من هناك
09-14-2009, 04:19 AM
أفول «القاعدة» في الذكرى الثامنة لـ 11 أيلول
http://www.al-akhbar.com/files/images/p01_20090914_pic1.full.jpg
ليس أدلّ على تراجع تنظيم «القاعدة» من انطفاء وهج ذكرى الحدث الأكبر في تاريخه، أي تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، التي جاء تذكُّر العالم لها هذا العام، الأضعف والأقل طوال ثماني سنوات
حسام تمام
إنّ نظرة عامة لمحطات التلفزة والفاعليات السياسية يوم ذكرى تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر، تقول إنها المرة الأولى التي يمر فيها الحدث من دون الطابع الاحتفالي الذي كان قد تحول إلى ما يشبه «المولد» السنوي. لقد جاءت الذكرى هذا العام مقتصرة على حدها الأدنى الذي يفرضه فقط تاريخ الحدث: مرور ثماني سنوات على تفجيرات نيويورك!
لكن، بصرف النظر عن كيف عاش العالم ذكرى الحدث الذي دشّن «القاعدة» قطباً ورمزاً في أهم صراعات القرن الحادي والعشرين، يمكننا القول إن ذكرى تفجيرات أيلول/ سبتمبر الدامية تأتي و«القاعدة» في أضعف حالاته، وإن التنظيم الأهم والأبرز في الحالة الجهادية قد أصابه الوهن والضعف.
■ تراجع التنظيم
يمكن أن نلحظ تصدّعاً في البناء التنظيمي لـ«القاعدة». فقد جرت تصفية معظم قيادات التنظيم، طالت قيادات الصف الأول الذي يمثّل الحلقة المحيطة برمزيه، قائده أسامة بن لادن ومنظره الأيديولوجي أيمن الظواهري، فقد قتل أحد عشر قيادياً من الوزن الثقيل في خلال نحو ثلاث سنوات فقط، يصعب على «القاعدة» تعويضهم.
كذلك تراجعت قدرة «القاعدة» على التجنيد والتعبئة في مناطق كانت تمثّل تقليدياً الخزان البشري والمادي. سنلحظ مثلاً تراجع الحضور المصري في نخبة القيادة التي ظلت منذ تأسيس التنظيم (1998) ولوقت قريب، شبه مصرية، وتراجع المكوّن السعودي في عضوية التنظيم بعدما ظلّ الأكبر والأهم منذ الاحتلال الأميركي للعراق (2003). كذلك تسجل التقارير انخفاضاً في معدلات التجنيد وفرصه في منطقة أفريقيا شمال الصحراء والساحل، في المنطقة الصحراوية بين الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وليبيا، حيث البيئة المشابهة لأفغانستان.
وعلى مستوى التنظيمات المنضوية في «القاعدة» أو المتحالفة معها، نلحظ تراجعاً كبيراً يصبّ في النهاية في تراجع مواز في قوة «القاعدة». فـ«الجماعة الإسلامية المقاتلة» في ليبيا ألقت السلاح وفضّلت الدخول في مراجعات ومصالحة مع النظام، و«الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر تعاني نزفاً كبيراً سببه الأكبر ليس قوة ضربات الجيش والأمن الجزائري، بل تفضيل كثير من أعضائها النزول من الجبال والاستفادة من قانون «الوئام والمصالحة». أما فرع «القاعدة في جزيرة العرب»، فقد اضطر لنقل مركزه من السعودية إلى اليمن بعدما ظلت السعودية لسنوات، مركزاً مهماً له، ليس للعمليات فقط، بل للتجنيد والتعبئة والتمويل. وفي العراق تراجعت قوة الفرع الإقليمي لها (القاعدة في بلاد الرافدين) إلى أدناها، حتى إن تقارير كثيرة تؤكد هجرة الجزء الأكبر من القوة الضاربة لـ«القاعدة» باتجاه أفغانستان وباكستان بعد الضربات القاسية التي تعرض لها، وبعد ما بدا أنه نهاية لما كان يسمى «دولة العراق الإسلامية».
وحتى «طالبان ـــــ باكستان» التي كانت تمثّل التنظيم الأكبر والأقرب والأكثر عوناً لـ«القاعدة»، فلم تعد حالتها بأحسن من ذلك؛ فمناطق القبائل الحدودية فيها، التي مثلت تقليدياً الملاذ الآمن، صارت منطقة عمليات دائمة للجيش حيث تعاني «طالبان» أشدّ الضربات العسكرية التي قضت على كثير من قوتها العسكرية وأهم قادتها الميدانيين (وآخرهم زعيمها الأبرز بيت الله محسود).
لقد خرج «القاعدة» من المراكز الكبرى وانزاح إلى الأطراف والهوامش في العالمين العربي والإسلامي. لن نتوقف عند مصر التي اجتُثّت منها «القاعدة» نهائياً حتى قبل أن ينهي طور تكوّنه، بل نتناول بلاداً ظلّ يحتفظ فيها بنفوذ قوي إلى وقت قريب. يفضّل «القاعدة» المناطق غير المأهولة، فعندما ينتهي الطريق يبدأ «القاعدة». وهو يفضل كذلك مناطق النزاعات والحروب الأهلية كمثل حالة الصومال، واليمن بدرجة أقل، وإن لم يجد هذا أو ذاك، سافر إلى حيث نهاية العالم الإسلامي في إندونيسيا.
