ابن القسّام
09-16-2009, 06:52 PM
ظاهرة سرقة الشّعار والدّعوةِ تتكرّر على مرّ الأزمان والعصور، حيث يبدأ صاحب الدّعوة على عقيدة ما ومنهجٍ مميّز قد يكون مكتملاً في ذهنه وقد يكون عائماً مسطّحاً، فيتجمّع حوله الأنصار والمؤيّدون، كلٌّ منهم دخلها لمقصد خاصّ له وبفهم خاصّ كذلك، فيتلقّفها رجلٌ مميّز في قدراته وعقليّته فيستطيع بهذه القدرات والمميّزات أن يجير الدّعوة إلى حسابه وفكرته، فيبقى الشّعار على الوضع الأوّل - حديديّاً مصمتاً جامداً - ويتغيّر المحتوى والمضمون، حتّى إذا شاع هذا الشّعار مع المضمون الجديد صار أمر المصلحين عسيراً مُتعباً في ردّ النّاس إلى الأمر الأوّل.
هذه الظّاهرة حدثت مع دين الله تعالى الذي أنزله على عيسى عليه السّلام، فعيسى عليه السّلام دعا إلى التّوحيد، وإلى إفراد الله تعالى بالعبادة، وأخبر عن صفات الله تعالى وأنّه ليس كمثله شيء، وأنّ العرش وما دونه مخلوقات لله تعالى، والله مستغن عن العرش وعن عبيده، وحذّر العباد من الشّرك والكفر، فحذّرهم من عبادة الصّور والتّماثيل، وحذّرهم من اتّخاذهم النّاس أرباباً من دون الله تعالى، كلُّ هذا كان واضحاً وضوح الشّمس في دعوة عيسى عليه السّلام لبني إسرائيل، فلم يكن في دعوة عيسى عليه السّلام ما يحتمل التأويل، في هذا الجانب، لأنّ هذا الجانب هو أسس الدّعوة وعمادها، فلذلك لا بدّ أن يكون صريحاً واضحاً، فتبعه أصحابٌ له هم خيرة النّاس يوم ذاك، واصطفى منهم خواصاً صاروا حواريين وأصفياء له، ثمّ رُفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء، وشُبّه على اليهود فصلبوا غيره، كلّ هذا كان واضحاً في ذهن وعقليّة الأصفياء، فكيف انحرفت الدّعوة وتغيّر مضمونها بعد ذلك؟.
بعد أن رُفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء نشط أتباعه بالدّعوة إلى دين الله تعالى، وكلّما ازدادت الدّعوة نشاطاً وقوّة كلّما ازداد غضب الشّرّ عليها، فازداد اضطهاد اليهود لها، وازداد عذابهم لأتباعها، وكان هناك رجل قد تميّز في بيت المقدس (حسب الرّوايات) في عذابه وبغضه لهذه الدّعوة، كان هذا الرّجل يهوديّاً يسمّى شاول، وقد استطاع أن يستخرج فرماناً من الحاكم الرّومانيّ في بيت المقدس لقتل جماعة من أتباع عيسى عليه السّلام في دمشق، حمل شاول الفرمان ووجّه وجهه سائراً إلى دمشق، تقول الرّواية: أنّه دخل دمشق مؤمناً بدعوة المسيح عليه السّلام، وادّعى أنّه رأى رؤيا في الطّريق تدعوه إلى اتّباع دين عيسى عليه السّلام، كان خوف الحواريين منه شديداً، فتخوّفوا منه ابتداءً لكنّه استطاع أن يكسب ثقتهم بعد مدّة قصيرة من الزّمن، ونشط معهم بالدّعوة إلى الدّين الجديد، كان أكثر الحواريين صداقة معه هو برنابا رضي الله عنه، حيث تصاحبا في كثير من أسفارهما ورحلاتهما إلى القرى والمدن للدّعوة إلى الدّين الإسلاميّ الذي أتى به عيسى عليه السّلام، وفي رحلة طويلة لهما قصدا إلى شمال الدّنيا وصل الاثنان إلى أنطاكية وهناك انفصلا، حيث وجّه برنابا وجهته إلى جزائر البحر، وواصل شاول (الذي غيّر اسمه بعدما ادّعى الإسلام وسمّى نفسه بولس) مسيرته إلى بلاد الرّومان حيث استقرّ المقام به في عاصمة بلاد الرّومان ومقرّ الإمبراطورية: روما، وهناك بدأ التّحريف والتّزوير.
