طرابلسي
03-17-2009, 08:11 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه الوليد بن عبد الملك يرد به علي يوسف القرضاوي في مقال له نشره في مجلة المجتمع قال فيه ودندن بمثل ما قال بعضهم هنا . لا تحرمونا دعائكم
قول الدكتور :» فالأمة الإسلامية معظمها أشاعرة أو ماتُريدية ، فالمالكية والشافعية أشاعرة والحنفية ماتُريدية … «
[1] أن الأمة الإسلامية ليس معظمها أشاعرة ولا ماتُريدية لا في القديم ولا في الحديث ، بل فيها طوائف ضالة ومذاهب منتشرة كالمعتزلة الجهمية ،
والصوفية المنحرفة ، والرافضة الكفرة ، وغيرهم .
[2] أن أئمة المذاهب لم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة المجتهدين ، بل كانوا من أئمة السلف أهل السنة والجماعة
كالإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر ، والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام ، والإمام إسحق بن راهويه إمام خراسان ، والإمام سفيان الثوري إمام العراق ،
والإمام المجاهد عبدالله بن المبارك ، وأئمة البصرة في زمانهم حماد بن سلمة وحماد بن زيد ، وإمام سمرقند الحجة عبدالله بن عبدالرحمن الدار مي السمرقندي
وأئمة اليمن الحفاظ معمر بن راشد الأزدي وعبدالرزاق الصنعاني ، وأئمة الحديث الجهابذة الراسخين علي بن المديني وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي
ويحيى بن معين ، ويحي القطان وشعبة بن الحجاج الأزدي ، وإمام الدنيا في زمانه الإمام البخاري صاحب الصحيح وصحيحه يشهد بذلك ، وتلميذه الإمام
الحافظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أيضاً ، وبقية أصحاب الكتب الستة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وخاتمة الجهابذة إمام المسلمين
في زمانه أبو الحسن الدارقطني وخليفته من بعده الخطيب البغدادي ، وإمام الأئمة ابن خزيمة والإمام ابن حبان والإمام الحاكم … وغيرهم كثير ولله الحمد
فلم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية ، بل سلفيين أهل السنة والجماعة .
[3] أن المالكية والشافعية ليسوا أشاعرة وليس الحنفية ماتُريدية ، ولنضرب لذلك أمثلةً يتبين فيها ذلك :
أما المالكية فالإمام مالك رحمه الله تعالى لم يكن أشعرياً لا هو ولا تلاميذه الذين أخذوا عنه كابن القاسم وسحنون وبشر بن عمر الزهراني ، ولا الذين
رووا عنه الموطأ كالإمام يحيى الليثي وأبي مصعب الزبيري ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم كثير ،
وأما أتباع مذهبه من الأئمة الكبار فلم يكونوا أشاعرة بل كشيخهم وإمامهم من أئمة السلف ، فمنهم : إمام المالكية في زمانه قاضي بغداد الإمام المشهور
إسماعيل بن اسحاق القاضي أحد أحفاد الإمام الثبت حماد بن زيد ، وإمام المالكية في العراق في زمانه القاضي عبدالوهاب المالكي ، وإمام المالكية في زمانه
الذي كان يُقال له مالك الصغير الإمام عبدالله بن أبي زيد القيرواني ، والإمام العلامة أبو عمرو الطلمنكي ، والإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي ،
والإمام الحجة أبو عبدالله المشهور بابن أبي زمنين ، وحافظ المغرب في زمانه إمام الأندلس بل المغرب الحجة العلامة أبو عمر بن عبدالبر ، وغيرهم كثير
ومن المتأخرين من المالكية وإن كان يُعتبر من الأئمة المجتهدين والجهابذة الراسخين الذي كان معدوم النظير في عصرنا الحاضر الإمام العلامة أبو عبدالله
محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ، وكتابهُ في التفسير [ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ] شاهدٌ على ذلك وعلى تقدمه وعلو منزلته .
وأما الشافعية : فإن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يكن أيضاً أشعرياً لا هو ولا تلاميذه الذين أخذوا عنه كالإمام إسماعيل بن يحيى المزني ، والإمام
الربيع بن سليمان المرادي ، وكالإمام البويطي وغيرهم ، وأما أتباع مذهبه الكبار الجهابذة فلم يكونوا أشاعرة بل أئمة سلفيين من أهل السنة والجماعة
أمثال : إمام الشافعية في زمانه أبي العباس بن سريج ، وإمام الشافعية في زمانه أبي العباس سعد بن علي الزنجاني ، والإمام حجة الإسلام أبي أحمد الحداد ،
وإمام الشافعية في زمانه إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي ، وكالإمام الحجة أبي بكر بن المنذر ، والإمام المشهور الذي كان يقال له الشافعي الثاني
أبو حامد الإسفراييني،وصاحبه الإمام العلامة الحجة شيخ الإسلام أبي القاسم الطبري اللالكائي وانظر كتابه [ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]
والإمام المشهور إمام المسلمين في زمانه أبي عبدالله محمد بن نصر المروزي ، وكذلك الأئمة حُفاظ عصرهم أبو الحجاج المزي ، والإمام علم الدين البرزالي
وأبو عبدالله الذهبي مؤرخ الإسلام ومفيد الشام ، والإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الشافعي ، ومن المتأخرين من الشافعية الإمام العلامة أحمد بن عبدالقادر الحِفظي وغيرهم كثير ولله الحمد .
