عبد الله بوراي
04-05-2009, 08:41 AM
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
قال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان( ).
وعن عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85] قال: الرضى بغير عتاب( ).
فالأخ قد يعاتب أخاه أحيانًا بتلطف وتودد، ولكن يكره له المعاتبة في الصغيرة والكبيرة، بل ليصفح دون معاتبة وليغض الطرف عن بعض ما يعده من الهفوات، أو يتغابى ـ إن صح التعبير ـ أو يتعامى عنها على حد قول الطائي:
وذلك لأن كثرة المعاتبة والإحراج مما يفضي إلى قطع المودة؛ لأن ذلك يشعر أخاك أنك لا تتحمل أدنى شيء منه، أو أنك دائمًا تسيء به الظن، أو تنظر إليه على أنه مقصر في حقك، وتوشك إذا مضيت على هذه الطريقة أن لا تجد من تعاتبه أقصد أن لا تجد صديقًا مصاحبًا.
على حد قول القائل:
أغمِضْ للصديقِ عن المسَاوِي=مخافَةَ أن أعيشَ بلا صَدِيقِ
فاعلم أولاً أنه لابد من القناعة في طلب مواصفات الصديق، وأنك لن تجد صديقًا ليس في وده خلل، وأنت كذلك لا تخلو من نقص، فاقبل في أخيك ما قبله فيك، وإلا دام غمك وطال همك ولن تظفر بمطلوبك...
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ .
وقد نكره أشياء في بعض الناس ولكن عندما نفتقدهم ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به.
فمن حسن الفهم إذًا ومن الفطنة أن توقن أنه لا يخلو صاحب من نقص، فالبشر هم البشر:
وقد قالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو.
وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا.
وقال بعض البلغاء: لا يزهدنّك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله، فإنك لن تجد ـ ما بقيت ـ مهذبًا لا يكون فيه عيب، ولا يقع منه ذنب، فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضا، ولا تجري فيها على حكم الهوى، فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب.
وما أبلغ قول الكندي: نفس الإنسان التي هي أخص النفوس به ومدبَّرة باختياره وإرادته لا تعطيه قيادها في كل ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما يحب، فكيف بنفس غيره؟! وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره.
ولذا قال الماوردي رحمه الله: من حق الإخوان أن تغفر هفوتهم وتستر زلتهم؛ لأن من رام بريئًا من الهفوات، سليمًا من الزلات رام أمرًا مُعوِزًا واقترح وصفًا معجزًا.
وعن عبد الله بن المبارك قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن.
(والمقصود أن من غلب خيرُهُ شرَّه وُهب نقصُه لفضله، وأنك إن طلبت منزهًا عن كل عيب لم تجد، ومن غلبت محاسنه على مساوئه فهو الغاية).
.
وينبني على هذا الكلام أن تعلم أن من حسن المودة وحقوقها العفو والإغضاء عن التقصير، قال الحسن بن وهب: من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن أي تقصير كان.
وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدُم لك ودهم.
فلا تدفعنك هفوة بدرت من أخيك إلى قطعه وتركه، وقد قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).
فتغافل عن هفوات أخيك طلبًا لدوام الألفة، وهذا من الفطنة ووفور العقل...
قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.
وقال أكثم بن صيفي: من شدَّد نفَّر، ومن تراخَ تألف، والشرف في التغافل.
وقال شبيب بن شيبة: الأريب العاقل هو الفطن المتغافل.
وقد تغافل أقوام عن أذى الأعداء فكيف بالأصدقاء!!
فلا ينبغي بحال أن يطول الهجران أو ينقطع التواصل بين الإخوان لموقف أو هفوة مما لا تخلو منه عشرة بين الأصحاب...
وإذًا فإذا بدرت من أخيك إساءة أو خطأ في حقك فإما أن تتجاوز عن ذلك وتتغافل إن قدرت عليه مع طيب نفسك وصفائها، وإلا فعليك بمعاتبته في ود كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله .
وهذا يقودنا إلى الكلام عن فقه المعاتبة:
فأحيانًا نقرأ كلامًا منقولاً عن بعض الصالحين في استحباب ترك العتاب بين الأحبة، وأحيانًا يجعلون المعاتبة من حسن الصحبة، فما الضابط في هذه المسألة؟
وبيان ذلك أنه يحسن ترك العتاب إذا كنت لن تتخذ موقفًا تُسِرُّه ولن تحكم على أخيك حكمًا تكنه في داخل نفسك، وإلا فأنت محسن في الظاهر بترك العتاب، مسيء في الباطن بحكمك على أخيك قبل أن تعطي للمعاتبة فرصتها، فربما كان ذلك رافعًا لظلمك له.
وإذن فأنت بين أمرين: إما أن تترك العتاب ونفسك صافية ولا تتخذ موقفًا تضمره في داخل نفسك من أخيك... وهذه درجة رفيعة... وفي مثل ذلك يقول ابن السماك لما قال له صاحبه: غدًا نتعاتب، قال: بل غدًا نتغافر.
فجعل المرتبة الأولى ترك العتاب مطلقًا مع صفاء النفس، فإن كانت لا تصفو بذلك فالمرتبة الثانية العتاب ولكن بالحسنى، فهذه المرتبة خير من فقد الصديق أو الحكم عليه في السر دون معاتبة...
وفي ذلك يقول أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده.
ومن ذلك قول بعضهم: وفي العتاب حياة بين أقوام.
ولكن هذا مع الحذر من الإكثار أو المعاتبة في كل صغيرة وكبيرة.
وإذن فالمعاتبة لابد منها إذا كنت بصدد اتخاذ موقف أو حكم فصل في أخيك، فالعتاب في هذه الحالة يغسل درن ما حصل ويعيد وصل ما انقطع.
والبعض للأسف قد يهجر أخاه ويكتم السبب ويظل أخوه متألمًا ولا يدري ما السبب، فأين دور العتاب؟
لكن احذر من معاتبة صاحبك في وقت غير مناسب، خاصة إذا أصابته نازلة أو مصيبة لاسيما إن كانت بسبب خطئه...
وأقبح من ذلك لو عيرته بما أصابه بسبب خطئه، فتذكَّر أن الأيام دول، وقد تبتلى بمثل خطئه، فالأفضل في مثل هذه الظروف أن تترك العتاب مؤقتًا ولتتحول إلى التجاهل لخطئه والترفق به إلى أن يحين الوقت المناسب للعتاب، فباختيار الأوقات المناسبة للعتاب تحسن بينكما المعاملة وتتجنبان شر المجادلة.
ومما يتعلق بفقه المعاتبة ضرورة الابتعاد عن الطقوس التي يقررها البعض في علاقاتهم، فبعض الناس مثلاً يقول لأخيه: (المفروض أنك أنت الذي تزورني)، أو يشعر أخاه دائمًا بأنه محتاج أن يعتذر إليه في كل أمر حتى لا يسيء به الظن.
وقد كان من مضى من الصالحين يبتعدون عن هذه الطقوس والتعقيدات، بل يجتهد كل منهم في رفع الحرج عن أخيه في مثل هذه المواقف.
فهذا أحد السلف يقول لأخيه وقد جاء معتذرًا لتقصيره في زيارته: إنا إذا وثقنا بمحبة أخينا لا يضرنا أن لا يأتينا .
****من كتاب مفسدات الاخوة
قال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان( ).
وعن عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85] قال: الرضى بغير عتاب( ).
فالأخ قد يعاتب أخاه أحيانًا بتلطف وتودد، ولكن يكره له المعاتبة في الصغيرة والكبيرة، بل ليصفح دون معاتبة وليغض الطرف عن بعض ما يعده من الهفوات، أو يتغابى ـ إن صح التعبير ـ أو يتعامى عنها على حد قول الطائي:
وذلك لأن كثرة المعاتبة والإحراج مما يفضي إلى قطع المودة؛ لأن ذلك يشعر أخاك أنك لا تتحمل أدنى شيء منه، أو أنك دائمًا تسيء به الظن، أو تنظر إليه على أنه مقصر في حقك، وتوشك إذا مضيت على هذه الطريقة أن لا تجد من تعاتبه أقصد أن لا تجد صديقًا مصاحبًا.
على حد قول القائل:
أغمِضْ للصديقِ عن المسَاوِي=مخافَةَ أن أعيشَ بلا صَدِيقِ
فاعلم أولاً أنه لابد من القناعة في طلب مواصفات الصديق، وأنك لن تجد صديقًا ليس في وده خلل، وأنت كذلك لا تخلو من نقص، فاقبل في أخيك ما قبله فيك، وإلا دام غمك وطال همك ولن تظفر بمطلوبك...
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ .
وقد نكره أشياء في بعض الناس ولكن عندما نفتقدهم ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به.
فمن حسن الفهم إذًا ومن الفطنة أن توقن أنه لا يخلو صاحب من نقص، فالبشر هم البشر:
وقد قالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو.
وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا.
وقال بعض البلغاء: لا يزهدنّك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله، فإنك لن تجد ـ ما بقيت ـ مهذبًا لا يكون فيه عيب، ولا يقع منه ذنب، فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضا، ولا تجري فيها على حكم الهوى، فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب.
وما أبلغ قول الكندي: نفس الإنسان التي هي أخص النفوس به ومدبَّرة باختياره وإرادته لا تعطيه قيادها في كل ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما يحب، فكيف بنفس غيره؟! وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره.
ولذا قال الماوردي رحمه الله: من حق الإخوان أن تغفر هفوتهم وتستر زلتهم؛ لأن من رام بريئًا من الهفوات، سليمًا من الزلات رام أمرًا مُعوِزًا واقترح وصفًا معجزًا.
