أبو يونس العباسي
05-04-2009, 02:51 PM
تطيير الغبار ودحض الالتباس عن شبهات فقهاء حماس
في ترك تحكيم شريعة رب الناس
أبو يونس العباسي
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل , بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى , ويصبرون منهم على الأذى , يحيون بكتاب الله الموتى , ويبصرون بنور الله أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه , وكم من ضال تائه قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم , ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين , الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة , فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب , يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم , يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين , وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا وبعد ....
سبب المقال
عقد مجلس الطلاب في الجامعة الإسلامية لقاءً حضرته إذاعة الأقصى تحت عنوان :"لماذا لا تطبق حماس الشريعة؟" , ودُعي طلاب الجامعة لحضوره , وقام المجلس باستضافة اثنين من فقهاء حركة حماس , ألا وهما : الدكتور مازن هنية , والدكتور وائل الزرد , فقالوا قولا عجبًا , لبّسوا في أقوالهم هذه الحق بالباطل , والهدى بالضلال , فكان لا بد من دفع شبههم , ودحض اللّبس الذي أحدثوه , فكان هذا هو السبب في كتابة هذا المقال , والذي أسميته بـ:"تطيير الغبار ودحض الالتباس عن شبهات فقهاء حماس
في ترك تحكيم شريعة رب الناس "وسأبتدئ مقالي هذا بالرد على الدكتور الزرد لأنه أول من تكلم , ثم أُتبعه بالرد على الدكتور هنية , سائلاً الله تعالى التوفيق والرشاد , وحسن الخاتمة والجنة يوم المعاد .
كمالية الشريعة وشمولية المطالبة بتحكيمها
لا بد من القول بادئ ذي بدئ : إن مطالبتنا بتحكيم الشريعة ليست مطالبة لتطبيق الحدود فقط , بل لتطبيق المنهج الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم - من عند ربه , وفي جميع مجالات الحياة وجوانبها , لأن من الأسس العقدية التي بد أن يعرفها كل مسلم , أن دين الله شامل كامل صالح للفصل في جميع مشكلات الحياة ونوازلها , قال الله تعالى :"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) "(المائدة) , وقال أيضا :" وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)"(النحل) , وقال أيضا:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)"(النساء) , قال ابن القيم رحمه الله :"إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به , ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه , ولا رأي ولا منام ولا كشوف , وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره , فقال :" أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)"( العنكبوت) , ولقد افترى علينا الدكتور الزرد تلميحًا لا تصريحا , بأننا نفهم تطبيق الشريعة بأنه تطبيق الحدود وحسب , وهذا ليس صحيحًا , ولكنّ تطبيق الحدود عندنا جزء من الشريعة التي نطالب بتطبيقها حالا لا مآلا , ولكن لماذا يدندن بعض الشباب الموحد المجاهد حول تطبيق الحدود أكثر من غيرها ؟ , والجواب : لأن الحدود أبرز المعالم الظاهرة لتطبيق الشريعة , ولأن ترك تطبيقها يضر بالضروريات الخمسة التي يحتاج إليها كل إنسان , والتي جاءت الشريعة داعيةً للحفاظ عليه والاهتمام بها , محرمةً للاعتداء عليها , معاقبةً على ذلك بالحدود والقصاص , وهذه الضروريات هي : حفظ الدين وعقوبة الخروج منه القتل , فإن كان انحرافا ظاهرا دون الخروج منه فعقوبة تعزيرية , يحددها ولي أمر المسلمين , وحفظ النفس وعقوبة الاعتداء عليها القصاص , وحفظ العقل وعقوبة الاعتداء عليه الجلد ثمانين جلدة وهو ما يسمى بحد شرب الخمر , ويقاس عليه غيره من المسكرات , وحفظ النسل والعرض , وعقوبة الاعتداء عليه الجلد ثمانين جلدة أيضا , وهو ما يسمى بحد القذف , وحفظ المال , وعقوبة الاعتداء عليه القطع , وهو ما يسمى بحد السرقة , ومن هذه النظرة تنبع خطورة ترك حكومة حماس لتطبيق الشريعة على وجه العموم , والحدود على وجه الخصوص .
أليس هذا من تطبيق الأحكام الشرعية؟!!!
كان هذا التساؤل من التساؤلات التي ذكرها الدكتور الزرد في أثناء كلامه وتسويغه لحكومة حركته تركَ تحكيم الشريعة , وهذا التساؤل يُضادُّ الفكرة التي أسسها أولا , وهي أنه لا بد من تطبيق الشريعة كاملة , لأن صيغة تسائله تفيد بأن حكومة حركته تطبق البعض ولا تطبق البعض الآخر , وهذ خلل كبير , إذ لا بد من تطبيق الكل , قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)"(البفرة) , وقال أيضا :" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)"(البقرة) , وكان مما ذكره الزرد من الأحكام الشرعية التي تطبقها حماس :"الجهاد والاستشهاد , والحسم العسكري والثبات في وجه مسلسلات التنازلات , ومطاردة المخدرات والدعارة , وإعلام الحركة مسموعًا كان أم مرئيًا أم مقروءًا , ونشر الفضيلة , والمؤسسات الخيرية , والجامعة الإسلامية ....إلخ " فأقول أولا: إن جل ما ذكره الدكتور كانت حماس تعمل به قبل أن تكون حكومة , ونحن ما طالبناها بتحكيم الشريعة على الناس إلا بعد أن أصبحت حكومة , بل حكومة مستقلة بذاتها .