وأما الحنفية : فإمامهم الإمام الفقيه أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى لم يكن ماتُريدياً لا هو ولا تلامذته الجهابذة أمثال : محمد بن الحسن الشيباني أحد
رواة موطأ الإمام مالك ، والقاضي أبي يوسف وغيرهم ، وأما أتباع مذهبه الجهابذة الكبار فلم يكونوا لا ماتُريدية ولا أشعرية ، بل أئمة سلفيين أمثال :
الإمام الفقيه هشام ابن عُبيدالله الرازي عالم الري في زمانه ، والإمام العلامة المحدث الفقيه إمام الحنفية في زمانه بل محدث الديار المصرية وفقيهها الإمام
أبو جعفر الطحاوي ، وعقيدته المسماة» بالعقيدة الطحاوية «مشهورة بين العلماء وطلبة العلم ، وأفضل من شرحها من العلماء الحنفية الإمام العلامة
القاضي ابن أبي العز الحنفي وأما من المتأخرين من علماء الحنفية بل من علماء العلم الإسلامي الإمام المجتهد العلامة محمد بن صديق بن حسن خان
القنُّوجي ، فقد أبان عن مذهب السلف في كتابه القيم » الدين الخالص « وهناك غيرهم من أئمة السلف .
وأما أتباع المذاهب الأخرى كالمذهب الزيدي مثلاً فقد ظهر منهم عُلماء اختاروا مذهب السلف وأيدوه ودافعوا عنه وردوا على من خالفه ، حتى على
نفس المذهب الزيدي الذي نشأوا في بداية حياتهم عليه ، ومن هؤلاء العلماء :
السيد الإمام العلامة محمد بن إبراهيم بن عبدالله المشهور بابن الوزير المتوفى سنة 840 صاحب كتاب» العواصم والقواصم في الذب عن سُنة أبي القاسم «
وكذلك الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى 1182 صاحب كتاب» سُبل السلام شرح بلوغ المرام «
وكذلك الإمام العلامة المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 ورسالته المسماة » بالتحف في مذاهب السلف تدل على ذلك
قول الدكتور : » وكل علمائنا وأئمتنا الكبار من هؤلاء … « - يقصِد الأشاعرة والماتُريدية - و ذكر منهم : الاسفراييني ، والجويني ، والباقلاني ، والغزالي ، والآمدي ، وابن حجر العسقلاني ، وأبو الوليد الباجي ، وغيرهم من العلماء ، وسنبين إن شاء الله هُنا حال بعض الذين ذكرهم ، وحال غيرهم ممن اتبع سبيلهم ونهج طريقهم حتى يتبين لنا الحق في ذلك من غيره والله وحده المستعان .
[1] أن الأئمة الكبار ، والعلماء الجهابذة الفخام لم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية ولا معتزلة جهمية ولا رافضة ولا خوارج ولا قرامطة ولا باطنية ولا غير ذلك من الفرق المنحرفة الضالة ، بل هم أئمة سلفيين أهل سُنةٍ وجماعة كما مر معنا في الوقفة العاشرة .
[2] أن العلماء الذين ذكرهم لا يصلون في الفضل والعلم إلى مرتبة الأئمة الأربعة ولا أئمة الحديث والفقه والذين ذكرنا بعضاً منهم في الوقفة العاشرة .
