ دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : (كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه ) رواه مسلم .
وتكفير المسلم من أعظم الإنتهاك لعرضه ، وإثمـهُ كإثـم سفك دمه ، بل أعظم ، فقد جعـلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرتكب هذا الإنتهاك العظيم يبوء بما قال ، وترجع إليه كلمة الكفر التي أطلقها بغير حـقّ ، ولهذا ورد التغليظ في ذم الخوارج ، لأنَّ مذهبهم يدور على هذا الإنحراف ، فيقتحمون في تكفير أهل الإسلام إقتحام الجهلة ، ويرثعون رثعان العجلة ، ولهذا جـاء الأمر بقتالهم ، وأنَّ فيه أجراً عظيما ، وقـد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( يمرقون من الدين ) رواه البخاري ، وقال : ( شرُّ قتلى تحت أديم السماء ، وخيرُ قتيلٍ من قتلوه ) رواه ابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني
ومما اتفق العلمـاء عليه : ( أنَّ من ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك عنه بالشكّ ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإزالة الشبهة ) وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وأنـَّه لايحكم بكفـر معيـَّن من أهل الشهادتين إلاّ بعد زوال أدنى إحتمال يدرء عنه التكفير ، ولو كان بعيداً ، أوضعيفا ، مع أنَّ عدم التكفير للمعين بسبب إحتمال الشبهة ، لايعني عـدم التغليـظ ، وإظهار النكير بإطلاق القول بأنّ الفعل كفر .
وما أحسن قول بعض العلماء : ( لا يُكَفَّر بالمُحْتمل ، لأنَّ الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ، ومع الاحتمال لا نهاية ) .
وإذا تبيّن هذا ، فإنَّ مما اتفق عليه العلماء أنَّ الجهل في الجملة مانع من تكفير المعيَّن ، وأنـّه لايجوز الحكم عليه بالكفر ، إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإظهار المحجة.
وقد جاء هذا في التنزيل الجليل ، قال الحقُّ سبحانه : ( إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبييّن من بعده ) إلى أن قـال سبحانه : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجةٌ بعد الرسل ) ؛ وقال تعالى : ( وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً) ؛ وقال : ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتّقـون ) وقــال : ( ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ونصله جهنم ، وساءت مصيراً )
وعلى هذا كلام أجلّة العلماء :
قال الإمام الشافعي : (لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يسع أحدًا ردُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحُجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحُجَّة فإنه يعذر بالجهل) فتح الباري 13/407
وقال الإمام الطبري رحمه الله: عند تفسيره لقوله تعالى: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ), وأما قوله: (قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ، فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء ) ، راقبوا الله، أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإنّ الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته ، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يقول: إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعّدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء).
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: ( ولو أنّ إمرءاً بدل القرآن مخطئاً جاهلا ً، أو صلّى لغير القبلة ، كذلك المخرج من الملّة ، ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك )الإحكام في أصول الإحكام 1/133
وقال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله: (فالجاهل والمخطئ من هذه الأمّة ، ولو عمل من الكفر ، والشرك ، ما يكون صاحبه مشركاً ، أو كافراً ، فإنّه يعذر بالجهل ، والخطأ، حتى تبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً ، واضحاً ، ما يلتبس على مثله ..ولم يخالف في ذلك إلاّ أهل البدع )محاسن التأويل5/1307
وقال الإمام ابن قدامة موفق الدين الحنبلي : : ( فإن كان ممن لا يعرف الوجوب ـ أي الصلاة ـ كحديث الإسلام ، والناشئ بغير دار الإسلام ، أو بادية بعيدة عن الأمصار ، وأهل العلم : لم يحكم بكفره )المغنــي 8/131
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين ، وإن أخطأ ،وغلط ، حتّى تُقام عليه الحجة ، وتبين له المحجّة ، ومن ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإزالة الشبهة ) أ.هـ.
