الزبير الطرابلسي
07-22-2009, 03:15 PM
سئل شيخ الإسلام تقي الدين؛ عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه، وأنهم كفروا بذلك.
فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟
* * *
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين.
أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله.
فلو قالوا؛ "نصلي ولا نزكي".
أو؛ "نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة".
أو؛ "نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم".
أو؛ "لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر".
أو؛ "نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه".
أو؛ "نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة".
أو قالوا؛ "إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين".
أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وما عليه جماعة المسلمين.
فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام.
وذلك لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}، {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله والربا آخر ما حرم الله في القرآن فما حرمه قبله أوكد، وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فسادا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة؛ حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا. وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله.
فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا من هؤلاء، كما أن الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم؛ أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك.
وكذلك المبتدع الذي خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته وأموالهم؛ هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله، كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب، وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه - مع عبادتهم وورعهم - أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وقد قال تعالى في كتابه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة.
وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين.
ففي الصحيحين: عن أبي هريرة قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر؛ كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"؟ فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق ).
فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم.
وهذا الاستنباط من صديق الأمة قد جاء مصرحا به.
ففي الصحيحين: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات.
وهذا مطابق لكتاب الله.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه ذكرها مسلم في صحيحه وأخرج منها البخاري غير وجه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله : (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه).
قال صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)، وفي رواية: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه).
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم بحرورا لما خرجوا عن السنة والجماعة واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين، فقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فاستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل في خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج.
وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا، وكانوا يعملون بالقرآن في زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي يظنون أنها تخالف القرآن، كما يفعله سائر أهل البدع، مع كثرة عبادتهم وورعهم.
وقد ثبت عن علي في صحيح البخاري وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر ثم عمر).
وثبت عنه أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية.
وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري).
وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله، فهرب منه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك، وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل - لما ظن أنه من الخوارج - : (لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك).
فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره؛ قد أمر بعقوبة الشيعة، الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة. فأمر هو وعمر بجلدهم.
والغالية؛ يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية، الذين يقال لهم؛ "بيت صاد"، و "بيت سين"، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم، ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم، فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى.
فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك؛ كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.
ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا، فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين.
فإن كانوا طائفة ممتنعة؛ وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب.
وإذا كانوا في قرى المسلمين؛ فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين.
وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ، وقال؛ إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة، أو أن شيخه أفضل من النبي، أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى، وكل هؤلاء كفار؛ يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم.
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة؛ فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين، فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به.
وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية، وكل من اعتقد في بشر أنه إله، أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين؛ فهو شر من الخوارج الحرورية.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج في حياته، فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان، مثل قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}، وقوله: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، ونحو ذلك، ومثل تعيين النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم بأحكام، لمعان قامت بهم، وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم؛ لأن التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم، هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم.
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم، فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك، والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين.
فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم، ولهذا يكفرون أعلام الملة؛ مثل سعيد بن المسيب وأبي مسلم الخولاني وأويس القرني وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي، ومثل مالك والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء.
ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم؛ مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك، وكما تسميه المعتزلة؛ مذهب الحشو، والعامة، وأهل الحديث.
ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التي عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي.
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور، وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج "جنكيزخان" ملك الكفار إلى بلاد الإسلام، وفي قدوم "هولاكو" إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم، لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم.
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى، وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين، وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم، وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال؛ أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة؛ إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم.
فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين، {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}، و {يحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه}.
وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة، لا سيما السامرة من اليهود، فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف؛ يشبهونهم في دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره، يدعونه وفي اتباع الأهواء، أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم.
ويشبهون النصارى؛ في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك.
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وقال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}.
وليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة - والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة - وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم في طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم؛ لاعتقادهم [أن ذلك] لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم.
ويرون أن المعصوم قد دخل في السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج ولا رآه أحد ولا علم أحدا دينا ولا حصل به فائدة بل مضرة، ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه؛ مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادي أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازي عنهم وصرح بما ذكرناه عنهم وبأكثر منه.
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التي في الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه؛ فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء.
وأكثر محققيهم عندهم؛ يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم ما آمنوا بالله طرفة عين قط، لأن الإيمان الذي يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة.
ومنهم من يرى أن فرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع به عائشة وحفصة لا بد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم، لأن وطء الكوافر حرام عندهم.
