أبو طه
08-17-2009, 03:07 PM
الخوارج الجدد
أحمد أبورتيمة
مع الرياح القادمة من الصومال والعراق وأفغانستان،وصل فكر التطرف والغلو إلى أرض غزة المثخنة بالجراح ليضيف مأساة جديدة إلى مآسي أهلها ومصائبهم وكأن ما فيها لا يكفيها.في آية بينة على عمق الأزمة التي تعيشها الأمة ،وحين ابتعدت الأمة عن طريق الهداية وتخلت عن مسئولية الشهود الحضاري التي أوكلها الله عليها (لتكونوا شهداء على الناس)،ولم يعد لديها مشروع تفيد به نفسها والعالم شغلها الله بنفسها فألبسهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض،وهكذا هي سنة الحياة من لم يشغل نفسه بمعالي الأمور شغلته هي بالتوافه منها.
ما حدث في رفح ليس إلا مثالاً واحداً على حالة الفراغ الفكري والنفسي القاتل الذي تعيشه هذه الأمة بمختلف شرائحها إلا من رحم ربك وقليل ما هم،فواقع الأزمات والبطالة يوفر البيئة الملائمة لتفريخ أفكار الجهل والتطرف والتعصب والانسلاخ من العقل ومن الفهم الصحيح للدين،والغرق في عالم الأوهام والأحلام والخيالات،في آلية تعويض نفسي لا شعورية للتغلب على إخفاقات الواقع والعجز عن تحقيق إنجاز مفيد .
في واقع الجهالة والبطالة الذي نغرق فيه يظن طائفة من الناس أن الحل السحري لكل هذه الأزمات،بل ولأزمات العالم أيضاً،هو إنشاء "إمارة إسلامية"ولا يهم مضمون هذا الشئ ،ولا يهم أن يتوفر فيها الحد الأدنى الذي يقتضيه العقل من أرض وسيادة وحدود وقوة وأموال جعلها الله لنا قياماً ،المهم فقط أن يكون اسمها "إمارة إسلامية"،وأن يكون هناك أمير ومأمورون يبايعون على السمع والطاعة ،والحق يقال لا بد أيضاً من توفر عدد من قطع الكلاشنكوف والآربيجي لإعلان الجهاد،وإقامة الحدود،وقتال الكفار أصحاب الآراء المخالفة حتى وإن كان هؤلاء الكفار يصلون ويصومون وربهم يوحدون.
وما دمنا نعيش في عالم الأوهام والأحلام فإنه يكفي لإقامة هذه الإمارة أن يرى أميرها حلماً في منامه بأن مجموعة من الكلاب كانت تحيط بيته فإذا بنور قوي يأتي من الغرب فتهرب منه وينتصر عليها،فتشحذ عزيمته لإعلان هذه الإمارة بوحي هذا الحلم،وهذا ليس على سبيل التهكم والسحرية بل ذكره صراحة في خطبته الشهيرة.
وفي واقع الجهل والإحباط الذي يعيشه الشباب الملتزم يكفي لدغدغة عواطفهم وإشعال حماستهم أن يرفع شعار تطبيق الشريعة،دون أن يفقهوا ما هي الشريعة وماذا يعني تطبيقها، ولا يهمهم في سبيل الإعلان عن هذه الإمارة أن يقتل الآلاف وتشتعل الفتنة ،دون أن يفقهوا ديناً ولا واقعاً ولا سياسةً، فالشريعة عندهم هي إقامة الحدود وحسب مع أن إقامة الحدود هي المرحلة الأخيرة،وقبل إعلان الدولة الإسلامية لا بد من بناء المجتمع الإسلامي الذي يقيم الإسلام في تعاملاته بدافع ذاتي..
وخطورة هذا النوع من الفكر أن أصحابه لا يؤمنون بإمكانية تعدد الآراء واختلاف الاجتهادات،وأن رأيهم يحتمل الخطأ ورأي غيرهم يحتمل الصواب،ولكنهم يؤمنون بأن آراءهم هي الحق الذي ليس بعده إلا الضلال،وأن كل من لا يتبع طريقتهم فهو ضال ومرتد،وليس من حق أحد أن يكون له اجتهاده في فهم بعض جوانب الإسلام غير اجتهادهم.وبذلك يصعب إقناعهم،وإعادتهم إلى الصواب فهم متعصبون لآرائهم ولا يخطر ببالهم احتمال أن يكونوا على خطأ فلا يزدادون إلا ضلالاً..
وأخطر ما في أفكارهم هو استحلال دماء المخالفين واستسهال قتلهم،وفي الحديث الشريف:"لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"،وحين يقتلون المسلمين لا يشعرون بلوم النفس،وأحدهم مستعد لتفجير نفسه في المسلمين وهو يظن أن الجنة في انتظاره والحور العين تتحرق اشتياقاً للقائه "ألا ذلك هو الضلال البعيد"..
وهذه الظاهرة التي نكتوي بنيرانها في غزة والعراق والصومال وأفغانستان ليست بدعاً من التاريخ،فلقد عرف التاريخ الإسلامي منذ فجره الأول فرقة أطلق عليها اسم "الخوارج"،واللافت أن هذه الطائفة لم يكن ينقصها التدين ،بل إنهم فاقوا الصحابة أنفسهم في هذا الجانب فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أوصافهم للصحابة فقال:"إن أحدكم ليحقر صلاته إلى صلاتهم،وقراءته إلى قراءتهم" ،وتروي السير من أخبارهم أنهم كانوا يبللون الحصير بالدموع من شدة بكائهم في قيام الليل،ومع ذلك فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"،ومن نتحدث عنهم اليوم هم صورة طبق الأصل من هذه الفرقة ومشكلتهم جميعاً ليست في قلة العبادة ولكنها في قلة الفقه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم)،وحين تكون العبادة بدون فقه فإنها لن تغني عن صاحبها وربما تقوده إلى المهالك.وهو ما حدث مع الخوارج الذين قادهم عدم وعيهم إلى تكفير علي بن أبي طالب واتهامه بأنه لا يحكم بشرع الله فخرجوا عليه وشقوا صف المسلمين وقتلوه.
ولا يعني حين نقارن هؤلاء الشباب المغرر بهم بالخوارج في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه،أن حكومات اليوم في مقام علي،فهي حكومات ظالمة ومجرمة وهي التي تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية إفراز هذا الفكر المتطرف،ومحاربتها للفكر المعتدل هي التي تدفع الشباب للفكر المتطرف عملاً بالقانون الفيزيائي "لكل فعل رد فعل".
وهؤلاء التكفيريون وإن بغوا علينا فإن علينا أن ننظر لهم بعيون الرحمة والشفقة،ولا نتعامل معهم بعقلية الانتقام والقتل حتى لا نكون وإياهم سواء،فهم ضحايا غرقوا في مستنقع الجهل وعلينا أن نلقي لهم حبال النجاة وأن نصوبهم ونرشدهم بالتي هي أحسن ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،والتعامل الأمني لا يحل المشكلة ولا ينبغي اللجوء إليه إلا كحل أخير اضطراراً وفي أضيق الحدود لأن طريق العنف والدماء لها بداية وليس لها نهاية،وهي تنمي بذور الكراهية والأحقاد والرعب،وليكن لنا في الإمام علي رضي الله عنه أسوة حسنة حين قال للخوارج "إن لكم علينا علينا ثلاثة حقوق،ألا نبدأكم بقتال،وألا نمنعكم مساجدكم وألا نمنعكم حقكم من بيت مال المسلمين".
إن الدماء التي سالت في رفح عزيزة حتى دماء أولئك الشباب المغرر بهم، والثقافة التي يربي عليها المجتمع مدانة في هذه الأحداث،فوجب العمل على تصحيح ثقافة الغلو والتطرف وإحلال ثقافة التسامح والحوار بدلاً عنها،وهذه مسئولية الدعاة والخطباء بأن يقتربوا أكثر من هؤلاء الشباب ويبصروهم ويصححوا مفاهيمهم،كما أن الحكومة مطالبة بدعم هذه الجهود التوعوية وهي مطالبة أيضاً بملء الفراغ النفسي والفكري في حياة هؤلاء الشباب بإيجاد مشاريع توجه طاقاتهم في اتجاه صحيح يخدم الدين وينفع البشرية حتى لا نفجع بمزيد من الضحايا والمآسي..
أحمد أبورتيمة
مع الرياح القادمة من الصومال والعراق وأفغانستان،وصل فكر التطرف والغلو إلى أرض غزة المثخنة بالجراح ليضيف مأساة جديدة إلى مآسي أهلها ومصائبهم وكأن ما فيها لا يكفيها.في آية بينة على عمق الأزمة التي تعيشها الأمة ،وحين ابتعدت الأمة عن طريق الهداية وتخلت عن مسئولية الشهود الحضاري التي أوكلها الله عليها (لتكونوا شهداء على الناس)،ولم يعد لديها مشروع تفيد به نفسها والعالم شغلها الله بنفسها فألبسهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض،وهكذا هي سنة الحياة من لم يشغل نفسه بمعالي الأمور شغلته هي بالتوافه منها.
ما حدث في رفح ليس إلا مثالاً واحداً على حالة الفراغ الفكري والنفسي القاتل الذي تعيشه هذه الأمة بمختلف شرائحها إلا من رحم ربك وقليل ما هم،فواقع الأزمات والبطالة يوفر البيئة الملائمة لتفريخ أفكار الجهل والتطرف والتعصب والانسلاخ من العقل ومن الفهم الصحيح للدين،والغرق في عالم الأوهام والأحلام والخيالات،في آلية تعويض نفسي لا شعورية للتغلب على إخفاقات الواقع والعجز عن تحقيق إنجاز مفيد .
في واقع الجهالة والبطالة الذي نغرق فيه يظن طائفة من الناس أن الحل السحري لكل هذه الأزمات،بل ولأزمات العالم أيضاً،هو إنشاء "إمارة إسلامية"ولا يهم مضمون هذا الشئ ،ولا يهم أن يتوفر فيها الحد الأدنى الذي يقتضيه العقل من أرض وسيادة وحدود وقوة وأموال جعلها الله لنا قياماً ،المهم فقط أن يكون اسمها "إمارة إسلامية"،وأن يكون هناك أمير ومأمورون يبايعون على السمع والطاعة ،والحق يقال لا بد أيضاً من توفر عدد من قطع الكلاشنكوف والآربيجي لإعلان الجهاد،وإقامة الحدود،وقتال الكفار أصحاب الآراء المخالفة حتى وإن كان هؤلاء الكفار يصلون ويصومون وربهم يوحدون.
وما دمنا نعيش في عالم الأوهام والأحلام فإنه يكفي لإقامة هذه الإمارة أن يرى أميرها حلماً في منامه بأن مجموعة من الكلاب كانت تحيط بيته فإذا بنور قوي يأتي من الغرب فتهرب منه وينتصر عليها،فتشحذ عزيمته لإعلان هذه الإمارة بوحي هذا الحلم،وهذا ليس على سبيل التهكم والسحرية بل ذكره صراحة في خطبته الشهيرة.
وفي واقع الجهل والإحباط الذي يعيشه الشباب الملتزم يكفي لدغدغة عواطفهم وإشعال حماستهم أن يرفع شعار تطبيق الشريعة،دون أن يفقهوا ما هي الشريعة وماذا يعني تطبيقها، ولا يهمهم في سبيل الإعلان عن هذه الإمارة أن يقتل الآلاف وتشتعل الفتنة ،دون أن يفقهوا ديناً ولا واقعاً ولا سياسةً، فالشريعة عندهم هي إقامة الحدود وحسب مع أن إقامة الحدود هي المرحلة الأخيرة،وقبل إعلان الدولة الإسلامية لا بد من بناء المجتمع الإسلامي الذي يقيم الإسلام في تعاملاته بدافع ذاتي..
وخطورة هذا النوع من الفكر أن أصحابه لا يؤمنون بإمكانية تعدد الآراء واختلاف الاجتهادات،وأن رأيهم يحتمل الخطأ ورأي غيرهم يحتمل الصواب،ولكنهم يؤمنون بأن آراءهم هي الحق الذي ليس بعده إلا الضلال،وأن كل من لا يتبع طريقتهم فهو ضال ومرتد،وليس من حق أحد أن يكون له اجتهاده في فهم بعض جوانب الإسلام غير اجتهادهم.وبذلك يصعب إقناعهم،وإعادتهم إلى الصواب فهم متعصبون لآرائهم ولا يخطر ببالهم احتمال أن يكونوا على خطأ فلا يزدادون إلا ضلالاً..
وأخطر ما في أفكارهم هو استحلال دماء المخالفين واستسهال قتلهم،وفي الحديث الشريف:"لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"،وحين يقتلون المسلمين لا يشعرون بلوم النفس،وأحدهم مستعد لتفجير نفسه في المسلمين وهو يظن أن الجنة في انتظاره والحور العين تتحرق اشتياقاً للقائه "ألا ذلك هو الضلال البعيد"..
وهذه الظاهرة التي نكتوي بنيرانها في غزة والعراق والصومال وأفغانستان ليست بدعاً من التاريخ،فلقد عرف التاريخ الإسلامي منذ فجره الأول فرقة أطلق عليها اسم "الخوارج"،واللافت أن هذه الطائفة لم يكن ينقصها التدين ،بل إنهم فاقوا الصحابة أنفسهم في هذا الجانب فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أوصافهم للصحابة فقال:"إن أحدكم ليحقر صلاته إلى صلاتهم،وقراءته إلى قراءتهم" ،وتروي السير من أخبارهم أنهم كانوا يبللون الحصير بالدموع من شدة بكائهم في قيام الليل،ومع ذلك فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"،ومن نتحدث عنهم اليوم هم صورة طبق الأصل من هذه الفرقة ومشكلتهم جميعاً ليست في قلة العبادة ولكنها في قلة الفقه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم)،وحين تكون العبادة بدون فقه فإنها لن تغني عن صاحبها وربما تقوده إلى المهالك.وهو ما حدث مع الخوارج الذين قادهم عدم وعيهم إلى تكفير علي بن أبي طالب واتهامه بأنه لا يحكم بشرع الله فخرجوا عليه وشقوا صف المسلمين وقتلوه.
ولا يعني حين نقارن هؤلاء الشباب المغرر بهم بالخوارج في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه،أن حكومات اليوم في مقام علي،فهي حكومات ظالمة ومجرمة وهي التي تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية إفراز هذا الفكر المتطرف،ومحاربتها للفكر المعتدل هي التي تدفع الشباب للفكر المتطرف عملاً بالقانون الفيزيائي "لكل فعل رد فعل".
وهؤلاء التكفيريون وإن بغوا علينا فإن علينا أن ننظر لهم بعيون الرحمة والشفقة،ولا نتعامل معهم بعقلية الانتقام والقتل حتى لا نكون وإياهم سواء،فهم ضحايا غرقوا في مستنقع الجهل وعلينا أن نلقي لهم حبال النجاة وأن نصوبهم ونرشدهم بالتي هي أحسن ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،والتعامل الأمني لا يحل المشكلة ولا ينبغي اللجوء إليه إلا كحل أخير اضطراراً وفي أضيق الحدود لأن طريق العنف والدماء لها بداية وليس لها نهاية،وهي تنمي بذور الكراهية والأحقاد والرعب،وليكن لنا في الإمام علي رضي الله عنه أسوة حسنة حين قال للخوارج "إن لكم علينا علينا ثلاثة حقوق،ألا نبدأكم بقتال،وألا نمنعكم مساجدكم وألا نمنعكم حقكم من بيت مال المسلمين".
إن الدماء التي سالت في رفح عزيزة حتى دماء أولئك الشباب المغرر بهم، والثقافة التي يربي عليها المجتمع مدانة في هذه الأحداث،فوجب العمل على تصحيح ثقافة الغلو والتطرف وإحلال ثقافة التسامح والحوار بدلاً عنها،وهذه مسئولية الدعاة والخطباء بأن يقتربوا أكثر من هؤلاء الشباب ويبصروهم ويصححوا مفاهيمهم،كما أن الحكومة مطالبة بدعم هذه الجهود التوعوية وهي مطالبة أيضاً بملء الفراغ النفسي والفكري في حياة هؤلاء الشباب بإيجاد مشاريع توجه طاقاتهم في اتجاه صحيح يخدم الدين وينفع البشرية حتى لا نفجع بمزيد من الضحايا والمآسي..