ثانيا : إن قول الدكتور :"وثبتت في وجه مسلسلات التنازلات" , ويقصد بذلك رفض الحكومة الاعتراف باليهود ودولتهم , فهذا وحتى يعلم الجميع ثبات مبني على أسس وطنية لا على أسس شرعية , وإلا فالتنازلات الشرعية التي وقعت فيه الحركة والحكومة على حد سواء لا حصر لها , وأكبر التنازلات ترك تحكيم الشريعة الإسلامية , والتبرؤ من النوايا الرامية لإقامة إمارة إسلامية , مع الرفع المستمر والمتواصل للشعارات الديمقراطية والافتخار بالانتساب إليها , والاحتجاج بالقوانين الوضعية والدفاع عنها وتبجيل قضاتها وإكرامهم , وإنشاء الجامعات التي تدرس هذه القوانين , لتخرج القانونيين الوضعيين , ومن الأمثلة على هذه الجامعات : جامعة الأمة , وكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية .
ثالثًا : وأما ما يتعلق بمطاردة المخدرات والدعارة , فإن كل حكومات الأرض تحارب ذلك , وإن كان في الظاهر , وحكومة فتح على وجه التحديد كانت تحارب ذلك , ومحاربتكم لهذه الأمور محاربة مستندة للقانون الوضعي لا للشريعة الربانية , وإلا فهل تعاقبون اللص بقطع يده , أم حسب المادة 232 من الدستور الفرنسي , والتي تنص على التالي:" يعمل اللص على إعادة المسروق ويعاقب بالسجن على قدر قيمة السرقة" , وهل تعاقبون الزاني بالجلد أو الرجم , أم أنه يسجن لمدة معينة إلى أن تحل القضية بالتنازل من الطرفين , بالإضافة إلى أن هناك منكرات كثيرة في المجتمع من تبرج وسفور وحفلات ماجنة ومطاعم هابطة , وبنوك تحارب الله ورسوله , وغيرها الكثيرُ الكثير من المنكرات , فلماذا لا تحاربون هذه المنكرات كما تحاربون الدعارة والمخدرات ؟!!! والجواب : لأن ما ذكرتُ من منكرات تجرُّمها وتحرمها الشريعة الإسلامية ولا يجرمها القانون , وما لا يجرمه القانون ليس عندكم بمحرم ولا مجرم , ولا تسعون لتغييره والقضاء عليه , والبت فيه بما يرضي الله ويفرح المؤمنين .
رابعًا: وسأفرض أنكم فعلتم كل أوجه الخير , ثم لم تتحاكموا إلى الشريعة , بل تحاكمتم إلى القانون الوضعي , فما هو حكم الله في أمثالكم ؟ فأقول : لقد كان التتار ممن أسلموا ... يصلون ويصومون ويحجون , ويفعلون كثيرا من الطاعات , إلا أنهم كانوا لا يتحاكمون إلى الشريعة بل إلى الياسق , وهو مجموعة من الأحكام المستقاة من التوراة والإنجيل والقرآن وتوجيهات هولاكو وتعليماته , فهل أغنت عنهم أعمال الخير كلها لما حكموا الياسق وتحاكموا إليه , وأعرضوا عن منهج الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ؟!!! لا والله ... بل كفرهم العلماء وأجمعوا على تكفيرهم قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى :" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير , الناهي عن كل شر , وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله , كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم , وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان , الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها , وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه , فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله , فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير , قال تعالى : "أفحكم الجاهلية يبغون " , أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين , وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها , فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شي " , وقال في البداية والنهاية :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الانبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين."
الضغوط العالمية والعداء الدولي وأثره على ترك تحكيم الشريعة
وكان مما استدل به الدكتور الزرد وسوغ به ترك تحكيم حكومته للشريعة , أنها لو حكمت الشريعة فسيحصل ما لا يحمد عقباه , فأقول : ومتى كان الملتزم بمنهج الله في منأىً عن معاداة العالم وضغوطه , أخرج البخاري من حديث عائشة أن ورقة بن نوفل قال للرسول – صلى الله عليه وسلم - :"ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي" , وعند ابن حبان من حديث أبي هريرة أن رجلا جاء إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقال له : إني أحبك , فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم -:"إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه" , ولن يرضي المشركون عن مسلم مهما قال ومهما فعل , حتى يصير مثيلا لهم في شركهم وكفرهم , قال الله تعالى :"وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)"(البقرة) , ولقد حوصر الرسول – صلى الله عليه وسلم - في شعب بني طالب ثلاث سنين , حتى أكل هو وأصحابه ورق الشجر وكلأ الأرض , فهل سوغ هذا الحصار للرسول – صلى الله عليه وسلم - التنازل عن شيء مما أوحاه إليه الله ؟ وحوصر كذلك هو وأصحابه في المدينة في معركة الأحزاب , فهل دفعه هذا الحصار أن يتنازل للكافرين عن شيء من هذا الدين ؟ لا والله ... بل إن الابتلاء زاده – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقينًا وثباتًا على ما هم عليه , قال الله تعالى :" وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)"(الأحزاب) , في الحين ذاته ... كان موقف المنافقين ما قاله الله عنهم :" وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)"(الأحزاب) , ثم دعونا نتساءل ... من الذي أمرنا بتحكيم الشريعة ؟ أليس هو الله ؟ فلا يجوز إذًا أن نخاف من أحد إذا ما طبقناها , لأن الذي أمرنا بتطبيقها سيدافع عنا ولن يسلمنا لعدونا إذا ما قاتلونا وحاربونا , قال الله تعالى :"إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) "(الحج) , وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال فيما يرويه عن ربه :"منْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه" , وهنا لا بد أن ننتبه إلى أننا إن جعلنا العداء والضغط الدولي مسوغًا لنا لترك تحكيم الشريعة وتحكيم القانون الوضعي , فقد شابهنا كفار قريش وتساوينا معهم , فوالله ما امتنع القرشيون عن الإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم - إلا خوفا من بطش العالم , وضنا وبخلاً وإيثارا منهم لدنياهم على آخرتهم , لأنهم ظنُّوا أن الالتزام بالدين معناه ضياع الدنيا , وأخطئوا ورب الكعبة , فإن الالتزام بالدين هو سر العزة ... قال الله تعالى :"وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)"(القصص) , والمنافقون ما التزموا بمنهج محمد – صلى الله عليه وسلم - إلا خوفا على أنفسهم من أن تدور عليهم الدوائر , قال الله تعالى :" فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) "(المائدة) , ولكن بقي أن نقول بأن هناك أمور شرعية لا تطبقها حماس , ولا تحتاج إلى انتظار تطبيق الشريعة للشروع في تنفيذها , فما هي علاقة وجود البنوك الربوية في غزة بانتظار تطبيق الشريعة والتي لا تحتاج إزالتها إلا لقرار سياسي ؟!!! فتجدهم بدلا من ذلك يضعون الجيبات والحراسات لحمايتها والويل والثبور لمن فكر بالاقتراب منها , وما علاقة وجود الجامعات المختلطة في غزة بانتظار تطبيق الشريعة ؟!!! وما علاقة وجود الجمعيات التبشيرية في غزة بانتظار تطبيق الشريعة ؟!!! , وهناك الكثير من الأمور التي وقعت بها حماس قبل الانتخابات وما زالت عليها , ومنها ما هو بدع مستحدثة جعلوها كسنة مؤكدة بين الناس من البسطاء , فسَنُّوا حفلات التأبين وتخليد الذكرى , والصور المعلقة المكبرة والمصغرة للقتلى نحسبهم والله حسيبهم شهداء , واستحلال الطبول والمعازف في أغانيهم , وأدخلوا البدع على الجنازات , بل وصل الأمر لاستغلال تشييع الشهداء نحسبهم كذلك للدعايات الانتخابية , وبدع في المآتم , فتجد الميتم عبارة عن حفلة تنظيمية, أو دعاية انتخابية , أو مهرجان تدشن خلاله الأغاني المصحوبة بالموسيقى , وبدع أخرى في المساجد هي أشد خطورة من سابقاتها , فتجد المسجد عبارة عن لوحة إعلانات لحماس وغيرها ,والأدهى ... أنهم يعلقون صور ذوات الأرواح , وتجد المسجد مليء برايات الحركة كدلالة وعلامة على سيطرتهم على هذا المسجد , قال تعالى:" وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) "(الجن) , وتجد شبابهم قد خففوا اللحية بل وحلقوها , وتباهوا بالكرافة واستحقروا اللباس الشرعي , إلا من رحم ربي , وهناك الكثير من البدع التي لا يتسع المقام لذكرها أدخلوها كسنة مؤكدة على عوام الناس , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ضابط التمكين من عدمه وأثره في ترك تحكيم الشريعة
ومن المسوغات التي ادعاها الزرد في ترك حكومته لتحكيم الشريعة , أنها غير ممكنة , وزعم أن تطبيق الشريعة يحتاج إلى تمكين , واستدل بقوله تعالى :" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)"0(الحج) , فأردُّ على هذا الكلام بالتالي : أولًا : قد يكون عدم التمكين والاستضعاف مسوغا لترك تحكيم الشريعة على جمهور المسلمين , ولكن هل يصح أن يكون مبررا لتحكيم القانون الوضعي والاحتجاج به والذود عنه وفتح الجامعات التي تدرسه وتنصيب القضاة الذين يحكمون به وإعطاؤهم المرتبات الجنونية على ذلك ؟
ثانياًََ: ادعاء الدكتور بأن حكومته غير ممكنة زعم لا حقيقة له على الإطلاق , وإلا فليفسر لي الدكتور ما معنى أن يكون في غزة حكومة مستقلة , ووزارات , وأجهزة أمنية , ومرتبات ومكافئات ومجالس قضاء وضعي إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ... إلخ ؟ , وأما الاحتجاج بالحصار فإنه لا ينفي التمكين ولا يضاده , فالرسول – صلى الله عليه وسلم - حوصر في المدينة , ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يقول بأنه غير ممكن , وصدام حوصر ثلاثة عشر سنة على يد الأمريكان , ولم يقل أحد بأنه غير ممكن , والطالبان حوصرت ولم يقل عنها أحد بأنها غير ممكنة , بل كانت تطبق الشريعة وهدمت صنم بوذا ذلك الصنم الذي كان يعبده الملايين من دون الله وذلك أثناء الحصار المفروض عليهم من أمريكا , وحكومات العرب تحيط بها ضغوطات العالم الغربي وفي شتى المجالات كما يحيط السوار بمعصم اليد , وهي لا تملك من أمرها شيئا , فهل يصح أن نقول عنها بأنها غير ممكنة ؟ , وهل تعذرها يا دكتور في تركها لتحكيم الشريعة ؟ ولقد قال أبو مازن – عليه من الله ما يستحق – لوفد زاره من مدعي السلفية وأنصار الطواغيت , بعد أن راجعوه في قضية تطبيق الشرع , قال لهم :" إنني أود تطبيق الشريعة , ولكن أنتم ترون الواقع العالمي والضغط الدولي" , وهنا لأي واحد أن يتساءل : ما هو الفرق بينكم وبين عباس في هذه القضية ؟ وقد كفر الدكتور هنية عباس في نفس هذا اللقاء لأنه ترك تحكيم الشرع المطهر.
رابعًا: أتعجب من هذا الدكتور وهو يدعي بأن حماس غير ممكنة , وهي من خرجت علينا بعد انسحاب اليهود من غزة تقول لنا : بأيدينا صنعنا النصر , والمقاومة تنتصر والعدو يندحر , فهل من يدحر الاحتلال ويخرجه من غزة العزة غير ممكن ؟!!! , ثم دخلت حماس وولجت العملية الانتخابية الشركية وفازت وشكلت حكومة , فهل من يشكل حكومة غير ممكن ؟!!! , ثم خاضت حماس مع العلمانية معركة شرسة , فانتصرت وخلص لها الحكم في غزة , فهل من يفعل هذا غير ممكن ؟!!! ثم حاول زنادقة العلمانية ومن بعدهم اليهود مرة بعد مرة القضاء على حماس وكسر شوكتها وإبادة خضرائها , فما أفلحوا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاًَ , فهل من يُفشِلُ الخطط الانقلابية ويصد الاجتياحات اليهودية عن غزة مرة تتلوها مرة يصح أن نقول عنه بأنه غير ممكن ؟!!! , يا دكتور ... إذا كانت حماس غير ممكنة , فدول العرب كلها ليست ممكنة , لأن حماس نجحت عسكريا في فترة حكمها في صد اليهود عن غزة , فيما لم تنجح بذلك دول العرب مجتمعة سنة 1948م , كما وقد قامت حكومة حماس بإلزام الناس بقوانين الوزارات والبلديات والضرب بيد من حديد على من يخالفها , فهل من يملك كل هذه الطاقات يصح أن يقال عن بأنه غير ممكن ؟!!! , حقا إن فقهاء حماس يحاولون الاستخفاف بعقولنا وعقول الناس , تماما كما كان يفعل فرعون مع قومه , قال الله تعالى عن فرعون :" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) "(الزخرف) .
خامسًا: ومما يضع حماس في زاوية ضيقة أنه قد قامت حركات جهادية في العالم الإسلامي , ومكن الله لها بما يشبه تمكين حماس أو أكثر قليلا , ومع ذلك طبقوا الشريعة ولم ينكصوا عن ذلك , وما حركة الشباب المجاهدين وحركة طالبان والتي تخوض معركة من أشرس المعارك في الأرض منكم ببعيد , إنهم يطبقون الشريعة في الوقت ذاته الذي يحاربون فيه العدو الكافر الصائل , ولا أنسى هنا دولة العراق الإسلامية والتي طبقت الشريعة بين الناس , والتي لم تصل في التمكين إلى ما وصلت إليه حماس , ومن أراد التوثق من ذلك , فليرجع إلى الفيلم الجهادي :"عامان على قيام دولة العراق الإسلامية" , وما كان تطبيق الشريعة في يوم من الأيام سببا للفشل أو الخسارة أو الهزيمة , بل النكوص عن تطبيقها هو ما يؤدي إلى ذلك , قال الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)"(النور).
الشريعة بين التسامح والشدة
وكان من المسوغات التي ذكرها الدكتور الزرد مبررا بها ترك حكومته تحكيم الشريعة , أنهم ينهجون الإسلام الوسطي الذي يقوم على إطعام الجوعى , لا على قطع يد السراق , وعلى تيسير أمر الزواج لا على الجلد والرجم , وأنهم لا يحبون إراقة الدماء بل يريدون الحفاظ عليها , فأقول : إن الإسلام دين الوسطية , وهذا لا شك فيه , ولكن الوسطية لا تحددها الأهواء والمزاجات , بل يحددها الدليل الشرعي من القرآن والسنة , فمن وافق قوله الدليل فهو الوسطي, ومن خالف قوله الدليل فهو الذي نأى بنفسه بعيدا عن الوسطية , ولي في هذا المجال مقال بعنوان :"الوسطية التي يدعونا إليها دجاجلة العصر" , وهو يوضح الحق في هذا الأمر ويجليه , ولقد صدق الدكتور الزرد في قوله :" بأن الإسلام يقوم على إطعام الجوعى , ذلك لأن الله يقول :"فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)"(الشرح) , وقال أيضا :" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)"(الإنسان) وصدق أيضا عندما قال : إن الإسلام يقوم على تيسير الزواج , لأن الله قال:" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) "(النور) , وصدق كذلك عندما قال بأن الإسلام يقوم على حفظ الأرواح لا على إزهاقها قال الله تعالى :" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)"(النساء) , وكما يقوم الإسلام على هذه التعاليم السمحة , القائمة على التيسير فإنه يقوم أيضا على الشدة لمن لم تنفع معه المواعظ والإرشادات والتوجيهات , قال الله تعالى :" نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)"(الحجر) , والإسلام قائمٌ على مبدأ الترغيب والترهيب , وليس التساهل محمودا في كل وقت , ولا الشدة محمودة في كل وقت , بل الحكمة أن تضع كل شيء في مكانه المناسب , قال الشاعر : ووضع السيف في موضع الندا *** مضر كوضع الندا في موضع السيف , والحكمة تقتضي أن من اعتدى على مال غيره وتوفرت فيه شروط السرقة الشرعية أن تقطع يده , وأن من زنى وتوفرت فيه الشروط الشرعية أن يجلد أو أن يرجم حسب خالته من الزواج أو عدمه , وأن من استحق القتل وانطبقت عليه شروط القصاص أنه يقتل , لأن هذا هو أمر الله , الذي لا يأمر إلا بما يصلح الإنسان , ولا ينهاه إلا عما يضره , قال الله تعالى :" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) "(المائدة) , وقال أيضا:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)"(النور) , وقال أيضا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) " (البقرة) , ولقد كان كلام الدكتور الزرد يوحي بأن تطبيق أحكام الحدود والقصاص في غزة فيه شدة تتنافى مع سماحة الإسلام , وهذا هو عين قول المستشرقين عن نظام العقوبات في الإسلام , وما علم الدكتور أو تغافل أن كثيرا من المشرعين الغربيين ينادون إلى العمل بنظام العقوبات في الشريعة الإسلامية , لأن نظمهم فشلت في القضاء على الجريمة , في الوقت الذي نجحت فيه الأحكام الشرعية في مجال العقوبات في القضاء على الجريمة إلى حد كبير جدًا وفي فترة قصيرة جدا جدا , وهذا ليس لشيء إلا لأن هذا الدين نزل من عند الله , الذي هو الأعلم بما يصلح خلقه مما يفسدهم , قال الله تعالى :" قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)"(طه) , وقال أيضا:" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) "(الملك) .