نعم، قد ينجح «القاعدة» في العودة بعمليات ضخمة إلى مناطق يفترض أنه انسحب (أو طُرد) منها، لكن ذلك لا يعني نجاحه في العودة مرة أخرى. بل ربما كانت العمليات الكبرى في مناطق محررة منها، عنواناً على النهاية وليس دليلاً على عودة محتملة. لذا لا تختلف كثيراً محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودية الأمير محمد بن نايف عن عملية الأقصر الشهيرة في مصر عام 1997 التي كانت الأضخم في سجل الجماعة الإسلامية المصرية: لقد أودت مجزرة كبرى بأكبر عدد من القتلى بين السياح في مصر، لكنها كانت العملية الأخيرة التي أغلقت ملف العنف في مصر إلى الأبد. قد تلجأ الجماعات المسلحة، على غرار «القاعدة»، إلى العمليات الكبرى ـــــ بوزن محاولة اغتيال بن نايف ـــــ إما في رسالة عكسية تحاول محو ما بدا من تراجع، أو رغبةً في استعادة المبادرة التي فقدتها، أو إنعاشاً لقاعدتها التي طال عليها أمد البطالة... وهي في كل الأحوال أشبه بختام دراماتيكي للهزيمة أو لانسحاب بطعم الهزيمة!
■ انطفاء الفكرة
لكن تراجع تنظيم «القاعدة» لا يكتسب أهمية في ذاته من دون تراجع مواز للفكرة الملهمة لـ«القاعدة»، وإلا ظلّ التنظيم قادراً على العودة مجدداً. وما يمكن الجزم به أن «القاعدة» فقد كثيراً من جاذبيته وقدرته على إلهام الشباب الإسلامي، وأنه كفكرة تشهد منذ سنوات أفولاً، وهو ما يعزّز قولنا بأن تراجع «القاعدة» ليس رهناً بوضع تنظيمي سيئ قابل لاسترداد عافيته والعودة مجدداً.
لقد لاقت أيديولوجيا «القاعدة» نقداً جذرياً في السنوات الأخيرة يمكن أن نلحظه على مستويات عدة، منها التراكم الكبير للكتابات النقدية التي تضافرت في نسجها خطابات إسلامية متنوعة كلها أسهمت من منصات مختلفة في تفكيك أطروحة «القاعدة» بما أفقده كثيراً من بريقه.
قد يصعب الحصر الكامل لهذه الأدبيات التي تمثل مدارس شرعية وفكرية وسياسية في أنحاء مختلفة من العالمين العربي والإسلامي، لكن يكفي الإشارة منها إلى آخره، وربما أهمها، وأعني به السِّفر الضخم الذي أصدره قبل أسابيع قليلة الشيخ يوسف القرضاوي، أبرز شيوخ الإسلام السني ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. لقد قدّم القرضاوي في كتابه «فقه الجهاد» أقوى نقض للأسس الشرعية التي تمثل إلهاماً لـ«القاعدة» وأخواتها من التنظيمات الجهادية، وخاصة ما يتصل منها بالجهاد في بلدان المسلمين، وما يؤدي إلى الخروج على المجتمع المسلم واستباحته كما يفعل «القاعدة».
إنّ ثماني سنوات من فعل «القاعدة» أحدثت ردة فعل سلبية في المجتمعات الإسلامية التي لم يكن بإمكانها البقاء على صمتها نكاية في خصوم «القاعدة» من أنظمة تسلطية أو قوى غربية. لقد أدّت استباحة «القاعدة» للجهاد داخل بلاد المسلمين إلى انتفاض الميراث التاريخي للمجتمعات المسلمة على هذا المبدأ، أقله لدى أهل السنّة والجماعة أو التيار الغالب في الأمة، فصار «القاعدة» محل رفض ليس من المؤسسات الدينية الرسمية التي تتبع الحكام، بل من تيارات إسلامية عرفت بمعارضتها لأنظمة الحكم.
لكن أهم ما يُسجَّل في هذا الصدد، ظاهرة المراجعات الجهادية التي بدأتها الجماعة الإسلامية في مصر، ومنها انتقلت إلى عدد كبير من التنظيمات الجهادية في العالمين العربي والإسلامي، التي نجحت في نقض الأسس التي تجمعها و«القاعدة» في الانتماء إلى الحركة الجهادية.
بدأت هذه المراجعات مع ميلاد «القاعدة»، لكنها احتاجت إلى نحو عشر سنوات، لتنضج وتمتلك زخماً يمكن أن يخط لها مساراً من التأثير الحقيقي في الحالة الإسلامية. بدأت في مصر مع الجماعة الإسلامية ثم تنظيم الجهاد، لكنها لم تتوقف عندها، انتقلت إلى الجزائر داخل «الجماعة الإسلامية المسلحة» ثم «السلفية للدعوة والقتال» لاحقاً، والسعودية مع مشروع المناصحة، والمغرب مع مراجعات ما يسمى رموز تيار السلفية الجهادية. وتصاعد انتشارها وتأثيرها، واليوم تنشر الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا مراجعاتها أيضاً.
ومهما كان النقد الذي يمكن أن يوجه لملابسات المراجعات والسياق الذي جرت فيه، وللظروف التي أحاطت بها وقد تشكك في صدقيتها أو حقيقة بعضها، فإنها أحدثت تأثيراً واسعاً في الحالة الجهادية التي ينتمي إليها «القاعدة». لقد صار النقد والنقض الأقوى لها هو ذلك الذي يكون على أسس جهادية ومن جهاديين سابقين، لا من خصوم فكريين لـ«القاعدة»، وهو ما جعله أقوى حجة وأوضح بياناً وأقوى تأثيراً.