وقال أيضا في موضع آخر :( وأيضا قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال : إنّ رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم ، فأمر الله البر ، فجمع ما فيه ، وأمرالبحر فجمع ما فيه ، فإذا هو قائم بين يديه . ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يارب وأنت أعلم ؛ فغفر الله له )
وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليهوسلم ، رواه أصحاب الحديث ، والأسانيد ، من حديث أبي سعيد ، وحذيفة ، وعقبة بن عمرو ، وغيرهم ، عنالنبي صلى الله عليه وسلم ، من وجوه متعددة ، يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلماليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ، ممن لم يشركهم في أسباب العلم .
فهذا الرجل كان قدوقع له الشك ، والجهل في قدرة الله تعالى ، على إعادة ابن آدم ؛ بعد ما أحرق وذري ، وعلى أنه يعيد الميت ، ويحشره إذا فعل به ذلك ، وهذان أصلان عظيمان
أحدهما متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كلّ شيء قدير.
و الثاني متعلق باليوم الآخــر.
وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ، ويجزيه على أعماله ، ومع هذا فلمّا كان مؤمنا بالله في الجملة ، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة ، وهو أنّ الله يثيب ، ويعاقب بعد الموت ، وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والعمل الصالح.
وأيضا : فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ) ، وفي رواية : ( مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمـان ) ، وفي روايـة (من خيـر ) ، ( ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير ) ، وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، يدل أنّه لا يخلد في النارمن معه شيء من الإيمان ، والخير ، وإن كان قليلا ، وأنّ الإيمان مما يتبعّض ويتجزأ.
ومعلوم قطعا أنّ كثيراً من هؤلاء المخطئين ، معهم مقدار ما من الإيمان بالله ، ورسوله ، إذ الكلام فيمن يكون كذلك.
ثم قال : ( فمن كان قد آمن بالله ورسوله ، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلا ؛ إما أنّه لم يسمعه ، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها ، أواعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به ، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله، وبرسوله ، ما يوجب أن يثيبه الله عليه ، وما لم يؤمن به ، فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها ) . مجموع الفتاوى 12/ 490ـ494
وقال في موضع أخر : (لكن من النّاس من يكـــون جاهــلا ببعض هذه الأحكام ، جهلا يُعذر به ، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة ، كما قال تعالى : ( لئلاّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ,وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ، ولهذا لو أسلم رجل ، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ؛ أو لم يعلم أنّ الخمر تحرم ، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا ،وتحريم هذا ؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبويّة ) .
وقال أيضا: ( وكثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة ، والأزمنة الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ من علوم النُّبوَّات ، حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب ، والحكمة ، فلا يعلم كثيرًا ممَّا يبعث الله به رسوله ، ولا يكون هناك من يبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمَّة على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم ، والإيمان ، وكان حديثَ العهد بالإسلام ، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ، ولهذا جاء في الحديث: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ صَوْمًا وَلاَ حَجًّا إِلاَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَالعَجُوزَ الكَبِيرَةَ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ حَجًّا، فَقَالَ: وَلاَ صَوْمٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ) ) مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407)
وقال أيضا : (إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير ، وتفسيق ، ومعصية إلاّ إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرساليّة التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى ، وإنّي أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القوليّة ، والمسائل العملية ، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل ، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ، ولا بفسق ، ولا بمعصية )
إلى أن قال : ( وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف ، والأئمَّة ، من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا : فهو أيضاً حقٌّ ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ) مجموع الفتاوى 3 /229
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : (وأما الكذب والبهتان فقولهم : إنا نكفر بالعموم ، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ، فكلّ هذا من الكذب ، والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ، ورسوله ، وإذا كنا لا نكفّر من عبد الصنم الذي على عبد القادر ، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم ، وعدم من ينبّههم ، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله ، إذا لم يهاجر إلينا ؟! ) الدرر السنية 1/66
وقد استشكل بعض طلاّب العلم ، عبارة الشيخ المجدّد هذه ، وقالوا كيف يُعذر بالجهل من يُقـرّ بعبادته الصنم ؟! والجواب أنَّ قول الشيخ ( من عبد الصنم ..إلخ ) أي هو في حقيقـة أمرِه صنم ، وما يُفعل عنده عباده ، وإن لم يكن كذلك في تصوُّر الطائفين بـه ، فيظنون أنَّ ما يفعلونه ليس من العبادة ، فيجب أن يُبيـَّن لهم أولا .