في ترك تحكيم شريعة رب الناس
أبو يونس العباسي
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل , بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى , ويصبرون منهم على الأذى , يحيون بكتاب الله الموتى , ويبصرون بنور الله أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه , وكم من ضال تائه قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم , ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين , الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة , فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب , يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم , يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين , وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا وبعد ....
سبب المقال
عقد مجلس الطلاب في الجامعة الإسلامية لقاءً حضرته إذاعة الأقصى تحت عنوان :"لماذا لا تطبق حماس الشريعة؟" , ودُعي طلاب الجامعة لحضوره , وقام المجلس باستضافة اثنين من فقهاء حركة حماس , ألا وهما : الدكتور مازن هنية , والدكتور وائل الزرد , فقالوا قولا عجبًا , لبّسوا في أقوالهم هذه الحق بالباطل , والهدى بالضلال , فكان لا بد من دفع شبههم , ودحض اللّبس الذي أحدثوه , فكان هذا هو السبب في كتابة هذا المقال , والذي أسميته بـ:"تطيير الغبار ودحض الالتباس عن شبهات فقهاء حماس
في ترك تحكيم شريعة رب الناس "وسأبتدئ مقالي هذا بالرد على الدكتور الزرد لأنه أول من تكلم , ثم أُتبعه بالرد على الدكتور هنية , سائلاً الله تعالى التوفيق والرشاد , وحسن الخاتمة والجنة يوم المعاد .
كمالية الشريعة وشمولية المطالبة بتحكيمها
لا بد من القول بادئ ذي بدئ : إن مطالبتنا بتحكيم الشريعة ليست مطالبة لتطبيق الحدود فقط , بل لتطبيق المنهج الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم - من عند ربه , وفي جميع مجالات الحياة وجوانبها , لأن من الأسس العقدية التي بد أن يعرفها كل مسلم , أن دين الله شامل كامل صالح للفصل في جميع مشكلات الحياة ونوازلها , قال الله تعالى :"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) "(المائدة) , وقال أيضا :" وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)"(النحل) , وقال أيضا:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)"(النساء) , قال ابن القيم رحمه الله :"إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به , ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه , ولا رأي ولا منام ولا كشوف , وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره , فقال :" أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)"( العنكبوت) , ولقد افترى علينا الدكتور الزرد تلميحًا لا تصريحا , بأننا نفهم تطبيق الشريعة بأنه تطبيق الحدود وحسب , وهذا ليس صحيحًا , ولكنّ تطبيق الحدود عندنا جزء من الشريعة التي نطالب بتطبيقها حالا لا مآلا , ولكن لماذا يدندن بعض الشباب الموحد المجاهد حول تطبيق الحدود أكثر من غيرها ؟ , والجواب : لأن الحدود أبرز المعالم الظاهرة لتطبيق الشريعة , ولأن ترك تطبيقها يضر بالضروريات الخمسة التي يحتاج إليها كل إنسان , والتي جاءت الشريعة داعيةً للحفاظ عليه والاهتمام بها , محرمةً للاعتداء عليها , معاقبةً على ذلك بالحدود والقصاص , وهذه الضروريات هي : حفظ الدين وعقوبة الخروج منه القتل , فإن كان انحرافا ظاهرا دون الخروج منه فعقوبة تعزيرية , يحددها ولي أمر المسلمين , وحفظ النفس وعقوبة الاعتداء عليها القصاص , وحفظ العقل وعقوبة الاعتداء عليه الجلد ثمانين جلدة وهو ما يسمى بحد شرب الخمر , ويقاس عليه غيره من المسكرات , وحفظ النسل والعرض , وعقوبة الاعتداء عليه الجلد ثمانين جلدة أيضا , وهو ما يسمى بحد القذف , وحفظ المال , وعقوبة الاعتداء عليه القطع , وهو ما يسمى بحد السرقة , ومن هذه النظرة تنبع خطورة ترك حكومة حماس لتطبيق الشريعة على وجه العموم , والحدود على وجه الخصوص .
أليس هذا من تطبيق الأحكام الشرعية؟!!!
كان هذا التساؤل من التساؤلات التي ذكرها الدكتور الزرد في أثناء كلامه وتسويغه لحكومة حركته تركَ تحكيم الشريعة , وهذا التساؤل يُضادُّ الفكرة التي أسسها أولا , وهي أنه لا بد من تطبيق الشريعة كاملة , لأن صيغة تسائله تفيد بأن حكومة حركته تطبق البعض ولا تطبق البعض الآخر , وهذ خلل كبير , إذ لا بد من تطبيق الكل , قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)"(البفرة) , وقال أيضا :" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)"(البقرة) , وكان مما ذكره الزرد من الأحكام الشرعية التي تطبقها حماس :"الجهاد والاستشهاد , والحسم العسكري والثبات في وجه مسلسلات التنازلات , ومطاردة المخدرات والدعارة , وإعلام الحركة مسموعًا كان أم مرئيًا أم مقروءًا , ونشر الفضيلة , والمؤسسات الخيرية , والجامعة الإسلامية ....إلخ " فأقول أولا: إن جل ما ذكره الدكتور كانت حماس تعمل به قبل أن تكون حكومة , ونحن ما طالبناها بتحكيم الشريعة على الناس إلا بعد أن أصبحت حكومة , بل حكومة مستقلة بذاتها .
