من هناك
07-08-2009, 02:18 PM
شو يا حكيم. جاوب؟ على ما تَرَكَنا زياد الرحباني!
جهاد بزي
كلما حكى رشيد ورفاقه تردد صوت الضحك، في تلك المشاهد التي لن نراها لأن «فيلم أميركي طويل»، مسرحية زياد الرحباني، لم تصوّر.
أقسى مفارقة في المسرحية تكمن في أنها لم تصوّر. لو أنها كانت مرئية، لأسقطنا عنها بعضاً من آنيتها. لرأينا الممرضات بتبرج وثياب وشعر يعود إلى العام 1980. لرأينا الرفيق الرحباني ومن معه في شبابهم. لكنّا احتفظنا ببعض منها في زمنه. لكن لا.
جيل شكل الرحباني بداية وعيه إلى لبنان. جيل لم يجلس إلى مقاعد مسرحه الثمانيني استمع إلى المسرحيات كمن يستمع إلى الأغنيات. لا يضجر منها. وحين يقع واحد منه على مسرحية للرحباني على الراديو، فلن يسترجع حنيناً. لن يتذكر أمراً مضى. سيسقط المسرحية القديمة على زمانه الحالي، ويستغرب عبقرية الفنان الشيوعي، إذ يصيب إلى هذه الدرجة في تنبؤ المستقبل.
لكن الرحباني لم يكن يتنبأ في الفيلم الأميركي الطويل. لم يكن في باله انه يكتب وصولاً إلى العام 2009. هو نقل صورة مجتمع في لحظته حينها. حفظ صورتنا في العام 1980. بعد تسعة وعشرين عاماً، نقف أمام تلك الصورة ونرى أننا ما زلنا كما كنا. كما كنا. هل مر الزمان علينا؟ الأرجح أن لا. مرور الزمن يغيّر. نحن على ما تركنا زياد الرحباني. في استنتاج بديهي كهذا كآبة لا تطاق.
ما هي المؤامرة؟ ومن الذي يستغل الآخر، الزعماء أم الشعب؟ من في الخندق؟ وضد من؟ لماذا المسيحيون (والمسلمون على تلاوينهم المعقدة) خائفون يا أختي؟
ولننتبه، لربما حدث شيء ما فجأة. وفي تشييع رجل قُتل ثلاثة..
العبارات التي خلُدت في لغتنا اليومية، تحولت كليشيهات. المسرحية كذلك. المسرحية كليشيه حياتنا الطويل الممل الساحق. أن نعيش مضمون اليوم نفسه طوال تسعة وعشرين عاماً. أن نأتي جيلا بعد جيل، فنستنسخ أنفسنا، زعماء وشعباً. نستنسخ عبارات نقلها الرحباني في معرض انتقادنا والسخرية منا. أن نظل نقول ما كتب إلى الأبد. فيلم طويل كلما انتهينا من تمثيله، نعيد أداء الأدوار من البداية. أي غضب؟
مستشفى مضطرب وعنيف. أي ليل كان يحل فيه حين يغني سكانه «قوم فوت نام، وصير حلام إنو بلدنا صارت بلد؟». ليل يشبه ليالينا المتكررة بعد ابتهاج بالرصاص قاتل، أو ابتهاج بتبادل الرصاص قاتل. لبيروت، المدينة، المستشفى، نموذج لبنان الصغير، لهذه البيروت ذاكرة قاسية لا ترحم. ونحن، إذ نذكّرها بليالي القتل، فإنها فجأة تستعيد سير رعبها. تخلو الشوارع فتصير أضيق. لا تعود توصل إلى مكان، كأن وجهاتها تتغير. كأن المدينة، إذ تخاف، تطوي نفسها على نفسها وتتكوم في جسدها. لا تعود الشوارع تدلّ إلى الشوارع. لا تعود تصل وحدها إلى البحر. البحر نفسه يتبدد. بحر بيروت ليس ماء مالحاً. بحرها رغبة رقيقة لحظوية، رصاصة واحدة تبددها. وفي أيام حربية مرت وأخرى آتية، يبتلع خوف المدينة بحرها. تموت بيروت بلا البحر. كلما تناوشنا وتقاتلنا وانتخبنا وكلفنا وخطبنا وغضبنا وحزنّا وحقدنا وفرحنا وهزمنا وانتصرنا، كلما تنفسنا عنفنا المكبوت فينا، تلاشى البحر وخسرت المدينة روحها. وهي إذ تعود في الصباح، فليس لأنها طائر أسطوري، بل لأنها، مثلنا ومثل البحر، اعتادت الموت مساء، والقيام من الموت مرهقة في الصباح، كأن الموت والقيام منه هما لعنة الرب الأولى السرمدية عليها.