ما إن وصل إلى روما واستقرّ به المقام حتّى بدأ يدعو إلى دين الإسلام الذي أتى به عيسى عليه السّلام بمحتوى جديدٍ ومضمونٍ مختلف، فادّعى هناك في روما أنّ عيسى تميّز عن البشر، وأنّه ليس بشراً بل هو ابن الله، وأنّ الربّ (أباه) قد صلبه من أجل أن يخلّص البشر من خطاياهم، فبهذا تمّ فداء البشر وانعتاقهم من ذنوبهم ومعاصيهم، وبدأ يكسب الأنصار والمؤيدين للدّين تحت الشّعار الأوّل ولكن بمضمون جديد، وفحوى متغيّرة، يقال لهم من أنتم؟. يقولون: أتباع المسيح. ما دينكم؟. فيجيبون بأجوبة الشّرك واعتقاد الكفر.
كثر الأتباع وانتشر الخبر حتّى وصل إلى الحواريين، كان أكثرهم صدمة بهذا الحدث هو سمعان الصّفا رضي الله عنه بطرس، (وبطرس تعني الصّخرة التي يقام عليها الدّين)، حمل بطرس نفسه ماشياً من بيت المقدس إلى روما يمشي حيناً ويعان حيناً بدابة حتّى وصل إلى روما ليعلن للأتباع هناك ضلال هذا الدّين وكذبه بنسبته إلى عيسى عليه السّلام، تقول الرّوايات أنّ مشقّة بطرس وصلت خلال مسيرته أنّه تعرّض للموت جوعاً وعطشاً مرّات كثيرة، وأنّ رجليه نزفتا مرّات كثيرة، لكن إخلاصه في بيان كذب بولس (شاول) دفعه لمواصلة الطّريق إلى روما، عندما وصل روما بدأ يعلن ضلال وكذب شاول، فاستعدى أتباع شاول عليه الدّولة هناك فقبضت عليه بعد أسبوع واحد من وصوله روما وحكموا عليه بالقتل فقُتل، وواصل شاول دعوته في روما إلى الشّرك والكفر تحت دعوى وشعار دين عيسى عليه السّلام.
تقول الرّوايات أنّ برنابا أرسل مجموعة رسائل إلى الأتباع الجدد في روما يحذّرهم من انحرافهم وشركهم كلّها لم تنفع، واستغلّها شاول استغلالاً سيّئاً، بل إنَّ قتل الرّومان لبطرس قد استغلّه شاول في استدرار العطف والشّفقة عليه وعلى أتباعه حيث نسبوا بطرس لمذهبهم ودينهم وأنّه قتل شهيداً من قبل الطّغاة الرّومانيين.
وهكذا بقي الشّعار والعنوان والنّسبة إلى عيسى عليه السّلام وانحرف المضمون وتبدّل المحتوى، واستمرّ الصّراع بين الموحّدين في الشّرق وبين الوثنيين في روما قائماً حول - من أحقّ بهذا الدّين الجديد - واستمرّ على هذه الحالة سنين طويلة، حتّى استطاع الوثنيّون المثلِّثون كسب إمبراطور رومانيّ إلى صفّهم هو قسطنطين (والتي يسمّيه النّصارى بقسطنطين الكبير أو القدّيس قسطنطين مع أنّه لم يدخل في دينهم قط، فبعض الرّوايات تقول أنّه تعمد نصرانيّاً على فراش الموت وبعضها ينفي هذا التّعميد كليّة) حيث أعانوه في تحقيق انفراده بالسّلطة ضدّ خصومه، فحفِظَ لهم هذا الجميل وبدأ يدعم مذهبهم واتّجاههم، وكذلك استطاعوا التأثير على أمّه هيلانة حيث استمالوا قلبها إلى الدّين الوثنيّ الجديد، فاستغلّوا السّلطة الحاكمة في القضاء على خصومهم من الموحّدين، تنصّرت الدّولة الرّومانيّة على الطّريقة الوثنيّة وبدأ تنكيلها وقتلها للموحّدين في الشّرق ممّا اضطرّ أصحاب التّوحيد إلى الهرب إلى الجبال والقفار بعيدا عن بطش الدّولة الرّومانيّة، وبقي قلّة منهم على طريق التّوحيد حتّى جاءهم الإسلام ودخل إلى بلادهم فدخلوا فيه وأسلموا، وهكذا سُرق الشّعار، وتحوّلت الدّعوة بفعل رجل واحد غير الملّة والدّين، واستغلّ أتباعه السّياسة والحكم فعاونتهم في القضاء على خصومهم وإبعادهم من الطّريق، وها هو الدّين المنسوب لعيسى عليه السّلام يملأ أتباعه فجاج الأرض وليس فيهم موحّد لله تعالى.
كاد هذا الأمر يحدث مع دين الله تعالى الذي أنزله على محمّد صلى الله عليه وسلم ، وما حادثة الردّة التي كانت في آخر حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ انتشرت بعد وفاته إلاّ مثالاً لمحاولة الاختراق، ولولا أنّ الله تكفّل بحفظ دينه، وأنّ الله أقام لهذا الدّين هذا الصّنف الرّائع من الرّجال، كأمثال أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وبقيّة المؤمنين لصار دين الله تعالى أثراً بعد عين، ولصار إسلام التّوحيد، إسلاماً آخر بمحتوى جديد، فيه الإيمان بمسيلمة وسجاح.
وتكرّر هذا الحدث مع الصّدّيق الثّاني أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في حادثة خلق القرآن، حيث تقلّد القضاء أئمةّ الاعتزال، (وخطبوا على المنابر ودخل الخليفة في دينهم ومذهبهم)، فضيّق على الموحّدين، فقتل منهم من قتل، وهرب منهم من هرب، وأجاب بعضهم تقية، ولم يبقى في السّاحة إلاّ أحمد رحمه الله تعالى، حيث حفظ الله به هذا الدّين وهذه الأمّة من الانحراف والردّة.
فالممتنع هو ردّة جميع الأمّة أو انحرافها وتغييرها تحت اسم الإسلام، فقد تكفّل الله تعالى ببقاء جماعة على الحقّ لا يحيدون ولا يضطربون. قال صلى الله عليه وسلم : ((يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدولهم ينفون عنه تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))، وقال فيهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في خطبة كتابه في «الرّدّ على الجهميّة» : الحمد لله الذي جعل في كلّ زمان فترة من الرّسل بقايا أهل العلم يدعون من ضلّ إلى هدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضالّ جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على النّاس، وأقبح أثر النّاس عليهم. ا.ه. أمّا أن تنحرف جماعة وترتدّ وهي ترفع شعار الإسلام وتنتسب لمحمّد صلى الله عليه وسلم فهذا قد وقع منه الشّيء الكثير:
فالإسماعيلية والقرامطة لهم دين عجيب غريب، ليس فيه شيء ممّا يصح انتسابه للكتاب والسنّة ومع ذلك هم ينتسبون للإسلام ولأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم .
وها هم اليزيديّون عبدة الشّيطان ينتسبون للإسلام ولأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يعبدون الشّيطان ويدينون له بالطّاعة والولاء.
وهاهم القائلون بوحدة الوجود (لا فرق بين الخالق والمخلوق) ينتسبون للإسلام ولمحمّد صلى الله عليه وسلم .
وهاهم أهل البدع يرفعون شعار أهل السنّة والجماعة كعبدة القبور، والقائلين بالجبر والتأويل والتّجهّم.
وأنت لو دقّقت النّظر في الطّريقة التي حصل فيها هذا التّزييف والسّرقة لوجدت أنّ أغلبها يتمّ بالطّريقة التي قدّمناها مع شاول في تزييفه لدين الله تعالى (انحراف رجل داعية ثمّ تدخّل السّياسة في نصرته).
واعلم (حفظك الله) أنّ هناك مزالق ومسهِّلات يتّخذها هؤلاء المزيّفون في تمرير بدعتهم أو كفرهم أسوقها لك سريعاً:
1 - أهمّ هذه المزالق الشيطانيّة التي يتّخذها هؤلاء المزيّفون هو الزّهد وادّعاء الفقر والمسكنة، فأنت لو قرأت مُبتدأ جميع الدّعوات البدعيّة في التّاريخ الإسلاميّ لوجدت أنّ الطّريق الأوّل في بناء الأتباع هو اتّباع الزّهد والذّلّة، فهذا حمدان قرمط (مؤسّس القرامطة)، وهذا ميمون القدّاح (مؤسّس دولة العبيديين)، وهذا حسن الصّباح (مؤسّس قلعة الحشّاشين في قلعة الموت)، وهذا عديّ بن مسافر (مؤسّس الدّين اليزيديّ عبدة الشّيطان) وغيرهم كلّهم بدأوا بإظهار الزّهد والمسكنة.
