أبو طه
08-19-2009, 05:16 PM
الحمد لله الموفق للصواب ،
والصلاة والسلام على الهادي إلى مستقيم الصراط .
وبعد :
فمن أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يوفقه للحق والقرب منه ويجنبه الباطل والقرب منه ، وخاصة في أوقات الفتن والمحن، ومن منة الله تعالى على عباده المسلمين أن جعل تلك الفتن والمحن أيسر عذابه فيهم ولم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم في رفعه عنهم .
روى أحمد ومسلم عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه، عَزَّ وجل، طويلا قال سألت ربي ثلاثا "سألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها".
و قال البخاري، رحمه الله، في قوله تعالى: ** قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يلبسكم: يخلطكم، من الالتباس، يَلْبِسوا: يَخْلطُوا. شيعًا: فرقًا.
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ** قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك". ** أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال: "أعوذ بوجهك". ** أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه أهون -أو قال: هذا أيسر" .
فمن أولى مشاهد القدر التي يجب ألا تغيب عن أعين الموحدين أن مثل هذه الفتن من مقادير الله تعالى على خلقه وعباده ، وأن له سبحانه فيها حكما عظيمة جليلة قد نعرفها وقد تغيب عنا وأن الله تعالى رحم هذه الأمة وجعل هذه الفتن أيسر عذاب يمكن أن تصاب به .
كما أن مما يجب الاهتمام والاعتناء به التفكير في كون بعض تلك الفتن بدأت تظهر بين أهل الديانة والداعين للشرع ، فإن تكرر هذه الفتن فيهم يدل على خلل وتقصير حاصل وهو يستدعي مراجعة للنفس وتوبة من كل خطأ وذنب ، ضرورة أن هذه الفتن عذاب وامتحان وابتلاء ، وهذا لا ينزل إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة ، وقد علم بالاستقراء أن الله عز وجل يعذب ويمتحن عباده بنقيض ذنوبهم ، فلو ابتغوا اللذة في المعصية عذبهم بالأمراض والأسقام ، ولو بغوا في استعمال المال بعد الغنى والرفاه ابتلاهم بالفقر والضنك ، ولو تحزبوا وأعجبوا برأيهم ومالوا عن إخوانهم رغبة في السلطة والنفوذ والجاه ابتلاهم الله بالذل والانكسار وضياع المصالح.
فلو كان العذاب الحاصل هو البأس الشديد بين المسلمين ونزاعهم واقتتالهم وذهاب ريحهم فيكون أصل الذنب الذي عذبوا عليه هو تفرقهم وعدم اجتماعهم وتوحدهم .
ومما يجدر بأهل الإيمان الاتعاظ به هو ما تشير إليه الحادثات من بصائر وتنبيهات ، فإن في المقادير التي بثها الله تعالى في خلقه بصائر ومواعظ لمن ألقى السمع وهو شهيد .
ثم عليهم بعد ذلك النظر في أحكام الشرع التي يجب عليهم تنزيلها على محنتهم والقيام بما أمر الله تعالى به في زمان الفتنة إظهارا للتوبة والإنابة وتحقيقا لمعاني العبودية التامة التي هي من أهم شروط الإصلاح .
وفتنة الاقتتال إذا وقعت بين طوائف الأمة المسلمة كان الناس منها على ثلاثة أقسام :
الأول : هم من استقل وسعى بين الطائفتين بالإصلاح .
الثاني : فهم من أمسك لسانه ويده عنها واعتزلها ولم يتدخل فيها وتركها ألبتة .
الثالث : وهم من انحاز إلى إحدى الطائفتين بالقول أو بالفعل بتأويل سائغ أو غير سائغ.
وأسعد الناس هم القسم الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه .
فالقسم الأول قائموا بما أمر الله به نصا في كتابه الحكيم ، حيث قال تعالى :
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [سورة الحجرات: 9].
والقسم الثاني ممتثل لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال الفتن وترك الاقتتال وعدم الخوض فيها ، والأحاديث في الباب مشتهرة مستفيضة .
أما القسم الثالث فإن كانوا من أهل الاجتهاد ثم تأولوا في قولهم وفعلهم تأويلا سائغا كان لهم نصيب من الأجر إلا أنه يكون مرجوحا وضعيفا بقدر بعدهم عن العدل والقسط .
والله عز وجل قد خاطب الأمة كلها أن تصلح بين الفئتين المقتتلتين ، فدل على أن الطائفة المصلحة ينبغي أن تكون هي الجمهور أو هي الطائفة المنصورة أو التي على الحق وإلا لما توجه لها الخطاب بالإصلاح أصلا ، ضرورة أن الساعي في الإصلاح يجب أن يكون هو الأصلح .
ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ما قام أحد بالإصلاح بين الطائفتين إلا كان هو الأصلح والأقوم في طوائف هذه الأمة قال تعالى : ( إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ) وقال تعالى : (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم .. ) .
وإذا كانت الفتنة والبلاء في الاقتتال بين المؤمنين كان الإصلاح هو في دعوتهم لتركه ونبذه، ومن سعى بخلاف ذلك كان من الساعين في الفتنة من الداعين إليها .
وليس معنى الإصلاح أن نمسك عن الحكم بين الطائفتين أو نمسك عن تعيين المصيب والمخطئ فيهما، بل إن تعين الصواب والخطأ والمصيب والمخطئ قد يكون لازما للإصلاح وترك الاقتتال .
وبناء على ما تقرر آنفا فإن الفتن التي حصلت بين حركة حماس الإسلامية وجماعة جند أنصار الله تحتاج إلى الإصلاح وليس الاعتزال ، كما تحتاج إلى النصح وتقرير الأحكام وبيانها وليس السكوت والإمساك عن بيان حكم الله تعالى في المخطئ والمصيب ، ويجب أن يكون حادي الجميع شرع الله تعالى وحكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأُجمل رأيي في الأحداث فيما يلي :
1-حكومة حماس حكومة إسلامية شرعية ، منطلقاتها إسلامية ، قادتها مسلمون عرفوا بالدعوة والجهاد لأجل إقامة الدولة الإسلامية مزكون من أغلب علماء الأمة لهم تاريخ واضح ثابت في الدعوة للدين وإقامة شعائره والدعوة لتعظيم الشرع ومعاداة أعداء الدين المعروفين في هذا الزمان كاليهود والأمريكان ، وبالنظر والسبر في سيرة حكمهم وطريقتهم في إدارة مناطقهم يعرف بالتواتر حرصهم على أحكام الشرع وتطبيق مافيه والدعوة إليه والقتال من أجله ، والخلاصة أن حكومة حماس حكومة شرعية ( بالمعنى الشرعي الخاص أي شرعية إسلامية ) وقد ثبت بالتواتر تأييد أغلب أهل الحل والعقد لقادة هذه الحكومة ومناصرتهم لمبادئها كالعلماء والمجاهدين والسياسيين ، وحركة حماس تحققت لها القوة والسلطة والغلبة بشروطها المعتبرة ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن أن يقال عنها إنها حكومة غير إسلامية . أما إن كان المقصود بأنها حكومة غير شرعية لأنها مُقالة من حكومة أبي مازن فهذا أيضا من أبطل الباطل ، فالواقع أن حكومة حماس منتخبة من الشعب وقادتها الذين هم على سدة الحكم منتخبون من شعبهم وليس للرئيس سلطة إقالة المنتخبين لأن أبا مازن نفسه في شرعية رئاسته كلام واعتراض .
2-عدم إعلان حماس لتطبيق الشرع أو إعلانها أنها لا تريد تطبيقه في بعض المناسبات قد عرفنا واستبنا أنه على غير معناه الظاهر ، وأن المقصود منه صرف كيد أعداء الدين حتى لا تنشغل الحركة بجبهات أخرى في تبرير تطبيقها للشرع وقيامها به مع أنها مطبقة له بالفعل ، وهذا لا ينفي وجود التقصير والخلل ، مثل التهاون في تطبيق الحدود الجنائية أو النهي عن المنكرات بكل أنواعها ، ولكن هذا لا يكون سببا كافيا في تكفير حكومة حماس بحال من الأحوال لأنه ثبت بالتواتر أنها لا تنكر هذه الأحكام ولكن لها أعذار في تأجيل تطبيقها ويعتبرون أن تلك الأعذار شبيهة بعذر عمر في إيقاف العمل بحد السرقة في عام المجاعة ، ومثل هذا يقال عن أي تقصير لهذه الحركة أوا لحكومة ، مثل ما يقال عن تقصيرهم في العمليات الاستشهادية بعد تقلدهم الحكومة أو تقصيرهم في جهاد اليهود وتعاونهم وتحالفهم مع الرافضة ومع بعض الدولة العلمانية فكل ذلك لو كان منه ما هو تقصير وخطأ شرعي إلا أنه لا يرقى أن يكون سببا في تكفير تلك الحركة أو الحكومة ، وحماس في هذا إما أنها قد اجتهدت اجتهادا سائغا أو غير سائغ ، فلها من الأجر والإثم بقدر ما أصابت أو أخطأت وقصرت .