فهذا على التشبيه ، على نحو ما صح في الحديث : لقد قلتم مقالة قوم موسى ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهـة ) أي كمقالتهم ، بمعنى : شابهتم مقالتهم من وجه .
والخلاصة أنَّ هذه نصوص القرآن والسنة ، وكلام أئمة أهل العلم ، فيها بيانٌ واضح أنّه لا يُحكم بكفـر من وقع في مكفـّر إلاّ بعد بيان الحجة عليه ، ولا يُستثنى من ذلك عندهم إلاّ من نزع عنه إسم الإسلام ، أو أتى بما لايبقى معه شيءٌ من أصل الشهادتين ، أو مـن عُلم أنَّ مثله لايُحتـمل جهلُه فيما وقع فيه .
وبهذا يُعلم أنَّ من يقول بنفي العذر بالجهل مطلقا فهو ضالُّ ، مبتدع ، فإن إنضمَّ إلى ذلك تكفيره أهل الإسلام بالعموم ، فهو من أضلّ الناس ، وأضرّهم على المسلمين ، وقد كثر في هذا الزمان اقتحام الجهال ، و المجاهيـل ، هذا الباب الخطير ، قبل تمكّنهم من العلوم الشرعية ، والتلقي على الشيوخ المرضيّة ، حتى تداككوا في المهلكات ، وإن يهلكون إلاّ أنفسهم وما يشعرون .
والله أعلم وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
الحمد لله ، والصلاة ، والسلام على نبيّنا محمّد ، وعلى آله ، وصحبه ، وسلّم :
فيجب أن يُعلم أن تكفيـر المسلم بغير حق ، من الموبقات المهلكة عياذاً بالله تعالى ، وقد ورد تغليظ الزجر عنها في النصوص ، من ذلك قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم : ( إذا قال المسلم لأخيه يا كافـر فقد باء بها أحدهما ) متفق عليه ، وقال : ( ومن دعارجلاً بالكفر ، أو قال عدوُّ الله ، وليس كذلك إلاّ حارَ عليه ) رواه مسلم ، وللترمذي : (ومن قذف مؤمنا بكفـر فهو كقاتله).
وقـد قال صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ذمّة الله ، ورسوله ) رواه البخاري.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : (إنَّ دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : (كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه ) رواه مسلم .
وتكفير المسلم من أعظم الإنتهاك لعرضه ، وإثمـهُ كإثـم سفك دمه ، بل أعظم ، فقد جعـلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرتكب هذا الإنتهاك العظيم يبوء بما قال ، وترجع إليه كلمة الكفر التي أطلقها بغير حـقّ ، ولهذا ورد التغليظ في ذم الخوارج ، لأنَّ مذهبهم يدور على هذا الإنحراف ، فيقتحمون في تكفير أهل الإسلام إقتحام الجهلة ، ويرثعون رثعان العجلة ، ولهذا جـاء الأمر بقتالهم ، وأنَّ فيه أجراً عظيما ، وقـد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( يمرقون من الدين ) رواه البخاري ، وقال : ( شرُّ قتلى تحت أديم السماء ، وخيرُ قتيلٍ من قتلوه ) رواه ابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني
ومما اتفق العلمـاء عليه : ( أنَّ من ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك عنه بالشكّ ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإزالة الشبهة ) وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وأنـَّه لايحكم بكفـر معيـَّن من أهل الشهادتين إلاّ بعد زوال أدنى إحتمال يدرء عنه التكفير ، ولو كان بعيداً ، أوضعيفا ، مع أنَّ عدم التكفير للمعين بسبب إحتمال الشبهة ، لايعني عـدم التغليـظ ، وإظهار النكير بإطلاق القول بأنّ الفعل كفر .
وما أحسن قول بعض العلماء : ( لا يُكَفَّر بالمُحْتمل ، لأنَّ الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ، ومع الاحتمال لا نهاية ) .