أن الماتُريدي والمنتسبين إليه وكثيراً من المنتسبين للأشعري هم في الحقيقة موافقون للمعتزلة والجهمية في كثير من أقوالهم التي تقلدوها ، وبيان ذلك فيما يلي : إن أول من أنكر صفات الله تعالى في دار الإسلام هو الجعد بن درهم ، فقد أنكر صفة محبة الله تعالى لعباده المؤمنين وأنكر كلام الله تعالى ،فقتله الأمير خالد بن عبدالله القسري في عيد الأضحى حيث خطب الناس وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيرا ، ثم نزل فذبحه كما تذبح الشاة ، ثم أخذ هذه المقالة الخبيثة الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم ونشرها بين المسلمين فنُسبت هذه البدعة إليه فسُميت ببدعة الجهمية ، وكل من قال بذلك فهو جهمي ، ثم أخذ هذه البدعة الضال بشر بن غياث المِريسي الجهمي وحاول نشرها بين المسلمين ، فرد عليه عُلماء السلف الجهابذة الأجلاء أهل السنة والجماعة ، وصاحوا بهم من كل مكان وبدَّعوهم وكفروهم وضللوهم على هذه البدعة التي انتشرت بين بعض عوام المسلمين ، بل وصلَ
أثرها السيء إلى بعض المنتسبين للعلم من أتباع الأئمة الأربعة حتى أدى ذلك بهم إلى تأويل صفات الله تعالى بزعم أن ظاهرها يقتضي التشبيه ، وهذا القول أول من عُرف به هم الجهمية وأتباعهم من المعتزلة وأهل الكلام ،قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وهذا القول أول من عُرف به هم الجهمية والمعتزلة وانتقل منهم إلى الكُلاَّبية والأشعرية والسالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة : كأبي الحسن التميمي ، وابنه أبي الفضل ، وابن ابنه رزق الله ، والقاضي أبي يعلى ، وابن عقيل ، وأبي الحسن بن الزاغوني ، وأبي الفرج
ابن الجوزي ، وغير هؤلاء من أصحاب أحمد وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض في كلامه ، وكأبي المعالي الجويني وأمثاله من أصحاب الشافعي ،وكأبي الوليد الباجي وطائفة من أصحاب مالك ، وكأبي الحسن الكرخي وطائفة من أصحاب أبي حنيفة « . [ مجموع الفتاوى ( 5 / 576 ) ]
ولهذا كان من الواجب أن نبين بعض حال هؤلاء الذين سماهم الدكتور ووصفهم أنهم من أهل السنة والجماعة ، فنبدأ بالأشعري فنقول وبالله التوفيق :
الأشعري ( أبو الحسن ) رحمه الله تعالى المتوفى سنة 324 هـ
فقد كان في مبدأ أمره يقول بقول المعتزلة الذين منهم شيخه وزوج أمه أبو علي الجبائي رأس المعتزلة وهذا الذي أثر فيه وجعله يتمسك بمذهب المعتزلة
أربعين سنة ، ثم بعد ذلك تحول عنه إلى مذهب الكُلابية أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كُلاب ، وتاب من القول بمذهب المعتزلة وجعل يرد عليهم
ويفضح مذاهبهم وأقوالهم ، فألف في هذه الفترة كتبه : » اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع « و » كشف الأسرار وهتك الأستار « وغيرها من الكتب « [ انظر الفهرست لابن النديم ص 257 وكذلك تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 39 – 42 ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال سلك طريق أبي محمد بن كُلاَّب « [ مجموع الفتاوى ( 5 / 556 )] »وذكر الإمام الذهبي أن الأشعري لحقَ بالكلابية وسلك طريقهم « [ سير أعلام النبلاء ( 11 / 228 ) ] وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر ابن كُلاب:» ونصر طريقته أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وخالفه في بعض الأشياء ولكنه على طريقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه «[ اجتماع الجيوش الإسلامية ص 257 ] ولذلك أثر فيه هذا في ترك مذهب المعتزلة والقول بما يوافق السلف في غالب مذهبهم ، وإن كان له أقوال وافق فيها الجهمية وذلك بسبب عدم إحاطته بمذهب السلف في كل ما يقولون به إحاطةً كاملةً ،
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية :» وأما ابن كُلاَّب والقلانسي والأشعري … هؤلاء معروفون بالصفاتية ، مشهورون بمذهب الإثبات ، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية …« [مجموع الفتاوى (12 / 206 ) ]
وقال أيضاً:» وأبو الحسن الأشعري نصر قول» جهم « في» الإيمان « مع أنه نصر المشهور عن» أهل السنة « أنه : »يستثني في الإيمان «… وهو دائماً ينصر – في المسائل التي فيها النـزاع بين أهل الحديث وغيرهم – قول أهل الحديث ، لكنهُ لم يكن خبيراً بمآخذهم ، فينصره على مايراه هو من الأصول التي تلقَّاها عن غيرهم ، فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء ، كما فعل في مسألة الإيمان نصرَ فيها قول جهم مع نصره للاستثناء ولهذا خالفهُ كثير من أصحابه في الاستثناء واتَّبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك ، ومن لم يقف إلا على كُتُب الكلام ولم يعرف ماقاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب ، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة ، بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره الأشعري وهو عندهم شَرٌّ من قول المرجئة … « [ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 7 / 120 – 121 ) ]
( تكملة الوقفة الثانية عشرة )
الإمام أبو حامد الاسفراييني
الإمام أبو حامد الاسفراييني لم يكن من الأشاعرة بتاتاً،بل كان ممن يذمون الأشاعرة وكان رحمه الله يُحذر منهم أشد التحذير ، كما نقل عنه الإمام العلامة شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي قال:» سمعت الأمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول:سمعت الإمام أبا بكر عبيدالله بن أحمد يقول:سمعت الشيخ
أبا حامد الاسفراييني يقول :» مذهبي ومذهب الشافعي وفقها الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر…«[ شرح الأصفهانية 35]
ولذلك كان الإمام أبو حامد يُحذر من الأشاعرة ومن الإمام أبي بكر الباقلاني لأنه وإن كان ينتسب إلى الأشعري فقد كان له أقوال مخالفة لمذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وسأذكر ذلك في بيان حال الباقلاني إن شاء الله تعالى .