3-وابتناء على ماسبق من أن حكومة حماس حكومة إسلامية شرعية فإن حقوق الولي الأمر الشرعي تجب لها شرعا ، كما يحرم على من تحت ولايتها وسلطتها ونفوذها الخروج عليها أو الافتئات على حكمها وسلطتها إلا أن تكون أتت بكفر بواح . وسائر ما يقال في ولي الأمر الشرعي من لزوم الصبر على ظلمه متحققة في حكومة حماس ، ومن سوغ الخروج على حماس أو الافتئات على حكمها وسلطتها ونفوذها وإعلان حكم إسلامي مستقل عنها لا ينفك عن حالين : الأول : أن يعتقد كفر حماس نوعا وعينا ، ولو اعتقد هذا فهو مبتدع من طائفة الخوارج الذين يجب أن يُقاتلوا بالطريقة الشرعية ، والحال الثانية : أن يعتقد جواز الخروج على الحاكم الفاسق وهذه أيضا بدعة يسوغ مقاتلة أصحابها بالطريقة الشرعية المعتبرة .
4-جماعة جند أنصار الله جماعة جهادية صغيرة ليست لها سلطة ولا ولاية ولا نفوذ كما أنها تفتقر إلى القادة المحنكين من ذوي الرأي والعلم ، ولأجل ذلك وقعت في أخطاء كبيرة أدت إلى هذه الفتنة من أهمها :
أولا : تكفير حماس ، وهذا واضح من كثير من عبارات الدكتور عبد اللطيف آل موسى رحمه الله ثم من إعلان الإمارة .
ثانيا : اعتبار ضم مسجد ابن تيمية من الخطوط الحمراء مع أن مؤاخذات تلك الجماعة على حماس فيها ما هو أعظم من هذا .
ثالثا : عدم استشارة أهل العلم من المجاهدين أو العلماء غير المجاهدين لمعرفة رأيهم فيما ذهبوا إليه من الاجتهاد .
رابعا : ابتناؤهم الأحكام والأفعال والتصرفات والمواقف على الرؤى والمنامات ، وهذا من أمارات أهل البدعة ،
خامسا : تترسهم في المساجد والبيوت مع أن القضية برمتها لا تحتاج إلى كل هذه المواجهة .
سادسا : تترسهم بالعبوات الناسفة لتفجيرها في عمليات استشهادية مع أن أيا من شروط العمليات الاستشهادية لم يتحقق في حالتهم تلك وهذا من قلة الفقه في الدين .
سابعا :اتخاذهم المسجد يوم الجمعة ميدانا لاستعراض القدرات العسكرية والبيانات الحماسية بدون سبب شرعي معتبر هذا مع ما خالط شعائر صلاة الجمعة من أخطاء شرعية مثل الهتافات والتكبيرات وكل ذلك أبعد ما يكون عن هدي السلف ، ولا شك أن هذه التصرفات جعلت حكومة حماس تنظر نظرة الريبة لجماعة جند أنصار الله وتعطيها المسوغات للتعامل معها من منطلقات عسكرية بحتة . صفوة القول أن جماعة جند أنصار الله قد أخطأت خطأ بينا في بيانها وموقفها من حماس وأنها بذلك تكون في حكم الخارج على طاعة ولي الأمر الشرعي وأي تقرير للمسألة بعيد عن هذا التصور سيكون بعيدا كل البعد عن أحكام الشرع المطهر .
5-ما أقدمت عليه جماعة جند أنصار الله لا يجوز من الناحية الشرعية حتى لو صح ما ابتنوه من مقدمات ( وهو كفر حكومة حماس ووجوب قيام الإمارة الإسلامية المطبقة لشرع الله ) لأن المتأمل في الوضع يجزم بحصول الفتنة وإراقة الدماء ، كما يجزم بعدم تكافؤ القوى بين الطرفين ، وأن الضحايا الأبرياء لا بد أن يكونوا وقود المعركة والتي ستنتهي لا محالة في صالح الأقوى ، فالمغامرة بتعريض أهل الصلاح والخير للهلكة دون أية مصالح شرعية معتبرة ليس من شرع الله في شيء .
6-الظروف التي يمر بها المسلمون في العالم أجمع وما يمر به إخواننا المسلمون في فلسطين يحتم على الجميع التعامل مع الأحداث بروح الجماعة وبمنطق المسئولية الجماعية، ولا يسوغ ونحن أمام عدو مشترك حشد كل أعداء الدين للوقوف في صفه حتى العلمانيين من بني جلدتنا صاروا يدا واحدة معهم ضدنا وأعني بهم النظام العلماني العميل الواضح بقيادة أبي مازن محمود عباس، فلا يسوغ والحالة هذه أن نتفرق لأدنى اختلاف ونتشرذم لأقل إشكال .