■ لماذا التراجع؟
ثمة تحولات مهمة أسهمت في تراجع «القاعدة»، بعضها يتصل بالوضع الدولي، وأهمها ما يتصل بالحالة الإسلامية نفسها. إن نهاية الحقبة البوشية والتغيرات التي طالت السياسة الأميركية كانت مسؤولة عن أفول «القاعدة». ليس مهماً التوقف في هذا الصدد عند مدى صدقية خطاب الإدارة الأميركية الجديدة، أو قدرتها، أو حتى رغبتها في تنزيل هذا الخطاب لسياسات فعلية على الأرض، لكن ما يمكن الجزم به هو أن الخطاب التصالحي الذي يعلن (ويلحّ على) رغبته في تجاوز منطق صراع الحضارات الذي أطلقته إدارة جورج بوش اليمينية، كان له صدى واسع في الوعي الإسلامي الحركي والجهادي خصوصاً.
لقد فكّك هذا الخطاب الكثير من ألغام «القاعدة» وأفقدها كثيراً من جاذبيتها وقدرتها على إلهاب خيال الشباب الإسلامي الغاضب مما كان يراه من انتهاك أميركي متعمد ومتكرر حتى على المستوى الرمزي. لم تكن نتائج هذا الخطاب مقتصرة فقط على الداخل الأميركي الذي تؤكد أحدث الاستطلاعات (أجراه منتدى «بيو» للدين والحياة العامة أخيراً) تراجع ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى أقل معدل لها منذ 2002، بل كان هناك تأثير مواز في العالم الإسلامي، إذ صار سهلاً على الإسلامي الحركي، فضلاً عن المسلم العادي، التفكير بإعادة النظر في أهم مقولات «القاعدة» في العلاقات الدولية التي تقول إن الأصل في العلاقة مع الدول غير الإسلامية هو الحرب لا السلم...
إن مراجعة هذه المقولة ما كان ليجدي كثيراً مع الحرب الأميركية العالمية المفتوحة بلا تمييز على ما يسمى من دون تحديد «إرهاباً»، وفي مناخ صراع الحضارات الذي يعتاش منه «القاعدة»!
كذلك إن تجاوز حالة الاضطراب التي عاشتها الدول الكبرى في المنطقة، وبعضها كان من جراء سياسة «الفوضى الخلاقة» الأميركية، أعاد بعضاً من الاستقرار الذي يصعب على «القاعدة» العمل معه. لقد التقطت الدولة في كل من مصر والسعودية الأنفاس بعد سنوات قاسية عاشتها تحت ضغوط الإدارة اليمينية المحافظة، الراغبة حيناً في «إصلاح» المنطقة، وأحياناً في تفكيكها وإعادة ترتيبها، ولو على حساب أنظمة عرفت تقليدياً أنها صديقة، كذلك تعافت الدولة في الجزائر من عشرية الإرهاب واستعاد النظام سيطرته على مقاليد السلطة التي كانت على مرمى حجر من الوقوع في أيدي تمرد الإسلاميين الجهاديين، وأقلعت سفينة الدولة الجديدة في العراق رغم قوة الحركة الجهادية ضدها وبقايا التمرد.
إنّ عودة الاستقرار لعدد من أهم الدول المفاتيح في المنطقة، كانت له آثار إيجابية في قدرة أنظمتها على التصدي لـ«القاعدة» فكرة وتنظيماً. لكن تغييرات مهمة جرت في الحالة الإسلامية كانت لها تأثيرات وازنة في حسم المعركة مع «القاعدة»، أهمها دخول تيارات وتنظيمات إسلامية على خط المواجهة التي كانت تدور حصراً بين «القاعدة» والأنظمة الحاكمة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة صعود نخب سياسية وفكرية إسلامية إلى صدارة المشهد السياسي في أكثر من بلد ودولة. تولى حزب «العدالة والتنمية» الحكم في تركيا وصار نموذجاً يحتذى به، وتصدر «العدالة والتنمية» أيضاً واجهة المشهد السياسي في المغرب، ودخل الإخوان المسلمون في تحالف مع النظام السياسي في الجزائر، وشاركوا في الدولة الجديدة في العراق، واكتسحوا الانتخابات الفلسطينية وسيطروا على البرلمان وألّفوا الحكومة، ووصل الإسلاميون إلى حكم الصومال، بل ودخلت تيارات سلفية على الخط في الكويت والبحرين ولبنان، وربما تكررت التجربة في اليمن.
لقد ترسّخ وجود نخبة إسلامية صار عليها أن تدخل معركة الدفاع، ليس عن فكرة الدولة نفسها، المستهدفة من تنظيم «القاعدة»، بل عن العمل السلمي والسياسي الذي صار مبرر وجودها على الساحة. انتقلت المعركة إلى داخل الإسلام الحركي نفسه، ولم تعد محصورة بين أحد تياراته (وإن كان أكثرها عنفاً) وبين الأنظمة والحكومات، بل صارت بين رؤى ومشروعات إسلامية متعارضة ومتناقضة أحياناً، ومن ثم متدافعة ومتواجهة!
لم تعد الأنظمة الحاكمة والنخب العلمانية هي من يتولى عبء مواجهة «القاعدة»، بل يمكن القول إن أقوى من يتصدى لـ«القاعدة» في أكثر من مكان هم الإسلاميون أنفسهم، الذين يخوضون هذه المعركة دفاعاً عن مبرر وجودهم. ففي العراق يخوض الحزب الإسلامي (إخوان مسلمون)، الشريك في السلطة، معركة قوية في الوسط السني ضد أطروحة «القاعدة» بمقاطعة العملية السياسية، كثيراً ما تحولت إلى مواجهات مسلحة.
وفي الصومال يتصدّى لـ«حركة شباب المجاهدين»، المحسوبة على «القاعدة»، تيار موسع من الإسلاميين يبدأ من السلطة التي صعد لرئاستها إسلامي كان يتولى رئاسة اتحاد المحاكم الإسلامية سابقاً، وانتهاءً بجماعة أنصار السنة الصوفية التي دخلت حديثاً ميدان العمل المسلّح. إنّ من يتصدى لـ«القاعدة» في فلسطين ليس سلطة «فتح» «العلمانية»، بل «حماس» ـــــ الإخوان المسلمون التي لم تتردد في قتل العشرات من تنظيم سلفي جهادي وهدم المسجد على رؤوسهم!
أما من يواجه «القاعدة» في مصر بجدارة، فليس علماء الأزهر الشريف، بل الجماعة الإسلامية التي قادت المراجعات الجهادية، والتي صارت تصدر مع كل عملية لـ«القاعدة» كتاباً يفنّد مبرراتها وينقض أسسها الشرعية. وفي السعودية فإنّ أشدّ خصوم تيار السلفية الجهادية الذي ينتمي إليه «القاعدة» ليسوا من التيار الليبرالي، الضعيف التأثير في الشارع، بل من جبهة دينية سلفية، تبدأ من الإصلاحية السلفية وتيار الصحويّين والإخوان السعوديين، إلى أقطاب المؤسسة الدينية السلفية التقليدية، إلى تيارات السلفية المعادية للسياسة كالجامية والمدخلية!
فإذا كان الحديد لا يفلَّه إلا الحديد، فدخول الإسلاميين المعركة ضد «القاعدة» غيَّر، وسيغيّر كثيراً من نتائجها لغير مصلحة الأخيرة.
لبنان: البحث عن نقاط الضعف فداء عيتاني
تعدّلت برامج عمل التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد مرات عدة. مرّ التنظيم بمراحل وتحولات عالمية كادت تطيحه، ولطالما نظر إلى لبنان بصفته بلداً هامشياً في المنطقة لا مكان للعمل فيه وعبره. وكانت مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان في الثمانينيات خير دليل، وحتى القلة الذين تجندوا للجهاد استوعبوا من الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة التنظيم.
في التسعينيات لم يغيّر التنظيم من رؤيته للبنان، وكان يتنقل من مكان إلى آخر، مع كتلة مالية هائلة من ناحية، ومن تقاطعات سياسية أمنية سمحت له بالقيام بقفزة هائلة من الشرق الأوسط، إلى السودان وأفغانستان حيث اتخذ شكلاً تنظيمياً وتركيبة عسكرية قتالية متنوعة.
إلا أن ما حصل في 11 أيلول وما تلاه من غزو لأفغانستان، والعراق خاصة بدّل رأي التنظيم، بناءً على تبدّل في الحاجات. فأولاً، تخلى التنظيم عن الإدارة المركزية لمصلحة الإدارات الذاتية، وحتى عن المبادرات الفردية (التي يجري تبنيها لاحقاً من التنظيم العالمي). وثانياً، ولدت الحاجة إلى ممرات آمنة وسريعة إلى الأرض الجديدة للجهاد ضد الغزاة، أي العراق. فكان لبنان إحدى الدول التي قدّم شبانها الكثير للوصول إلى الجهاد، وفتح عيون التنظيم واسعاً على هذه البلاد، بعد مغامرة شبه فردية في جبال الضنية عام 1999ــ2000. ثم كانت الضربات التي تعرض لها التنظيم من جهة، ونهاية تقاطعات أمنية ومالية وسياسية مع عدد من الدول من ناحية أخرى، ما دفع التنظيم إلى البحث عن دول يمكنها أن تمثّل حاضنة لبعض كوادره، وأرضاً أو حديقة خلفية للانطلاق منها، فكان لبنان إحدى الدول المرشحة لأداء هذا الدور.
يمتاز لبنان بمعرفة أهله لصناعة السياحة، وقد لا يختلف بعض السلفيين الجهاديين عن مواطنيهم اللبنانيين، من حيث القدرة على اجتذاب «السياحة الجهادية»، إذ احسنوا تصوير البلاد كأنها أرض خصبة، ربما أكثر من اللازم، لعمل التنظيم فيها، أو بالحد الأدنى لتأسيس مناطق ونقاط آمنة تصلح لتأهيل الكوادر وإعادة توضيبهم في مهمات جديدة في مناطق مختلفة من العالم، وكان أن أدى التجمع في منطقة واحدة إلى كارثة مخيم نهر البارد، التي كان التنظيم العالمي للقاعدة يرفض شكلها من حيث التمركز في منطقة واحدة، وبوجود شبه علني لقوى سلفية جهادية، وهو أحد أسباب الخلاف بين فتح الإسلام والقاعدة في نهاية عام 2006، وبداية عام 2007 قبل بداية حرب البارد.
إلا أن العامل الأهم الذي يستمر في جذب أنظار القاعدة إلى لبنان هو ضعف الحكومة المركزية وتكبّلها بصراعات مذهبية، وتالياً، الصراعات المذهبية نفسها، التي تتيح للتنظيم العمل على التناقضات الداخلية، فهذا بحاجة إليه، سراً أو علناً أو على نحو مضمر ومكتوم، وذاك معادٍ له من الناحية المذهبية، وفي كل مرة وجد التنظيم صعوبة في تدبير أمر كوادره في العراق، فإن الانتقال الأسرع لهذه الكوادر يكون إلى لبنان ولا مكان آخر.