أبو بكر بن الطيب الباقلاني
أما القاضي أبو بكر الباقلاني فهو وإن كان ينتسب إلى الأشعري فإنه كان يوافق المعتزلة في كثيرٍ مما يقولون مما جعل الأئمة في زمانه يُحذرون منه ، ويذمون
الأشاعرة لذلك السبب ، قال الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي :» كان الشيخ أبو حامد الاسفراييني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام …« وقال أيضاً:» كان الشيخ أبو حامد الاسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من » قطيعة الكرخ « إلى » الجامع المنصور « يدخل الرباط المعروف » بالروزي « المحاذي للجامع ، ويُقبل على من حضر ويقول : اشهدوا عليَّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قال الإمام أحمد بن حنبل لا كما يقول الباقلاني ، ويتكرر ذلك منه ، فقيل له في ذلك ؛ فقال : حتى تنتشر في الناس وفي أهل البلاد ويشيع الخبرُ في أهل البلاد أني بريءٌ مما هم عليه – يعني الأشعرية – وبريءٌ من مذهب الباقلاني ؛ فإن جماعة من المتفقهة الغُرباء يدخلون على الباقلاني خفيةً ويقرؤون عليه فيعتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة ، فيظن ظانٌ أنهم مني تعلموه وأنا قُلته ، وأنا بريءٌ من مذهب الباقلاني وعقيدته …« [ شرح الأصفهانية من 35 – 36 ]
وذكر الأمام الكرجي :» أن أبا بكر الباقلاني إذا خرج إلى الحمام يتبرقع خوفاً من الشيخ أبي حامد الاسفراييني لكي لا يراه «
ونتيجةً لذلك فقد تاب الباقلاني من كثير من الأقوال المخالفة لمذهب السلف وألف كتاب » تمهيد الأوائل « وكتاب » الإبانة « وذكر فيها أنهُ يقول
بما قاله السلف في الاعتقاد في الجملة ، وإن كان مع ذلك يوجد عنده بعض الأقوال المخالفة لمذهب السلف والتي بقيت لديه بسبب عدم إحاطتهِ الإحاطة التامة بمذهب السلف ، وبسبب علم الكلام الذي تعلمه والأصول التي أخذها عن غير أهل السنة والجماعة ويأتي إن شاء الله مزيد بيان لذلك .
أبو المعالي الجويني الابن ، المتوفى سنة 478 هـ
مع أن الإمام أبي محمد الجويني والد أبي المعالي قد تاب من مذهب الأشعري إلا أن ابنه لم يسلك طريق أبيه ، فقد كان يقول بمذهب الجهمية ويُنكر
علو الله على خلقه ، مع أنه ينسب نفسه للأشعري ، وفي هذا المقام قصة معروفة :» فقد ذكر الإمام محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة ،
أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرةً والأستاذ أبو المعالي يذكر على منبره ويقول:» كان الله ولا عرش « ونفى الاستواء ، فقال له الشيخ أبو جعفر:
يا أستاذ دعنا من ذكر العرش – يعني أن ذلك ثبت بالسمع – أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارفٌ قط : يا الله إلا وجدَ من
قلبه معنىً يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفعُ هذه الضرورة من قلوبنا ؟! فصرخ أبو المعالي ووضع يده على رأسه وقال : حيَّرني الهمداني
حيرني الهمداني ونزل « [ مجموع الفتاوى ( 4 / 44 و 61 ) وانظر أيضاً ( 3 / 220
وسبب حيرته هذه هو عدم سلوكه طريق السلف أهل السنة والجماعة ، فلم يكن عنده من العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وبآثار السلف ما يعتصم به من هذه الحيرة والشبهات والشكوك ، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأما الجويني ومن سلك طريقته : فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن
أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم ، قليل المعرفة بالآثار ، فأثَّر فيه مجموع الأمرين …« [ مجموع الفتاوى ( 6 / 52 ) ]
وفي آخر حياته ترك أبو المعالي ما كان ينتحله من مذهب الجهمية المعتزلة ، قال في كتابه » الرسالة النظامية « :» اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل … « [ مجموع الفتاوى ( 5 / 100 –101 ) ] وانظر أيضاً [ ( العلو ، للذهبي ص 187- 188 ) ]
فأحسنَ أبو المعالي في ترك مذهب الضُّلال والقول بترك التأويل- أي التحريف - في نصوص الصفات ، ولكنهُ أخطأ في نسبة التفويض إلى السلف خطأً
عظيماً ، وما ذلك إلا لأنه لم يكن على معرفةٍ كاملة وإحاطة تامةٍ بمذهب السلف رحمهم الله تعالى كما مر معنا ،
ومع هذا فقد ندم أشد الندم على سلوكه الطريق السابق واختار أن يموت على عقيدة أمه أو عجائز نيسابور ،فقال:» يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو
أني عرفتُ أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به ، وقال عند موته : لقد خُضتُ البحر الخِضم وخلَّيت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه ،
والآن إن لم يتداركن الله برحمته فالويل لابن الجويني وها أنذا أموت على عقيدة أمي – أو قال – : عقيدة عجائز نيسابور «[ مجموع الفتاوى ( 4 / 73 )
الغزالي ( أبو حامد ) المتوفى سنة 505 هـ
أما الغزالي فقد تكلم عن نفسه في كتابه » المنقذ من الضلال « فبين أنه درس أولاً علم الكلام وثنى بالفلسفة وثلَّث بتعاليم الباطنية وربَّع بطريق الصوفية وأما طريقة السلف في تعلم آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده فلم يذكرها في كتابه ، ولذلك تكلم فيه خَلقٌ من العلماء حتى أخص الناس به تكلموا فيه وحذروا منه ومن كُتبه ، ونذكر منهم ما يلي :
أ - [ الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي ] فقد كان من رُفقاء الغزالي واجتمع به وعرفه حق المعرفة ، فقال في جواب لسائل يسأله عنه :
» سلامٌ عليك فإني رأيت أبا حامد وكلمته فوجدته امرءاً وافر الفهم والعقل وممارسةٍ للعلوم ، وكان ذلك معظم زمانه ، ثم خالف عن طريقِ العلماء ودخلَ في غِمار العمال ، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان ، ثم سابها وجعل يطعن على الفقهاء بمذاهبِ الفلاسفة ورموز الحلاج ، وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين ، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين … «
وقال عن كتابه » إحياء علوم الدين « : » وهو لعمر الله أشبه بإماتة علوم الدين … «
ثم قال عنه :» فلما عمل كتابه الإحياء عَمَدَ فتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية ، وكان غير أنيسٍ بها ولا خبيرٍ بمعرفتها فسقط على أُم رأسه ،
فلا في علماء المسلمين قَرَّ ، ولا في أحوال الزاهدين استقرَّ ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم كتاباً على وجه الأرض أكثرُ كذباً على الرسول منه ، ثم شبَّكهُ بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج ومعاني رسائل إخوان الصفا … وما مثلُ من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية إلا كمن يغسل الثوب بالبول ، ثم يسوق الكلام سوقاً يُرعد فيه ويبرق ، ويُمنِّي ويُشوِّقُ ، حتى إذا تشوفت له النفوس قال: هذا من علم المعاملة وما وراءه من علم المكاشفة لا يجوز تسطيره في الكتب ، ويقول : هذا من سر الصدر الذي نُهينا عن إفشائه ، وهذا فعل الباطنية وأهل الدَّغل والدَّخل في الدين ، يستقل الموجود ، ويُعلق النفوس بالمفقود ، وهو تشويش لعقائد القلوب ، وتوهين لما عليه الجماعة ، فلئن كان الرجل يعتقدُ ما سطَّرهُ لم يَبعد تكفيرُهُ ، وإن كان لا يعتقده فما أقربَ تضليلُه ، وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة خِيفَ عليهم أن يعتقدوا إذاً صحتَ ما فيه … « [ انظر مقدمة كتاب الحوادث والبدع للإمام الطرطوشي ( ص 17 –18 ) ]
ب - [ الإمام العلامة أبو عمرو بن الصلاح ]
فقد ذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح – فيما جمعهُ من طبقات أصحاب الشافعي وقرَّرهُ الشيخ أبو زكريا النووي – قال في هذا الكتاب:» فصلٌ في بيان
أشياء مهمةٍ أُنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ، ولم يرتضيها أهل مذهبهِ من الشذوذ في مصنفاته « ثم ذكر ما يُنتقد عليه حتى قال:» فكيف غَفَلَ الغزالي عن شيخه إمام الحرمين ومِن قبلهِ مِن كلِّ إمام هو لهُ مُقدِّم ، ولمحله في تحقيق الحقائقِ رافعٌ ومُعظِّم ، ثم لم يرفع أحدٌ منهم بالمنطقِ رأساً ، ولا بنى عليه أُسَّاً ، ولقد بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُمَ شؤمها على المتفقهة ، حتى كثُرَ فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان . [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ص 132]
ج – [ الإمام أبو عبدالله المازري المالكي ]
فقد قال عن الغزالي:» وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته علوم الفلسفة ، وأكسبته قراءة الفلسفة جُرأةً على المعاني ،
وتسهيلاً للهجوم على الحقائق … « [ شرح الأصفهانية ص 133 – 134 ]
وقال عنه:» وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان لهُ عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا ، وذكر المازري أن الغزالي كان يُعوِّل على ابن سينا الفيلسوف
في أكثر ما يشير إليه في علم الفلسفة « ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه:» بأن من لم يكن عنده من البسطة
في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز له … « [ نفس المصدر السابق ]
د – [ الإمام ابن العربي المالكي ]
قال عن شيخه وصاحبه الغزالي:» شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر ، وقد حكى ابن العربي عنه من القول بمذاهب
الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كُتبه ، ورد عليه العُلماء « . [ مجموع الفتاوى ( 4 / 164 ) ]
ه – [ شيخ الإسلام ابن تيمية ]
قال عنه:» والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة بسبب كلام ابن سينا في الشفاء وغيره ، ورسائل إخوان الصفا ، وكلام أبي حيان التوحيدي ، وأما
المادة المعتزلية في كلامه فقليلة أو معدومة ، وكلامه في الإحياء غالبه جيد ، لكن فيه مواد فاسدة : مادة فلسفية ، ومادة كلامية ، ومادة من تُرَّهات
الصوفية ، ومادة من الأحاديث الموضوعة …« [مجموع الفتاوى ( 6 / 54 – 55 ) ] وقال عن » كتاب الإحياء « :» والإحياء فيه فوائد كثيرة ، لكن فيه مواد مذمومة ، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد ، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلين وألبسه ثياب المسلمين ، وقد أنكر أئمةُ الدين على أبي حامد هذا في كُتبه ، وقالوا : مرَّضه الشفاء يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة ، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة كثيرة ، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وتُرَّهاتهم …« [مجموع الفتاوى ( 10 / 551- 552 ) ]وقال عنه أيضاً:» في كلامه مادة فلسفية وأمور أُضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المُخالفة للنبوة ، بل الـمُخالفة لصريح العقل ، حتى تكلم فيه جماعات من عُلماء خُراسان والعراق والمغرب : كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني ، وأبي الوفاء بن عقيل ، والقشيري ، والطرطوشي ، وابن رشد ، والمازري ، وجماعات من الأولين … وذكر منهم الإمام ابن الصلاح والإمام النووي . [ شرح الأصفهانية ص 132 ] وانظر [ مجموع الفتاوى ( 4 / 66 ) ]
وقال عنه في موضع آخر : » يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يُحرفون كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة والباطنية … « [ مجموع الفتاوى ( 10 / 403 ) ]
وسبب كلام هؤلاء العلماء في الغزالي وغيره هو : عدم سلوكهم طريقة السلف أهل السنة والجماعة في الإحاطة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم
وآثار الصحابة رضي الله عنهم ، ولذلك قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء ، ولا تلقَّى عن هذه
الطبقة ، ولا كان خبيراً بطريقة الصحابة والتابعين ، بل كان يقول عن نفسه:» أنا مُزجى البضاعة في الحديث « ولهذا يوجد في كُتبه من الأحاديث
الموضوعة والحكايات الموضوعة مالا يَعتمد عليه من لهُ علمٌ بالآثار… « [ شرح الأصفهانية ص 128 ]
والغزالي في آخر حياته تاب مما كان قد صدر منه مما يُخالف دين الإسلام،كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حينما تكلم عنه فقال:» وأجود مالهُ من المواد المادة الصوفية ولو سلك فيها مسلك الصوفية وأهل العلم بالآثار النبوية واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصلَ مطلوبه ، ونالَ مقصوده ، ولكنه في آخر عُمره سلك هذا السبيل … « [ شرح الأصفهانية ص 146 ]
ولذلك قال عنه تلميذه أبو الحسن عبدالغافر الفارسي : وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجالسة أهله ، ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم اللذين هما حجة الإسلام … « [ طبقات الشافعية للسبكي ( 4 / 111 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 19 / 325 – 326 ) ]
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغزالي مات وعلى صدره صحيح البخاري [ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ( 1 / 162 )] وذكر عنه أنه كان يقول:» أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام« [مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]
وألف كتباً في هذه المرحلة مثل :» إلجام العوام عن علم الكلام « و » وتهافت الفلاسفة « وغيرها ،
فإذا كان الغزالي قد اعترف بما آل إليه أمره من الشك والحيرة في آخر حياته ، وتاب مما قد صدر منه قبل مماته ، فهذا أمرٌ بينه وبين الله تعالى المطلع
على سريرته ، وأما كتبه التي ألفها وفيها ما حذر العلماء منه فينبغي تركها والتحذير منها وعد اشتغال الناس بها ،
كما قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح : » أبو حامد كثُر القول فيه ومنه ، فأما هذه الكُتب – يعني المخالفة للحق – فلا يُلتفتُ إليها ، وأما الرجل
فَـيُسكت عنه ويفوض أمره إلى الله « [مجموع الفتاوى ( 4 / 65 ) ].
الرازي أبو عبدالله عُمر بن الحسين المعروف ( بابن الخطيب ) المتوفى سنة 606 هـ
أما الرازي فقد أتعب نفسه طول حياته بالبحث فيما عاد عليه بالضرر من الحيرة والشك كما اعترف هو بنفسه ، وقبل أن نذكر كلامه عن نفسه وكلام العلماء الصادقين فيه نبين بعض ما قد صدرَ منه من الأقوال الفاسدة والخطيرة المنحرفة ،
[1] أنه كان يطعن في الأدلة الشرعية من حيث دلالتها فزعم أنها لا تُفيد اليقين ، ومن حيث أن الأخبار الشرعية لا تفيد العلم ، وهذه زلةٌ عظيمة
تجرُّ بلاء عظيماً ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :» فتجد أبا عبدالله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين وفي إفادة الأخبار للعلم ، وهذان
هما مقدمة الزندقة « [ مجموع الفتاوى ( 4 / 104 ) ]وقال عنه في موضعٍ آخر :» أنه من أعظم الناس طعناً في الأدلة السمعية حتى ابتدع قولاً ما عُرف به قائلٌ مشهور غيره وهو أنها لا تفيد اليقين « [مجموع الفتاوى ( 13 / 141 ) ].
[2] أنه قدم العقل على النقل من الكتاب والسنة ، فجعل العقل أصلاً والنقل تابعاً ، وافترض افتراضاً باطلاً وهو كما في كتابه تأسيس التقديس
وهو : أنه لو خالف النقل عقلٌ فماذا يحصل ؟!! ، وهذا نوعٌ من الطعن في الأدلة الشرعية فإنه لا يمكن أن يُخالف نقلٌ صحيح عقلٌ سليم صريح ،
كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم : درء تعارض العقل والنقل ويسمى أيضاً : موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ، ولهذا قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : وكُتب أصول الدين لجميع الطوائف مملوءة بالاحتجاج بالأدلة السمعية الخبرية ، لكن الرازي طعن في ذلك في المطالب العالية
قال: لأن الاستدلال بالسمع مشروط بأن لا يُعارضه قاطعٌ عقلي ، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه ، قال : والعلم بانتفاء المعارض العقلي متعذر ،
[مجموع الفتاوى ( 13 / 139 ) ] وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السابق .
[3] أن الرازي قد صنف كتباً في كيفية عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر ، وذكر فيها أن التقرب إلى هذه الكواكب يكون بفعل الفواحش
وشرب الخمر والغناء ونحو ذلك مما حرمه الله تعالى ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم عن فتنة التتار وقهرهم للخليفة بالعراق وقتلهم ببغداد
مقتلة عظيمة جداً قال : وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع ، حتى صنف الرازي كتاباً في عبادة الكواكب
والأصنام وعمل السحر وسماه : السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ويُقال أنه صنفه لأم السلطان : علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين
خوارزم شاه ، وكان من أعظم ملوك الأرض ، وكان للرازي به اتصال قوي ، حتى إنه وصى إليه على أولاده ، وصنف له كتاباً سماه الرسالة العلائية
في الاختيارات السماوية وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين…وأهل النجوم لهم اختيارات
إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعاً سعيداً فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم ، وقد صنف الناس كتباً في الرد عليهم ، وذكروا كثرة ما يقع
من خلاف مقصودهم فيما يُخبرون به ويأمرون به،وكم يُخبرون من خبر فيكون كذباً،وكم يأمرون باختيار فيكون شراً، والرازي صنف الاختيارات
لهذا الملك ، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك ، كما ذكر في السر المكتوم في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها والشرك بها ودعائها ،
مثل ما يدعوا الموحدون ربهم بل أعظم ، بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء ونحو ذلك مما حرمه الله ورسوله … [مجموع الفتاوى ( 13 / 180 – 181]
[4] أنه كان أعظم المتكلمين في باب الحيرة والشك والاضطراب وتناقض المقالات ، كما اعترف بنفسه في آخر حياته ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
عنه : وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب – باب الحيرة والشك والاضطراب – لكن هو مسرفٌ في هذا الباب بحيث له نهمة في
التشكيك دون التحقيق … [مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]وقال عنه في موضعٍ آخر : وأما ابن الخطيب فكثير الاضطراب جداً ، لا يستقر على حال ، وإنما هو بحثٌ وجدل ، بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه … [مجموع الفتاوى ( 6 / 55 ) ]
وسبب اضطرابه هو وأمثاله ممن ذكرناهم وغيرهم هو : عدم سلوكهم سبيل المؤمنين من السلف الصالح أهل السنة والجماعة ، وتوليهم لمذاهب أهل
الضلالة ، من المتكلمين والفلاسفة ، مما جعل أكابرهم في آخر حياتهم يعترفون بالحيرة والندامة ، ومنهم الرازي نفسه ، حتى قال عنه شيخ الإسلام