7-ما قامت به حماس وهو مواجهة الخارجين عليها جائز من حيث المبدأ ، ولكن حماس وقعت في أخطاء كبيرة مخالفة للشرع المطهر منها :
أولا : على ضوء المعلومات المتاحة لم يثبت أن حماس مارست دورا إصلاحا إرشاديا لجماعة جند أنصار الله وغيرها من الجماعات التي تخالفها فكريا بل يبدو أنه لم يكن هناك أي تنسيق أصلا بناء على أن أغلب قادة تلك الجماعة منشقون عن كتائب القسام ، وهذا التقصير كان له دور في نمو تلك الجماعات وتعاظم أتباعها .
ثانيا : كان يجب على الحاكم الشرعي إذا خرجت عليه جماعة أن يتشاور معهم ويسألهم عما ينقمون منه ويجيبهم إلى ما يطالبونه إن كان حقا ويزيل الشبهة عنهم إن كانوا على فهم خطأ ، وكل ذلك لم يكن .
ثالثا : العلاج الأمني من الناحية الإدارية ليس هو الحل الحاسم كما أنه ليس دليلا على السيطرة الكاملة ، بل إن العلاج الأمني دليل العجلة في الغالب والنظرة القاصرة للمشكلة ، وبناء على ذلك فإن إقدام حكومة حماس على التعامل مع جماعة جند أنصار الله بالطريقة العسكرية قبل استنفاد الوسائل السلمية يدل على إفلاس حقيقي للقيادة تجاه إشكال تنامي تلك التيارات كما يدل على عدم نضج قيادة القسام التي كان الضغط على الزناد أسهل شيء بالنسبة لها ! .
رابعا : استهداف الخوارج وقتلهم صبرا أو تقصد قتلهم بهذه الطريقة مخالف لهدي الصحابة رضوان الله عليهم في قتال الخوارج والبغاة ومجرد قتلهم لأحد القيادات التي توسطت ( إذا صحت الرواية أن جماعة جند أنصار الله هم من بدأوا بالضرب والقتال ) فليس كافيا في اقتحام المسجد وضربه أو اقتحام البيوت وضربها بهذه الطريقة الوحشية .
خامساً : لو صح أن جماعة جند أنصار الله أصحاب فكر تكفيري وأنهم يكفرون حماس والقسام وأنهم تسلحوا واعتصموا في المسجد لأجل المواجهة مع حماس فهذا بحد ذاته لم يكن كافية لإحداث تلك المواجهة ، لأن المواجهة تقتضي موت الكثير وأي عملية حسابية بسيطة لأي قائد ميداني كان يستطيع أن يخمن سقوط العشرات من القتلى ، ومثل هذه العملية كانت تحتاج إلى تمهل واستشارة للعلماء وأهل الخبرة والتجربة ، والأخوة في حماس لم يكونوا على عجلة من أمرهم لأنهم جماعة جند أنصار الله كانوا محاصرين وكان من الممكن للمفاوضات أن يطول أمدها أكثر مما حصل .
وصفوة القول أن ما فعلته حماس في عملية اقتحام مسجد ابن تيمية ومحاضرة الدكتور عبد اللطيف آل موسى خطأ شرعا وتقنية ، ومع التحقيقات التي تُجرى ضد جماعة جند أنصار الله يجب إجراء تحقيقات مع القيادات الأمنية في الحكومة الفلسطينية التي سارعت إلى اتخاذ تلك القرارات الجريئة في الدماء دون ترو وتمهل .
8-إن كل المحاولات الجارية من حكومة حماس أو من جماعة جند أنصار الله لمزيد من المواجهة والانتقام لهو من الأخطاء القاتلة الأخرى التي ستنضاف إلى رصيد الأخطاء الذي وقع فيه الطرفان ، ويجب على العقلاء من كل الطرفين الرد إلى الشرع والإنابة إليه والتحلي بالحكمة والعقل ، وهذا ما دعا إليه كل علماء الشرع في العالم ، ويجب على أهل الحل والعقد في كل أنحاء العالم الإسلامي أن يوجهوا نداء إلى الأطراف المتصارعة أن تلقي السلاح وأن يجلسوا على مائدة البحث والتشاور من منطلق الأخوة الإسلامية لحل المشكلات العالقة بينهما ...
هذه جملة من الرؤى والنصائح التي بدا لي ضرورة عرضها وبذلها لأخواني في كل مكان، تكونت بعد التروي والتمهل في جمع المعلومات والتقصي والتحليل ، وقد بذلت جهدي لا آلوا في تلمس العدل والقسط وإنصاف كل طرف وقول الحق ولو كان مرا سائلا الله تعالى أن يجل كلامي هذا ونصحي هذا في سبيله ولأجل إعلاء كلمته وأن ينفع بها قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما ، وأن يؤلف بها بين المتخاصمين وأن يجمع بها شمل المتفرقين وأن يوحد بها صفوف المؤمنين الموحدين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والصلاة والسلام على الهادي إلى مستقيم الصراط .
