اليتيم
09-20-2003, 12:11 PM
كان البيزنطيون –عليهم من الله ما يستحقون وما لا يستحقون- يتجادلون بشأن جنس الملائكة والعدوّ على أبواب مدينتهم، فتنبه العرب إلى هذه المفارقة واتخذوها مثلاً يضرب لمن ينشغل بصغائر الأمور، ويغفل عن عظيمها.
البيزنطيون كانوا من ألدّ أعداء الخلافة الإسلامية، ################################### ########################
أعود إلى البيزنطيين فأقول : إنني لا أعرف تحديداً متى ظهر هؤلاء ومتى "انقرضوا" ولا أريد أن أعرف لأنني أنهيت امتحانات الثانوية منذ عقد من الزمن ولا أعتقد أن لي رغبة في نيل الدكتوراه والماجستير، ولو تشجعت لنيلهما فلن أفكر بالتخصص في التاريخ لأنني ببساطة لا أثق في التاريخ كثيراً، وببساطة أكثر لأن التاريخ يكتبه الأقوياء دائماً وأبداً، وليس منطقياً الاعتقاد بأن جميع الأقوياء كانوا أصحاب ذمة وضمير عند كتابتهم له.
ولم يخطئ هنري فورد حينما قال: التاريخ هراء، وأصاب من قال: التاريخ شيء لم يحدث قط، كتبه شخص لم يكن هناك، وسأدلي بدلوي وأقول: التاريخ عبارة عن بقايا صدق لهيكل ديناصور من الكذب.
وسبب ثانٍ يجعلني لا أهتم بتاريخ البيزنطيين هو أنني لن أكون ضيفاً كريماً على برنامج "من سيربح المليون" أو ضيفاً ذليلاً في باقي البرامج التي قلدت "قرداحي"، أي أن ما تبقى من العمر، وكذلك امتحانات القبر، ليس فيهما سؤال عن البيزنطيين.
عودة إلى صلب الموضوع, أقول إن العرب جعلوا عبارة (جدل بيزنطي) من التراكيب والعبارات الاصطلاحية في لغتهم، وكان يحق لهم حينئذٍ "التريقة" على باقي الأمم والشعوب، لأن دولتهم كانت دولة عظمى، والعظيم يحق له فعل أي شيء.
لكن بقاء الحال من المحال، ليس فيه شك ولا جدال، وصدق أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس حين قال:
لكل شيء إذا ما تم نقصــــانُ فلا يغر بطيب العيش إنســـانُ
هي الأمور كما شاهدتهــا دول من سره زمن ساءته أزمـــانُ
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليل وتيجــــانُ
وأين ما شاده شـــداد في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهـبٍ وأين عادٌ وشدادٌ وقحطــــانُ
ولو بقي أبو البقاء– والأولى أن يسمى أبا الفناء– لرثى حضرموت واليمن والبحرين وعمان ونجد والحجاز والبصرة وبغداد والموصل والشام وفلسطين ومصر والحبشة والمغرب، فهذه الأقاليم اليوم ليست أفضل حالاً من الأندلس بالأمس، فعليهم وعلينا الرحمة.
لكن أبا الفناء ذهب– بأبي وأمي- بلا رجعة إلى حيث عاد وشداد وقحطان وساسان والتيجان والأكاليل، فعليهم الرحمة أيضاً.
إن سادة العالم في زماننا ليسوا بنباهة العرب سادة زمانهم، ولو كانوا نبيهين لحوَّلوا الجدل البيزنطي إلى جدل عربي، فإذا كان البيزنطيون يتجادلون بشأن جنس الملائكة والعدو على أبواب مدينتهم فإن حال عرب اليوم أشنع وأبشع.
فعرب اليوم يتجادلون مثلاً بشأن شارون وأسلافه، فقائل يقول إن شارون أسوأ رئيس وزراء إسرائيلي ولا يمكن إبرام اتفاقية سلام معه، ويترحم على أيام بن غوريون الذي كان له دور كبير في حرب 48 والعدوان الثلاثي. ويبكي على أيام الشمطاء غولدا مائير التي استطاعت تغيير موازين القوى لصالح إسرائيل بعد انتصارات أكتوبر 73 حينما طارت إلى أميركا طلباً للعون والمدد. ويعضّ أصابع يديه وقدميه ندماً على رحيل واستشهاد بطل السلام رابين الذي قاد الجيش الإسرائيلي في حرب 67 وكان قبلها عضواً في عصابات الهاغاناه. ويضرب صدره ويشق جيبه على أيام مناحيم بيغن صاحب مذبحة دير ياسين واجتياح لبنان واحتلال عاصمتها ثم ضرب المفاعل النووي العراقي. ويبكي دماً على شامير صاحب دير ياسين وبئر السبع ثم راعي سياسة تكسير العظام في الانتفاضة الأولى. ويولول كالثكالى إذا سمع اسم بيريز مهندس البرنامج النووي الإسرائيلي والحاصل على جائزة نوبل للسلام (ولا أدري كيف يجتمع السلام والنووي في الحمام نفسه ؟) ثم صاحب مجزرة قانا. ويتفطر قلبه كمداً لذكر نتنياهو المؤمن بعقيدة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وأكثر ساسة إسرائيل إعلاناً لكره العرب والتشدد مع جماعته. ويغلبه الوجد إذا تذكر محبوبه الجنرال باراك، وهو أكثر العسكريين نيلاً للأوسمة والنياشين كونه من أبرز القيادات العسكرية التي قادت حروب إسرائيل الكبرى.
ولو كان هؤلاء المجادلون على قدر من الفطنة لأدركوا أن شارون وأسلافه وخلفاءه القادمين وجوه لعملة واحدة، لكنهم يأبون إلا أن يكونوا بيزنطيي العصر.
ولنتحول إلى الجدل في قضية العراق، فبعد قمة شرم الشيخ انخرط العرب في جدال عربنطي فيما قاله القذافي وفي رد الأمير عبدالله عليه، ونسي الناس سبب عقد القمة وضاع العراق في "الطوشة". ثم عقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية رقم كذا في الدوحة، وكان رئيس الوفد العراقي يهاجم الكويت وفجأة ثارت الحمية في أحد أعضاء الوفد الكويتي ووقف محتجاً، لكن رئيس الوفد العراقي تلفظ بكلمة باللهجة العراقية لا يعرفها غير العراقيين. "واشتغل" الجدل العربنطي في معنى هذه الكلمة، فمنهم يقول إن "كاولي" تعني طويل الشنب، ومنهم يقول "لوتي" ومنهم يقول "قزم" ولم نعرف حتى الساعة ما انتهى إليه المؤتمر سيئ الحظ.
وأثناء حرب أميركا على العراق سنحت فرصة نادرة للعرب لممارسة هواية الجدل، فكانت كلمة "العلوج" سيدة الموقف وبطلة المعركة، وتجادلوا أشد ما يكون الجدال في معنى "علوج" ما بين خنزير، وابن حرام، والأجنبي الذي يدعي أنه عربي... إلخ.
ولننحّي السياسة جانباً، لأن كل ما فيها يثير الضحك، ونذهب إلى جدل عربنطي في المذاهب الإسلامية، وهو جدل قديم وكان مقتصراً على فئة من العلماء، لكنه– لأن العرب ليست لديهم قضايا أهم- أصبح جدلاً عاماً تشترك فيه فئات المجتمعات العربية كافة، بفضل وفعل فاعل، وتفضل واستسلام مفعول به.
فقد اجتمع العرب بقضهم وقضيضهم على مائدة قناة المستقلة يتابعون بحماس منقطع النظير وتشنج غير مسبوق برنامج مناظرات بين ################################### #########################
وأنا هنا لست بصدد محاكمة "التجار بالدين" لأنهم لا يعنونني وأنا لا أعنيهم، ثم إن محاكمتهم لا تصح، فهل يجوز مثلاً محاكمة الطبيب لأنه يعمل طبيباً؟
لكنني أعني متابعي هذا البرنامج الذين اشتغلوا بتحليل وتلخيص تلك المناظرات، وانخرطوا في جدل عربنطي بشأن ما قيل وما لم يقل، ولو رجعوا إلى عقولهم لانتبهوا إلى أن أصحاب الشأن في هذا الخلاف التاريخي بين أكبر طائفتين مسلمتين لم ينزلقوا إلى ما انزلقوا إليه، ولم يتهافتوا إلى ما تهافتوا عليه.
ولا ننسى الجدل في عالم الفن والفنانين، فلو اقتصر الأمر على جوقة الطرب والتمثيل، لقلنا المثل الشعبي "جهنم تاكلهم" لكن كل فنان لديه قائمة طويلة من المعجبين والمعجبات الذين يدافعون عن نجومهم كما يدافع المجنون عن سلوكه، والأحمق عن آرائه، ثم يستفيض الحديث والجدل بينهم في المجلات والإنترنت.
ويحق لنا أن نتساءل: أليس الاشتغال بالجدال بشأن جنس الملائكة أنفع وأعقل وأفضل من الانخراط بالجدال بشأن التفاضل بين مجرمي إسرائيل، أو في قضية المذاهب وفلان فعل وفلان لم يفعل، أو في صوت علاء زلزلي الشنيع وتمثيل محمد هنيدي الهابط وملابس أحلام المزركشة؟
منقول
البيزنطيون كانوا من ألدّ أعداء الخلافة الإسلامية، ################################### ########################
أعود إلى البيزنطيين فأقول : إنني لا أعرف تحديداً متى ظهر هؤلاء ومتى "انقرضوا" ولا أريد أن أعرف لأنني أنهيت امتحانات الثانوية منذ عقد من الزمن ولا أعتقد أن لي رغبة في نيل الدكتوراه والماجستير، ولو تشجعت لنيلهما فلن أفكر بالتخصص في التاريخ لأنني ببساطة لا أثق في التاريخ كثيراً، وببساطة أكثر لأن التاريخ يكتبه الأقوياء دائماً وأبداً، وليس منطقياً الاعتقاد بأن جميع الأقوياء كانوا أصحاب ذمة وضمير عند كتابتهم له.
ولم يخطئ هنري فورد حينما قال: التاريخ هراء، وأصاب من قال: التاريخ شيء لم يحدث قط، كتبه شخص لم يكن هناك، وسأدلي بدلوي وأقول: التاريخ عبارة عن بقايا صدق لهيكل ديناصور من الكذب.
وسبب ثانٍ يجعلني لا أهتم بتاريخ البيزنطيين هو أنني لن أكون ضيفاً كريماً على برنامج "من سيربح المليون" أو ضيفاً ذليلاً في باقي البرامج التي قلدت "قرداحي"، أي أن ما تبقى من العمر، وكذلك امتحانات القبر، ليس فيهما سؤال عن البيزنطيين.
عودة إلى صلب الموضوع, أقول إن العرب جعلوا عبارة (جدل بيزنطي) من التراكيب والعبارات الاصطلاحية في لغتهم، وكان يحق لهم حينئذٍ "التريقة" على باقي الأمم والشعوب، لأن دولتهم كانت دولة عظمى، والعظيم يحق له فعل أي شيء.
لكن بقاء الحال من المحال، ليس فيه شك ولا جدال، وصدق أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس حين قال:
لكل شيء إذا ما تم نقصــــانُ فلا يغر بطيب العيش إنســـانُ
هي الأمور كما شاهدتهــا دول من سره زمن ساءته أزمـــانُ
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليل وتيجــــانُ
وأين ما شاده شـــداد في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهـبٍ وأين عادٌ وشدادٌ وقحطــــانُ
ولو بقي أبو البقاء– والأولى أن يسمى أبا الفناء– لرثى حضرموت واليمن والبحرين وعمان ونجد والحجاز والبصرة وبغداد والموصل والشام وفلسطين ومصر والحبشة والمغرب، فهذه الأقاليم اليوم ليست أفضل حالاً من الأندلس بالأمس، فعليهم وعلينا الرحمة.
لكن أبا الفناء ذهب– بأبي وأمي- بلا رجعة إلى حيث عاد وشداد وقحطان وساسان والتيجان والأكاليل، فعليهم الرحمة أيضاً.
إن سادة العالم في زماننا ليسوا بنباهة العرب سادة زمانهم، ولو كانوا نبيهين لحوَّلوا الجدل البيزنطي إلى جدل عربي، فإذا كان البيزنطيون يتجادلون بشأن جنس الملائكة والعدو على أبواب مدينتهم فإن حال عرب اليوم أشنع وأبشع.
فعرب اليوم يتجادلون مثلاً بشأن شارون وأسلافه، فقائل يقول إن شارون أسوأ رئيس وزراء إسرائيلي ولا يمكن إبرام اتفاقية سلام معه، ويترحم على أيام بن غوريون الذي كان له دور كبير في حرب 48 والعدوان الثلاثي. ويبكي على أيام الشمطاء غولدا مائير التي استطاعت تغيير موازين القوى لصالح إسرائيل بعد انتصارات أكتوبر 73 حينما طارت إلى أميركا طلباً للعون والمدد. ويعضّ أصابع يديه وقدميه ندماً على رحيل واستشهاد بطل السلام رابين الذي قاد الجيش الإسرائيلي في حرب 67 وكان قبلها عضواً في عصابات الهاغاناه. ويضرب صدره ويشق جيبه على أيام مناحيم بيغن صاحب مذبحة دير ياسين واجتياح لبنان واحتلال عاصمتها ثم ضرب المفاعل النووي العراقي. ويبكي دماً على شامير صاحب دير ياسين وبئر السبع ثم راعي سياسة تكسير العظام في الانتفاضة الأولى. ويولول كالثكالى إذا سمع اسم بيريز مهندس البرنامج النووي الإسرائيلي والحاصل على جائزة نوبل للسلام (ولا أدري كيف يجتمع السلام والنووي في الحمام نفسه ؟) ثم صاحب مجزرة قانا. ويتفطر قلبه كمداً لذكر نتنياهو المؤمن بعقيدة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وأكثر ساسة إسرائيل إعلاناً لكره العرب والتشدد مع جماعته. ويغلبه الوجد إذا تذكر محبوبه الجنرال باراك، وهو أكثر العسكريين نيلاً للأوسمة والنياشين كونه من أبرز القيادات العسكرية التي قادت حروب إسرائيل الكبرى.