كيف وصل مرضى المستشفى إليه؟ كم مرة في اليوم يرغب الواحد في الوقوف في الشارع وقطع السير والصراخ؟ لا أحد يفهم ما الذي يحدث حوله. شعبان فُرّغا من أي مقاومة داخلية، من أي قدرة على سؤال الذات وسؤال الزعيمين المتواجهين، متعددي الرؤوس. الزعيمان هذان، برؤوسهما العديدة، لا يبدوان أكثر دراية وذكاء من شعبيهما. الزعيم نسخة طبق الأصل عن شعبه. لا يعرف «شي من شي» هو الآخر. ويتصرف بدافع خوفه وقلقه وحقده. زعيم انفعالي من شعب انفعالي. لا يخدع ناسه. يظن أنه حقاً يحميهم من كل مكروه. «كما تكونون؟» هذا هو الكليشيه الملائم.
لسنا مثل رشيد ورفاقه. أولئك «مجانين»، مع التحفظ على النعت. نحن عاقلون. دعونا إذاً نتفكر قليلاً، وبهدوء، في حالنا.
كيف يكون السابع من أيار مجيداً وحزيناً ومؤلماً في آن؟ كيف نكون كلنا تحت سماء لبنان، التي ما دامت زرقاء، فإننا لن ننسى السابع من أيار؟ بأي سهولة أريق الدم، ويراق؟ لماذا لا يعيدنا هذا السلاح السهل والقتل السهل، في أيدي الجميع، إلى تذكر الأيام المودية إلى الحرب الأهلية؟ لماذا علينا أن نتفاءل بأن الفتنة لن تقع، ما دمنا نحقن الدم في عيوننا إذا نظرنا إلى خصمنا؟ كيف ننتظر التقاء السين بالسين؟ والشين بالسين؟ والميم بالدال؟ وكيف لن تعود هذه الحروف تحيلنا إلى التفكير في أسماء الطوائف ودلالاتها؟ وأي سياق تاريخي للبنان يقول إن حياده في الصراع مع إسرائيل سيكون في صالحه؟ وأي سياق تاريخي آخر للبنان سيقول إن هذه الدولة المقيتة ستقلع عن الاعتداء علينا بكامل وحشيتها؟ وكيف سنحل معضلاتنا المتراكمة؟ ما الذي خرجنا به من الدوحة؟ هدنة أم اتفاق أم رئيس توافقي؟ ما معنى رئيس توافقي؟ وفق أي خطة يختلفون ويصعّدون ويتفقون ثم يختلفون ويصعّدون ويتفقون؟ أي مواصفات سيحتاجها الرئيس الجديد عند نهاية ولاية الرئيس التوافقي الحالي؟ أي فخر ديموقراطي حصدناه بأن مر نهار الانتخابات من دون نقطة دم واحدة؟ لماذا نضيف كلمة العدد، واحدة، ما دمنا نحكي عن نقطة دم؟ أي لغو نعيش فيه؟
شو يا حكيم. جاوب. ليش ما بتجاوب؟
العبارة المقتبسة من المسرحية قد تصلح خاتمة منطقية لسياق نص كهذا. فلتكن إذاً. ما دمنا نعشق الواقع الذي حفظه لنا زياد الرحباني كما هو، قبل تسعة وعشرين عاماً، وكنّا أمينين على عدم المس به.
لم يكن في فيلم أميركي طويل من هو مريض بحب الجثث. لكن نحن كذلك. نحن مرضى بحب جثة واقعنا. إسألوا بيروت التي تعاني لعنة الموت والقيام منه. إسألوها عن جثث أفكارنا ولغتنا. إسألوها عن جثثنا التي تدب كل صباح في شوارعها. إسألوها عن كل ليل نعود فيه إلى صناديق عمرنا منهكين محبطين حاقدين خائفين. إسألوها عن تحللنا الليلي. إسألوها عن رائحة عنفنا إذ تفوح في الهواء.
جهاد بزي
كلما حكى رشيد ورفاقه تردد صوت الضحك، في تلك المشاهد التي لن نراها لأن «فيلم أميركي طويل»، مسرحية زياد الرحباني، لم تصوّر.
أقسى مفارقة في المسرحية تكمن في أنها لم تصوّر. لو أنها كانت مرئية، لأسقطنا عنها بعضاً من آنيتها. لرأينا الممرضات بتبرج وثياب وشعر يعود إلى العام 1980. لرأينا الرفيق الرحباني ومن معه في شبابهم. لكنّا احتفظنا ببعض منها في زمنه. لكن لا.
جيل شكل الرحباني بداية وعيه إلى لبنان. جيل لم يجلس إلى مقاعد مسرحه الثمانيني استمع إلى المسرحيات كمن يستمع إلى الأغنيات. لا يضجر منها. وحين يقع واحد منه على مسرحية للرحباني على الراديو، فلن يسترجع حنيناً. لن يتذكر أمراً مضى. سيسقط المسرحية القديمة على زمانه الحالي، ويستغرب عبقرية الفنان الشيوعي، إذ يصيب إلى هذه الدرجة في تنبؤ المستقبل.
لكن الرحباني لم يكن يتنبأ في الفيلم الأميركي الطويل. لم يكن في باله انه يكتب وصولاً إلى العام 2009. هو نقل صورة مجتمع في لحظته حينها. حفظ صورتنا في العام 1980. بعد تسعة وعشرين عاماً، نقف أمام تلك الصورة ونرى أننا ما زلنا كما كنا. كما كنا. هل مر الزمان علينا؟ الأرجح أن لا. مرور الزمن يغيّر. نحن على ما تركنا زياد الرحباني. في استنتاج بديهي كهذا كآبة لا تطاق.
ما هي المؤامرة؟ ومن الذي يستغل الآخر، الزعماء أم الشعب؟ من في الخندق؟ وضد من؟ لماذا المسيحيون (والمسلمون على تلاوينهم المعقدة) خائفون يا أختي؟
ولننتبه، لربما حدث شيء ما فجأة. وفي تشييع رجل قُتل ثلاثة..
العبارات التي خلُدت في لغتنا اليومية، تحولت كليشيهات. المسرحية كذلك. المسرحية كليشيه حياتنا الطويل الممل الساحق. أن نعيش مضمون اليوم نفسه طوال تسعة وعشرين عاماً. أن نأتي جيلا بعد جيل، فنستنسخ أنفسنا، زعماء وشعباً. نستنسخ عبارات نقلها الرحباني في معرض انتقادنا والسخرية منا. أن نظل نقول ما كتب إلى الأبد. فيلم طويل كلما انتهينا من تمثيله، نعيد أداء الأدوار من البداية. أي غضب؟
مستشفى مضطرب وعنيف. أي ليل كان يحل فيه حين يغني سكانه «قوم فوت نام، وصير حلام إنو بلدنا صارت بلد؟». ليل يشبه ليالينا المتكررة بعد ابتهاج بالرصاص قاتل، أو ابتهاج بتبادل الرصاص قاتل. لبيروت، المدينة، المستشفى، نموذج لبنان الصغير، لهذه البيروت ذاكرة قاسية لا ترحم. ونحن، إذ نذكّرها بليالي القتل، فإنها فجأة تستعيد سير رعبها. تخلو الشوارع فتصير أضيق. لا تعود توصل إلى مكان، كأن وجهاتها تتغير. كأن المدينة، إذ تخاف، تطوي نفسها على نفسها وتتكوم في جسدها. لا تعود الشوارع تدلّ إلى الشوارع. لا تعود تصل وحدها إلى البحر. البحر نفسه يتبدد. بحر بيروت ليس ماء مالحاً. بحرها رغبة رقيقة لحظوية، رصاصة واحدة تبددها. وفي أيام حربية مرت وأخرى آتية، يبتلع خوف المدينة بحرها. تموت بيروت بلا البحر. كلما تناوشنا وتقاتلنا وانتخبنا وكلفنا وخطبنا وغضبنا وحزنّا وحقدنا وفرحنا وهزمنا وانتصرنا، كلما تنفسنا عنفنا المكبوت فينا، تلاشى البحر وخسرت المدينة روحها. وهي إذ تعود في الصباح، فليس لأنها طائر أسطوري، بل لأنها، مثلنا ومثل البحر، اعتادت الموت مساء، والقيام من الموت مرهقة في الصباح، كأن الموت والقيام منه هما لعنة الرب الأولى السرمدية عليها.