وبعد :
فمن أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يوفقه للحق والقرب منه ويجنبه الباطل والقرب منه ، وخاصة في أوقات الفتن والمحن، ومن منة الله تعالى على عباده المسلمين أن جعل تلك الفتن والمحن أيسر عذابه فيهم ولم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم في رفعه عنهم .
روى أحمد ومسلم عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه، عَزَّ وجل، طويلا قال سألت ربي ثلاثا "سألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها".
و قال البخاري، رحمه الله، في قوله تعالى: ** قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يلبسكم: يخلطكم، من الالتباس، يَلْبِسوا: يَخْلطُوا. شيعًا: فرقًا.
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ** قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك". ** أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال: "أعوذ بوجهك". ** أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه أهون -أو قال: هذا أيسر" .
فمن أولى مشاهد القدر التي يجب ألا تغيب عن أعين الموحدين أن مثل هذه الفتن من مقادير الله تعالى على خلقه وعباده ، وأن له سبحانه فيها حكما عظيمة جليلة قد نعرفها وقد تغيب عنا وأن الله تعالى رحم هذه الأمة وجعل هذه الفتن أيسر عذاب يمكن أن تصاب به .
كما أن مما يجب الاهتمام والاعتناء به التفكير في كون بعض تلك الفتن بدأت تظهر بين أهل الديانة والداعين للشرع ، فإن تكرر هذه الفتن فيهم يدل على خلل وتقصير حاصل وهو يستدعي مراجعة للنفس وتوبة من كل خطأ وذنب ، ضرورة أن هذه الفتن عذاب وامتحان وابتلاء ، وهذا لا ينزل إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة ، وقد علم بالاستقراء أن الله عز وجل يعذب ويمتحن عباده بنقيض ذنوبهم ، فلو ابتغوا اللذة في المعصية عذبهم بالأمراض والأسقام ، ولو بغوا في استعمال المال بعد الغنى والرفاه ابتلاهم بالفقر والضنك ، ولو تحزبوا وأعجبوا برأيهم ومالوا عن إخوانهم رغبة في السلطة والنفوذ والجاه ابتلاهم الله بالذل والانكسار وضياع المصالح.
فلو كان العذاب الحاصل هو البأس الشديد بين المسلمين ونزاعهم واقتتالهم وذهاب ريحهم فيكون أصل الذنب الذي عذبوا عليه هو تفرقهم وعدم اجتماعهم وتوحدهم .
ومما يجدر بأهل الإيمان الاتعاظ به هو ما تشير إليه الحادثات من بصائر وتنبيهات ، فإن في المقادير التي بثها الله تعالى في خلقه بصائر ومواعظ لمن ألقى السمع وهو شهيد .
ثم عليهم بعد ذلك النظر في أحكام الشرع التي يجب عليهم تنزيلها على محنتهم والقيام بما أمر الله تعالى به في زمان الفتنة إظهارا للتوبة والإنابة وتحقيقا لمعاني العبودية التامة التي هي من أهم شروط الإصلاح .
وفتنة الاقتتال إذا وقعت بين طوائف الأمة المسلمة كان الناس منها على ثلاثة أقسام :
الأول : هم من استقل وسعى بين الطائفتين بالإصلاح .
الثاني : فهم من أمسك لسانه ويده عنها واعتزلها ولم يتدخل فيها وتركها ألبتة .
الثالث : وهم من انحاز إلى إحدى الطائفتين بالقول أو بالفعل بتأويل سائغ أو غير سائغ.
وأسعد الناس هم القسم الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه .
فالقسم الأول قائموا بما أمر الله به نصا في كتابه الحكيم ، حيث قال تعالى :
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [سورة الحجرات: 9].
والقسم الثاني ممتثل لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال الفتن وترك الاقتتال وعدم الخوض فيها ، والأحاديث في الباب مشتهرة مستفيضة .
أما القسم الثالث فإن كانوا من أهل الاجتهاد ثم تأولوا في قولهم وفعلهم تأويلا سائغا كان لهم نصيب من الأجر إلا أنه يكون مرجوحا وضعيفا بقدر بعدهم عن العدل والقسط .
والله عز وجل قد خاطب الأمة كلها أن تصلح بين الفئتين المقتتلتين ، فدل على أن الطائفة المصلحة ينبغي أن تكون هي الجمهور أو هي الطائفة المنصورة أو التي على الحق وإلا لما توجه لها الخطاب بالإصلاح أصلا ، ضرورة أن الساعي في الإصلاح يجب أن يكون هو الأصلح .
ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ما قام أحد بالإصلاح بين الطائفتين إلا كان هو الأصلح والأقوم في طوائف هذه الأمة قال تعالى : ( إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ) وقال تعالى : (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم .. ) .
وإذا كانت الفتنة والبلاء في الاقتتال بين المؤمنين كان الإصلاح هو في دعوتهم لتركه ونبذه، ومن سعى بخلاف ذلك كان من الساعين في الفتنة من الداعين إليها .
وليس معنى الإصلاح أن نمسك عن الحكم بين الطائفتين أو نمسك عن تعيين المصيب والمخطئ فيهما، بل إن تعين الصواب والخطأ والمصيب والمخطئ قد يكون لازما للإصلاح وترك الاقتتال .
وبناء على ما تقرر آنفا فإن الفتن التي حصلت بين حركة حماس الإسلامية وجماعة جند أنصار الله تحتاج إلى الإصلاح وليس الاعتزال ، كما تحتاج إلى النصح وتقرير الأحكام وبيانها وليس السكوت والإمساك عن بيان حكم الله تعالى في المخطئ والمصيب ، ويجب أن يكون حادي الجميع شرع الله تعالى وحكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأُجمل رأيي في الأحداث فيما يلي :
1-حكومة حماس حكومة إسلامية شرعية ، منطلقاتها إسلامية ، قادتها مسلمون عرفوا بالدعوة والجهاد لأجل إقامة الدولة الإسلامية مزكون من أغلب علماء الأمة لهم تاريخ واضح ثابت في الدعوة للدين وإقامة شعائره والدعوة لتعظيم الشرع ومعاداة أعداء الدين المعروفين في هذا الزمان كاليهود والأمريكان ، وبالنظر والسبر في سيرة حكمهم وطريقتهم في إدارة مناطقهم يعرف بالتواتر حرصهم على أحكام الشرع وتطبيق مافيه والدعوة إليه والقتال من أجله ، والخلاصة أن حكومة حماس حكومة شرعية ( بالمعنى الشرعي الخاص أي شرعية إسلامية ) وقد ثبت بالتواتر تأييد أغلب أهل الحل والعقد لقادة هذه الحكومة ومناصرتهم لمبادئها كالعلماء والمجاهدين والسياسيين ، وحركة حماس تحققت لها القوة والسلطة والغلبة بشروطها المعتبرة ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن أن يقال عنها إنها حكومة غير إسلامية . أما إن كان المقصود بأنها حكومة غير شرعية لأنها مُقالة من حكومة أبي مازن فهذا أيضا من أبطل الباطل ، فالواقع أن حكومة حماس منتخبة من الشعب وقادتها الذين هم على سدة الحكم منتخبون من شعبهم وليس للرئيس سلطة إقالة المنتخبين لأن أبا مازن نفسه في شرعية رئاسته كلام واعتراض .
2-عدم إعلان حماس لتطبيق الشرع أو إعلانها أنها لا تريد تطبيقه في بعض المناسبات قد عرفنا واستبنا أنه على غير معناه الظاهر ، وأن المقصود منه صرف كيد أعداء الدين حتى لا تنشغل الحركة بجبهات أخرى في تبرير تطبيقها للشرع وقيامها به مع أنها مطبقة له بالفعل ، وهذا لا ينفي وجود التقصير والخلل ، مثل التهاون في تطبيق الحدود الجنائية أو النهي عن المنكرات بكل أنواعها ، ولكن هذا لا يكون سببا كافيا في تكفير حكومة حماس بحال من الأحوال لأنه ثبت بالتواتر أنها لا تنكر هذه الأحكام ولكن لها أعذار في تأجيل تطبيقها ويعتبرون أن تلك الأعذار شبيهة بعذر عمر في إيقاف العمل بحد السرقة في عام المجاعة ، ومثل هذا يقال عن أي تقصير لهذه الحركة أوا لحكومة ، مثل ما يقال عن تقصيرهم في العمليات الاستشهادية بعد تقلدهم الحكومة أو تقصيرهم في جهاد اليهود وتعاونهم وتحالفهم مع الرافضة ومع بعض الدولة العلمانية فكل ذلك لو كان منه ما هو تقصير وخطأ شرعي إلا أنه لا يرقى أن يكون سببا في تكفير تلك الحركة أو الحكومة ، وحماس في هذا إما أنها قد اجتهدت اجتهادا سائغا أو غير سائغ ، فلها من الأجر والإثم بقدر ما أصابت أو أخطأت وقصرت .