وإذا تبيّن هذا ، فإنَّ مما اتفق عليه العلماء أنَّ الجهل في الجملة مانع من تكفير المعيَّن ، وأنـّه لايجوز الحكم عليه بالكفر ، إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإظهار المحجة.
وقد جاء هذا في التنزيل الجليل ، قال الحقُّ سبحانه : ( إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبييّن من بعده ) إلى أن قـال سبحانه : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجةٌ بعد الرسل ) ؛ وقال تعالى : ( وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً) ؛ وقال : ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتّقـون ) وقــال : ( ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ونصله جهنم ، وساءت مصيراً )
وعلى هذا كلام أجلّة العلماء :
قال الإمام الشافعي : (لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يسع أحدًا ردُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحُجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحُجَّة فإنه يعذر بالجهل) فتح الباري 13/407
وقال الإمام الطبري رحمه الله: عند تفسيره لقوله تعالى: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ), وأما قوله: (قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ، فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء ) ، راقبوا الله، أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإنّ الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته ، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يقول: إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعّدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء).
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: ( ولو أنّ إمرءاً بدل القرآن مخطئاً جاهلا ً، أو صلّى لغير القبلة ، كذلك المخرج من الملّة ، ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك )الإحكام في أصول الإحكام 1/133
وقال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله: (فالجاهل والمخطئ من هذه الأمّة ، ولو عمل من الكفر ، والشرك ، ما يكون صاحبه مشركاً ، أو كافراً ، فإنّه يعذر بالجهل ، والخطأ، حتى تبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً ، واضحاً ، ما يلتبس على مثله ..ولم يخالف في ذلك إلاّ أهل البدع )محاسن التأويل5/1307
وقال الإمام ابن قدامة موفق الدين الحنبلي : : ( فإن كان ممن لا يعرف الوجوب ـ أي الصلاة ـ كحديث الإسلام ، والناشئ بغير دار الإسلام ، أو بادية بعيدة عن الأمصار ، وأهل العلم : لم يحكم بكفره )المغنــي 8/131
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين ، وإن أخطأ ،وغلط ، حتّى تُقام عليه الحجة ، وتبين له المحجّة ، ومن ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة ، وإزالة الشبهة ) أ.هـ.
وقال أيضا في موضع آخر :( وأيضا قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال : إنّ رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم ، فأمر الله البر ، فجمع ما فيه ، وأمرالبحر فجمع ما فيه ، فإذا هو قائم بين يديه . ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يارب وأنت أعلم ؛ فغفر الله له )
وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليهوسلم ، رواه أصحاب الحديث ، والأسانيد ، من حديث أبي سعيد ، وحذيفة ، وعقبة بن عمرو ، وغيرهم ، عنالنبي صلى الله عليه وسلم ، من وجوه متعددة ، يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلماليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ، ممن لم يشركهم في أسباب العلم .
فهذا الرجل كان قدوقع له الشك ، والجهل في قدرة الله تعالى ، على إعادة ابن آدم ؛ بعد ما أحرق وذري ، وعلى أنه يعيد الميت ، ويحشره إذا فعل به ذلك ، وهذان أصلان عظيمان
أحدهما متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كلّ شيء قدير.
و الثاني متعلق باليوم الآخــر.
وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ، ويجزيه على أعماله ، ومع هذا فلمّا كان مؤمنا بالله في الجملة ، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة ، وهو أنّ الله يثيب ، ويعاقب بعد الموت ، وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والعمل الصالح.
وأيضا : فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ) ، وفي رواية : ( مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمـان ) ، وفي روايـة (من خيـر ) ، ( ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير ) ، وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، يدل أنّه لا يخلد في النارمن معه شيء من الإيمان ، والخير ، وإن كان قليلا ، وأنّ الإيمان مما يتبعّض ويتجزأ.
ومعلوم قطعا أنّ كثيراً من هؤلاء المخطئين ، معهم مقدار ما من الإيمان بالله ، ورسوله ، إذ الكلام فيمن يكون كذلك.
ثم قال : ( فمن كان قد آمن بالله ورسوله ، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلا ؛ إما أنّه لم يسمعه ، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها ، أواعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به ، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله، وبرسوله ، ما يوجب أن يثيبه الله عليه ، وما لم يؤمن به ، فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها ) . مجموع الفتاوى 12/ 490ـ494
وقال في موضع أخر : (لكن من النّاس من يكـــون جاهــلا ببعض هذه الأحكام ، جهلا يُعذر به ، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة ، كما قال تعالى : ( لئلاّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ,وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ، ولهذا لو أسلم رجل ، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ؛ أو لم يعلم أنّ الخمر تحرم ، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا ،وتحريم هذا ؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبويّة ) .
وقال أيضا: ( وكثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة ، والأزمنة الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ من علوم النُّبوَّات ، حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب ، والحكمة ، فلا يعلم كثيرًا ممَّا يبعث الله به رسوله ، ولا يكون هناك من يبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمَّة على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم ، والإيمان ، وكان حديثَ العهد بالإسلام ، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ، ولهذا جاء في الحديث: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ صَوْمًا وَلاَ حَجًّا إِلاَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَالعَجُوزَ الكَبِيرَةَ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ حَجًّا، فَقَالَ: وَلاَ صَوْمٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ) ) مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407)
وقال أيضا : (إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير ، وتفسيق ، ومعصية إلاّ إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرساليّة التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى ، وإنّي أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القوليّة ، والمسائل العملية ، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل ، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ، ولا بفسق ، ولا بمعصية )
إلى أن قال : ( وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف ، والأئمَّة ، من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا : فهو أيضاً حقٌّ ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ) مجموع الفتاوى 3 /229
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : (وأما الكذب والبهتان فقولهم : إنا نكفر بالعموم ، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ، فكلّ هذا من الكذب ، والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ، ورسوله ، وإذا كنا لا نكفّر من عبد الصنم الذي على عبد القادر ، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم ، وعدم من ينبّههم ، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله ، إذا لم يهاجر إلينا ؟! ) الدرر السنية 1/66
وقد استشكل بعض طلاّب العلم ، عبارة الشيخ المجدّد هذه ، وقالوا كيف يُعذر بالجهل من يُقـرّ بعبادته الصنم ؟! والجواب أنَّ قول الشيخ ( من عبد الصنم ..إلخ ) أي هو في حقيقـة أمرِه صنم ، وما يُفعل عنده عباده ، وإن لم يكن كذلك في تصوُّر الطائفين بـه ، فيظنون أنَّ ما يفعلونه ليس من العبادة ، فيجب أن يُبيـَّن لهم أولا .
فهذا على التشبيه ، على نحو ما صح في الحديث : لقد قلتم مقالة قوم موسى ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهـة ) أي كمقالتهم ، بمعنى : شابهتم مقالتهم من وجه .
والخلاصة أنَّ هذه نصوص القرآن والسنة ، وكلام أئمة أهل العلم ، فيها بيانٌ واضح أنّه لا يُحكم بكفـر من وقع في مكفـّر إلاّ بعد بيان الحجة عليه ، ولا يُستثنى من ذلك عندهم إلاّ من نزع عنه إسم الإسلام ، أو أتى بما لايبقى معه شيءٌ من أصل الشهادتين ، أو مـن عُلم أنَّ مثله لايُحتـمل جهلُه فيما وقع فيه .
وبهذا يُعلم أنَّ من يقول بنفي العذر بالجهل مطلقا فهو ضالُّ ، مبتدع ، فإن إنضمَّ إلى ذلك تكفيره أهل الإسلام بالعموم ، فهو من أضلّ الناس ، وأضرّهم على المسلمين ، وقد كثر في هذا الزمان اقتحام الجهال ، و المجاهيـل ، هذا الباب الخطير ، قبل تمكّنهم من العلوم الشرعية ، والتلقي على الشيوخ المرضيّة ، حتى تداككوا في المهلكات ، وإن يهلكون إلاّ أنفسهم وما يشعرون .
والله أعلم وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا