عزام
04-28-2009, 07:19 AM
من اجمل الكتب التي قرأتها كتاب النبأ العظيم للدكتور عبد الله دراز وهو كتاب قديم وشبه مفقود غير اني وجدته على النت.. هذه الفقرة منه حاولت تسهيلها بوضع عناوين فرعية وفصل الافكار الى نقاط محددة مع وضع خط لما رأيته مهما.
عزام
اعجاز القرآن في اختيار مواضع البيان ومواضع الإجمال
د. محمد عبد الله دراز
تفصيل افكار الآية موضع الدراسة
يقول الله تعالى في ذكر حِجاج اليهود:
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(93) "
هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
(ا) مقالة ينصح بها الناصح لليهود، إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.
(2) إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.
(3) الرد على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه.
وأُقسم لو أن محامياً بليغاً وُكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية ثم هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.
تفصيل كلام الناصح
قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله؛ فالقرآن الذي جاء محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها. فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز (آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ).
وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته، فجعل دعاءه إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزَل عليه فلم يقل: (آمنوا بما أُنزل الله على محمد) مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة؛ أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذُكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسداً؛ أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأُدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل؛ وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الإسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يُخرج أضغانَهم ويثير أحقادَهم ، فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح.
جواب اليهود
كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا، والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)؛ وهذا هو المقصد الأول. وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
من البيِّن أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أُنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني؛ ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يُبرزه؛ أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً لهم، ولم يُدخلْ مضمونَ قولهم في جملة ما نقله من كلامهم؛ بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم، فقال: (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟!
ثم انظر إلى التعبير عن القران بلفظ (مَا وَرَاءهُ) فإن لهذه الكلمة وجهاً تعم به غير القران ووجهاً تخص به هذا العموم؛ ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة، أي جاء بعدها؛ ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلاً؛ وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع؛ وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام.
الجانب الاول في الرد عليهم
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتاً كأنها مسلّمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله؟ – لا، بل هو الحق كله (6) – وهل يعارض الحقّ [الحقّ] حتى يكون الإيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر؟!
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ فقد يكون الشيء حقاً وغيره حقاً فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهداً ومصدقاً لما بين يديه من الكتب، فأنّى يكذّب به من يؤمن بها؟!
ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلاً: ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعضُ العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: (إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجباً للإيمان به) ؛ بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر؛ أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنّى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القران بكلمة (لما معهم).
الجانب الثاني للحجة عليهم
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطويّ الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الردّ على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم، فأوسعهم إكذاباً وتفنيداً، وبيّن أن داء الجحود فيهم داءٌ قديم، قد أُشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضاً مزمناً، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على ذلك الشواهد التاريخية المُفظِعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {91}) (8) ؟).
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدَّت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدّق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يصدّقك يبقى مصدقاً لك؟! غير أن هذا المعنى إنما أُخذ استنباطاً من أقوالهم، وإلزاماً لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم؛ فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد. وهكذا كانت كلمة (مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها، وكانت آخرُ درجة في سلّم الغرض الأول هي أولَ درجة في سلّم الغرض الثاني؛ فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجاً له على مدارجها، وتنزيلاً له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس (9) تطلّع النفس واستشرافها (10) من تلك الكلمة إلي غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.
وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: (فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟)؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مثلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهورة (11) فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: (وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى) ؟!. ولو زاد مثلاً: (وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبلُ الكلام وفترت قوته. فكان اختصار الكلام على ما ترى - بوقفهم بادئ ذي بدء في موقف الاتهام - إسراعاً بتسديد (12) سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهاً في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعتَ يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم.
وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى - وهي جريمة القتل - في صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.
ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وباباً من الإطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله؛ فانظر كيف أسعفَنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله (مِنْ قَبْلُ) فقَطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبَّت بها قلبَ حبيبه، إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس؛ ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به من التجوز المذكور آنفاً في الإسناد وفي الصيغة.
وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطّأ لها بهذه الكلمة: (مِنْ قَبْلُ) فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول (13).
تتمة عرض الجرائم
وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك؛ فإنها لما كانت أغلط من سابقتها وأشدَّ نُكراً في العقول نبّه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها، فلم يقل: (اتخذتم العجل إلهاً)، بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعاً للتصريح به في صحبة الأول، وبياناً لما بينهما من مفارقة؛ وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل!! فربَّ صمت هو أنطق بالحُكم، وأنكى في الخصم.
ثم أنظر إلى النواحي التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إعراضاً عن كل زيادة لا تمس إلها حاجة البيان في الحال، فقد قال: إن القرآن مصدق لما معهم، ولم يبين مدى هذا التصديق: أفي أصول الدين فحسب، أم في الأصول والفروع جميعاً، أم في الأصول وبعض الفروع وإلى أي حد؟ ذلك أن كلام الملك لا يتنزل إلا بقدرٍ معلوم؛ وماذا يَعني الداعيَ إلى أصل الإيمان أن يمتد التطابق بين الأديان إلى فروعها أو لا يمتد؟ فليبحث علماء التشريع!
وقال: إنهم يقتلون أنبياء الله؛ فمن هم أولئك الأنبياء؟… ليبحث علماء التاريخ!
وقال: إن موسى جاءهم بالبينات؛ فكم هي؟ وما هي؟
وقال: إنه أخذ عليهم ميثاقهم؛ فعلى أي شيء كان الميثاق؟
إن حكمة البيان القرآني لأَجَلُّ من أن تَعرِض لهذه التفاصيل في مثل هذا الموضع؛ ولو ذكرت هاهنا لكان مثلها مثل من يُسْأل: لِم ضربت عبدك؟ فيقول: لأنه ضرب غلاماً اسمه كذا واسم أبيه كذا وحِليته كذا وولد في عام كذا؛ ألا ترى أن هذا زائد وكثير ؟! [14].
· ولو ذهبنا نتتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه؛ فلنكتف بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق لا تراه في كلام الناس، ذلك أن المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الإقناع أو غيرهما بدت على كلامه مسحة الانفعال بأغراضه وكان تأثيره بها في نفسك على قدر تأثره هو، طبعاً أو تطبعاً، فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن الإمتعاض في إخفاقه، بل تراه يكاد يهلك أسفاً لو أعرض الناس عن هداه إذا كان مؤمناً بقضيته، مخلصاً في دعوته، كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام؛ أما هنا فإنك تلمح وراء الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض، قوة تؤثر ولا تتأثر، تصف لك الحقائق خيرها وشرها في عزةِ مَن لا ينفعه خيرٌ واقتدارِ من لا يضره شر؛ هذا الطابع من الكبرياء والعظمة تراه جلياً من خلال هذا الأسلوب المقتصد في حجاجه أخذاً ورداً، المقتصد في وصفه مدحاً وقدحاً. انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة: (هُوَ الحَقُّ)؛ نعم إنها كلمة تملأ النفس، ولكن هل تُشبعك أيها الإنسان تلك الكلمة إذا أردت أن تصف حقيقة من الحقائق التي تقنع بها وتحب أن تُقنع بها الناس؟ وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثلٌ في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا (ظلم) وفي الثانية: (بئسما) صنعتم؛ أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن [أين] (15) الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟ لله ما أعفّ هذه الخصومة، وما أعزَّ هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر.
********************************
الهوامش
(1) هذا مثل صغير: إقرأ قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب) [سورة البقرة الآية (212)] وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس؛ ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة:
فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء؟ أصبتَ.
ولو قلتَ: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
ولو قلت: يرزقه رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر وحياب، أصبت.
فعلى الأول يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسَب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله؛ بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء؛ وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.
وعلى الثاني يكون تنبيهاً على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.
وعلى الثالث يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.
وعلى الرابع والخامس يكون وعداً للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافاً كثيرة لا يحصرها العد.
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب [بالأصل العاجب]. انتهى.
(2) الإسراء 84.
(3) (هود 44؛ إقرأ إن شئت ما كتبه السكاكي عن هذه الآية في كتابه (مفتاح العلوم) بعد تعريف البلاغة والفصاحة، في آخر علم البيان). دراز.
(4) البقرة 179؛ إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب.
(5) فإن ما سواه إن خالفه كان شاهداً على نفسه بالبطلان، وإلا كان صحيحاً أو محتملاً للصحة؛ فهو إذن معيار الحق وميزانه.
(6) (ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: (مصدقاً لما أنزل عليهم) ولكنه لأمر ما نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، والبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلتَ أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت: (مصدقاً لما هو باق في زمنهم)، أو (مصدقاً لما عندهم)، لما تم الإلزام؛ وهذا من عجيب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته). دراز.
(7) البقرة 179؛ (إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب). دراز.
(8) لعل الصواب في ضبط هذه الكلمة هكذا (أَنِسَ).
(9) في مطبوعة النبأ (واستشراقها).
(10) (التي تزعم أن ذئباً عدا على حَمَل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى؛ وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استناداً لأوهن الأسباب). دراز.
(11) وهذا هو ما يسمى في المناظرة (بالتقريب) بين الدليل والمطلوب.
(12) أي التعبير عن الماضي بالفعل المضارع. م.
(13) لو قال: (الملك) لكان ذلك أسلم في التعبير، وإن كان لكلامه وجه وهو أن الكلام هنا جار على طريقة كلام أهل الرفعة والعظمة وهو كلام ملك الملوك.
(14) (ومن هنا عيب على امرئ القيس تفصيله في غير موضع التفصيل، وذلك فيما هو معدود من أجود شعره، قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالشاعر لم يقنع في وصف المنزل بقوله (بسقط اللوى) حتى حده بحدود أربعة؛ قال الباقلاني: (---كأنه يريد بيع المنزل فيخشى إن أخل بحد منه أن يكون بيعه فاسداً أو شرطه باطلاً!). دراز.
(15) هذه الكلمة زيادة مني لظني أن السياق يقتضيها.
عزام
اعجاز القرآن في اختيار مواضع البيان ومواضع الإجمال
د. محمد عبد الله دراز
تفصيل افكار الآية موضع الدراسة
يقول الله تعالى في ذكر حِجاج اليهود:
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(93) "
هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
(ا) مقالة ينصح بها الناصح لليهود، إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.
(2) إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.
(3) الرد على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه.
وأُقسم لو أن محامياً بليغاً وُكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية ثم هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.
تفصيل كلام الناصح
قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله؛ فالقرآن الذي جاء محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها. فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز (آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ).
وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته، فجعل دعاءه إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزَل عليه فلم يقل: (آمنوا بما أُنزل الله على محمد) مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة؛ أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذُكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسداً؛ أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأُدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل؛ وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الإسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يُخرج أضغانَهم ويثير أحقادَهم ، فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح.
جواب اليهود
كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا، والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)؛ وهذا هو المقصد الأول. وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
من البيِّن أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أُنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني؛ ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يُبرزه؛ أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً لهم، ولم يُدخلْ مضمونَ قولهم في جملة ما نقله من كلامهم؛ بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم، فقال: (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟!
ثم انظر إلى التعبير عن القران بلفظ (مَا وَرَاءهُ) فإن لهذه الكلمة وجهاً تعم به غير القران ووجهاً تخص به هذا العموم؛ ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة، أي جاء بعدها؛ ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلاً؛ وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع؛ وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام.
الجانب الاول في الرد عليهم
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتاً كأنها مسلّمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله؟ – لا، بل هو الحق كله (6) – وهل يعارض الحقّ [الحقّ] حتى يكون الإيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر؟!