كيف وصل مرضى المستشفى إليه؟ كم مرة في اليوم يرغب الواحد في الوقوف في الشارع وقطع السير والصراخ؟ لا أحد يفهم ما الذي يحدث حوله. شعبان فُرّغا من أي مقاومة داخلية، من أي قدرة على سؤال الذات وسؤال الزعيمين المتواجهين، متعددي الرؤوس. الزعيمان هذان، برؤوسهما العديدة، لا يبدوان أكثر دراية وذكاء من شعبيهما. الزعيم نسخة طبق الأصل عن شعبه. لا يعرف «شي من شي» هو الآخر. ويتصرف بدافع خوفه وقلقه وحقده. زعيم انفعالي من شعب انفعالي. لا يخدع ناسه. يظن أنه حقاً يحميهم من كل مكروه. «كما تكونون؟» هذا هو الكليشيه الملائم.
لسنا مثل رشيد ورفاقه. أولئك «مجانين»، مع التحفظ على النعت. نحن عاقلون. دعونا إذاً نتفكر قليلاً، وبهدوء، في حالنا.
كيف يكون السابع من أيار مجيداً وحزيناً ومؤلماً في آن؟ كيف نكون كلنا تحت سماء لبنان، التي ما دامت زرقاء، فإننا لن ننسى السابع من أيار؟ بأي سهولة أريق الدم، ويراق؟ لماذا لا يعيدنا هذا السلاح السهل والقتل السهل، في أيدي الجميع، إلى تذكر الأيام المودية إلى الحرب الأهلية؟ لماذا علينا أن نتفاءل بأن الفتنة لن تقع، ما دمنا نحقن الدم في عيوننا إذا نظرنا إلى خصمنا؟ كيف ننتظر التقاء السين بالسين؟ والشين بالسين؟ والميم بالدال؟ وكيف لن تعود هذه الحروف تحيلنا إلى التفكير في أسماء الطوائف ودلالاتها؟ وأي سياق تاريخي للبنان يقول إن حياده في الصراع مع إسرائيل سيكون في صالحه؟ وأي سياق تاريخي آخر للبنان سيقول إن هذه الدولة المقيتة ستقلع عن الاعتداء علينا بكامل وحشيتها؟ وكيف سنحل معضلاتنا المتراكمة؟ ما الذي خرجنا به من الدوحة؟ هدنة أم اتفاق أم رئيس توافقي؟ ما معنى رئيس توافقي؟ وفق أي خطة يختلفون ويصعّدون ويتفقون ثم يختلفون ويصعّدون ويتفقون؟ أي مواصفات سيحتاجها الرئيس الجديد عند نهاية ولاية الرئيس التوافقي الحالي؟ أي فخر ديموقراطي حصدناه بأن مر نهار الانتخابات من دون نقطة دم واحدة؟ لماذا نضيف كلمة العدد، واحدة، ما دمنا نحكي عن نقطة دم؟ أي لغو نعيش فيه؟
شو يا حكيم. جاوب. ليش ما بتجاوب؟
العبارة المقتبسة من المسرحية قد تصلح خاتمة منطقية لسياق نص كهذا. فلتكن إذاً. ما دمنا نعشق الواقع الذي حفظه لنا زياد الرحباني كما هو، قبل تسعة وعشرين عاماً، وكنّا أمينين على عدم المس به.
لم يكن في فيلم أميركي طويل من هو مريض بحب الجثث. لكن نحن كذلك. نحن مرضى بحب جثة واقعنا. إسألوا بيروت التي تعاني لعنة الموت والقيام منه. إسألوها عن جثث أفكارنا ولغتنا. إسألوها عن جثثنا التي تدب كل صباح في شوارعها. إسألوها عن كل ليل نعود فيه إلى صناديق عمرنا منهكين محبطين حاقدين خائفين. إسألوها عن تحللنا الليلي. إسألوها عن رائحة عنفنا إذ تفوح في الهواء.