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم، مثل أحاديث البخاري ومسلم، ويرون أن شعر شعراء الرافضة، مثل الحميري وكوشيار الديلمي وعمارة اليمني، خيرا من أحاديث البخاري ومسلم، وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
وهم مع هذا يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور ونهى أمته عن ذلك، وقال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك)، ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى أن من مشايخهم من يفضلها على حج البيت الذي أمر الله به ورسوله.
ووصف حالهم يطول.
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج، وهذا هو السبب فيما شاع في العرف العام؛ أن أهل البدع هم الرافضة، فالعامة شاع عندها أن ضد السني هو الرافضي فقط، لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء.
وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذي لا وجود له، فمستند الخوارج خير من مستندهم.
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله.
وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق؛ عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا في إفساد دين النصارى.
وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان في زمن المعتصم مع بابك الخرمي وكانوا يسمون "الخرمية" و "المحمرة" و "القرامطة الباطنية" الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقي معهم مدة، كأبي سعيد الجنابي وأتباعه، والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون إلهية علي والأئمة، ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك.
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار "هولاكو" يقرر أصنامهم.
وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد.
وأما ذكر المستفتي؛ "أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم":
فهذا عين الكذب، بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله، فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعاني التنزيل، وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم، يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم.
فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته، وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون، وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز؛ ما هم أعظم الناس استحلالا له، وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه، وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه، وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه، فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله، وهذا باب يطول وصفه، وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به، وذكر في كتابه من قصص الأنبياء والنهي عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به، وذكر في كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ ما هم كافرون به.
ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة.
ومعلوم قطعا؛ أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم، فإذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما في عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال، فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموال الخوارج.
ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره؛ أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ، كقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها، فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك.
وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ، فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد، وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى، وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء.
ولكن هؤلاء المتفقهة؛ لم يجدوا تحقيق هذه المسائل في مختصراتهم، وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل الجمل وصفين، وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم.
وأيضا؛ فقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم.
مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم الله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية، فليس مني، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها، فليس مني).
فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى، ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب، مثل قيس ويمن، وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه.
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها، فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة؛ يقتلون المؤمن والمعاهد لا يرون لأحد من ولاة المسلمين طاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، إلا لمن لا وجود له، وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب، وهي العصبية للدين الفاسد، فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس في قلب أحد، وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله، مستقدمهم ومستأخرهم، وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر.
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد؛ فهذا أيضا حالهم، مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار.
وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه ستكون هناة وهناة، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان)، وفي لفظ: (فاقتلوه)، وفي لفظ: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها، بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشايخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن بالله ورسوله.
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج، وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة، مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل في الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة، حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة.
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الاجتهاد، بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا، ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها، كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل، فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي، والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج، فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
ثم ظهر في زمن علي التكلم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه.
بل لم يظهر اسم "الرفض" إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة، فسموا "رافضة"، واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم، واتبعه آخرون فسموا "زيدية" نسبة إليه.
ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة، كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم، ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك.
ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات، ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون، فإنه أظهر التجهم وامتحن الناس عليه وعرب كتب الأعاجم، من الروم واليونانيين وغيرهم، وفي زمنه ظهرت "الخرمية؛ وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام، وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية، وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر، وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم.
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله، فهذا كله يبين أن فيهم ما في الخوارج الحرورية وزيادات.
وأيضا فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم ويدعون اتباع السنن التي يزعمون أنها تخالف القرآن، والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت وتزعم أن فيهم المعصوم الذي لا يخفى عليه شيء من العلم ولا يخطئ - لا عمدا ولا سهوا ولا رشدا - واتباع القرآن واجب على الأمة، بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذي بعث به رسوله.
وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبتهم وموالاتهم ورعاية حقهم، وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: (يا أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين)، وفي رواية: (أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله فيه الهدى والنور)، فرغب في كتاب الله، وفي رواية: (هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة؛ آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل.
والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: (والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي).
وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد وطهرهم من الصدقة التي هي أوساخ الناس وجعل لهم حقا في الخمس والفيء.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيح: (إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا).
ولو ذكرنا ما روي في حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة.
ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرءوا من الناصبة الذين يكفرون علي بن أبي طالب ويفسقونه وينتقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق، وتبرءوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة، وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك، كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين، لكن القرآن أعظم.
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض، مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته.
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفي إجماع العترة، هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كليهما حجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، وهذا حديث صحيح في السنن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) [رواه الترمذي وحسنه وفيه نظر].
وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة.
والمقصود هنا؛ أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه، وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته، ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم في معناهم.
فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة").
وفي صحيح مسلم، عن زيد بن وهب؛ أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي: (يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض"، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله...)، وذكر الحديث إلى آخره.
وفي مسلم أيضا؛ عن عبد الله بن رافع كاتب علي رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا؛ "لا حكم إلا لله"، فقال علي: (كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي)، فلما قتلهم علي بن طالب قال: (انظروا)، فنطروا فلم يجدوا شيئا، فقال: (ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كذبت) - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه.
وهذه العلامة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث؛ أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال، وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وأيضا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا.
مثل ما في الصحيحين عن أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية؛ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: (لا أدري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو حلوقهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء من الدم") [اللفظ لمسلم].
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي)، وفي رواية: (أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال؛ اعدل يا رسول الله، فقال؛ "ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل"، قال عمر بن الخطاب؛ ائذن لي فأضرب عنقه، قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم...)، وذكر ما في الحديث.
فهؤلاء أصل ضلالهم؛ اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا، ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية.
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد)، وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون، أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين، لأن المرتد شر من غيره.
وفي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته: (يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق)، قال: (هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)، وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية، لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى، ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر، ورواه مسلم من حديث أبي ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم.
وروى النسائي عن أبي برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: (نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئا، فقام رجل من ورائه فقال؛ يا محمد! ما عدلت في القسمة - رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال له؛ "والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني"، ثم قال؛ "يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة").
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة)، قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم، وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، أي قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة، وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك، لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه.
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك، وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة، وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج - كالحرورية والرافضة ونحوهم -
فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم).
وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
وقال عمر لصبيغ بن عسل: (لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك).
ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ، أول الرافضة، حتى هرب منه.
ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل؛ قتلوا.
ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام، ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا، لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم:
ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم.
والصحيح؛ أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير".
ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال؛ (إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين)، مع شكه في قدرة الله وإعادته، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق؛ أن هذا القول كفر، ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، دون غيره.
والله أعلم
مجموع الفتاوى
ج 28 / ص 468 - 501
فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟
* * *
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين.
أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله.
فلو قالوا؛ "نصلي ولا نزكي".
أو؛ "نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة".
أو؛ "نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم".
أو؛ "لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر".
أو؛ "نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه".
أو؛ "نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة".
أو قالوا؛ "إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين".
أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وما عليه جماعة المسلمين.
فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام.
وذلك لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}، {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله والربا آخر ما حرم الله في القرآن فما حرمه قبله أوكد، وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فسادا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة؛ حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا. وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله.
فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا من هؤلاء، كما أن الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم؛ أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك.
وكذلك المبتدع الذي خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته وأموالهم؛ هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله، كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب، وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه - مع عبادتهم وورعهم - أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وقد قال تعالى في كتابه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة.
وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين.
ففي الصحيحين: عن أبي هريرة قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر؛ كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"؟ فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق ).
فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم.
وهذا الاستنباط من صديق الأمة قد جاء مصرحا به.
ففي الصحيحين: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات.
وهذا مطابق لكتاب الله.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه ذكرها مسلم في صحيحه وأخرج منها البخاري غير وجه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله : (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه).
قال صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)، وفي رواية: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه).
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم بحرورا لما خرجوا عن السنة والجماعة واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين، فقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فاستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل في خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج.
وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا، وكانوا يعملون بالقرآن في زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي يظنون أنها تخالف القرآن، كما يفعله سائر أهل البدع، مع كثرة عبادتهم وورعهم.
وقد ثبت عن علي في صحيح البخاري وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر ثم عمر).
وثبت عنه أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية.
وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري).
وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله، فهرب منه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك، وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل - لما ظن أنه من الخوارج - : (لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك).
فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره؛ قد أمر بعقوبة الشيعة، الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة. فأمر هو وعمر بجلدهم.
والغالية؛ يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية، الذين يقال لهم؛ "بيت صاد"، و "بيت سين"، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم، ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم، فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى.
فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك؛ كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.
ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا، فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين.
فإن كانوا طائفة ممتنعة؛ وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب.