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ فقد يكون الشيء حقاً وغيره حقاً فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهداً ومصدقاً لما بين يديه من الكتب، فأنّى يكذّب به من يؤمن بها؟!
ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلاً: ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعضُ العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: (إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجباً للإيمان به) ؛ بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر؛ أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنّى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القران بكلمة (لما معهم).
الجانب الثاني للحجة عليهم
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطويّ الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الردّ على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم، فأوسعهم إكذاباً وتفنيداً، وبيّن أن داء الجحود فيهم داءٌ قديم، قد أُشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضاً مزمناً، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على ذلك الشواهد التاريخية المُفظِعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {91}) (8) ؟).
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدَّت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدّق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يصدّقك يبقى مصدقاً لك؟! غير أن هذا المعنى إنما أُخذ استنباطاً من أقوالهم، وإلزاماً لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم؛ فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد. وهكذا كانت كلمة (مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها، وكانت آخرُ درجة في سلّم الغرض الأول هي أولَ درجة في سلّم الغرض الثاني؛ فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجاً له على مدارجها، وتنزيلاً له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس (9) تطلّع النفس واستشرافها (10) من تلك الكلمة إلي غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.
وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: (فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟)؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مثلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهورة (11) فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: (وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى) ؟!. ولو زاد مثلاً: (وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبلُ الكلام وفترت قوته. فكان اختصار الكلام على ما ترى - بوقفهم بادئ ذي بدء في موقف الاتهام - إسراعاً بتسديد (12) سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهاً في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعتَ يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم.
وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى - وهي جريمة القتل - في صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.
ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وباباً من الإطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله؛ فانظر كيف أسعفَنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله (مِنْ قَبْلُ) فقَطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبَّت بها قلبَ حبيبه، إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس؛ ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به من التجوز المذكور آنفاً في الإسناد وفي الصيغة.
وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطّأ لها بهذه الكلمة: (مِنْ قَبْلُ) فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول (13).
تتمة عرض الجرائم
وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك؛ فإنها لما كانت أغلط من سابقتها وأشدَّ نُكراً في العقول نبّه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها، فلم يقل: (اتخذتم العجل إلهاً)، بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعاً للتصريح به في صحبة الأول، وبياناً لما بينهما من مفارقة؛ وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل!! فربَّ صمت هو أنطق بالحُكم، وأنكى في الخصم.
ثم أنظر إلى النواحي التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إعراضاً عن كل زيادة لا تمس إلها حاجة البيان في الحال، فقد قال: إن القرآن مصدق لما معهم، ولم يبين مدى هذا التصديق: أفي أصول الدين فحسب، أم في الأصول والفروع جميعاً، أم في الأصول وبعض الفروع وإلى أي حد؟ ذلك أن كلام الملك لا يتنزل إلا بقدرٍ معلوم؛ وماذا يَعني الداعيَ إلى أصل الإيمان أن يمتد التطابق بين الأديان إلى فروعها أو لا يمتد؟ فليبحث علماء التشريع!
وقال: إنهم يقتلون أنبياء الله؛ فمن هم أولئك الأنبياء؟… ليبحث علماء التاريخ!
وقال: إن موسى جاءهم بالبينات؛ فكم هي؟ وما هي؟
وقال: إنه أخذ عليهم ميثاقهم؛ فعلى أي شيء كان الميثاق؟
إن حكمة البيان القرآني لأَجَلُّ من أن تَعرِض لهذه التفاصيل في مثل هذا الموضع؛ ولو ذكرت هاهنا لكان مثلها مثل من يُسْأل: لِم ضربت عبدك؟ فيقول: لأنه ضرب غلاماً اسمه كذا واسم أبيه كذا وحِليته كذا وولد في عام كذا؛ ألا ترى أن هذا زائد وكثير ؟! [14].