وعن عبد الله بن المبارك قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن.
(والمقصود أن من غلب خيرُهُ شرَّه وُهب نقصُه لفضله، وأنك إن طلبت منزهًا عن كل عيب لم تجد، ومن غلبت محاسنه على مساوئه فهو الغاية).
.
وينبني على هذا الكلام أن تعلم أن من حسن المودة وحقوقها العفو والإغضاء عن التقصير، قال الحسن بن وهب: من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن أي تقصير كان.
وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدُم لك ودهم.
فلا تدفعنك هفوة بدرت من أخيك إلى قطعه وتركه، وقد قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).
فتغافل عن هفوات أخيك طلبًا لدوام الألفة، وهذا من الفطنة ووفور العقل...
قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.
وقال أكثم بن صيفي: من شدَّد نفَّر، ومن تراخَ تألف، والشرف في التغافل.
وقال شبيب بن شيبة: الأريب العاقل هو الفطن المتغافل.
وقد تغافل أقوام عن أذى الأعداء فكيف بالأصدقاء!!
فلا ينبغي بحال أن يطول الهجران أو ينقطع التواصل بين الإخوان لموقف أو هفوة مما لا تخلو منه عشرة بين الأصحاب...
وإذًا فإذا بدرت من أخيك إساءة أو خطأ في حقك فإما أن تتجاوز عن ذلك وتتغافل إن قدرت عليه مع طيب نفسك وصفائها، وإلا فعليك بمعاتبته في ود كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله .
وهذا يقودنا إلى الكلام عن فقه المعاتبة:
فأحيانًا نقرأ كلامًا منقولاً عن بعض الصالحين في استحباب ترك العتاب بين الأحبة، وأحيانًا يجعلون المعاتبة من حسن الصحبة، فما الضابط في هذه المسألة؟
وبيان ذلك أنه يحسن ترك العتاب إذا كنت لن تتخذ موقفًا تُسِرُّه ولن تحكم على أخيك حكمًا تكنه في داخل نفسك، وإلا فأنت محسن في الظاهر بترك العتاب، مسيء في الباطن بحكمك على أخيك قبل أن تعطي للمعاتبة فرصتها، فربما كان ذلك رافعًا لظلمك له.
وإذن فأنت بين أمرين: إما أن تترك العتاب ونفسك صافية ولا تتخذ موقفًا تضمره في داخل نفسك من أخيك... وهذه درجة رفيعة... وفي مثل ذلك يقول ابن السماك لما قال له صاحبه: غدًا نتعاتب، قال: بل غدًا نتغافر.
فجعل المرتبة الأولى ترك العتاب مطلقًا مع صفاء النفس، فإن كانت لا تصفو بذلك فالمرتبة الثانية العتاب ولكن بالحسنى، فهذه المرتبة خير من فقد الصديق أو الحكم عليه في السر دون معاتبة...
وفي ذلك يقول أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده.
ومن ذلك قول بعضهم: وفي العتاب حياة بين أقوام.
ولكن هذا مع الحذر من الإكثار أو المعاتبة في كل صغيرة وكبيرة.
وإذن فالمعاتبة لابد منها إذا كنت بصدد اتخاذ موقف أو حكم فصل في أخيك، فالعتاب في هذه الحالة يغسل درن ما حصل ويعيد وصل ما انقطع.
والبعض للأسف قد يهجر أخاه ويكتم السبب ويظل أخوه متألمًا ولا يدري ما السبب، فأين دور العتاب؟
لكن احذر من معاتبة صاحبك في وقت غير مناسب، خاصة إذا أصابته نازلة أو مصيبة لاسيما إن كانت بسبب خطئه...
وأقبح من ذلك لو عيرته بما أصابه بسبب خطئه، فتذكَّر أن الأيام دول، وقد تبتلى بمثل خطئه، فالأفضل في مثل هذه الظروف أن تترك العتاب مؤقتًا ولتتحول إلى التجاهل لخطئه والترفق به إلى أن يحين الوقت المناسب للعتاب، فباختيار الأوقات المناسبة للعتاب تحسن بينكما المعاملة وتتجنبان شر المجادلة.
ومما يتعلق بفقه المعاتبة ضرورة الابتعاد عن الطقوس التي يقررها البعض في علاقاتهم، فبعض الناس مثلاً يقول لأخيه: (المفروض أنك أنت الذي تزورني)، أو يشعر أخاه دائمًا بأنه محتاج أن يعتذر إليه في كل أمر حتى لا يسيء به الظن.
وقد كان من مضى من الصالحين يبتعدون عن هذه الطقوس والتعقيدات، بل يجتهد كل منهم في رفع الحرج عن أخيه في مثل هذه المواقف.
فهذا أحد السلف يقول لأخيه وقد جاء معتذرًا لتقصيره في زيارته: إنا إذا وثقنا بمحبة أخينا لا يضرنا أن لا يأتينا .
****من كتاب مفسدات الاخوة