ثانيا : إن قول الدكتور :"وثبتت في وجه مسلسلات التنازلات" , ويقصد بذلك رفض الحكومة الاعتراف باليهود ودولتهم , فهذا وحتى يعلم الجميع ثبات مبني على أسس وطنية لا على أسس شرعية , وإلا فالتنازلات الشرعية التي وقعت فيه الحركة والحكومة على حد سواء لا حصر لها , وأكبر التنازلات ترك تحكيم الشريعة الإسلامية , والتبرؤ من النوايا الرامية لإقامة إمارة إسلامية , مع الرفع المستمر والمتواصل للشعارات الديمقراطية والافتخار بالانتساب إليها , والاحتجاج بالقوانين الوضعية والدفاع عنها وتبجيل قضاتها وإكرامهم , وإنشاء الجامعات التي تدرس هذه القوانين , لتخرج القانونيين الوضعيين , ومن الأمثلة على هذه الجامعات : جامعة الأمة , وكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية .
ثالثًا : وأما ما يتعلق بمطاردة المخدرات والدعارة , فإن كل حكومات الأرض تحارب ذلك , وإن كان في الظاهر , وحكومة فتح على وجه التحديد كانت تحارب ذلك , ومحاربتكم لهذه الأمور محاربة مستندة للقانون الوضعي لا للشريعة الربانية , وإلا فهل تعاقبون اللص بقطع يده , أم حسب المادة 232 من الدستور الفرنسي , والتي تنص على التالي:" يعمل اللص على إعادة المسروق ويعاقب بالسجن على قدر قيمة السرقة" , وهل تعاقبون الزاني بالجلد أو الرجم , أم أنه يسجن لمدة معينة إلى أن تحل القضية بالتنازل من الطرفين , بالإضافة إلى أن هناك منكرات كثيرة في المجتمع من تبرج وسفور وحفلات ماجنة ومطاعم هابطة , وبنوك تحارب الله ورسوله , وغيرها الكثيرُ الكثير من المنكرات , فلماذا لا تحاربون هذه المنكرات كما تحاربون الدعارة والمخدرات ؟!!! والجواب : لأن ما ذكرتُ من منكرات تجرُّمها وتحرمها الشريعة الإسلامية ولا يجرمها القانون , وما لا يجرمه القانون ليس عندكم بمحرم ولا مجرم , ولا تسعون لتغييره والقضاء عليه , والبت فيه بما يرضي الله ويفرح المؤمنين .
رابعًا: وسأفرض أنكم فعلتم كل أوجه الخير , ثم لم تتحاكموا إلى الشريعة , بل تحاكمتم إلى القانون الوضعي , فما هو حكم الله في أمثالكم ؟ فأقول : لقد كان التتار ممن أسلموا ... يصلون ويصومون ويحجون , ويفعلون كثيرا من الطاعات , إلا أنهم كانوا لا يتحاكمون إلى الشريعة بل إلى الياسق , وهو مجموعة من الأحكام المستقاة من التوراة والإنجيل والقرآن وتوجيهات هولاكو وتعليماته , فهل أغنت عنهم أعمال الخير كلها لما حكموا الياسق وتحاكموا إليه , وأعرضوا عن منهج الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ؟!!! لا والله ... بل كفرهم العلماء وأجمعوا على تكفيرهم قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى :" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير , الناهي عن كل شر , وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله , كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم , وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان , الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها , وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه , فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله , فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير , قال تعالى : "أفحكم الجاهلية يبغون " , أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين , وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها , فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شي " , وقال في البداية والنهاية :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الانبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين."
الضغوط العالمية والعداء الدولي وأثره على ترك تحكيم الشريعة
وكان مما استدل به الدكتور الزرد وسوغ به ترك تحكيم حكومته للشريعة , أنها لو حكمت الشريعة فسيحصل ما لا يحمد عقباه , فأقول : ومتى كان الملتزم بمنهج الله في منأىً عن معاداة العالم وضغوطه , أخرج البخاري من حديث عائشة أن ورقة بن نوفل قال للرسول – صلى الله عليه وسلم - :"ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي" , وعند ابن حبان من حديث أبي هريرة أن رجلا جاء إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقال له : إني أحبك , فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم -:"إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه" , ولن يرضي المشركون عن مسلم مهما قال ومهما فعل , حتى يصير مثيلا لهم في شركهم وكفرهم , قال الله تعالى :"وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)"(البقرة) , ولقد حوصر الرسول – صلى الله عليه وسلم - في شعب بني طالب ثلاث سنين , حتى أكل هو وأصحابه ورق الشجر وكلأ الأرض , فهل سوغ هذا الحصار للرسول – صلى الله عليه وسلم - التنازل عن شيء مما أوحاه إليه الله ؟ وحوصر كذلك هو وأصحابه في المدينة في معركة الأحزاب , فهل دفعه هذا الحصار أن يتنازل للكافرين عن شيء من هذا الدين ؟ لا والله ... بل إن الابتلاء زاده – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقينًا وثباتًا على ما هم عليه , قال الله تعالى :" وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)"(الأحزاب) , في الحين ذاته ... كان موقف المنافقين ما قاله الله عنهم :" وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)"(الأحزاب) , ثم دعونا نتساءل ... من الذي أمرنا بتحكيم الشريعة ؟ أليس هو الله ؟ فلا يجوز إذًا أن نخاف من أحد إذا ما طبقناها , لأن الذي أمرنا بتطبيقها سيدافع عنا ولن يسلمنا لعدونا إذا ما قاتلونا وحاربونا , قال الله تعالى :"إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) "(الحج) , وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال فيما يرويه عن ربه :"منْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه" , وهنا لا بد أن ننتبه إلى أننا إن جعلنا العداء والضغط الدولي مسوغًا لنا لترك تحكيم الشريعة وتحكيم القانون الوضعي , فقد شابهنا كفار قريش وتساوينا معهم , فوالله ما امتنع القرشيون عن الإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم - إلا خوفا من بطش العالم , وضنا وبخلاً وإيثارا منهم لدنياهم على آخرتهم , لأنهم ظنُّوا أن الالتزام بالدين معناه ضياع الدنيا , وأخطئوا ورب الكعبة , فإن الالتزام بالدين هو سر العزة ... قال الله تعالى :"وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)"(القصص) , والمنافقون ما التزموا بمنهج محمد – صلى الله عليه وسلم - إلا خوفا على أنفسهم من أن تدور عليهم الدوائر , قال الله تعالى :" فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) "(المائدة) , ولكن بقي أن نقول بأن هناك أمور شرعية لا تطبقها حماس , ولا تحتاج إلى انتظار تطبيق الشريعة للشروع في تنفيذها , فما هي علاقة وجود البنوك الربوية في غزة بانتظار تطبيق الشريعة والتي لا تحتاج إزالتها إلا لقرار سياسي ؟!!! فتجدهم بدلا من ذلك يضعون الجيبات والحراسات لحمايتها والويل والثبور لمن فكر بالاقتراب منها , وما علاقة وجود الجامعات المختلطة في غزة بانتظار تطبيق الشريعة ؟!!! وما علاقة وجود الجمعيات التبشيرية في غزة بانتظار تطبيق الشريعة ؟!!! , وهناك الكثير من الأمور التي وقعت بها حماس قبل الانتخابات وما زالت عليها , ومنها ما هو بدع مستحدثة جعلوها كسنة مؤكدة بين الناس من البسطاء , فسَنُّوا حفلات التأبين وتخليد الذكرى , والصور المعلقة المكبرة والمصغرة للقتلى نحسبهم والله حسيبهم شهداء , واستحلال الطبول والمعازف في أغانيهم , وأدخلوا البدع على الجنازات , بل وصل الأمر لاستغلال تشييع الشهداء نحسبهم كذلك للدعايات الانتخابية , وبدع في المآتم , فتجد الميتم عبارة عن حفلة تنظيمية, أو دعاية انتخابية , أو مهرجان تدشن خلاله الأغاني المصحوبة بالموسيقى , وبدع أخرى في المساجد هي أشد خطورة من سابقاتها , فتجد المسجد عبارة عن لوحة إعلانات لحماس وغيرها ,والأدهى ... أنهم يعلقون صور ذوات الأرواح , وتجد المسجد مليء برايات الحركة كدلالة وعلامة على سيطرتهم على هذا المسجد , قال تعالى:" وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) "(الجن) , وتجد شبابهم قد خففوا اللحية بل وحلقوها , وتباهوا بالكرافة واستحقروا اللباس الشرعي , إلا من رحم ربي , وهناك الكثير من البدع التي لا يتسع المقام لذكرها أدخلوها كسنة مؤكدة على عوام الناس , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ضابط التمكين من عدمه وأثره في ترك تحكيم الشريعة
ومن المسوغات التي ادعاها الزرد في ترك حكومته لتحكيم الشريعة , أنها غير ممكنة , وزعم أن تطبيق الشريعة يحتاج إلى تمكين , واستدل بقوله تعالى :" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)"0(الحج) , فأردُّ على هذا الكلام بالتالي : أولًا : قد يكون عدم التمكين والاستضعاف مسوغا لترك تحكيم الشريعة على جمهور المسلمين , ولكن هل يصح أن يكون مبررا لتحكيم القانون الوضعي والاحتجاج به والذود عنه وفتح الجامعات التي تدرسه وتنصيب القضاة الذين يحكمون به وإعطاؤهم المرتبات الجنونية على ذلك ؟
ثانياًََ: ادعاء الدكتور بأن حكومته غير ممكنة زعم لا حقيقة له على الإطلاق , وإلا فليفسر لي الدكتور ما معنى أن يكون في غزة حكومة مستقلة , ووزارات , وأجهزة أمنية , ومرتبات ومكافئات ومجالس قضاء وضعي إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ... إلخ ؟ , وأما الاحتجاج بالحصار فإنه لا ينفي التمكين ولا يضاده , فالرسول – صلى الله عليه وسلم - حوصر في المدينة , ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يقول بأنه غير ممكن , وصدام حوصر ثلاثة عشر سنة على يد الأمريكان , ولم يقل أحد بأنه غير ممكن , والطالبان حوصرت ولم يقل عنها أحد بأنها غير ممكنة , بل كانت تطبق الشريعة وهدمت صنم بوذا ذلك الصنم الذي كان يعبده الملايين من دون الله وذلك أثناء الحصار المفروض عليهم من أمريكا , وحكومات العرب تحيط بها ضغوطات العالم الغربي وفي شتى المجالات كما يحيط السوار بمعصم اليد , وهي لا تملك من أمرها شيئا , فهل يصح أن نقول عنها بأنها غير ممكنة ؟ , وهل تعذرها يا دكتور في تركها لتحكيم الشريعة ؟ ولقد قال أبو مازن – عليه من الله ما يستحق – لوفد زاره من مدعي السلفية وأنصار الطواغيت , بعد أن راجعوه في قضية تطبيق الشرع , قال لهم :" إنني أود تطبيق الشريعة , ولكن أنتم ترون الواقع العالمي والضغط الدولي" , وهنا لأي واحد أن يتساءل : ما هو الفرق بينكم وبين عباس في هذه القضية ؟ وقد كفر الدكتور هنية عباس في نفس هذا اللقاء لأنه ترك تحكيم الشرع المطهر.