ولو كان هؤلاء المجادلون على قدر من الفطنة لأدركوا أن شارون وأسلافه وخلفاءه القادمين وجوه لعملة واحدة، لكنهم يأبون إلا أن يكونوا بيزنطيي العصر.
ولنتحول إلى الجدل في قضية العراق، فبعد قمة شرم الشيخ انخرط العرب في جدال عربنطي فيما قاله القذافي وفي رد الأمير عبدالله عليه، ونسي الناس سبب عقد القمة وضاع العراق في "الطوشة". ثم عقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية رقم كذا في الدوحة، وكان رئيس الوفد العراقي يهاجم الكويت وفجأة ثارت الحمية في أحد أعضاء الوفد الكويتي ووقف محتجاً، لكن رئيس الوفد العراقي تلفظ بكلمة باللهجة العراقية لا يعرفها غير العراقيين. "واشتغل" الجدل العربنطي في معنى هذه الكلمة، فمنهم يقول إن "كاولي" تعني طويل الشنب، ومنهم يقول "لوتي" ومنهم يقول "قزم" ولم نعرف حتى الساعة ما انتهى إليه المؤتمر سيئ الحظ.
وأثناء حرب أميركا على العراق سنحت فرصة نادرة للعرب لممارسة هواية الجدل، فكانت كلمة "العلوج" سيدة الموقف وبطلة المعركة، وتجادلوا أشد ما يكون الجدال في معنى "علوج" ما بين خنزير، وابن حرام، والأجنبي الذي يدعي أنه عربي... إلخ.
ولننحّي السياسة جانباً، لأن كل ما فيها يثير الضحك، ونذهب إلى جدل عربنطي في المذاهب الإسلامية، وهو جدل قديم وكان مقتصراً على فئة من العلماء، لكنه– لأن العرب ليست لديهم قضايا أهم- أصبح جدلاً عاماً تشترك فيه فئات المجتمعات العربية كافة، بفضل وفعل فاعل، وتفضل واستسلام مفعول به.
فقد اجتمع العرب بقضهم وقضيضهم على مائدة قناة المستقلة يتابعون بحماس منقطع النظير وتشنج غير مسبوق برنامج مناظرات بين ################################### #########################
وأنا هنا لست بصدد محاكمة "التجار بالدين" لأنهم لا يعنونني وأنا لا أعنيهم، ثم إن محاكمتهم لا تصح، فهل يجوز مثلاً محاكمة الطبيب لأنه يعمل طبيباً؟
لكنني أعني متابعي هذا البرنامج الذين اشتغلوا بتحليل وتلخيص تلك المناظرات، وانخرطوا في جدل عربنطي بشأن ما قيل وما لم يقل، ولو رجعوا إلى عقولهم لانتبهوا إلى أن أصحاب الشأن في هذا الخلاف التاريخي بين أكبر طائفتين مسلمتين لم ينزلقوا إلى ما انزلقوا إليه، ولم يتهافتوا إلى ما تهافتوا عليه.
ولا ننسى الجدل في عالم الفن والفنانين، فلو اقتصر الأمر على جوقة الطرب والتمثيل، لقلنا المثل الشعبي "جهنم تاكلهم" لكن كل فنان لديه قائمة طويلة من المعجبين والمعجبات الذين يدافعون عن نجومهم كما يدافع المجنون عن سلوكه، والأحمق عن آرائه، ثم يستفيض الحديث والجدل بينهم في المجلات والإنترنت.
ويحق لنا أن نتساءل: أليس الاشتغال بالجدال بشأن جنس الملائكة أنفع وأعقل وأفضل من الانخراط بالجدال بشأن التفاضل بين مجرمي إسرائيل، أو في قضية المذاهب وفلان فعل وفلان لم يفعل، أو في صوت علاء زلزلي الشنيع وتمثيل محمد هنيدي الهابط وملابس أحلام المزركشة؟
منقول