2 - حُسن السّمت، وهذا الذي يسمّيه البعض بنور الوجه، فالمغفّلون من البشر تغرّهم وضاءة الوجه وحسن السّمت، ولا يناقشون الحقائق، وأنت لو سألت الكثير من أتباع الطّرق الصّوفيّة عن دليل صدق طريقهم لأجابك: بأنّ شيخنا حفظه الله له وجه مشرق منور.
3 - القدرة الخطابيّة والتّمكّن من البلاغة، وكذا يلحق بها التّمكّن من المحاورة أو كما سمّاها بعضهم بإتقانه: من أين تؤكل الكتف.
4 - الانتساب لشرف المنبت والأصل، كالانتساب لآل البيت عليهم السّلام مثلاً.
وهذه التي ذكرناها قد يستخدمها المحقّ ويستخدمها المبطل، وهي ليست أدلّة إثبات الحقّ لكن دليله في داخله، فعلى دعاة الحقّ أن لا يفوِّتها لأنّ الكثير من النّاس تغرّهم المظاهر والرّسوم، ولا يعيرون الدّراسة والفهم أدنى قيمة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((النّاس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة))، وكما قال عليّ رضي الله عنه: "وأكثرهم همجٌ رعاع يتَّبعون كلّ ناعق"، ولذلك هذه المزالق تستحقّ أن تسمى «مزالق المغفّلين».
ما قدّمته من أمرٍ قصدْتُ منه الوصول إلى انحراف اسم عزيز علينا، له وقعٌ حبيبٌ على نفوسِنا، وما زلنا نتنازعه مع قومٍ صرفوه عن حقيقته، وألبسوه ثياب الزّور والبهتان، هذا الاسم هو «السّلفيّة».
فلقد كانت الدّولة السّعوديّة محطّة من محطّات إجهاض هذا الاسم، وتغييره وتزويره حتّى صار الانتساب لهذا الاسم سبّة في وجه الرّجل وفي جبينه، فبمجرّد أن تقول أنا سلفيّ، حتّى يستقرّ في ذهن المقابل أنّك رجل تابع للنّظام السّعوديّ المرتدّ، والحقّ أنّ هذا النّظام (أي السّعوديّ) هو من أكفر ما عرفت البشريّة من أنظمة، وسبب ذلك أنّه عاد على الحقّ بالتّزوير والإبطال، والنّاس لهم في هذا الرّبط بين السّلفيّة والنّظام السّعوديّ، أدلّة وأدلّة فيها الكثير من الحقّ، وما الوثيقة المخابراتيّة التي عرضتها في الحصّة الفائتة إلاّ دليل واحد من مئات الأدلّة الحاضرة في الأذهان.
وسبب فتنة هذه الدّولة ليس بسبب حقٍّ فيها، أو نظافة اسمها، فالكلّ يعلم ما عليه هذه الدّولة من الكفر والعصيان، والكلّ يعلم ما عليه حكّامها من الدّناءة والفجور، ولكنّ سبب هذه الفتنة هو هذا الكمّ من المشايخ الذين دخلوا في نصرتها وتأييدها، وطالب العلم الخارج من حمأة التّقليد، وضلال الصّوفيّة لا بدّ له أن يلتحق بالمنهج السّلفيّ، لما يرى من قوّة أدلّته ونصاعة منهجه، ولكن عندما يريد أن يبحث عن مشايخ هذا المنهج المعلنين، فإنّه سيصطدم بهذه الرّموز النّكرة، والخشب المسنّدة الذين صنعتهم الدّولة على عينها، ورفعت أسماءهم في كلّ مكان ليصطدم بهم المرء أنّى توجّهه، فيضطرب أمره وتبدأ الأسئلة تدور في ذهنه عن حقيقة ما يرى ودعوى ما يسمع، فإمّا أن يلقي عقله ويقلّد هؤلاء المشايخ، وإمّا أن يبقى حائراً يقدّم رِجلاً ويؤخّر أخرى، وإمّا أن يهدي الله قلبه ويتوكّل على الله ويعلنها صريحة: كفرت بكلّ هذا الدّين المزوّر، وكفرت بهذه الخشب المسنّدة وآمنت بالله العظيم، والتحَق بالأمر الأوّل قبل تحريفه وتزويره.
