أحمد الظرافي
10-14-2009, 03:32 PM
صفحة مطوية من جهاد المسلمين في أفريقيا:
الإمام أحمد جوري الصومالي، قاهر الأحباش
أحمد الظرافي
هناك الكثير من المسلمين، لا يعلمون شيئا عن جهاد إخوانهم في القرن الأفريقي، وشرقي القارة السمراء، والحملات الصليبية التي شنتها ضدهم الإمبراطورية الحبشية، المعروفة تاريخياً باسم مملكة "أكسوم"، على مدى قرون، برعاية ودعم وتحريض الكنيسة الأرثوذوكسية اليعقوبية في الحبشة. فالحروب الصليبية قديمة في هذه المنطقة، قدم وجود الإسلام فيها.
علما بأن الإسلام بدأ في الانتشار في هذه الديار منذ أواخر القرن الأول الهجري، على أيدي التجار العرب القادمين من اليمن والحجاز، والذي على أثره تكونت العديد من الإمارات الإسلامية، في هذه المنطقة.
وقد كانت تلك الحرب الدينية، سجالا بين النصارى الأحباش من جهة، وبين المسلمين الصوماليين والعفاريين والعرب، من جهة أخرى، واستمرت كذلك حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري.
ففي هذه الفترة وصلت الأساطيل البرتغالية الصليبية الغازية إلى سواحل القرن الأفريقي المشرفة على المحيط الهندي، والبحر الأحمر ، بعد أن كانوا قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح سنة 905هـ / 1498م، الذي مكنهم من الدوران حول أفريقيا، والوصول إلى سواحل هذه المنطقة ، ومنها إلى الهند، لأول مرة في تاريخهم، في إطار خطتهم المبيتة لتطويق العالم الإسلامي من الجنوب، وتسديد ضربة قاتلة له من الخلف. وقد فرح النجاشي ملك الحبشة، فرحا عظيما بمقدمهم، وأسرع بالتحالف معهم، طالبا منهم الدعم والمساعدة في حربه ضد المسلمين، وفي تطهير منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا منهم. كما أبدى النجاشي الحبشي تحمسا كبيرا لخطة البرتغاليين في سحق المسلمين، وتدمير مكة والمدينة، واسترداد بيت المقدس، وطلب أن يكون له دور في ذلك.
سطوع نجم الإمام أحمد جوري
وفي هذه الفترة سطع نجم بطل من أبطال الإسلام، في القرن الأفريقي، ومجاهد من كبار المجاهدين، ألا وهو أحمد بن إبراهيم الغازي، موحد المسلمين في بلاد الصومال، والقائد الفذ، صاحب الفتوح الواسعة في بلاد الحبشة. وكان ميلاد هذا البطل، الذي عرف فيما بعد باسم " أحمد جوري"، في عام 908هـ ، وكان مسقط رأسه في (هوبت) التي تقع على مقربة من هرر، المدينة التاريخية التي أنشأها المسلمون في أواخر القرن الأول الهجري. وكانت هرر آنذاك، إحدى الولايات الهامة التي تتكون منها إمارة عدل الإسلامية، وإحدى أهم مراكز العلم والإشعاع الإسلامي، في شرقي أفريقيا، الأمر الذي أتاح له أن يتثقف ثقافة دينية غزيرة، وأن ينال قسطا من العلم والفقه، على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو المذهب السائد في هذه المنطقة. ونشأ أحمد جوري، في ظل تغيرات نوعية، وأحداث جسام،كان يمر بها المسلمون في القرن الأفريقي، في تلك الفترة. فآنذاك اشتدت سواعد الأحباش النصارى، وتغير ميزان القوى العسكري لصالحهم، لاسيما بعد حصولهم على الأسلحة النارية من حلفائهم البرتغاليين، وهي الأسلحة التي لم تكن معروفة وقتئذ في القرن الأفريقي، فشن الطرفان الحبشي والبرتغالي حملة صيلبية منسقة ضد المسلمين في تلك المنطقة، الأحباش من البر ، والبرتغاليون من البحر، وتمكنت قوات النجاشي الحبشي داؤد الثالث، في عام 1516، من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الصومالية والعفارية، التابعة لإمارة عدل، التي تقع أهم مراكزها على ساحل خليج عدن بما فيها العاصمة زيلع ، وكانت هذه الإمارة أهم، واكبر الإمارات الإسلامية في الصومال، وأكثرها مسئوليات في الجهاد ضد الصليبية الحبشية، آنذاك.
وبينما كان الأحباش النصارى يحرقون المدن والقرى الإسلامية، ويعيثون فيها فسادا،كانت الأساطيل البرتغالية، تقصف المدن الساحلية، لسلطنة عدل، ولسائر مرافئ الصومال وشرقي أفريقيا، واليمن، بدون هوادة أو رحمة، زارعة الموت والخراب فيها، وناشرة الرعب في ربوعها، ففي منتصف العام 1517 تم قصف مدينة زيلع التاريخية - عاصمة إمارة عدل - وإحراقها، ونهبها بعد الاستيلاء على قلعتها، وفي عام 1518 تعرضت مدينة بربرة، وهي أهم مرافئ هذه الإمارة الإسلامية، لعملية اجتياح وحشي، وفي عام 1520 تعرضت مصوع لاجتياح وحشي مماثل، وفيه أيضا احتلوا مقديشو، إحدى المراكز التجارية المهمة على ساحل المحيط الهندي، وفعلوا فيها الأفاعيل كعادتهم، وقام القراصنة البرتغاليون المتمركزون في خليج عدن بالسطو على كل السفن التجارية الإسلامية التي صادف وجودها في تلك المنطقة، واستولوا على ما كانت تحمله من مواد غذائية ومقتنيات ثمينة. وفي نفس هذا العام أيضا (1520) أضطر سلطان عدل، أبو بكر بن محمد ، إلى نقل عاصمته من زيلع إلى هرر، في غرب الصومال، في الإقليم الذي تحتله الحبشة حاليا والمعروف باسم " أوجادين "، لتصير هذه المدينة آنذاك من أهم المدن في القرن الأفريقي. وثبت آنئذ أن المماليك في مصر، سادة سواحل البحر الأحمر ، أعجز واضعف من أن يقدموا أي دعم يذكر، لأولئك المسلمين في محنتهم، فضلا عن أن يحركوا أساطيلهم لنجدتهم، مما جعل المسلمين في شرق أفريقيا في وضع صعب وحرج.