سواء تراجع التنظيم دولياً، أو أعاد إنعاش نفسه عبر تقاطعات سياسية وأمنية جديدة، تبقى النقاط الأضعف على المستوى السياسي هي البيئة الأكثر خصوبة للعمل، فحيث تكثر النزاعات يمكن دائماً التسلل حدّ التمكن.
http://www.al-akhbar.com/files/images/p01_20090914_pic1.full.jpg
ليس أدلّ على تراجع تنظيم «القاعدة» من انطفاء وهج ذكرى الحدث الأكبر في تاريخه، أي تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، التي جاء تذكُّر العالم لها هذا العام، الأضعف والأقل طوال ثماني سنوات
حسام تمام
إنّ نظرة عامة لمحطات التلفزة والفاعليات السياسية يوم ذكرى تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر، تقول إنها المرة الأولى التي يمر فيها الحدث من دون الطابع الاحتفالي الذي كان قد تحول إلى ما يشبه «المولد» السنوي. لقد جاءت الذكرى هذا العام مقتصرة على حدها الأدنى الذي يفرضه فقط تاريخ الحدث: مرور ثماني سنوات على تفجيرات نيويورك!
لكن، بصرف النظر عن كيف عاش العالم ذكرى الحدث الذي دشّن «القاعدة» قطباً ورمزاً في أهم صراعات القرن الحادي والعشرين، يمكننا القول إن ذكرى تفجيرات أيلول/ سبتمبر الدامية تأتي و«القاعدة» في أضعف حالاته، وإن التنظيم الأهم والأبرز في الحالة الجهادية قد أصابه الوهن والضعف.
■ تراجع التنظيم
يمكن أن نلحظ تصدّعاً في البناء التنظيمي لـ«القاعدة». فقد جرت تصفية معظم قيادات التنظيم، طالت قيادات الصف الأول الذي يمثّل الحلقة المحيطة برمزيه، قائده أسامة بن لادن ومنظره الأيديولوجي أيمن الظواهري، فقد قتل أحد عشر قيادياً من الوزن الثقيل في خلال نحو ثلاث سنوات فقط، يصعب على «القاعدة» تعويضهم.
كذلك تراجعت قدرة «القاعدة» على التجنيد والتعبئة في مناطق كانت تمثّل تقليدياً الخزان البشري والمادي. سنلحظ مثلاً تراجع الحضور المصري في نخبة القيادة التي ظلت منذ تأسيس التنظيم (1998) ولوقت قريب، شبه مصرية، وتراجع المكوّن السعودي في عضوية التنظيم بعدما ظلّ الأكبر والأهم منذ الاحتلال الأميركي للعراق (2003). كذلك تسجل التقارير انخفاضاً في معدلات التجنيد وفرصه في منطقة أفريقيا شمال الصحراء والساحل، في المنطقة الصحراوية بين الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وليبيا، حيث البيئة المشابهة لأفغانستان.
وعلى مستوى التنظيمات المنضوية في «القاعدة» أو المتحالفة معها، نلحظ تراجعاً كبيراً يصبّ في النهاية في تراجع مواز في قوة «القاعدة». فـ«الجماعة الإسلامية المقاتلة» في ليبيا ألقت السلاح وفضّلت الدخول في مراجعات ومصالحة مع النظام، و«الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر تعاني نزفاً كبيراً سببه الأكبر ليس قوة ضربات الجيش والأمن الجزائري، بل تفضيل كثير من أعضائها النزول من الجبال والاستفادة من قانون «الوئام والمصالحة». أما فرع «القاعدة في جزيرة العرب»، فقد اضطر لنقل مركزه من السعودية إلى اليمن بعدما ظلت السعودية لسنوات، مركزاً مهماً له، ليس للعمليات فقط، بل للتجنيد والتعبئة والتمويل. وفي العراق تراجعت قوة الفرع الإقليمي لها (القاعدة في بلاد الرافدين) إلى أدناها، حتى إن تقارير كثيرة تؤكد هجرة الجزء الأكبر من القوة الضاربة لـ«القاعدة» باتجاه أفغانستان وباكستان بعد الضربات القاسية التي تعرض لها، وبعد ما بدا أنه نهاية لما كان يسمى «دولة العراق الإسلامية».
وحتى «طالبان ـــــ باكستان» التي كانت تمثّل التنظيم الأكبر والأقرب والأكثر عوناً لـ«القاعدة»، فلم تعد حالتها بأحسن من ذلك؛ فمناطق القبائل الحدودية فيها، التي مثلت تقليدياً الملاذ الآمن، صارت منطقة عمليات دائمة للجيش حيث تعاني «طالبان» أشدّ الضربات العسكرية التي قضت على كثير من قوتها العسكرية وأهم قادتها الميدانيين (وآخرهم زعيمها الأبرز بيت الله محسود).
لقد خرج «القاعدة» من المراكز الكبرى وانزاح إلى الأطراف والهوامش في العالمين العربي والإسلامي. لن نتوقف عند مصر التي اجتُثّت منها «القاعدة» نهائياً حتى قبل أن ينهي طور تكوّنه، بل نتناول بلاداً ظلّ يحتفظ فيها بنفوذ قوي إلى وقت قريب. يفضّل «القاعدة» المناطق غير المأهولة، فعندما ينتهي الطريق يبدأ «القاعدة». وهو يفضل كذلك مناطق النزاعات والحروب الأهلية كمثل حالة الصومال، واليمن بدرجة أقل، وإن لم يجد هذا أو ذاك، سافر إلى حيث نهاية العالم الإسلامي في إندونيسيا.