والحمد لله ربّ العالمين
-----------
[بقلم الشيخ / أبي قتادة الفلسطيني -فك الله أسره- ]
هذه الظّاهرة حدثت مع دين الله تعالى الذي أنزله على عيسى عليه السّلام، فعيسى عليه السّلام دعا إلى التّوحيد، وإلى إفراد الله تعالى بالعبادة، وأخبر عن صفات الله تعالى وأنّه ليس كمثله شيء، وأنّ العرش وما دونه مخلوقات لله تعالى، والله مستغن عن العرش وعن عبيده، وحذّر العباد من الشّرك والكفر، فحذّرهم من عبادة الصّور والتّماثيل، وحذّرهم من اتّخاذهم النّاس أرباباً من دون الله تعالى، كلُّ هذا كان واضحاً وضوح الشّمس في دعوة عيسى عليه السّلام لبني إسرائيل، فلم يكن في دعوة عيسى عليه السّلام ما يحتمل التأويل، في هذا الجانب، لأنّ هذا الجانب هو أسس الدّعوة وعمادها، فلذلك لا بدّ أن يكون صريحاً واضحاً، فتبعه أصحابٌ له هم خيرة النّاس يوم ذاك، واصطفى منهم خواصاً صاروا حواريين وأصفياء له، ثمّ رُفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء، وشُبّه على اليهود فصلبوا غيره، كلّ هذا كان واضحاً في ذهن وعقليّة الأصفياء، فكيف انحرفت الدّعوة وتغيّر مضمونها بعد ذلك؟.
بعد أن رُفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء نشط أتباعه بالدّعوة إلى دين الله تعالى، وكلّما ازدادت الدّعوة نشاطاً وقوّة كلّما ازداد غضب الشّرّ عليها، فازداد اضطهاد اليهود لها، وازداد عذابهم لأتباعها، وكان هناك رجل قد تميّز في بيت المقدس (حسب الرّوايات) في عذابه وبغضه لهذه الدّعوة، كان هذا الرّجل يهوديّاً يسمّى شاول، وقد استطاع أن يستخرج فرماناً من الحاكم الرّومانيّ في بيت المقدس لقتل جماعة من أتباع عيسى عليه السّلام في دمشق، حمل شاول الفرمان ووجّه وجهه سائراً إلى دمشق، تقول الرّواية: أنّه دخل دمشق مؤمناً بدعوة المسيح عليه السّلام، وادّعى أنّه رأى رؤيا في الطّريق تدعوه إلى اتّباع دين عيسى عليه السّلام، كان خوف الحواريين منه شديداً، فتخوّفوا منه ابتداءً لكنّه استطاع أن يكسب ثقتهم بعد مدّة قصيرة من الزّمن، ونشط معهم بالدّعوة إلى الدّين الجديد، كان أكثر الحواريين صداقة معه هو برنابا رضي الله عنه، حيث تصاحبا في كثير من أسفارهما ورحلاتهما إلى القرى والمدن للدّعوة إلى الدّين الإسلاميّ الذي أتى به عيسى عليه السّلام، وفي رحلة طويلة لهما قصدا إلى شمال الدّنيا وصل الاثنان إلى أنطاكية وهناك انفصلا، حيث وجّه برنابا وجهته إلى جزائر البحر، وواصل شاول (الذي غيّر اسمه بعدما ادّعى الإسلام وسمّى نفسه بولس) مسيرته إلى بلاد الرّومان حيث استقرّ المقام به في عاصمة بلاد الرّومان ومقرّ الإمبراطورية: روما، وهناك بدأ التّحريف والتّزوير.