3-وابتناء على ماسبق من أن حكومة حماس حكومة إسلامية شرعية فإن حقوق الولي الأمر الشرعي تجب لها شرعا ، كما يحرم على من تحت ولايتها وسلطتها ونفوذها الخروج عليها أو الافتئات على حكمها وسلطتها إلا أن تكون أتت بكفر بواح . وسائر ما يقال في ولي الأمر الشرعي من لزوم الصبر على ظلمه متحققة في حكومة حماس ، ومن سوغ الخروج على حماس أو الافتئات على حكمها وسلطتها ونفوذها وإعلان حكم إسلامي مستقل عنها لا ينفك عن حالين : الأول : أن يعتقد كفر حماس نوعا وعينا ، ولو اعتقد هذا فهو مبتدع من طائفة الخوارج الذين يجب أن يُقاتلوا بالطريقة الشرعية ، والحال الثانية : أن يعتقد جواز الخروج على الحاكم الفاسق وهذه أيضا بدعة يسوغ مقاتلة أصحابها بالطريقة الشرعية المعتبرة .
4-جماعة جند أنصار الله جماعة جهادية صغيرة ليست لها سلطة ولا ولاية ولا نفوذ كما أنها تفتقر إلى القادة المحنكين من ذوي الرأي والعلم ، ولأجل ذلك وقعت في أخطاء كبيرة أدت إلى هذه الفتنة من أهمها :
أولا : تكفير حماس ، وهذا واضح من كثير من عبارات الدكتور عبد اللطيف آل موسى رحمه الله ثم من إعلان الإمارة .
ثانيا : اعتبار ضم مسجد ابن تيمية من الخطوط الحمراء مع أن مؤاخذات تلك الجماعة على حماس فيها ما هو أعظم من هذا .
ثالثا : عدم استشارة أهل العلم من المجاهدين أو العلماء غير المجاهدين لمعرفة رأيهم فيما ذهبوا إليه من الاجتهاد .
رابعا : ابتناؤهم الأحكام والأفعال والتصرفات والمواقف على الرؤى والمنامات ، وهذا من أمارات أهل البدعة ،
خامسا : تترسهم في المساجد والبيوت مع أن القضية برمتها لا تحتاج إلى كل هذه المواجهة .
سادسا : تترسهم بالعبوات الناسفة لتفجيرها في عمليات استشهادية مع أن أيا من شروط العمليات الاستشهادية لم يتحقق في حالتهم تلك وهذا من قلة الفقه في الدين .
سابعا :اتخاذهم المسجد يوم الجمعة ميدانا لاستعراض القدرات العسكرية والبيانات الحماسية بدون سبب شرعي معتبر هذا مع ما خالط شعائر صلاة الجمعة من أخطاء شرعية مثل الهتافات والتكبيرات وكل ذلك أبعد ما يكون عن هدي السلف ، ولا شك أن هذه التصرفات جعلت حكومة حماس تنظر نظرة الريبة لجماعة جند أنصار الله وتعطيها المسوغات للتعامل معها من منطلقات عسكرية بحتة . صفوة القول أن جماعة جند أنصار الله قد أخطأت خطأ بينا في بيانها وموقفها من حماس وأنها بذلك تكون في حكم الخارج على طاعة ولي الأمر الشرعي وأي تقرير للمسألة بعيد عن هذا التصور سيكون بعيدا كل البعد عن أحكام الشرع المطهر .
5-ما أقدمت عليه جماعة جند أنصار الله لا يجوز من الناحية الشرعية حتى لو صح ما ابتنوه من مقدمات ( وهو كفر حكومة حماس ووجوب قيام الإمارة الإسلامية المطبقة لشرع الله ) لأن المتأمل في الوضع يجزم بحصول الفتنة وإراقة الدماء ، كما يجزم بعدم تكافؤ القوى بين الطرفين ، وأن الضحايا الأبرياء لا بد أن يكونوا وقود المعركة والتي ستنتهي لا محالة في صالح الأقوى ، فالمغامرة بتعريض أهل الصلاح والخير للهلكة دون أية مصالح شرعية معتبرة ليس من شرع الله في شيء .
6-الظروف التي يمر بها المسلمون في العالم أجمع وما يمر به إخواننا المسلمون في فلسطين يحتم على الجميع التعامل مع الأحداث بروح الجماعة وبمنطق المسئولية الجماعية، ولا يسوغ ونحن أمام عدو مشترك حشد كل أعداء الدين للوقوف في صفه حتى العلمانيين من بني جلدتنا صاروا يدا واحدة معهم ضدنا وأعني بهم النظام العلماني العميل الواضح بقيادة أبي مازن محمود عباس، فلا يسوغ والحالة هذه أن نتفرق لأدنى اختلاف ونتشرذم لأقل إشكال .