نعم، قد ينجح «القاعدة» في العودة بعمليات ضخمة إلى مناطق يفترض أنه انسحب (أو طُرد) منها، لكن ذلك لا يعني نجاحه في العودة مرة أخرى. بل ربما كانت العمليات الكبرى في مناطق محررة منها، عنواناً على النهاية وليس دليلاً على عودة محتملة. لذا لا تختلف كثيراً محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودية الأمير محمد بن نايف عن عملية الأقصر الشهيرة في مصر عام 1997 التي كانت الأضخم في سجل الجماعة الإسلامية المصرية: لقد أودت مجزرة كبرى بأكبر عدد من القتلى بين السياح في مصر، لكنها كانت العملية الأخيرة التي أغلقت ملف العنف في مصر إلى الأبد. قد تلجأ الجماعات المسلحة، على غرار «القاعدة»، إلى العمليات الكبرى ـــــ بوزن محاولة اغتيال بن نايف ـــــ إما في رسالة عكسية تحاول محو ما بدا من تراجع، أو رغبةً في استعادة المبادرة التي فقدتها، أو إنعاشاً لقاعدتها التي طال عليها أمد البطالة... وهي في كل الأحوال أشبه بختام دراماتيكي للهزيمة أو لانسحاب بطعم الهزيمة!
■ انطفاء الفكرة
لكن تراجع تنظيم «القاعدة» لا يكتسب أهمية في ذاته من دون تراجع مواز للفكرة الملهمة لـ«القاعدة»، وإلا ظلّ التنظيم قادراً على العودة مجدداً. وما يمكن الجزم به أن «القاعدة» فقد كثيراً من جاذبيته وقدرته على إلهام الشباب الإسلامي، وأنه كفكرة تشهد منذ سنوات أفولاً، وهو ما يعزّز قولنا بأن تراجع «القاعدة» ليس رهناً بوضع تنظيمي سيئ قابل لاسترداد عافيته والعودة مجدداً.
لقد لاقت أيديولوجيا «القاعدة» نقداً جذرياً في السنوات الأخيرة يمكن أن نلحظه على مستويات عدة، منها التراكم الكبير للكتابات النقدية التي تضافرت في نسجها خطابات إسلامية متنوعة كلها أسهمت من منصات مختلفة في تفكيك أطروحة «القاعدة» بما أفقده كثيراً من بريقه.
قد يصعب الحصر الكامل لهذه الأدبيات التي تمثل مدارس شرعية وفكرية وسياسية في أنحاء مختلفة من العالمين العربي والإسلامي، لكن يكفي الإشارة منها إلى آخره، وربما أهمها، وأعني به السِّفر الضخم الذي أصدره قبل أسابيع قليلة الشيخ يوسف القرضاوي، أبرز شيوخ الإسلام السني ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. لقد قدّم القرضاوي في كتابه «فقه الجهاد» أقوى نقض للأسس الشرعية التي تمثل إلهاماً لـ«القاعدة» وأخواتها من التنظيمات الجهادية، وخاصة ما يتصل منها بالجهاد في بلدان المسلمين، وما يؤدي إلى الخروج على المجتمع المسلم واستباحته كما يفعل «القاعدة».
إنّ ثماني سنوات من فعل «القاعدة» أحدثت ردة فعل سلبية في المجتمعات الإسلامية التي لم يكن بإمكانها البقاء على صمتها نكاية في خصوم «القاعدة» من أنظمة تسلطية أو قوى غربية. لقد أدّت استباحة «القاعدة» للجهاد داخل بلاد المسلمين إلى انتفاض الميراث التاريخي للمجتمعات المسلمة على هذا المبدأ، أقله لدى أهل السنّة والجماعة أو التيار الغالب في الأمة، فصار «القاعدة» محل رفض ليس من المؤسسات الدينية الرسمية التي تتبع الحكام، بل من تيارات إسلامية عرفت بمعارضتها لأنظمة الحكم.
لكن أهم ما يُسجَّل في هذا الصدد، ظاهرة المراجعات الجهادية التي بدأتها الجماعة الإسلامية في مصر، ومنها انتقلت إلى عدد كبير من التنظيمات الجهادية في العالمين العربي والإسلامي، التي نجحت في نقض الأسس التي تجمعها و«القاعدة» في الانتماء إلى الحركة الجهادية.
بدأت هذه المراجعات مع ميلاد «القاعدة»، لكنها احتاجت إلى نحو عشر سنوات، لتنضج وتمتلك زخماً يمكن أن يخط لها مساراً من التأثير الحقيقي في الحالة الإسلامية. بدأت في مصر مع الجماعة الإسلامية ثم تنظيم الجهاد، لكنها لم تتوقف عندها، انتقلت إلى الجزائر داخل «الجماعة الإسلامية المسلحة» ثم «السلفية للدعوة والقتال» لاحقاً، والسعودية مع مشروع المناصحة، والمغرب مع مراجعات ما يسمى رموز تيار السلفية الجهادية. وتصاعد انتشارها وتأثيرها، واليوم تنشر الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا مراجعاتها أيضاً.
ومهما كان النقد الذي يمكن أن يوجه لملابسات المراجعات والسياق الذي جرت فيه، وللظروف التي أحاطت بها وقد تشكك في صدقيتها أو حقيقة بعضها، فإنها أحدثت تأثيراً واسعاً في الحالة الجهادية التي ينتمي إليها «القاعدة». لقد صار النقد والنقض الأقوى لها هو ذلك الذي يكون على أسس جهادية ومن جهاديين سابقين، لا من خصوم فكريين لـ«القاعدة»، وهو ما جعله أقوى حجة وأوضح بياناً وأقوى تأثيراً.
■ لماذا التراجع؟
ثمة تحولات مهمة أسهمت في تراجع «القاعدة»، بعضها يتصل بالوضع الدولي، وأهمها ما يتصل بالحالة الإسلامية نفسها. إن نهاية الحقبة البوشية والتغيرات التي طالت السياسة الأميركية كانت مسؤولة عن أفول «القاعدة». ليس مهماً التوقف في هذا الصدد عند مدى صدقية خطاب الإدارة الأميركية الجديدة، أو قدرتها، أو حتى رغبتها في تنزيل هذا الخطاب لسياسات فعلية على الأرض، لكن ما يمكن الجزم به هو أن الخطاب التصالحي الذي يعلن (ويلحّ على) رغبته في تجاوز منطق صراع الحضارات الذي أطلقته إدارة جورج بوش اليمينية، كان له صدى واسع في الوعي الإسلامي الحركي والجهادي خصوصاً.
لقد فكّك هذا الخطاب الكثير من ألغام «القاعدة» وأفقدها كثيراً من جاذبيتها وقدرتها على إلهاب خيال الشباب الإسلامي الغاضب مما كان يراه من انتهاك أميركي متعمد ومتكرر حتى على المستوى الرمزي. لم تكن نتائج هذا الخطاب مقتصرة فقط على الداخل الأميركي الذي تؤكد أحدث الاستطلاعات (أجراه منتدى «بيو» للدين والحياة العامة أخيراً) تراجع ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى أقل معدل لها منذ 2002، بل كان هناك تأثير مواز في العالم الإسلامي، إذ صار سهلاً على الإسلامي الحركي، فضلاً عن المسلم العادي، التفكير بإعادة النظر في أهم مقولات «القاعدة» في العلاقات الدولية التي تقول إن الأصل في العلاقة مع الدول غير الإسلامية هو الحرب لا السلم...
إن مراجعة هذه المقولة ما كان ليجدي كثيراً مع الحرب الأميركية العالمية المفتوحة بلا تمييز على ما يسمى من دون تحديد «إرهاباً»، وفي مناخ صراع الحضارات الذي يعتاش منه «القاعدة»!
كذلك إن تجاوز حالة الاضطراب التي عاشتها الدول الكبرى في المنطقة، وبعضها كان من جراء سياسة «الفوضى الخلاقة» الأميركية، أعاد بعضاً من الاستقرار الذي يصعب على «القاعدة» العمل معه. لقد التقطت الدولة في كل من مصر والسعودية الأنفاس بعد سنوات قاسية عاشتها تحت ضغوط الإدارة اليمينية المحافظة، الراغبة حيناً في «إصلاح» المنطقة، وأحياناً في تفكيكها وإعادة ترتيبها، ولو على حساب أنظمة عرفت تقليدياً أنها صديقة، كذلك تعافت الدولة في الجزائر من عشرية الإرهاب واستعاد النظام سيطرته على مقاليد السلطة التي كانت على مرمى حجر من الوقوع في أيدي تمرد الإسلاميين الجهاديين، وأقلعت سفينة الدولة الجديدة في العراق رغم قوة الحركة الجهادية ضدها وبقايا التمرد.
إنّ عودة الاستقرار لعدد من أهم الدول المفاتيح في المنطقة، كانت له آثار إيجابية في قدرة أنظمتها على التصدي لـ«القاعدة» فكرة وتنظيماً. لكن تغييرات مهمة جرت في الحالة الإسلامية كانت لها تأثيرات وازنة في حسم المعركة مع «القاعدة»، أهمها دخول تيارات وتنظيمات إسلامية على خط المواجهة التي كانت تدور حصراً بين «القاعدة» والأنظمة الحاكمة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة صعود نخب سياسية وفكرية إسلامية إلى صدارة المشهد السياسي في أكثر من بلد ودولة. تولى حزب «العدالة والتنمية» الحكم في تركيا وصار نموذجاً يحتذى به، وتصدر «العدالة والتنمية» أيضاً واجهة المشهد السياسي في المغرب، ودخل الإخوان المسلمون في تحالف مع النظام السياسي في الجزائر، وشاركوا في الدولة الجديدة في العراق، واكتسحوا الانتخابات الفلسطينية وسيطروا على البرلمان وألّفوا الحكومة، ووصل الإسلاميون إلى حكم الصومال، بل ودخلت تيارات سلفية على الخط في الكويت والبحرين ولبنان، وربما تكررت التجربة في اليمن.
لقد ترسّخ وجود نخبة إسلامية صار عليها أن تدخل معركة الدفاع، ليس عن فكرة الدولة نفسها، المستهدفة من تنظيم «القاعدة»، بل عن العمل السلمي والسياسي الذي صار مبرر وجودها على الساحة. انتقلت المعركة إلى داخل الإسلام الحركي نفسه، ولم تعد محصورة بين أحد تياراته (وإن كان أكثرها عنفاً) وبين الأنظمة والحكومات، بل صارت بين رؤى ومشروعات إسلامية متعارضة ومتناقضة أحياناً، ومن ثم متدافعة ومتواجهة!
لم تعد الأنظمة الحاكمة والنخب العلمانية هي من يتولى عبء مواجهة «القاعدة»، بل يمكن القول إن أقوى من يتصدى لـ«القاعدة» في أكثر من مكان هم الإسلاميون أنفسهم، الذين يخوضون هذه المعركة دفاعاً عن مبرر وجودهم. ففي العراق يخوض الحزب الإسلامي (إخوان مسلمون)، الشريك في السلطة، معركة قوية في الوسط السني ضد أطروحة «القاعدة» بمقاطعة العملية السياسية، كثيراً ما تحولت إلى مواجهات مسلحة.
وفي الصومال يتصدّى لـ«حركة شباب المجاهدين»، المحسوبة على «القاعدة»، تيار موسع من الإسلاميين يبدأ من السلطة التي صعد لرئاستها إسلامي كان يتولى رئاسة اتحاد المحاكم الإسلامية سابقاً، وانتهاءً بجماعة أنصار السنة الصوفية التي دخلت حديثاً ميدان العمل المسلّح. إنّ من يتصدى لـ«القاعدة» في فلسطين ليس سلطة «فتح» «العلمانية»، بل «حماس» ـــــ الإخوان المسلمون التي لم تتردد في قتل العشرات من تنظيم سلفي جهادي وهدم المسجد على رؤوسهم!
أما من يواجه «القاعدة» في مصر بجدارة، فليس علماء الأزهر الشريف، بل الجماعة الإسلامية التي قادت المراجعات الجهادية، والتي صارت تصدر مع كل عملية لـ«القاعدة» كتاباً يفنّد مبرراتها وينقض أسسها الشرعية. وفي السعودية فإنّ أشدّ خصوم تيار السلفية الجهادية الذي ينتمي إليه «القاعدة» ليسوا من التيار الليبرالي، الضعيف التأثير في الشارع، بل من جبهة دينية سلفية، تبدأ من الإصلاحية السلفية وتيار الصحويّين والإخوان السعوديين، إلى أقطاب المؤسسة الدينية السلفية التقليدية، إلى تيارات السلفية المعادية للسياسة كالجامية والمدخلية!
فإذا كان الحديد لا يفلَّه إلا الحديد، فدخول الإسلاميين المعركة ضد «القاعدة» غيَّر، وسيغيّر كثيراً من نتائجها لغير مصلحة الأخيرة.
لبنان: البحث عن نقاط الضعف فداء عيتاني
تعدّلت برامج عمل التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد مرات عدة. مرّ التنظيم بمراحل وتحولات عالمية كادت تطيحه، ولطالما نظر إلى لبنان بصفته بلداً هامشياً في المنطقة لا مكان للعمل فيه وعبره. وكانت مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان في الثمانينيات خير دليل، وحتى القلة الذين تجندوا للجهاد استوعبوا من الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة التنظيم.
في التسعينيات لم يغيّر التنظيم من رؤيته للبنان، وكان يتنقل من مكان إلى آخر، مع كتلة مالية هائلة من ناحية، ومن تقاطعات سياسية أمنية سمحت له بالقيام بقفزة هائلة من الشرق الأوسط، إلى السودان وأفغانستان حيث اتخذ شكلاً تنظيمياً وتركيبة عسكرية قتالية متنوعة.
إلا أن ما حصل في 11 أيلول وما تلاه من غزو لأفغانستان، والعراق خاصة بدّل رأي التنظيم، بناءً على تبدّل في الحاجات. فأولاً، تخلى التنظيم عن الإدارة المركزية لمصلحة الإدارات الذاتية، وحتى عن المبادرات الفردية (التي يجري تبنيها لاحقاً من التنظيم العالمي). وثانياً، ولدت الحاجة إلى ممرات آمنة وسريعة إلى الأرض الجديدة للجهاد ضد الغزاة، أي العراق. فكان لبنان إحدى الدول التي قدّم شبانها الكثير للوصول إلى الجهاد، وفتح عيون التنظيم واسعاً على هذه البلاد، بعد مغامرة شبه فردية في جبال الضنية عام 1999ــ2000. ثم كانت الضربات التي تعرض لها التنظيم من جهة، ونهاية تقاطعات أمنية ومالية وسياسية مع عدد من الدول من ناحية أخرى، ما دفع التنظيم إلى البحث عن دول يمكنها أن تمثّل حاضنة لبعض كوادره، وأرضاً أو حديقة خلفية للانطلاق منها، فكان لبنان إحدى الدول المرشحة لأداء هذا الدور.
يمتاز لبنان بمعرفة أهله لصناعة السياحة، وقد لا يختلف بعض السلفيين الجهاديين عن مواطنيهم اللبنانيين، من حيث القدرة على اجتذاب «السياحة الجهادية»، إذ احسنوا تصوير البلاد كأنها أرض خصبة، ربما أكثر من اللازم، لعمل التنظيم فيها، أو بالحد الأدنى لتأسيس مناطق ونقاط آمنة تصلح لتأهيل الكوادر وإعادة توضيبهم في مهمات جديدة في مناطق مختلفة من العالم، وكان أن أدى التجمع في منطقة واحدة إلى كارثة مخيم نهر البارد، التي كان التنظيم العالمي للقاعدة يرفض شكلها من حيث التمركز في منطقة واحدة، وبوجود شبه علني لقوى سلفية جهادية، وهو أحد أسباب الخلاف بين فتح الإسلام والقاعدة في نهاية عام 2006، وبداية عام 2007 قبل بداية حرب البارد.
إلا أن العامل الأهم الذي يستمر في جذب أنظار القاعدة إلى لبنان هو ضعف الحكومة المركزية وتكبّلها بصراعات مذهبية، وتالياً، الصراعات المذهبية نفسها، التي تتيح للتنظيم العمل على التناقضات الداخلية، فهذا بحاجة إليه، سراً أو علناً أو على نحو مضمر ومكتوم، وذاك معادٍ له من الناحية المذهبية، وفي كل مرة وجد التنظيم صعوبة في تدبير أمر كوادره في العراق، فإن الانتقال الأسرع لهذه الكوادر يكون إلى لبنان ولا مكان آخر.
سواء تراجع التنظيم دولياً، أو أعاد إنعاش نفسه عبر تقاطعات سياسية وأمنية جديدة، تبقى النقاط الأضعف على المستوى السياسي هي البيئة الأكثر خصوبة للعمل، فحيث تكثر النزاعات يمكن دائماً التسلل حدّ التمكن.