ما إن وصل إلى روما واستقرّ به المقام حتّى بدأ يدعو إلى دين الإسلام الذي أتى به عيسى عليه السّلام بمحتوى جديدٍ ومضمونٍ مختلف، فادّعى هناك في روما أنّ عيسى تميّز عن البشر، وأنّه ليس بشراً بل هو ابن الله، وأنّ الربّ (أباه) قد صلبه من أجل أن يخلّص البشر من خطاياهم، فبهذا تمّ فداء البشر وانعتاقهم من ذنوبهم ومعاصيهم، وبدأ يكسب الأنصار والمؤيدين للدّين تحت الشّعار الأوّل ولكن بمضمون جديد، وفحوى متغيّرة، يقال لهم من أنتم؟. يقولون: أتباع المسيح. ما دينكم؟. فيجيبون بأجوبة الشّرك واعتقاد الكفر.
كثر الأتباع وانتشر الخبر حتّى وصل إلى الحواريين، كان أكثرهم صدمة بهذا الحدث هو سمعان الصّفا رضي الله عنه بطرس، (وبطرس تعني الصّخرة التي يقام عليها الدّين)، حمل بطرس نفسه ماشياً من بيت المقدس إلى روما يمشي حيناً ويعان حيناً بدابة حتّى وصل إلى روما ليعلن للأتباع هناك ضلال هذا الدّين وكذبه بنسبته إلى عيسى عليه السّلام، تقول الرّوايات أنّ مشقّة بطرس وصلت خلال مسيرته أنّه تعرّض للموت جوعاً وعطشاً مرّات كثيرة، وأنّ رجليه نزفتا مرّات كثيرة، لكن إخلاصه في بيان كذب بولس (شاول) دفعه لمواصلة الطّريق إلى روما، عندما وصل روما بدأ يعلن ضلال وكذب شاول، فاستعدى أتباع شاول عليه الدّولة هناك فقبضت عليه بعد أسبوع واحد من وصوله روما وحكموا عليه بالقتل فقُتل، وواصل شاول دعوته في روما إلى الشّرك والكفر تحت دعوى وشعار دين عيسى عليه السّلام.
تقول الرّوايات أنّ برنابا أرسل مجموعة رسائل إلى الأتباع الجدد في روما يحذّرهم من انحرافهم وشركهم كلّها لم تنفع، واستغلّها شاول استغلالاً سيّئاً، بل إنَّ قتل الرّومان لبطرس قد استغلّه شاول في استدرار العطف والشّفقة عليه وعلى أتباعه حيث نسبوا بطرس لمذهبهم ودينهم وأنّه قتل شهيداً من قبل الطّغاة الرّومانيين.
وهكذا بقي الشّعار والعنوان والنّسبة إلى عيسى عليه السّلام وانحرف المضمون وتبدّل المحتوى، واستمرّ الصّراع بين الموحّدين في الشّرق وبين الوثنيين في روما قائماً حول - من أحقّ بهذا الدّين الجديد - واستمرّ على هذه الحالة سنين طويلة، حتّى استطاع الوثنيّون المثلِّثون كسب إمبراطور رومانيّ إلى صفّهم هو قسطنطين (والتي يسمّيه النّصارى بقسطنطين الكبير أو القدّيس قسطنطين مع أنّه لم يدخل في دينهم قط، فبعض الرّوايات تقول أنّه تعمد نصرانيّاً على فراش الموت وبعضها ينفي هذا التّعميد كليّة) حيث أعانوه في تحقيق انفراده بالسّلطة ضدّ خصومه، فحفِظَ لهم هذا الجميل وبدأ يدعم مذهبهم واتّجاههم، وكذلك استطاعوا التأثير على أمّه هيلانة حيث استمالوا قلبها إلى الدّين الوثنيّ الجديد، فاستغلّوا السّلطة الحاكمة في القضاء على خصومهم من الموحّدين، تنصّرت الدّولة الرّومانيّة على الطّريقة الوثنيّة وبدأ تنكيلها وقتلها للموحّدين في الشّرق ممّا اضطرّ أصحاب التّوحيد إلى الهرب إلى الجبال والقفار بعيدا عن بطش الدّولة الرّومانيّة، وبقي قلّة منهم على طريق التّوحيد حتّى جاءهم الإسلام ودخل إلى بلادهم فدخلوا فيه وأسلموا، وهكذا سُرق الشّعار، وتحوّلت الدّعوة بفعل رجل واحد غير الملّة والدّين، واستغلّ أتباعه السّياسة والحكم فعاونتهم في القضاء على خصومهم وإبعادهم من الطّريق، وها هو الدّين المنسوب لعيسى عليه السّلام يملأ أتباعه فجاج الأرض وليس فيهم موحّد لله تعالى.
كاد هذا الأمر يحدث مع دين الله تعالى الذي أنزله على محمّد صلى الله عليه وسلم ، وما حادثة الردّة التي كانت في آخر حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ انتشرت بعد وفاته إلاّ مثالاً لمحاولة الاختراق، ولولا أنّ الله تكفّل بحفظ دينه، وأنّ الله أقام لهذا الدّين هذا الصّنف الرّائع من الرّجال، كأمثال أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وبقيّة المؤمنين لصار دين الله تعالى أثراً بعد عين، ولصار إسلام التّوحيد، إسلاماً آخر بمحتوى جديد، فيه الإيمان بمسيلمة وسجاح.
وتكرّر هذا الحدث مع الصّدّيق الثّاني أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في حادثة خلق القرآن، حيث تقلّد القضاء أئمةّ الاعتزال، (وخطبوا على المنابر ودخل الخليفة في دينهم ومذهبهم)، فضيّق على الموحّدين، فقتل منهم من قتل، وهرب منهم من هرب، وأجاب بعضهم تقية، ولم يبقى في السّاحة إلاّ أحمد رحمه الله تعالى، حيث حفظ الله به هذا الدّين وهذه الأمّة من الانحراف والردّة.
فالممتنع هو ردّة جميع الأمّة أو انحرافها وتغييرها تحت اسم الإسلام، فقد تكفّل الله تعالى ببقاء جماعة على الحقّ لا يحيدون ولا يضطربون. قال صلى الله عليه وسلم : ((يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدولهم ينفون عنه تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))، وقال فيهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في خطبة كتابه في «الرّدّ على الجهميّة» : الحمد لله الذي جعل في كلّ زمان فترة من الرّسل بقايا أهل العلم يدعون من ضلّ إلى هدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضالّ جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على النّاس، وأقبح أثر النّاس عليهم. ا.ه. أمّا أن تنحرف جماعة وترتدّ وهي ترفع شعار الإسلام وتنتسب لمحمّد صلى الله عليه وسلم فهذا قد وقع منه الشّيء الكثير:
فالإسماعيلية والقرامطة لهم دين عجيب غريب، ليس فيه شيء ممّا يصح انتسابه للكتاب والسنّة ومع ذلك هم ينتسبون للإسلام ولأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم .
وها هم اليزيديّون عبدة الشّيطان ينتسبون للإسلام ولأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يعبدون الشّيطان ويدينون له بالطّاعة والولاء.
وهاهم القائلون بوحدة الوجود (لا فرق بين الخالق والمخلوق) ينتسبون للإسلام ولمحمّد صلى الله عليه وسلم .
وهاهم أهل البدع يرفعون شعار أهل السنّة والجماعة كعبدة القبور، والقائلين بالجبر والتأويل والتّجهّم.
وأنت لو دقّقت النّظر في الطّريقة التي حصل فيها هذا التّزييف والسّرقة لوجدت أنّ أغلبها يتمّ بالطّريقة التي قدّمناها مع شاول في تزييفه لدين الله تعالى (انحراف رجل داعية ثمّ تدخّل السّياسة في نصرته).
واعلم (حفظك الله) أنّ هناك مزالق ومسهِّلات يتّخذها هؤلاء المزيّفون في تمرير بدعتهم أو كفرهم أسوقها لك سريعاً:
1 - أهمّ هذه المزالق الشيطانيّة التي يتّخذها هؤلاء المزيّفون هو الزّهد وادّعاء الفقر والمسكنة، فأنت لو قرأت مُبتدأ جميع الدّعوات البدعيّة في التّاريخ الإسلاميّ لوجدت أنّ الطّريق الأوّل في بناء الأتباع هو اتّباع الزّهد والذّلّة، فهذا حمدان قرمط (مؤسّس القرامطة)، وهذا ميمون القدّاح (مؤسّس دولة العبيديين)، وهذا حسن الصّباح (مؤسّس قلعة الحشّاشين في قلعة الموت)، وهذا عديّ بن مسافر (مؤسّس الدّين اليزيديّ عبدة الشّيطان) وغيرهم كلّهم بدأوا بإظهار الزّهد والمسكنة.