وإذا كانوا في قرى المسلمين؛ فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين.
وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ، وقال؛ إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة، أو أن شيخه أفضل من النبي، أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى، وكل هؤلاء كفار؛ يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم.
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة؛ فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين، فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به.
وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية، وكل من اعتقد في بشر أنه إله، أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين؛ فهو شر من الخوارج الحرورية.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج في حياته، فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان، مثل قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}، وقوله: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، ونحو ذلك، ومثل تعيين النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم بأحكام، لمعان قامت بهم، وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم؛ لأن التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم، هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم.
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم، فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك، والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين.
فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم، ولهذا يكفرون أعلام الملة؛ مثل سعيد بن المسيب وأبي مسلم الخولاني وأويس القرني وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي، ومثل مالك والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء.
ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم؛ مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك، وكما تسميه المعتزلة؛ مذهب الحشو، والعامة، وأهل الحديث.
ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التي عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي.
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور، وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج "جنكيزخان" ملك الكفار إلى بلاد الإسلام، وفي قدوم "هولاكو" إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم، لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم.
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى، وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين، وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم، وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال؛ أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة؛ إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم.
فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين، {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}، و {يحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه}.
وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة، لا سيما السامرة من اليهود، فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف؛ يشبهونهم في دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره، يدعونه وفي اتباع الأهواء، أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم.
ويشبهون النصارى؛ في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك.
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وقال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}.
وليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة - والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة - وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم في طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم؛ لاعتقادهم [أن ذلك] لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم.
ويرون أن المعصوم قد دخل في السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج ولا رآه أحد ولا علم أحدا دينا ولا حصل به فائدة بل مضرة، ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه؛ مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادي أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازي عنهم وصرح بما ذكرناه عنهم وبأكثر منه.
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التي في الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه؛ فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء.
وأكثر محققيهم عندهم؛ يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم ما آمنوا بالله طرفة عين قط، لأن الإيمان الذي يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة.
ومنهم من يرى أن فرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع به عائشة وحفصة لا بد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم، لأن وطء الكوافر حرام عندهم.
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم، مثل أحاديث البخاري ومسلم، ويرون أن شعر شعراء الرافضة، مثل الحميري وكوشيار الديلمي وعمارة اليمني، خيرا من أحاديث البخاري ومسلم، وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
وهم مع هذا يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور ونهى أمته عن ذلك، وقال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك)، ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى أن من مشايخهم من يفضلها على حج البيت الذي أمر الله به ورسوله.
ووصف حالهم يطول.
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج، وهذا هو السبب فيما شاع في العرف العام؛ أن أهل البدع هم الرافضة، فالعامة شاع عندها أن ضد السني هو الرافضي فقط، لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء.
وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذي لا وجود له، فمستند الخوارج خير من مستندهم.
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله.
وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق؛ عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا في إفساد دين النصارى.
وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان في زمن المعتصم مع بابك الخرمي وكانوا يسمون "الخرمية" و "المحمرة" و "القرامطة الباطنية" الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقي معهم مدة، كأبي سعيد الجنابي وأتباعه، والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون إلهية علي والأئمة، ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك.
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار "هولاكو" يقرر أصنامهم.
وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد.
وأما ذكر المستفتي؛ "أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم":
فهذا عين الكذب، بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله، فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعاني التنزيل، وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم، يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم.
فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته، وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون، وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز؛ ما هم أعظم الناس استحلالا له، وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه، وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه، وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه، وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه، فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله، وهذا باب يطول وصفه، وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به، وذكر في كتابه من قصص الأنبياء والنهي عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به، وذكر في كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ ما هم كافرون به.
ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة.
ومعلوم قطعا؛ أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم، فإذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما في عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال، فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموال الخوارج.
ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره؛ أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ، كقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها، فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك.
وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ، فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد، وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى، وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء.
ولكن هؤلاء المتفقهة؛ لم يجدوا تحقيق هذه المسائل في مختصراتهم، وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل الجمل وصفين، وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم.
وأيضا؛ فقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم.
مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم الله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية، فليس مني، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها، فليس مني).
فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى، ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب، مثل قيس ويمن، وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه.
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها، فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة؛ يقتلون المؤمن والمعاهد لا يرون لأحد من ولاة المسلمين طاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، إلا لمن لا وجود له، وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب، وهي العصبية للدين الفاسد، فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس في قلب أحد، وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله، مستقدمهم ومستأخرهم، وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر.
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد؛ فهذا أيضا حالهم، مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار.
وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه ستكون هناة وهناة، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان)، وفي لفظ: (فاقتلوه)، وفي لفظ: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها، بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشايخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن بالله ورسوله.
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج، وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة، مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل في الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة، حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة.
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الاجتهاد، بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا، ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها، كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل، فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي، والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج، فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
ثم ظهر في زمن علي التكلم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه.
بل لم يظهر اسم "الرفض" إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة، فسموا "رافضة"، واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم، واتبعه آخرون فسموا "زيدية" نسبة إليه.
ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة، كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم، ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك.
ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات، ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون، فإنه أظهر التجهم وامتحن الناس عليه وعرب كتب الأعاجم، من الروم واليونانيين وغيرهم، وفي زمنه ظهرت "الخرمية؛ وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام، وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية، وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر، وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم.
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله، فهذا كله يبين أن فيهم ما في الخوارج الحرورية وزيادات.
وأيضا فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم ويدعون اتباع السنن التي يزعمون أنها تخالف القرآن، والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت وتزعم أن فيهم المعصوم الذي لا يخفى عليه شيء من العلم ولا يخطئ - لا عمدا ولا سهوا ولا رشدا - واتباع القرآن واجب على الأمة، بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذي بعث به رسوله.
وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبتهم وموالاتهم ورعاية حقهم، وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: (يا أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين)، وفي رواية: (أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله فيه الهدى والنور)، فرغب في كتاب الله، وفي رواية: (هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة؛ آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل.
والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: (والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي).
وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد وطهرهم من الصدقة التي هي أوساخ الناس وجعل لهم حقا في الخمس والفيء.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيح: (إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا).
ولو ذكرنا ما روي في حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة.
ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرءوا من الناصبة الذين يكفرون علي بن أبي طالب ويفسقونه وينتقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق، وتبرءوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة، وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك، كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين، لكن القرآن أعظم.
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض، مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته.
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفي إجماع العترة، هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كليهما حجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، وهذا حديث صحيح في السنن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) [رواه الترمذي وحسنه وفيه نظر].
وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة.
والمقصود هنا؛ أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه، وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته، ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم في معناهم.
فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة").
وفي صحيح مسلم، عن زيد بن وهب؛ أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي: (يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض"، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله...)، وذكر الحديث إلى آخره.
وفي مسلم أيضا؛ عن عبد الله بن رافع كاتب علي رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا؛ "لا حكم إلا لله"، فقال علي: (كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي)، فلما قتلهم علي بن طالب قال: (انظروا)، فنطروا فلم يجدوا شيئا، فقال: (ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كذبت) - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه.
وهذه العلامة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث؛ أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال، وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وأيضا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا.
مثل ما في الصحيحين عن أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية؛ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: (لا أدري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو حلوقهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء من الدم") [اللفظ لمسلم].
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي)، وفي رواية: (أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال؛ اعدل يا رسول الله، فقال؛ "ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل"، قال عمر بن الخطاب؛ ائذن لي فأضرب عنقه، قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم...)، وذكر ما في الحديث.
فهؤلاء أصل ضلالهم؛ اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا، ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية.
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد)، وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون، أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين، لأن المرتد شر من غيره.
وفي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته: (يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق)، قال: (هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)، وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية، لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى، ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر، ورواه مسلم من حديث أبي ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم.
وروى النسائي عن أبي برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: (نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئا، فقام رجل من ورائه فقال؛ يا محمد! ما عدلت في القسمة - رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال له؛ "والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني"، ثم قال؛ "يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة").
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة)، قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم، وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، أي قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة، وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك، لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه.
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك، وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة، وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج - كالحرورية والرافضة ونحوهم -
فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم).
وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
وقال عمر لصبيغ بن عسل: (لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك).
ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ، أول الرافضة، حتى هرب منه.
ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل؛ قتلوا.
ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام، ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا، لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم:
ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم.
والصحيح؛ أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير".
ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال؛ (إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين)، مع شكه في قدرة الله وإعادته، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق؛ أن هذا القول كفر، ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، دون غيره.
والله أعلم
مجموع الفتاوى
ج 28 / ص 468 - 501