ولكن برغم ذلك، وبرغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المسلمون في الصومال، في هذه الفترة على أيدي الأحباش والبرتغاليين، إلا أنهم لم يستسلموا، وابدوا صمودا منقطع النظير في الدفاع عن دينهم، وبلادهم، وقد قوبل ظهور العثمانيين في مصر سنة 1517 بعد تقويضهم لدولة المماليك، بسرور بالغ لدى المسلمين في الإمارات الصومالية، وأحيا فيهم آمالا جديدة، في إمكانية التصدي للخطر الصليبي الحبشي البرتغالي الذي داهمهم من البر والبحر، وقد هرع حكام تلك الإمارات الإسلامية، فبعثوا الرسل إلى السلطان سليم الأول ( 1512-1518)، معترفين بالسيادة للباب العالي، ومعلنين ولاءهم للسلطان.
وقام العثمانيون سنة1520، بوضع حاميات عند مرفىء البحر الأحمر الأفريقية، التي كانت تتعرض لعدوان الأساطيل البرتغالية، ولاسيما سواكن ومصوع وزيلع، وزودوها بالأسلحة النارية، وأصبحت هذه المدن تحت إمرة باشا جدة، الذي عين له نوابا فيها. وبذلك أسترد المسلمون بعض ثقتهم وقوتهم، وارتفعت الروح القتالية، والجهادية في أنفسهم، واستعادوا بعض الأجزاء التي فقدوها من إمارة عدل.
إصلاحاته الداخلية
كان من أخطر النتائج التي ترتبت على هزيمة المسلمين في معركة عام 1516 مع النصارى الأحباش، مقتل الأمير محفوظ، قائد الحرب المقدسة ضد نصارى الحبشة، والمسئول الفعلي عن إدارة شئون إمارة عدل الإسلامية، في عهد السلطان أبو بكر بن محمد ( 1488- 1518 )، مما أدى إلى تدهور الوضع، في هذه الإمارة، واحتدام الصراع على السلطة. ولم يكن هناك من يسد الفراغ سوى " أحمد جوري" ، وكان ينتسب لنفس الأسرة التي ينتمي إليها الأمير محفوظ، ويبدو أنه أيضا كان مقربا منه، ومصاحبا له في غزواته ومعاركة الجهادية ضد الأحباش، ولذا حظي بتأييد أنصاره.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد تولى أحمد جوري قيادة جيش إمارة عدل، ورفع راية الجهاد ضد الصليبية الحبشية، خلفا للأمير محفوظ، وكان حينذاك في قمة الحيوية والشباب. وبعد أن تزوج من ابنة سلفه الأمير محفوظ، اتخذ لنفسه لقب إمام، وأشتهر به دون غيره من الألقاب.
وتمكن هذا القائد الفذ من القضاء على كل عوامل الفتنة والشقاق والاضطراب التي حدثت في إمارة عدل، بعد هزيمتها على أيدي الأحباش، ومقتل الأمير محفوظ، وأدب الخارجين وقطاع الطرق، وقبض على زمام الأمور كلها في إمارة عدل، وأتبع سياسة موفقة جمعت الناس من حوله، فأقام شعائر الدين، وقام بنشر العدل بين الرعية، وعمل على توفير الحياة الكريمة لهم، وقام بتوزيع الزكاة على مستحقيها، كما عرف عنه العدل في قسمة الغنائم، وأوقف كتب العلم على العلماء، وكسب بذلك حب الفقهاء والعلماء والمشايخ،كما كسب أيضا محبة الرعية بالإضافة إلى محبة الجنود.
وفي هذه الفترة توسعت الدعوة الإسلامية بشكل كبير، على أيدي دعاة محليين وعرب، وفدوا من القاهرة بعد تخرجهم من الأزهر الشريف، واسلم الكثيرون من قبائل البدو الرحل، من العفر والصومال، وشكل إسلامهم قوة جديدة للإسلام في هذه الديار، وأنشأت الكثير من المساجد والكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم.
وقد استكمل القائد أحمد جوري جهوده في هذه المضمار بإقناع زعماء الإمارات والقوى الإسلامية في شرق أفريقيا بالتحالف وتوحيد الجهود، لكي توجه قواتها معا لعدوهم المشترك – أثيوبيا، وبقطع العلاقات مع هذه الأخيرة وعزلها سياسيا. لاسيما وأن بعضهم كان يداهن ملوك الأحباش ويدفع الإتاوة لهم. وقام أحمد جوري بالاتصال بالعثمانيين، وأطلعهم على حقيقة ما يجري في القرن الأفريقي. وكان هناك تعاون ملموس بين الإمارات الإسلامية في الصومال وخاصة إمارة عدل وزعيمها الإمام أحمد جوري، والدولة العثمانية، للتصدي للصليبيين البرتغاليين والأحباش الغزاة، وقد نما وأزدهر ذلك التعاون في عهد السلطان العظيم، سليمان القانوني (1520-1566). وأولى الباب العالي اهتماما بسلطنة عدل، التي كانت تمثل القاعدة الأساسية للعمليات الهجومية ضد أثيوبيا النصرانية، فضلا عن الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله على مدخل مضيق باب المندب، وتابع العثمانيون تطور الأحداث في إمارة عدل بكل اهتمام، وأعجبوا بحماسة القائد أحمد جوري، وجهوده التوحيدية، وأولوه الدعم والتشجيع عسكريا وسياسيا، لاسيما من خلال والي مصر.
وطوال تلك الفترة لم يدخر أحمد جوري وسعا في سبيل إعادة تنظيم الجيش، وتقويته، وترغيبه في الجهاد في سبيل الله، ولم يخرج في حربه مع الأحباش آنذاك عن إطار المناوشات وحرب الحدود. واستطاع بمساعدة خبراء عسكريين من الانكشارية العثمانيين، من تشكيل جيش صغير الحجم، لكنه انضباطي، مكونا من العرب والصوماليين، ومجهز بأسلحة نارية. أما العثمانيون فقد ظلوا بعيدين عن هذا الجيش، كما أنهم لم يشاركوا في الحرب فعليا إلى جانبه، وكان يقتصر دورهم على إرسال السلاح والذخائر، وتشكيلات المجاهدين المتطوعين من اليمن.
مرحلة جديدة من الجهاد
وبعد أن استكمل الإمام أحمد جوري، التجهيز والإعداد اللازم، على مدى عدة سنوات، لم يلبث أن دشن مرحلة جديدة من الجهاد ضد الأحباش النصارى. فاندلعت في هذه المنطقة بدءا من العام 1526، حرب طاحنة تحت رايتي الصليب والهلال، لم يسبق لها مثيل من حيث عنفها وقسوتها، ونجح المجاهدون الصوماليون والعفاريون والعرب بقيادة الإمام أخمد جوري، من كسر شوكة الأحباش، وطردهم من المناطق الساحلية، واحرموهم من أي مرفىء على سواحل البحر الأحمر ، ومن ثم عزلهم في الهضبة الحبشية، واستمروا في تطويقهم، وتضييق الخناق عليهم، وتلقينهم الهزيمة تلو الهزيمة في عقر دارهم.
وفي غضون ذلك حاول البرتغاليون التدخل لتخفيف الضغط على الأحباش بقصف مرافئ المسلمين بالمدافع من أساطيلهم في البحر ، فتكررت غاراتهم الوحشية على مينائي زيلع ومصوع خلال سنتي 1526 و 1528.
بيد أن محاولتهم تلك لم تفلح في إرهاب المجاهدين المسلمين، ولم يكن لها أي تأثير في مجرى الأحداث، في الداخل، وأصبح تواصلهم مع الأحباش يتم بصعوبة بالغة، فكان المسلمون على أهبة الاستعداد للتصدي لأي عملية إنزال بحري يقوم بها البرتغاليون على ساحل البحر، وواصل المسلمون تقدمهم في أعماق بلاد الحبشة، واستولوا على مقاطعات الشواء ، ومدينتي داوارو وتيجري في أعوام 1529- 1531، وأمهرة ( 1533)، واجتاحت قوات المسلمين أثيوبيا العليا بأسرها حتى حدود سنار، وأصبحت عشرات المدن الأثيوبية في أيدي المسلمين، بما فيها عاصمتهم أكسوم، في إقليم التيجراى.
وبحلول عام1540 أصبح الجزء الجنوبي والأوسط من أثيوبيا بكامله مع عدد من مناطق الشمال تحت سيطرة هذا الفاتح الصومالي الهمام، الذي أوشك أن يحسم الصراع لصالح المسلمين، في هذه المنطقة. ولم يتمكن النجاشي يومئذ من الصمود أمام هجمات جيوش المسلمين إلا بصعوبة بالغة، لاسيما وأن جماهير الكادحين في أثيوبيا، التي كانت تكابد الويلات تحت نير الكنيسة والإقطاعية والنظام الملكي البالي، تخلت عنه، واعتنقت أعداد كثيرة من السكان الدين الإسلامي الحنيف، وانحازت إلى المسلمين في القتال ضد حكام أثيوبيا المسيحية، وبذلت كل ما بوسعها للتعجيل في تحقيق انتصارات المسلمين. وفي غضون ذلك اتسعت إمارة "عدل" فشملت كل ما كان يعرف بـ " ممالك الطراز الإسلامي" ومعظم أقاليم الحبشة النصرانية. وصارت معلما بارزا لمجد الإسلام في هذه الديار.
البرتغاليون يتدخلون
وفي سبتمبر من العام1540 مات النجاشي داؤد الثالث بحسرته، وحيدا طريدا، بعد أن فقد السلطة، والجيش والأنصار، ليحل محله ابنه كلاوديوس (1540- 1559)، الذي نحج في إيقاف الانهيار النهائي للجيش الحبشي النصراني، " فتغير مصير الحرب بضربٍ من السحر" كما قال أحد المؤرخين الغربيين.
والحقيقة أن ذلك التغير، ما كان ليحدث لولا وصول نجدة عسكرية برتغالية، إلى الملك الجديد، كان قد طلبها منهم الملك السابق بإلحاح، بعد توالي انتصارات الإمام أحمد جوري. بل أن الكنيسة الحبشية نفسها، كانت قد بعثت بصرخة استغاثة لبابا روما، وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه، ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب الأرثوذكسي.
وقد جاء تدخل البرتغاليين في الحرب إلى جانب الأحباش برا وبحرا، في تلك اللحظات الحاسمة، بعد أن كان دورهم قبل ذلك مقتصرا على أعمال التخريب والنهب في سواحل خليج عدن - جاء ليشكل طوق النجاة للنصرانية اليعقوبية في الحبشة، ولنظامها الملكي البالي، الذي كان يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت سنابك خيول المجاهدين المسلمين، في الوقت الذي كان فيه نور الإسلام يوشك أن يعم سائر ربوع الحبشة، وسائر مناطق شرق أفريقيا.
ونتيجة للتدخل البرتغالي المباشر، في الحرب إلى جانب الأحباش، اضطرمت المواجهات المسلحة من جديد، وتمكن الإمام أحمد جوري – بعد نجدة عثمانية وصلته من اليمن، مكونة من الانكشارية والفرسان العرب - من إلحاق هزيمة ساحقة جديدة بالقوات الحبشية - البرتغالية المتحالفة، في معركة أناصي عام 1542، وتكبد فيها البرتغاليون والأحباش خسائر جسيمة في الأرواح، وتشتت قواتهم، وولوا هاربين في كل اتجاه. فقد سقط من البرتغاليين وحدهم في هذه المعركة، أكثر من مائتين بين قتيل وجريح، وكان هذا العدد كبيرا جدا بالنسبة إليهم، قياسا بحجمهم، وكان من ضمن القتلى قائد القوات البرتغالية في الحبشة، دون كريستوفان دي غاما، ابن الملاح البرتغالي الشهير فاسكو دي غاما.
ولكن بعد هذا الانتصار حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد قام الفاتح الصومالي أحمد جوري، - ولسبب ما - بإعادة القوة العثمانية، إلى مراكزها في اليمن، ولم يبق إلا على مائتي جندي منهم، ليتفاجىء – بعدها – بعودة الصليبيين للحرب، فحاول التصدي لهم بمن تبقى معه من قوات.
معركة زنطر واستشهاد البطل
وهكذا اندلع القتال من جديد بين الطرفين، وبدأت المواجهات بصورة متقطعة، وعلى شكل مناوشات وكر وفر ، حتى حدث الاشتباك الكبير في فبراير سنة 1543 في مكان يقال له " زنطر " على مقربة من بحيرة " تانا" ، حيث دارت بين الطرفين رحى معركة رهيبة قاسية، انتهت بهزيمة جيش الإمام أحمد جوري، واستشهاده، رحمه الله. فرفع الراية من بعده الأمير نور الدين ابن شقيقه. وتواصلت الحرب بينه وبين الأحباش حتى عام 1559، ففي هذا العام رأى الطرفان أن يجنحا إلى السلام، بعد الحرب المتواصلة على مدى أكثر من ثلاثين عام، أكلت الأخضر واليابس. وانتهت مرحلة طويلة من الصراع بين المسلمين والأحباش كان قد بدأ قبل أربعة قرن. ومنذ ذلك الوقت أنتتهى الإسلام، كتهديد للحبشة النصرانية، وانصرف الطرفان كلاهما للاهتمام بشئونهم ومشاكلهم الداخلية.
ولم يحدث تغيير أساسي في ميزان القوى بين الجانبين، إلا عند قدوم جحافل الاستعمار الأوروبي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فحينها قويت شوكة نصارى الحبشة، من جديد، بسبب الدعم السخي من قبل الأوروبيين، فاستأنفوا حربهم الصليبية ضد المسلمين، لكي يثأروا لكرامتهم التي مرغها الإمام أحمد جوري، في الوحل، في القرن السادس عشر، بدعم وتشجيع أوروبي غربي، فاستولوا على الإمارات الإسلامية في القرن الأفريقي وهي الإمارات المعروفة بإمارات الطراز الإسلامي كإمارة هرر, وإمارة إيفاد, وإمارة عدل, وإمارة هدية, واحدة بعد الأخرى. وما يحدث في الصومال في الوقت الراهن ليس سوى أحد تجليات الحرب الصليبية التي انبعثت من جديد في نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام سياد بري في الصومال في عام 1991، والتي دخلت بعدها الصومال في دوامة الصراع والاقتتال الداخلي، بتخطيط ودعم أعداء الإسلام وأعداء الصومال، الذين يتمثلون في أثيوبيا والدول الصهيوغربية والمؤسسات الكنسية التنصيرية، الذين يعملون جاهدين على أن لا تقوم دولة إسلامية قوية ذات سلطة مركزية في هذا البلد الأفريقي المسلم، ذي الموقع الجغرافي الاستراتيجي، يمكن من خلالها أن يستعيد أهميته ودوره في نشر الإسلام في أفريقيا، وفي مواجهة الصليبية الأثيوبية والغربية، الذي لعبه في القرون الوسطى والحديثة.
فإن الضربة الساحقة التي منيت بها النصرانية في الحبشة والدرس الذي لقنه لها المجاهد الصومالي الفاتح أحمد جوري، لم تنسه الحبشة بعد، ولم ينسه الغرب الصليبي بدوره بعد، وأسم هذا القائد المجاهد الأبي لا يزال ماثلا في الأذهان ويرن في الآذان حتى اليوم.
يقول المؤرخ الفرنسي "رينه باسه " عن هذا الفاتح الصومالي: (إن أشهر دور من أدوار التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة لدى الغربيين هو "أحمد جوري الصومالي " الذي كاد يسحق النصرانية الحبشية ويعيدها كبلاد النوبة إلى الإسلام).
المصـادر
أولا: الكتب
- نيقولاي أيفانوف، الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574، نقله إلى العربية يوسف عطا الله، راجعه وقدم له مسعود ظاهر، سلسلة تاريخ المشرق العربي الحديث (3)، دار الفارابي، بيروت – لبنان، ط1، 1988.
- سيد مصطفى سالم، الفتح العثماني الأول لليمن 1538- 1635، سلسة إصدارات الجامعة 2007، ط6، 2006.
ثانيا: البحوث والمقالات
- أحمد عبده آدم، القرن الإفريقي: رؤية في إدارة الصراع الاستراتيجي، ، أعاد النشر منتدى جنين، http://www.hanein.info/vbx/showthread.php?t=78963 (http://www.hanein.info/vbx/showthread.php?t=78963)
- محمد عثمان عقال، محنة الشعب الصومالي، مجلة البيان، الأعداد (1-100)، الشبكة الإسلامية
http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3...E6%E3%C7%E1%22 (http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3162.html?zoom_highlightsub=%22%C7% E1%D5%E6%E3%C7%E1%22)
- محمد عبده آدم، الصومال بعد رحيل سياد بري، مجلة البيان، الأعداد (1-100) ، الشبكة الإسلامية
http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3...E6%E3%C7%E1%22 (http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3141.html?zoom_highlightsub=%22%C7% E1%D5%E6%E3%C7%E1%22)
- شريف عبد العزيز، الأسد يمسك صليبًا.. عودة الأحباش، مفكرة الإسلام، 11-1-2007، http://www.islammemo.cc/zakera/drasa.../11/27893.html (http://www.islammemo.cc/zakera/drasat-tarekhia/2007/01/11/27893.html)
- علي السماني، نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في أفريقيا ممالك، وسلطنات الطراز الإسلامي في شرق إفريقيا، http://www.mubarak-inst.org/stud_rea...view.php?id=12 (http://www.mubarak-inst.org/stud_rea...view.php?id=12)
الإمام أحمد جوري الصومالي، قاهر الأحباش
أحمد الظرافي
هناك الكثير من المسلمين، لا يعلمون شيئا عن جهاد إخوانهم في القرن الأفريقي، وشرقي القارة السمراء، والحملات الصليبية التي شنتها ضدهم الإمبراطورية الحبشية، المعروفة تاريخياً باسم مملكة "أكسوم"، على مدى قرون، برعاية ودعم وتحريض الكنيسة الأرثوذوكسية اليعقوبية في الحبشة. فالحروب الصليبية قديمة في هذه المنطقة، قدم وجود الإسلام فيها.
علما بأن الإسلام بدأ في الانتشار في هذه الديار منذ أواخر القرن الأول الهجري، على أيدي التجار العرب القادمين من اليمن والحجاز، والذي على أثره تكونت العديد من الإمارات الإسلامية، في هذه المنطقة.
وقد كانت تلك الحرب الدينية، سجالا بين النصارى الأحباش من جهة، وبين المسلمين الصوماليين والعفاريين والعرب، من جهة أخرى، واستمرت كذلك حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري.
ففي هذه الفترة وصلت الأساطيل البرتغالية الصليبية الغازية إلى سواحل القرن الأفريقي المشرفة على المحيط الهندي، والبحر الأحمر ، بعد أن كانوا قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح سنة 905هـ / 1498م، الذي مكنهم من الدوران حول أفريقيا، والوصول إلى سواحل هذه المنطقة ، ومنها إلى الهند، لأول مرة في تاريخهم، في إطار خطتهم المبيتة لتطويق العالم الإسلامي من الجنوب، وتسديد ضربة قاتلة له من الخلف. وقد فرح النجاشي ملك الحبشة، فرحا عظيما بمقدمهم، وأسرع بالتحالف معهم، طالبا منهم الدعم والمساعدة في حربه ضد المسلمين، وفي تطهير منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا منهم. كما أبدى النجاشي الحبشي تحمسا كبيرا لخطة البرتغاليين في سحق المسلمين، وتدمير مكة والمدينة، واسترداد بيت المقدس، وطلب أن يكون له دور في ذلك.
سطوع نجم الإمام أحمد جوري
وفي هذه الفترة سطع نجم بطل من أبطال الإسلام، في القرن الأفريقي، ومجاهد من كبار المجاهدين، ألا وهو أحمد بن إبراهيم الغازي، موحد المسلمين في بلاد الصومال، والقائد الفذ، صاحب الفتوح الواسعة في بلاد الحبشة. وكان ميلاد هذا البطل، الذي عرف فيما بعد باسم " أحمد جوري"، في عام 908هـ ، وكان مسقط رأسه في (هوبت) التي تقع على مقربة من هرر، المدينة التاريخية التي أنشأها المسلمون في أواخر القرن الأول الهجري. وكانت هرر آنذاك، إحدى الولايات الهامة التي تتكون منها إمارة عدل الإسلامية، وإحدى أهم مراكز العلم والإشعاع الإسلامي، في شرقي أفريقيا، الأمر الذي أتاح له أن يتثقف ثقافة دينية غزيرة، وأن ينال قسطا من العلم والفقه، على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو المذهب السائد في هذه المنطقة. ونشأ أحمد جوري، في ظل تغيرات نوعية، وأحداث جسام،كان يمر بها المسلمون في القرن الأفريقي، في تلك الفترة. فآنذاك اشتدت سواعد الأحباش النصارى، وتغير ميزان القوى العسكري لصالحهم، لاسيما بعد حصولهم على الأسلحة النارية من حلفائهم البرتغاليين، وهي الأسلحة التي لم تكن معروفة وقتئذ في القرن الأفريقي، فشن الطرفان الحبشي والبرتغالي حملة صيلبية منسقة ضد المسلمين في تلك المنطقة، الأحباش من البر ، والبرتغاليون من البحر، وتمكنت قوات النجاشي الحبشي داؤد الثالث، في عام 1516، من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الصومالية والعفارية، التابعة لإمارة عدل، التي تقع أهم مراكزها على ساحل خليج عدن بما فيها العاصمة زيلع ، وكانت هذه الإمارة أهم، واكبر الإمارات الإسلامية في الصومال، وأكثرها مسئوليات في الجهاد ضد الصليبية الحبشية، آنذاك.
وبينما كان الأحباش النصارى يحرقون المدن والقرى الإسلامية، ويعيثون فيها فسادا،كانت الأساطيل البرتغالية، تقصف المدن الساحلية، لسلطنة عدل، ولسائر مرافئ الصومال وشرقي أفريقيا، واليمن، بدون هوادة أو رحمة، زارعة الموت والخراب فيها، وناشرة الرعب في ربوعها، ففي منتصف العام 1517 تم قصف مدينة زيلع التاريخية - عاصمة إمارة عدل - وإحراقها، ونهبها بعد الاستيلاء على قلعتها، وفي عام 1518 تعرضت مدينة بربرة، وهي أهم مرافئ هذه الإمارة الإسلامية، لعملية اجتياح وحشي، وفي عام 1520 تعرضت مصوع لاجتياح وحشي مماثل، وفيه أيضا احتلوا مقديشو، إحدى المراكز التجارية المهمة على ساحل المحيط الهندي، وفعلوا فيها الأفاعيل كعادتهم، وقام القراصنة البرتغاليون المتمركزون في خليج عدن بالسطو على كل السفن التجارية الإسلامية التي صادف وجودها في تلك المنطقة، واستولوا على ما كانت تحمله من مواد غذائية ومقتنيات ثمينة. وفي نفس هذا العام أيضا (1520) أضطر سلطان عدل، أبو بكر بن محمد ، إلى نقل عاصمته من زيلع إلى هرر، في غرب الصومال، في الإقليم الذي تحتله الحبشة حاليا والمعروف باسم " أوجادين "، لتصير هذه المدينة آنذاك من أهم المدن في القرن الأفريقي. وثبت آنئذ أن المماليك في مصر، سادة سواحل البحر الأحمر ، أعجز واضعف من أن يقدموا أي دعم يذكر، لأولئك المسلمين في محنتهم، فضلا عن أن يحركوا أساطيلهم لنجدتهم، مما جعل المسلمين في شرق أفريقيا في وضع صعب وحرج.
ولكن برغم ذلك، وبرغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المسلمون في الصومال، في هذه الفترة على أيدي الأحباش والبرتغاليين، إلا أنهم لم يستسلموا، وابدوا صمودا منقطع النظير في الدفاع عن دينهم، وبلادهم، وقد قوبل ظهور العثمانيين في مصر سنة 1517 بعد تقويضهم لدولة المماليك، بسرور بالغ لدى المسلمين في الإمارات الصومالية، وأحيا فيهم آمالا جديدة، في إمكانية التصدي للخطر الصليبي الحبشي البرتغالي الذي داهمهم من البر والبحر، وقد هرع حكام تلك الإمارات الإسلامية، فبعثوا الرسل إلى السلطان سليم الأول ( 1512-1518)، معترفين بالسيادة للباب العالي، ومعلنين ولاءهم للسلطان.
وقام العثمانيون سنة1520، بوضع حاميات عند مرفىء البحر الأحمر الأفريقية، التي كانت تتعرض لعدوان الأساطيل البرتغالية، ولاسيما سواكن ومصوع وزيلع، وزودوها بالأسلحة النارية، وأصبحت هذه المدن تحت إمرة باشا جدة، الذي عين له نوابا فيها. وبذلك أسترد المسلمون بعض ثقتهم وقوتهم، وارتفعت الروح القتالية، والجهادية في أنفسهم، واستعادوا بعض الأجزاء التي فقدوها من إمارة عدل.
إصلاحاته الداخلية
كان من أخطر النتائج التي ترتبت على هزيمة المسلمين في معركة عام 1516 مع النصارى الأحباش، مقتل الأمير محفوظ، قائد الحرب المقدسة ضد نصارى الحبشة، والمسئول الفعلي عن إدارة شئون إمارة عدل الإسلامية، في عهد السلطان أبو بكر بن محمد ( 1488- 1518 )، مما أدى إلى تدهور الوضع، في هذه الإمارة، واحتدام الصراع على السلطة. ولم يكن هناك من يسد الفراغ سوى " أحمد جوري" ، وكان ينتسب لنفس الأسرة التي ينتمي إليها الأمير محفوظ، ويبدو أنه أيضا كان مقربا منه، ومصاحبا له في غزواته ومعاركة الجهادية ضد الأحباش، ولذا حظي بتأييد أنصاره.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد تولى أحمد جوري قيادة جيش إمارة عدل، ورفع راية الجهاد ضد الصليبية الحبشية، خلفا للأمير محفوظ، وكان حينذاك في قمة الحيوية والشباب. وبعد أن تزوج من ابنة سلفه الأمير محفوظ، اتخذ لنفسه لقب إمام، وأشتهر به دون غيره من الألقاب.
وتمكن هذا القائد الفذ من القضاء على كل عوامل الفتنة والشقاق والاضطراب التي حدثت في إمارة عدل، بعد هزيمتها على أيدي الأحباش، ومقتل الأمير محفوظ، وأدب الخارجين وقطاع الطرق، وقبض على زمام الأمور كلها في إمارة عدل، وأتبع سياسة موفقة جمعت الناس من حوله، فأقام شعائر الدين، وقام بنشر العدل بين الرعية، وعمل على توفير الحياة الكريمة لهم، وقام بتوزيع الزكاة على مستحقيها، كما عرف عنه العدل في قسمة الغنائم، وأوقف كتب العلم على العلماء، وكسب بذلك حب الفقهاء والعلماء والمشايخ،كما كسب أيضا محبة الرعية بالإضافة إلى محبة الجنود.
وفي هذه الفترة توسعت الدعوة الإسلامية بشكل كبير، على أيدي دعاة محليين وعرب، وفدوا من القاهرة بعد تخرجهم من الأزهر الشريف، واسلم الكثيرون من قبائل البدو الرحل، من العفر والصومال، وشكل إسلامهم قوة جديدة للإسلام في هذه الديار، وأنشأت الكثير من المساجد والكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم.
وقد استكمل القائد أحمد جوري جهوده في هذه المضمار بإقناع زعماء الإمارات والقوى الإسلامية في شرق أفريقيا بالتحالف وتوحيد الجهود، لكي توجه قواتها معا لعدوهم المشترك – أثيوبيا، وبقطع العلاقات مع هذه الأخيرة وعزلها سياسيا. لاسيما وأن بعضهم كان يداهن ملوك الأحباش ويدفع الإتاوة لهم. وقام أحمد جوري بالاتصال بالعثمانيين، وأطلعهم على حقيقة ما يجري في القرن الأفريقي. وكان هناك تعاون ملموس بين الإمارات الإسلامية في الصومال وخاصة إمارة عدل وزعيمها الإمام أحمد جوري، والدولة العثمانية، للتصدي للصليبيين البرتغاليين والأحباش الغزاة، وقد نما وأزدهر ذلك التعاون في عهد السلطان العظيم، سليمان القانوني (1520-1566). وأولى الباب العالي اهتماما بسلطنة عدل، التي كانت تمثل القاعدة الأساسية للعمليات الهجومية ضد أثيوبيا النصرانية، فضلا عن الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله على مدخل مضيق باب المندب، وتابع العثمانيون تطور الأحداث في إمارة عدل بكل اهتمام، وأعجبوا بحماسة القائد أحمد جوري، وجهوده التوحيدية، وأولوه الدعم والتشجيع عسكريا وسياسيا، لاسيما من خلال والي مصر.
وطوال تلك الفترة لم يدخر أحمد جوري وسعا في سبيل إعادة تنظيم الجيش، وتقويته، وترغيبه في الجهاد في سبيل الله، ولم يخرج في حربه مع الأحباش آنذاك عن إطار المناوشات وحرب الحدود. واستطاع بمساعدة خبراء عسكريين من الانكشارية العثمانيين، من تشكيل جيش صغير الحجم، لكنه انضباطي، مكونا من العرب والصوماليين، ومجهز بأسلحة نارية. أما العثمانيون فقد ظلوا بعيدين عن هذا الجيش، كما أنهم لم يشاركوا في الحرب فعليا إلى جانبه، وكان يقتصر دورهم على إرسال السلاح والذخائر، وتشكيلات المجاهدين المتطوعين من اليمن.
مرحلة جديدة من الجهاد
وبعد أن استكمل الإمام أحمد جوري، التجهيز والإعداد اللازم، على مدى عدة سنوات، لم يلبث أن دشن مرحلة جديدة من الجهاد ضد الأحباش النصارى. فاندلعت في هذه المنطقة بدءا من العام 1526، حرب طاحنة تحت رايتي الصليب والهلال، لم يسبق لها مثيل من حيث عنفها وقسوتها، ونجح المجاهدون الصوماليون والعفاريون والعرب بقيادة الإمام أخمد جوري، من كسر شوكة الأحباش، وطردهم من المناطق الساحلية، واحرموهم من أي مرفىء على سواحل البحر الأحمر ، ومن ثم عزلهم في الهضبة الحبشية، واستمروا في تطويقهم، وتضييق الخناق عليهم، وتلقينهم الهزيمة تلو الهزيمة في عقر دارهم.
وفي غضون ذلك حاول البرتغاليون التدخل لتخفيف الضغط على الأحباش بقصف مرافئ المسلمين بالمدافع من أساطيلهم في البحر ، فتكررت غاراتهم الوحشية على مينائي زيلع ومصوع خلال سنتي 1526 و 1528.
بيد أن محاولتهم تلك لم تفلح في إرهاب المجاهدين المسلمين، ولم يكن لها أي تأثير في مجرى الأحداث، في الداخل، وأصبح تواصلهم مع الأحباش يتم بصعوبة بالغة، فكان المسلمون على أهبة الاستعداد للتصدي لأي عملية إنزال بحري يقوم بها البرتغاليون على ساحل البحر، وواصل المسلمون تقدمهم في أعماق بلاد الحبشة، واستولوا على مقاطعات الشواء ، ومدينتي داوارو وتيجري في أعوام 1529- 1531، وأمهرة ( 1533)، واجتاحت قوات المسلمين أثيوبيا العليا بأسرها حتى حدود سنار، وأصبحت عشرات المدن الأثيوبية في أيدي المسلمين، بما فيها عاصمتهم أكسوم، في إقليم التيجراى.
وبحلول عام1540 أصبح الجزء الجنوبي والأوسط من أثيوبيا بكامله مع عدد من مناطق الشمال تحت سيطرة هذا الفاتح الصومالي الهمام، الذي أوشك أن يحسم الصراع لصالح المسلمين، في هذه المنطقة. ولم يتمكن النجاشي يومئذ من الصمود أمام هجمات جيوش المسلمين إلا بصعوبة بالغة، لاسيما وأن جماهير الكادحين في أثيوبيا، التي كانت تكابد الويلات تحت نير الكنيسة والإقطاعية والنظام الملكي البالي، تخلت عنه، واعتنقت أعداد كثيرة من السكان الدين الإسلامي الحنيف، وانحازت إلى المسلمين في القتال ضد حكام أثيوبيا المسيحية، وبذلت كل ما بوسعها للتعجيل في تحقيق انتصارات المسلمين. وفي غضون ذلك اتسعت إمارة "عدل" فشملت كل ما كان يعرف بـ " ممالك الطراز الإسلامي" ومعظم أقاليم الحبشة النصرانية. وصارت معلما بارزا لمجد الإسلام في هذه الديار.
البرتغاليون يتدخلون
وفي سبتمبر من العام1540 مات النجاشي داؤد الثالث بحسرته، وحيدا طريدا، بعد أن فقد السلطة، والجيش والأنصار، ليحل محله ابنه كلاوديوس (1540- 1559)، الذي نحج في إيقاف الانهيار النهائي للجيش الحبشي النصراني، " فتغير مصير الحرب بضربٍ من السحر" كما قال أحد المؤرخين الغربيين.
والحقيقة أن ذلك التغير، ما كان ليحدث لولا وصول نجدة عسكرية برتغالية، إلى الملك الجديد، كان قد طلبها منهم الملك السابق بإلحاح، بعد توالي انتصارات الإمام أحمد جوري. بل أن الكنيسة الحبشية نفسها، كانت قد بعثت بصرخة استغاثة لبابا روما، وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه، ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب الأرثوذكسي.
وقد جاء تدخل البرتغاليين في الحرب إلى جانب الأحباش برا وبحرا، في تلك اللحظات الحاسمة، بعد أن كان دورهم قبل ذلك مقتصرا على أعمال التخريب والنهب في سواحل خليج عدن - جاء ليشكل طوق النجاة للنصرانية اليعقوبية في الحبشة، ولنظامها الملكي البالي، الذي كان يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت سنابك خيول المجاهدين المسلمين، في الوقت الذي كان فيه نور الإسلام يوشك أن يعم سائر ربوع الحبشة، وسائر مناطق شرق أفريقيا.
ونتيجة للتدخل البرتغالي المباشر، في الحرب إلى جانب الأحباش، اضطرمت المواجهات المسلحة من جديد، وتمكن الإمام أحمد جوري – بعد نجدة عثمانية وصلته من اليمن، مكونة من الانكشارية والفرسان العرب - من إلحاق هزيمة ساحقة جديدة بالقوات الحبشية - البرتغالية المتحالفة، في معركة أناصي عام 1542، وتكبد فيها البرتغاليون والأحباش خسائر جسيمة في الأرواح، وتشتت قواتهم، وولوا هاربين في كل اتجاه. فقد سقط من البرتغاليين وحدهم في هذه المعركة، أكثر من مائتين بين قتيل وجريح، وكان هذا العدد كبيرا جدا بالنسبة إليهم، قياسا بحجمهم، وكان من ضمن القتلى قائد القوات البرتغالية في الحبشة، دون كريستوفان دي غاما، ابن الملاح البرتغالي الشهير فاسكو دي غاما.
ولكن بعد هذا الانتصار حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد قام الفاتح الصومالي أحمد جوري، - ولسبب ما - بإعادة القوة العثمانية، إلى مراكزها في اليمن، ولم يبق إلا على مائتي جندي منهم، ليتفاجىء – بعدها – بعودة الصليبيين للحرب، فحاول التصدي لهم بمن تبقى معه من قوات.
معركة زنطر واستشهاد البطل
وهكذا اندلع القتال من جديد بين الطرفين، وبدأت المواجهات بصورة متقطعة، وعلى شكل مناوشات وكر وفر ، حتى حدث الاشتباك الكبير في فبراير سنة 1543 في مكان يقال له " زنطر " على مقربة من بحيرة " تانا" ، حيث دارت بين الطرفين رحى معركة رهيبة قاسية، انتهت بهزيمة جيش الإمام أحمد جوري، واستشهاده، رحمه الله. فرفع الراية من بعده الأمير نور الدين ابن شقيقه. وتواصلت الحرب بينه وبين الأحباش حتى عام 1559، ففي هذا العام رأى الطرفان أن يجنحا إلى السلام، بعد الحرب المتواصلة على مدى أكثر من ثلاثين عام، أكلت الأخضر واليابس. وانتهت مرحلة طويلة من الصراع بين المسلمين والأحباش كان قد بدأ قبل أربعة قرن. ومنذ ذلك الوقت أنتتهى الإسلام، كتهديد للحبشة النصرانية، وانصرف الطرفان كلاهما للاهتمام بشئونهم ومشاكلهم الداخلية.
ولم يحدث تغيير أساسي في ميزان القوى بين الجانبين، إلا عند قدوم جحافل الاستعمار الأوروبي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فحينها قويت شوكة نصارى الحبشة، من جديد، بسبب الدعم السخي من قبل الأوروبيين، فاستأنفوا حربهم الصليبية ضد المسلمين، لكي يثأروا لكرامتهم التي مرغها الإمام أحمد جوري، في الوحل، في القرن السادس عشر، بدعم وتشجيع أوروبي غربي، فاستولوا على الإمارات الإسلامية في القرن الأفريقي وهي الإمارات المعروفة بإمارات الطراز الإسلامي كإمارة هرر, وإمارة إيفاد, وإمارة عدل, وإمارة هدية, واحدة بعد الأخرى. وما يحدث في الصومال في الوقت الراهن ليس سوى أحد تجليات الحرب الصليبية التي انبعثت من جديد في نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام سياد بري في الصومال في عام 1991، والتي دخلت بعدها الصومال في دوامة الصراع والاقتتال الداخلي، بتخطيط ودعم أعداء الإسلام وأعداء الصومال، الذين يتمثلون في أثيوبيا والدول الصهيوغربية والمؤسسات الكنسية التنصيرية، الذين يعملون جاهدين على أن لا تقوم دولة إسلامية قوية ذات سلطة مركزية في هذا البلد الأفريقي المسلم، ذي الموقع الجغرافي الاستراتيجي، يمكن من خلالها أن يستعيد أهميته ودوره في نشر الإسلام في أفريقيا، وفي مواجهة الصليبية الأثيوبية والغربية، الذي لعبه في القرون الوسطى والحديثة.
فإن الضربة الساحقة التي منيت بها النصرانية في الحبشة والدرس الذي لقنه لها المجاهد الصومالي الفاتح أحمد جوري، لم تنسه الحبشة بعد، ولم ينسه الغرب الصليبي بدوره بعد، وأسم هذا القائد المجاهد الأبي لا يزال ماثلا في الأذهان ويرن في الآذان حتى اليوم.
يقول المؤرخ الفرنسي "رينه باسه " عن هذا الفاتح الصومالي: (إن أشهر دور من أدوار التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة لدى الغربيين هو "أحمد جوري الصومالي " الذي كاد يسحق النصرانية الحبشية ويعيدها كبلاد النوبة إلى الإسلام).
المصـادر
أولا: الكتب
- نيقولاي أيفانوف، الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574، نقله إلى العربية يوسف عطا الله، راجعه وقدم له مسعود ظاهر، سلسلة تاريخ المشرق العربي الحديث (3)، دار الفارابي، بيروت – لبنان، ط1، 1988.
- سيد مصطفى سالم، الفتح العثماني الأول لليمن 1538- 1635، سلسة إصدارات الجامعة 2007، ط6، 2006.
ثانيا: البحوث والمقالات
- أحمد عبده آدم، القرن الإفريقي: رؤية في إدارة الصراع الاستراتيجي، ، أعاد النشر منتدى جنين، http://www.hanein.info/vbx/showthread.php?t=78963 (http://www.hanein.info/vbx/showthread.php?t=78963)
- محمد عثمان عقال، محنة الشعب الصومالي، مجلة البيان، الأعداد (1-100)، الشبكة الإسلامية
http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3...E6%E3%C7%E1%22 (http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3162.html?zoom_highlightsub=%22%C7% E1%D5%E6%E3%C7%E1%22)
- محمد عبده آدم، الصومال بعد رحيل سياد بري، مجلة البيان، الأعداد (1-100) ، الشبكة الإسلامية
http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3...E6%E3%C7%E1%22 (http://islamport.com/d/3/amm/1/254/3141.html?zoom_highlightsub=%22%C7% E1%D5%E6%E3%C7%E1%22)
- شريف عبد العزيز، الأسد يمسك صليبًا.. عودة الأحباش، مفكرة الإسلام، 11-1-2007، http://www.islammemo.cc/zakera/drasa.../11/27893.html (http://www.islammemo.cc/zakera/drasat-tarekhia/2007/01/11/27893.html)
- علي السماني، نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في أفريقيا ممالك، وسلطنات الطراز الإسلامي في شرق إفريقيا، http://www.mubarak-inst.org/stud_rea...view.php?id=12 (http://www.mubarak-inst.org/stud_rea...view.php?id=12)