2 - حُسن السّمت، وهذا الذي يسمّيه البعض بنور الوجه، فالمغفّلون من البشر تغرّهم وضاءة الوجه وحسن السّمت، ولا يناقشون الحقائق، وأنت لو سألت الكثير من أتباع الطّرق الصّوفيّة عن دليل صدق طريقهم لأجابك: بأنّ شيخنا حفظه الله له وجه مشرق منور.
3 - القدرة الخطابيّة والتّمكّن من البلاغة، وكذا يلحق بها التّمكّن من المحاورة أو كما سمّاها بعضهم بإتقانه: من أين تؤكل الكتف.
4 - الانتساب لشرف المنبت والأصل، كالانتساب لآل البيت عليهم السّلام مثلاً.
وهذه التي ذكرناها قد يستخدمها المحقّ ويستخدمها المبطل، وهي ليست أدلّة إثبات الحقّ لكن دليله في داخله، فعلى دعاة الحقّ أن لا يفوِّتها لأنّ الكثير من النّاس تغرّهم المظاهر والرّسوم، ولا يعيرون الدّراسة والفهم أدنى قيمة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((النّاس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة))، وكما قال عليّ رضي الله عنه: "وأكثرهم همجٌ رعاع يتَّبعون كلّ ناعق"، ولذلك هذه المزالق تستحقّ أن تسمى «مزالق المغفّلين».
ما قدّمته من أمرٍ قصدْتُ منه الوصول إلى انحراف اسم عزيز علينا، له وقعٌ حبيبٌ على نفوسِنا، وما زلنا نتنازعه مع قومٍ صرفوه عن حقيقته، وألبسوه ثياب الزّور والبهتان، هذا الاسم هو «السّلفيّة».
فلقد كانت الدّولة السّعوديّة محطّة من محطّات إجهاض هذا الاسم، وتغييره وتزويره حتّى صار الانتساب لهذا الاسم سبّة في وجه الرّجل وفي جبينه، فبمجرّد أن تقول أنا سلفيّ، حتّى يستقرّ في ذهن المقابل أنّك رجل تابع للنّظام السّعوديّ المرتدّ، والحقّ أنّ هذا النّظام (أي السّعوديّ) هو من أكفر ما عرفت البشريّة من أنظمة، وسبب ذلك أنّه عاد على الحقّ بالتّزوير والإبطال، والنّاس لهم في هذا الرّبط بين السّلفيّة والنّظام السّعوديّ، أدلّة وأدلّة فيها الكثير من الحقّ، وما الوثيقة المخابراتيّة التي عرضتها في الحصّة الفائتة إلاّ دليل واحد من مئات الأدلّة الحاضرة في الأذهان.
وسبب فتنة هذه الدّولة ليس بسبب حقٍّ فيها، أو نظافة اسمها، فالكلّ يعلم ما عليه هذه الدّولة من الكفر والعصيان، والكلّ يعلم ما عليه حكّامها من الدّناءة والفجور، ولكنّ سبب هذه الفتنة هو هذا الكمّ من المشايخ الذين دخلوا في نصرتها وتأييدها، وطالب العلم الخارج من حمأة التّقليد، وضلال الصّوفيّة لا بدّ له أن يلتحق بالمنهج السّلفيّ، لما يرى من قوّة أدلّته ونصاعة منهجه، ولكن عندما يريد أن يبحث عن مشايخ هذا المنهج المعلنين، فإنّه سيصطدم بهذه الرّموز النّكرة، والخشب المسنّدة الذين صنعتهم الدّولة على عينها، ورفعت أسماءهم في كلّ مكان ليصطدم بهم المرء أنّى توجّهه، فيضطرب أمره وتبدأ الأسئلة تدور في ذهنه عن حقيقة ما يرى ودعوى ما يسمع، فإمّا أن يلقي عقله ويقلّد هؤلاء المشايخ، وإمّا أن يبقى حائراً يقدّم رِجلاً ويؤخّر أخرى، وإمّا أن يهدي الله قلبه ويتوكّل على الله ويعلنها صريحة: كفرت بكلّ هذا الدّين المزوّر، وكفرت بهذه الخشب المسنّدة وآمنت بالله العظيم، والتحَق بالأمر الأوّل قبل تحريفه وتزويره.
والحمد لله ربّ العالمين
-----------
[بقلم الشيخ / أبي قتادة الفلسطيني -فك الله أسره- ]