7-ما قامت به حماس وهو مواجهة الخارجين عليها جائز من حيث المبدأ ، ولكن حماس وقعت في أخطاء كبيرة مخالفة للشرع المطهر منها :
أولا : على ضوء المعلومات المتاحة لم يثبت أن حماس مارست دورا إصلاحا إرشاديا لجماعة جند أنصار الله وغيرها من الجماعات التي تخالفها فكريا بل يبدو أنه لم يكن هناك أي تنسيق أصلا بناء على أن أغلب قادة تلك الجماعة منشقون عن كتائب القسام ، وهذا التقصير كان له دور في نمو تلك الجماعات وتعاظم أتباعها .
ثانيا : كان يجب على الحاكم الشرعي إذا خرجت عليه جماعة أن يتشاور معهم ويسألهم عما ينقمون منه ويجيبهم إلى ما يطالبونه إن كان حقا ويزيل الشبهة عنهم إن كانوا على فهم خطأ ، وكل ذلك لم يكن .
ثالثا : العلاج الأمني من الناحية الإدارية ليس هو الحل الحاسم كما أنه ليس دليلا على السيطرة الكاملة ، بل إن العلاج الأمني دليل العجلة في الغالب والنظرة القاصرة للمشكلة ، وبناء على ذلك فإن إقدام حكومة حماس على التعامل مع جماعة جند أنصار الله بالطريقة العسكرية قبل استنفاد الوسائل السلمية يدل على إفلاس حقيقي للقيادة تجاه إشكال تنامي تلك التيارات كما يدل على عدم نضج قيادة القسام التي كان الضغط على الزناد أسهل شيء بالنسبة لها ! .
رابعا : استهداف الخوارج وقتلهم صبرا أو تقصد قتلهم بهذه الطريقة مخالف لهدي الصحابة رضوان الله عليهم في قتال الخوارج والبغاة ومجرد قتلهم لأحد القيادات التي توسطت ( إذا صحت الرواية أن جماعة جند أنصار الله هم من بدأوا بالضرب والقتال ) فليس كافيا في اقتحام المسجد وضربه أو اقتحام البيوت وضربها بهذه الطريقة الوحشية .
خامساً : لو صح أن جماعة جند أنصار الله أصحاب فكر تكفيري وأنهم يكفرون حماس والقسام وأنهم تسلحوا واعتصموا في المسجد لأجل المواجهة مع حماس فهذا بحد ذاته لم يكن كافية لإحداث تلك المواجهة ، لأن المواجهة تقتضي موت الكثير وأي عملية حسابية بسيطة لأي قائد ميداني كان يستطيع أن يخمن سقوط العشرات من القتلى ، ومثل هذه العملية كانت تحتاج إلى تمهل واستشارة للعلماء وأهل الخبرة والتجربة ، والأخوة في حماس لم يكونوا على عجلة من أمرهم لأنهم جماعة جند أنصار الله كانوا محاصرين وكان من الممكن للمفاوضات أن يطول أمدها أكثر مما حصل .
وصفوة القول أن ما فعلته حماس في عملية اقتحام مسجد ابن تيمية ومحاضرة الدكتور عبد اللطيف آل موسى خطأ شرعا وتقنية ، ومع التحقيقات التي تُجرى ضد جماعة جند أنصار الله يجب إجراء تحقيقات مع القيادات الأمنية في الحكومة الفلسطينية التي سارعت إلى اتخاذ تلك القرارات الجريئة في الدماء دون ترو وتمهل .
8-إن كل المحاولات الجارية من حكومة حماس أو من جماعة جند أنصار الله لمزيد من المواجهة والانتقام لهو من الأخطاء القاتلة الأخرى التي ستنضاف إلى رصيد الأخطاء الذي وقع فيه الطرفان ، ويجب على العقلاء من كل الطرفين الرد إلى الشرع والإنابة إليه والتحلي بالحكمة والعقل ، وهذا ما دعا إليه كل علماء الشرع في العالم ، ويجب على أهل الحل والعقد في كل أنحاء العالم الإسلامي أن يوجهوا نداء إلى الأطراف المتصارعة أن تلقي السلاح وأن يجلسوا على مائدة البحث والتشاور من منطلق الأخوة الإسلامية لحل المشكلات العالقة بينهما ...
هذه جملة من الرؤى والنصائح التي بدا لي ضرورة عرضها وبذلها لأخواني في كل مكان، تكونت بعد التروي والتمهل في جمع المعلومات والتقصي والتحليل ، وقد بذلت جهدي لا آلوا في تلمس العدل والقسط وإنصاف كل طرف وقول الحق ولو كان مرا سائلا الله تعالى أن يجل كلامي هذا ونصحي هذا في سبيله ولأجل إعلاء كلمته وأن ينفع بها قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما ، وأن يؤلف بها بين المتخاصمين وأن يجمع بها شمل المتفرقين وأن يوحد بها صفوف المؤمنين الموحدين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .