مقاوم
08-12-2009, 10:41 AM
البصمة الاجتماعية لأهل السنة وما يقابلها.. تركيا وإيران مثالاً
ربيع الحافظ
قد لا تتعدى اتفاقية التعاون الاقتصادي التي وقعتها تركيا مع دول خليجية بالفعل الجوانب الاقتصادية، ولا تتضمن بنوداً سرية غير التي أعلن عنها، إلا سراً واحداً، وهي أن مآلاتها ستتعدى على أرض الواقع الجوانب الاقتصادية إلى جوانب أخرى.
إذا كان الدين هو أس هذه الحضارة، والمعاملة هي الوجه الآخر للدين، والبيع والشراء هو وجه من أوجه المعاملة، فنحن إذاً أمام معركة أخلاق، محصلتها النهائية هي تآكل قيم، وصعود قيم أخرى، والقاعدة التي تحكم فصول هذه المعركة، والتي يعمل وفقها العقل الإنساني هي: "بضدها تتميز الأشياء".
"الدين المعاملة" هي نظرية الإسلام في علم الاجتماع، لا على مستوى الفرد فقط، وإنما الجمع كذلك، وقد انتشر الإسلام ـ الدين السماوي ـ في بيئة شرق آسيا البوذية، التي لم تألف الشرائع السماوية، على أيدي أناس عاديين خرجوا من أوطانهم ـ اليمن ـ ابتغاء الرزق، لكن طبائعهم وسلوكهم وهيبة مناسكهم كانت آلة دعاية عجزت المعتقدات والدول عن أن تكون مصدات في طريقها، وصادفت الفطرة الإنسانية لتلك الشعوب، فوقع التغيير بأشكاله: السياسي والاجتماعي والروحي، وعلى شاكلة مشابهة انتشر الاسلام على جانبي طريق الحرير الذي كانت تسلكه قوافل التجار في آسيا الوسطى التركية.
إن كان ثمة قضية واحدة توحدت حولها شعوب منطقتنا اليوم، مما أدركتها بحواسها الخمس، وانحفرت في أذهانها، فإنما هي الفارق بين أنموذجين سلوكيين اجتماعيين، يلقيان ظلالاً كثيفة على مسار الحياة فيها؛ أمنها، معايشها، قيمها، نظامها السياسي، هما: الأنموذج الإيراني، والأنموذج التركي.
هذه الشعوب جربت الإسلام الإيراني، والوعد الإيراني، والسياسي الإيراني، ورجل الدين الإيراني، المتشدد، والمعتدل، والمصلح، والمحافظ. وجربت الدواء الإيراني، والغذاء الإيراني، ووجدت أن القاسم الأعظم بين هذه جميعاً هو: المكر، والمكيدة، والمباغتة، والنكاية، والسرقة. وجربت الاغتيالات، والخلايا النائمة، والتزوير، وسرقة النفط وممتلكات الجار، وانتحال الأنساب، وشبكات المخدرات والفاحشة، والطائفية، وبغض العرب والعربية، وتغذية المشاريع الانفصالية، واحتقار سادات الأمة. هذه بيانات ميدانية وليست آراءً خاضعة للخطأ والصواب.
غير أن أقسى ما عرفته هذه الشعوب هو وقوعها ضحية الدياثة السياسية، وهو الفعل الذي مارسته إيران مع جوارها المسلم، تحديداً في أفغانستان والعراق. إن بدا في هذا الوصف قسوة بحق دولة، فليقارن بما هو أصغر. فإذا كان رضا رب البيت دخول أجنبي على أهل بيته واطلاعه على عوراته هو الدياثة الاجتماعية، فماذا يكون من يغوي جيشاً عرفته شعوب الأرض بهمجيته وانحطاطه الخلقي لدخول بلاد مسلمة، ثم يكون دليلاً له في مدنها وقراها وأزقتها، يوقفه على عوراتها ويمكنه من عفافها؟ وبمَ توصف المؤسسة الدينية التي تفتي للجيش الغازي؟
في المقابل، جربت شعوب المنطقة جاراً دخل القرن الواحد والعشرين بقرار عُدّ كارثة سياسية واقتصادية حقيقية، عندما وقف منفرداً في وجه القطب الأوحد، مانعاً جيشه من النزول على أراضيه في طريقه إلى غزو جاره. جربت هذه الشعوب تعفف هذا الجار عن الاصطفاف في طابور الغنائم مع أمم الأرض قبل الغزو، وطابور السلب بعد الغزو، جربت عواطفه مع العرب، وتقديسه للعربية. جربت مجتمعه الذي استقبل الفارين من جحيم الطائفية الإقليمية؛ عربيهم، كرديهم، ومسلمهم، مسيحيهم، سنيهم، شيعيهم، وعاشوا واكتسبوا تحت خيمته الكبيرة. جربت سلعته مقابل السلعة الإيرانية المغشوشة، ودواءه مقابل الدواء الإيراني الفاسد، وحياده مقابل مليشيات الموت التي تمولها إيران، التي استباحت الأموال والأعراض والأنفس في العراق ولبنان واليمن.
رب سؤال نفد صبر سائله: لمن هذا الإطراء وهذه الأوسمة؟ الجواب هو أن التاريخ سيمنح أوسمته إلى شعب هذا الجار مباشرة، إلى ممثليه في البرلمان، الذين تُرك لهم خيار التصويت، فاختارت ضمائرهم الطرف الخاسر في الحرب. وسيمنحها إلى حكومته التي راهنت على هذه الضمائر، وقد كان اليوم الأول من مارس من عام 2003 محطة كبرى في تاريخ هذه المنطقة، وكانت قبة البرلمان التركي هي مسرحها. محطة رسمت خطاً فاصلاً بين القيم البانية لنسيج المنطقة والهادمة لها، وخطاً فاصلاً بين سلوك رب البيت الإقليمي، وسلوك خصم لهذه القيم، يباهي ببيعها وقبض ثمنها مصالح سياسية، ويتربص بالبيت الدوائر.
المؤسف هو أن هذا الوسام لم يصدر حتى هذه اللحظة، ولم تُعرف قواعد الفوز به، كما الحال في مضامير الرياضة، ولم تحذُ شعوب المنطقة حذو الأمم الأخرى التي تخلد العرفان بطرق بسيطة لكنها ذات مغزى بليغ، كالمجسمات التذكارية التي تلتحم فيها أكف أبناء الشعوب التي تحالفت في الصعاب، أو تتعانق فيها الأعلام الوطنية، أو قبعات تصطبغ بألوان الأعلام، أو ربطات عنق، أو دمى أطفال، وكل وسيلة أخرى مما لا تستثني شريحة في المجتمع من مغزى الحدث التاريخي. بهذه الطريقة خلد الأوربيون عرفانهم لحلفائهم الأمريكان بعد الانتصار على النازيين، ومثلهم فعل الفيتناميون مع الكتلة الشيوعية بعد دحرهم أمريكا، وكوبا مع الاتحاد السوفييتي، والأمثلة كثيرة.
ما من شك لو أن الشعوب العربية توفرت لديها ظروف مماثلة للشعب التركي، لعانق قرارها قرار الأتراك، ولا التحمت إرادة الشعبين في أعظم استعراض للمصير الإقليمي المشترك منذ الانشقاق السياسي الإقليمي العربي – التركي قبل 90 عاماً.
إيران وحدها، وشوارعها الخاوية عشية الاحتلال الأمريكي للعراق، هي النشاز في المنطقة، هي التي تحدث كبراؤها بملء الفم من أمثال "الإصلاحي" خاتمي عن لقاء مصالح بين الإيرانيين وبين الأمريكان حول احتلال أفغانستان والعراق.
شعوب المنطقة ترصد سلوك من يصر على أنه "جمهورية إسلامية"، وسلوك من يصر على أنه ليس نظاماً إسلامياً، وترصد الفارق بين أنموذجي مجتمع، واحد منغلق، طائفي وعرقي النكهة، وآخر متاحة فيه فرص النجاح للجميع، لا يجد المقيم بين ظهرانيه ما يشعره بفروقات عرقية أو طائفية.
صراع القيم بين الأنموذجين لم تبدأه إفرازات الزمن المعاصر، بل هو قديم، الجديد فيه هو أن الأتراك ومعهم شعوب النظام الإقليمي العثماني، حسموا سجالهم في الماضي مع الأنموذج الإيراني في ساحات الحرب، بأيدي الفرسان، وعلى ظهور الخيل، بعيداً عن أعين المجتمع. لكن قيم "ولاية الفقيه" تُهزم اليوم بالقوة الناعمة، وسط المدن ومرافقها العامة، في السوق، والصيدلية، والمدرسة، والمؤسسة الدينية، والناس هم الشهود، وهم الحَكَم، فهم الذين عاينوا وعايشوا مشهدين، ووجدوا فيهما مدرستين: واحدة للبناء، وأخرى للهدم.
ربيع الحافظ
قد لا تتعدى اتفاقية التعاون الاقتصادي التي وقعتها تركيا مع دول خليجية بالفعل الجوانب الاقتصادية، ولا تتضمن بنوداً سرية غير التي أعلن عنها، إلا سراً واحداً، وهي أن مآلاتها ستتعدى على أرض الواقع الجوانب الاقتصادية إلى جوانب أخرى.
إذا كان الدين هو أس هذه الحضارة، والمعاملة هي الوجه الآخر للدين، والبيع والشراء هو وجه من أوجه المعاملة، فنحن إذاً أمام معركة أخلاق، محصلتها النهائية هي تآكل قيم، وصعود قيم أخرى، والقاعدة التي تحكم فصول هذه المعركة، والتي يعمل وفقها العقل الإنساني هي: "بضدها تتميز الأشياء".
"الدين المعاملة" هي نظرية الإسلام في علم الاجتماع، لا على مستوى الفرد فقط، وإنما الجمع كذلك، وقد انتشر الإسلام ـ الدين السماوي ـ في بيئة شرق آسيا البوذية، التي لم تألف الشرائع السماوية، على أيدي أناس عاديين خرجوا من أوطانهم ـ اليمن ـ ابتغاء الرزق، لكن طبائعهم وسلوكهم وهيبة مناسكهم كانت آلة دعاية عجزت المعتقدات والدول عن أن تكون مصدات في طريقها، وصادفت الفطرة الإنسانية لتلك الشعوب، فوقع التغيير بأشكاله: السياسي والاجتماعي والروحي، وعلى شاكلة مشابهة انتشر الاسلام على جانبي طريق الحرير الذي كانت تسلكه قوافل التجار في آسيا الوسطى التركية.
إن كان ثمة قضية واحدة توحدت حولها شعوب منطقتنا اليوم، مما أدركتها بحواسها الخمس، وانحفرت في أذهانها، فإنما هي الفارق بين أنموذجين سلوكيين اجتماعيين، يلقيان ظلالاً كثيفة على مسار الحياة فيها؛ أمنها، معايشها، قيمها، نظامها السياسي، هما: الأنموذج الإيراني، والأنموذج التركي.
هذه الشعوب جربت الإسلام الإيراني، والوعد الإيراني، والسياسي الإيراني، ورجل الدين الإيراني، المتشدد، والمعتدل، والمصلح، والمحافظ. وجربت الدواء الإيراني، والغذاء الإيراني، ووجدت أن القاسم الأعظم بين هذه جميعاً هو: المكر، والمكيدة، والمباغتة، والنكاية، والسرقة. وجربت الاغتيالات، والخلايا النائمة، والتزوير، وسرقة النفط وممتلكات الجار، وانتحال الأنساب، وشبكات المخدرات والفاحشة، والطائفية، وبغض العرب والعربية، وتغذية المشاريع الانفصالية، واحتقار سادات الأمة. هذه بيانات ميدانية وليست آراءً خاضعة للخطأ والصواب.
غير أن أقسى ما عرفته هذه الشعوب هو وقوعها ضحية الدياثة السياسية، وهو الفعل الذي مارسته إيران مع جوارها المسلم، تحديداً في أفغانستان والعراق. إن بدا في هذا الوصف قسوة بحق دولة، فليقارن بما هو أصغر. فإذا كان رضا رب البيت دخول أجنبي على أهل بيته واطلاعه على عوراته هو الدياثة الاجتماعية، فماذا يكون من يغوي جيشاً عرفته شعوب الأرض بهمجيته وانحطاطه الخلقي لدخول بلاد مسلمة، ثم يكون دليلاً له في مدنها وقراها وأزقتها، يوقفه على عوراتها ويمكنه من عفافها؟ وبمَ توصف المؤسسة الدينية التي تفتي للجيش الغازي؟
في المقابل، جربت شعوب المنطقة جاراً دخل القرن الواحد والعشرين بقرار عُدّ كارثة سياسية واقتصادية حقيقية، عندما وقف منفرداً في وجه القطب الأوحد، مانعاً جيشه من النزول على أراضيه في طريقه إلى غزو جاره. جربت هذه الشعوب تعفف هذا الجار عن الاصطفاف في طابور الغنائم مع أمم الأرض قبل الغزو، وطابور السلب بعد الغزو، جربت عواطفه مع العرب، وتقديسه للعربية. جربت مجتمعه الذي استقبل الفارين من جحيم الطائفية الإقليمية؛ عربيهم، كرديهم، ومسلمهم، مسيحيهم، سنيهم، شيعيهم، وعاشوا واكتسبوا تحت خيمته الكبيرة. جربت سلعته مقابل السلعة الإيرانية المغشوشة، ودواءه مقابل الدواء الإيراني الفاسد، وحياده مقابل مليشيات الموت التي تمولها إيران، التي استباحت الأموال والأعراض والأنفس في العراق ولبنان واليمن.
رب سؤال نفد صبر سائله: لمن هذا الإطراء وهذه الأوسمة؟ الجواب هو أن التاريخ سيمنح أوسمته إلى شعب هذا الجار مباشرة، إلى ممثليه في البرلمان، الذين تُرك لهم خيار التصويت، فاختارت ضمائرهم الطرف الخاسر في الحرب. وسيمنحها إلى حكومته التي راهنت على هذه الضمائر، وقد كان اليوم الأول من مارس من عام 2003 محطة كبرى في تاريخ هذه المنطقة، وكانت قبة البرلمان التركي هي مسرحها. محطة رسمت خطاً فاصلاً بين القيم البانية لنسيج المنطقة والهادمة لها، وخطاً فاصلاً بين سلوك رب البيت الإقليمي، وسلوك خصم لهذه القيم، يباهي ببيعها وقبض ثمنها مصالح سياسية، ويتربص بالبيت الدوائر.
المؤسف هو أن هذا الوسام لم يصدر حتى هذه اللحظة، ولم تُعرف قواعد الفوز به، كما الحال في مضامير الرياضة، ولم تحذُ شعوب المنطقة حذو الأمم الأخرى التي تخلد العرفان بطرق بسيطة لكنها ذات مغزى بليغ، كالمجسمات التذكارية التي تلتحم فيها أكف أبناء الشعوب التي تحالفت في الصعاب، أو تتعانق فيها الأعلام الوطنية، أو قبعات تصطبغ بألوان الأعلام، أو ربطات عنق، أو دمى أطفال، وكل وسيلة أخرى مما لا تستثني شريحة في المجتمع من مغزى الحدث التاريخي. بهذه الطريقة خلد الأوربيون عرفانهم لحلفائهم الأمريكان بعد الانتصار على النازيين، ومثلهم فعل الفيتناميون مع الكتلة الشيوعية بعد دحرهم أمريكا، وكوبا مع الاتحاد السوفييتي، والأمثلة كثيرة.
ما من شك لو أن الشعوب العربية توفرت لديها ظروف مماثلة للشعب التركي، لعانق قرارها قرار الأتراك، ولا التحمت إرادة الشعبين في أعظم استعراض للمصير الإقليمي المشترك منذ الانشقاق السياسي الإقليمي العربي – التركي قبل 90 عاماً.
إيران وحدها، وشوارعها الخاوية عشية الاحتلال الأمريكي للعراق، هي النشاز في المنطقة، هي التي تحدث كبراؤها بملء الفم من أمثال "الإصلاحي" خاتمي عن لقاء مصالح بين الإيرانيين وبين الأمريكان حول احتلال أفغانستان والعراق.
شعوب المنطقة ترصد سلوك من يصر على أنه "جمهورية إسلامية"، وسلوك من يصر على أنه ليس نظاماً إسلامياً، وترصد الفارق بين أنموذجي مجتمع، واحد منغلق، طائفي وعرقي النكهة، وآخر متاحة فيه فرص النجاح للجميع، لا يجد المقيم بين ظهرانيه ما يشعره بفروقات عرقية أو طائفية.
صراع القيم بين الأنموذجين لم تبدأه إفرازات الزمن المعاصر، بل هو قديم، الجديد فيه هو أن الأتراك ومعهم شعوب النظام الإقليمي العثماني، حسموا سجالهم في الماضي مع الأنموذج الإيراني في ساحات الحرب، بأيدي الفرسان، وعلى ظهور الخيل، بعيداً عن أعين المجتمع. لكن قيم "ولاية الفقيه" تُهزم اليوم بالقوة الناعمة، وسط المدن ومرافقها العامة، في السوق، والصيدلية، والمدرسة، والمؤسسة الدينية، والناس هم الشهود، وهم الحَكَم، فهم الذين عاينوا وعايشوا مشهدين، ووجدوا فيهما مدرستين: واحدة للبناء، وأخرى للهدم.