رابعًا: أتعجب من هذا الدكتور وهو يدعي بأن حماس غير ممكنة , وهي من خرجت علينا بعد انسحاب اليهود من غزة تقول لنا : بأيدينا صنعنا النصر , والمقاومة تنتصر والعدو يندحر , فهل من يدحر الاحتلال ويخرجه من غزة العزة غير ممكن ؟!!! , ثم دخلت حماس وولجت العملية الانتخابية الشركية وفازت وشكلت حكومة , فهل من يشكل حكومة غير ممكن ؟!!! , ثم خاضت حماس مع العلمانية معركة شرسة , فانتصرت وخلص لها الحكم في غزة , فهل من يفعل هذا غير ممكن ؟!!! ثم حاول زنادقة العلمانية ومن بعدهم اليهود مرة بعد مرة القضاء على حماس وكسر شوكتها وإبادة خضرائها , فما أفلحوا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاًَ , فهل من يُفشِلُ الخطط الانقلابية ويصد الاجتياحات اليهودية عن غزة مرة تتلوها مرة يصح أن نقول عنه بأنه غير ممكن ؟!!! , يا دكتور ... إذا كانت حماس غير ممكنة , فدول العرب كلها ليست ممكنة , لأن حماس نجحت عسكريا في فترة حكمها في صد اليهود عن غزة , فيما لم تنجح بذلك دول العرب مجتمعة سنة 1948م , كما وقد قامت حكومة حماس بإلزام الناس بقوانين الوزارات والبلديات والضرب بيد من حديد على من يخالفها , فهل من يملك كل هذه الطاقات يصح أن يقال عن بأنه غير ممكن ؟!!! , حقا إن فقهاء حماس يحاولون الاستخفاف بعقولنا وعقول الناس , تماما كما كان يفعل فرعون مع قومه , قال الله تعالى عن فرعون :" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) "(الزخرف) .
خامسًا: ومما يضع حماس في زاوية ضيقة أنه قد قامت حركات جهادية في العالم الإسلامي , ومكن الله لها بما يشبه تمكين حماس أو أكثر قليلا , ومع ذلك طبقوا الشريعة ولم ينكصوا عن ذلك , وما حركة الشباب المجاهدين وحركة طالبان والتي تخوض معركة من أشرس المعارك في الأرض منكم ببعيد , إنهم يطبقون الشريعة في الوقت ذاته الذي يحاربون فيه العدو الكافر الصائل , ولا أنسى هنا دولة العراق الإسلامية والتي طبقت الشريعة بين الناس , والتي لم تصل في التمكين إلى ما وصلت إليه حماس , ومن أراد التوثق من ذلك , فليرجع إلى الفيلم الجهادي :"عامان على قيام دولة العراق الإسلامية" , وما كان تطبيق الشريعة في يوم من الأيام سببا للفشل أو الخسارة أو الهزيمة , بل النكوص عن تطبيقها هو ما يؤدي إلى ذلك , قال الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)"(النور).
الشريعة بين التسامح والشدة
وكان من المسوغات التي ذكرها الدكتور الزرد مبررا بها ترك حكومته تحكيم الشريعة , أنهم ينهجون الإسلام الوسطي الذي يقوم على إطعام الجوعى , لا على قطع يد السراق , وعلى تيسير أمر الزواج لا على الجلد والرجم , وأنهم لا يحبون إراقة الدماء بل يريدون الحفاظ عليها , فأقول : إن الإسلام دين الوسطية , وهذا لا شك فيه , ولكن الوسطية لا تحددها الأهواء والمزاجات , بل يحددها الدليل الشرعي من القرآن والسنة , فمن وافق قوله الدليل فهو الوسطي, ومن خالف قوله الدليل فهو الذي نأى بنفسه بعيدا عن الوسطية , ولي في هذا المجال مقال بعنوان :"الوسطية التي يدعونا إليها دجاجلة العصر" , وهو يوضح الحق في هذا الأمر ويجليه , ولقد صدق الدكتور الزرد في قوله :" بأن الإسلام يقوم على إطعام الجوعى , ذلك لأن الله يقول :"فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)"(الشرح) , وقال أيضا :" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)"(الإنسان) وصدق أيضا عندما قال : إن الإسلام يقوم على تيسير الزواج , لأن الله قال:" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) "(النور) , وصدق كذلك عندما قال بأن الإسلام يقوم على حفظ الأرواح لا على إزهاقها قال الله تعالى :" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)"(النساء) , وكما يقوم الإسلام على هذه التعاليم السمحة , القائمة على التيسير فإنه يقوم أيضا على الشدة لمن لم تنفع معه المواعظ والإرشادات والتوجيهات , قال الله تعالى :" نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)"(الحجر) , والإسلام قائمٌ على مبدأ الترغيب والترهيب , وليس التساهل محمودا في كل وقت , ولا الشدة محمودة في كل وقت , بل الحكمة أن تضع كل شيء في مكانه المناسب , قال الشاعر : ووضع السيف في موضع الندا *** مضر كوضع الندا في موضع السيف , والحكمة تقتضي أن من اعتدى على مال غيره وتوفرت فيه شروط السرقة الشرعية أن تقطع يده , وأن من زنى وتوفرت فيه الشروط الشرعية أن يجلد أو أن يرجم حسب خالته من الزواج أو عدمه , وأن من استحق القتل وانطبقت عليه شروط القصاص أنه يقتل , لأن هذا هو أمر الله , الذي لا يأمر إلا بما يصلح الإنسان , ولا ينهاه إلا عما يضره , قال الله تعالى :" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) "(المائدة) , وقال أيضا:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)"(النور) , وقال أيضا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) " (البقرة) , ولقد كان كلام الدكتور الزرد يوحي بأن تطبيق أحكام الحدود والقصاص في غزة فيه شدة تتنافى مع سماحة الإسلام , وهذا هو عين قول المستشرقين عن نظام العقوبات في الإسلام , وما علم الدكتور أو تغافل أن كثيرا من المشرعين الغربيين ينادون إلى العمل بنظام العقوبات في الشريعة الإسلامية , لأن نظمهم فشلت في القضاء على الجريمة , في الوقت الذي نجحت فيه الأحكام الشرعية في مجال العقوبات في القضاء على الجريمة إلى حد كبير جدًا وفي فترة قصيرة جدا جدا , وهذا ليس لشيء إلا لأن هذا الدين نزل من عند الله , الذي هو الأعلم بما يصلح خلقه مما يفسدهم , قال الله تعالى :" قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)"(طه) , وقال أيضا:" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) "(الملك) .