· ولو ذهبنا نتتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه؛ فلنكتف بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق لا تراه في كلام الناس، ذلك أن المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الإقناع أو غيرهما بدت على كلامه مسحة الانفعال بأغراضه وكان تأثيره بها في نفسك على قدر تأثره هو، طبعاً أو تطبعاً، فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن الإمتعاض في إخفاقه، بل تراه يكاد يهلك أسفاً لو أعرض الناس عن هداه إذا كان مؤمناً بقضيته، مخلصاً في دعوته، كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام؛ أما هنا فإنك تلمح وراء الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض، قوة تؤثر ولا تتأثر، تصف لك الحقائق خيرها وشرها في عزةِ مَن لا ينفعه خيرٌ واقتدارِ من لا يضره شر؛ هذا الطابع من الكبرياء والعظمة تراه جلياً من خلال هذا الأسلوب المقتصد في حجاجه أخذاً ورداً، المقتصد في وصفه مدحاً وقدحاً. انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة: (هُوَ الحَقُّ)؛ نعم إنها كلمة تملأ النفس، ولكن هل تُشبعك أيها الإنسان تلك الكلمة إذا أردت أن تصف حقيقة من الحقائق التي تقنع بها وتحب أن تُقنع بها الناس؟ وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثلٌ في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا (ظلم) وفي الثانية: (بئسما) صنعتم؛ أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن [أين] (15) الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟ لله ما أعفّ هذه الخصومة، وما أعزَّ هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر.
********************************
الهوامش
(1) هذا مثل صغير: إقرأ قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب) [سورة البقرة الآية (212)] وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس؛ ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة:
فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء؟ أصبتَ.
ولو قلتَ: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
ولو قلت: يرزقه رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر وحياب، أصبت.
فعلى الأول يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسَب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله؛ بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء؛ وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.
وعلى الثاني يكون تنبيهاً على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.
وعلى الثالث يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.
وعلى الرابع والخامس يكون وعداً للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافاً كثيرة لا يحصرها العد.
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب [بالأصل العاجب]. انتهى.
(2) الإسراء 84.
(3) (هود 44؛ إقرأ إن شئت ما كتبه السكاكي عن هذه الآية في كتابه (مفتاح العلوم) بعد تعريف البلاغة والفصاحة، في آخر علم البيان). دراز.
(4) البقرة 179؛ إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب.
(5) فإن ما سواه إن خالفه كان شاهداً على نفسه بالبطلان، وإلا كان صحيحاً أو محتملاً للصحة؛ فهو إذن معيار الحق وميزانه.
(6) (ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: (مصدقاً لما أنزل عليهم) ولكنه لأمر ما نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، والبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلتَ أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت: (مصدقاً لما هو باق في زمنهم)، أو (مصدقاً لما عندهم)، لما تم الإلزام؛ وهذا من عجيب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته). دراز.
(7) البقرة 179؛ (إقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب). دراز.
(8) لعل الصواب في ضبط هذه الكلمة هكذا (أَنِسَ).
(9) في مطبوعة النبأ (واستشراقها).
(10) (التي تزعم أن ذئباً عدا على حَمَل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى؛ وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استناداً لأوهن الأسباب). دراز.
(11) وهذا هو ما يسمى في المناظرة (بالتقريب) بين الدليل والمطلوب.
(12) أي التعبير عن الماضي بالفعل المضارع. م.
(13) لو قال: (الملك) لكان ذلك أسلم في التعبير، وإن كان لكلامه وجه وهو أن الكلام هنا جار على طريقة كلام أهل الرفعة والعظمة وهو كلام ملك الملوك.
(14) (ومن هنا عيب على امرئ القيس تفصيله في غير موضع التفصيل، وذلك فيما هو معدود من أجود شعره، قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالشاعر لم يقنع في وصف المنزل بقوله (بسقط اللوى) حتى حده بحدود أربعة؛ قال الباقلاني: (---كأنه يريد بيع المنزل فيخشى إن أخل بحد منه أن يكون بيعه فاسداً أو شرطه باطلاً!). دراز.
(15) هذه الكلمة زيادة مني لظني أن السياق يقتضيها.