ابن تيمية : فهو تارة يرجح قوله قول الفلاسفة ، وتارة قول المتكلمة ، وتارة يحار ويقف ، واعترف في آخر عُمره بأن طريق هؤلاء وهؤلاء لا تشفي
عليلاً ولا تروي غليلاً … « [مجموع الفتاوى ( 3 / 128 ) ]
وهذا هو الذي استقر عليه الرازي في آخر حياته حيث قال في كتابه» أقسام اللذات« :» لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات : ( الرحمن على العرش استوى ) ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح يرفعه ) واقرأ في النفي : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( ولا يحيطون به علما ) ( هل تعلم له سميا ) ثم قال : ومن جرَّب مثل
تجربتي عرف مثل معرفتي ، وكان دائماً يتمثل : نهاية إقـدام العقـول عقـالُ وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصلُ دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالُ [مجموع الفتاوى ( 4 / 72- 73 ) ]
وكان يقول كما قال أمثاله من قبل : من لزم دين العجائز كان هو الفائز ، وكأن الجميع اتفقوا على أن غاية ما علموه طيلة حياتهم لا يُساوي دينَ
واعتقاد العجائز ، وما ذاك إلا لأن إيمانهن واعتقادهن قويٌ صحيحٌ سليمٌ من تلك الشبهات والوساوس التي في نفوس أولئك القوم المتكلمين ،
وقبل وفاته كتب وصيته التي أعلن فيها تبريه مما كان يقول به ورجوعه إلى مذهب السلف الصالح أهل السنة والجماعة واختياره طريقهم دون غيرهم من الناس وإثبات ما ورد من صفات الله تعالى على الوجه المراد منها واللائق بجلال الله تعالى وعظمته ، قال الإمام الحافظ أبو الفداء بن كثير:(( وقد ذُكرت وصيته عند موته ، وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف ، وتسليم ما ورد على الوجه اللائق بجلال الله سبحانه .[ البداية والنهاية ( 13 / 55 )]
فيا ليت من انحرف عن طريق السلف الصالح أهل السنة والجماعة أن يتوب إلى الله ويرجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويفعل
مثل ما فعل هؤلاء من التوبة والندم والرجوع إلى ذلك .وقد تأثر كثير من تلاميذ الرازي بحاله الأول حال الحيرة والشك ، فمنهم تلميذه شمس الدين عبدالحميد الخسروشاهي المتوفى سنة 652 هـ حيث قالَ لما دخلَ عليه بعض الفُضلاء قال له شمس الدين (( : ما تعتقد ؟ فقال له الرجل : ما يعتقده المسلمون ، فقال له : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به ؟! فقال الرجل : نعم ، قال له : اُشكر الله على هذه النعمة ، ولكني والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى أخضل لحيته . [ شرح العقيدة الطحاوية ( 1 / 245 –246 ) ]
الآمــــدي
وأما الآمدي فقد كانت الحيرة والشك تغلب عليه حتى اعترف هو بذلك ، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في
عامة الأصول الكبار ، حتى أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يُقرر في كتبه
لا إثبات إلا لصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئاً من الأصول الكبار التي يحتاج إلى معرفتها .[ مجموع الفتاوى ( 5 / 562 ) ]
الشهرستاني أبو الفتح محمد بن القاسم بن عبدالكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ.
كان الشهرستاني من عُلماء الأشاعرة المتكلمين وقد اعترف في آخر ما حصله من ذلك بالحيرة والشك ، وأن جميع من أخذ عنهم من أولئك كانوا أيضاً
في حيرة تظهر عليم في غالب أحوالهم ، فقال عن نفسه في كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام : … فقد أشار إلى من إشارته غُنم ، وطاعته حَتم ، أن
أجمع له مشكلات الأصول ، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول ، لِحُسن ظنه بي أني وقفت على نهايات النظر ، وفُزتُ بغايات مطارحِ
الفِكَر ، ولعلَّهُ استسمن ذا ورم ، ونفخ في غير ضرم ، ثم أنشد بعد هذا قوله :
لعمري لقد طُفتُ المعاهد كلها وسيرتُ طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلا واضعاً كفَّ حائـرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ [ نهاية الإقدام ص 1 –2 ]
وقد ردَّ عليه الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني بقوله :
لعلكَ أهملتَ الطوافَ بمعهـدِ الرسولِ ومن لاقاهُ من كلِّ عالِمِ
فما حارَ من يُهدى بهديِّ محمدٍ ولستَ تـراهُ قارعـاً سِـنَّ نادِمِ [ حاشية درء تعاض العقل والنقل ، تحقيق د : محمد رشاد سالم ( 1 / 159 ) ]
ولا شكَّ أن من وصل حالهُ إلى تلك الحيرة والشك – إن لم يتداركه الله برحمته – أنه يُصبح زنديق ضال مضل ، كما هي حال الزنادقة .
وهناك غير هؤلاء ممن اعترف بحيرته على سلوك هذا الطريق فمنهم :
محمد بن نامور أبو عبدالله الخونجي المتوفى سنة 646 هـ فقد قال عند موته : ما عرفت مما حصلتُه شيئاً سِوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح ، ثم قال:
الافتقار وصفٌ سلبيٌّ أموت وما عرفت شيئاً . [ شرح الطحاوية المصدر السابق ]
محمد بن سالم بن واصل الحموي المتوفى سنة 697 هـ ، أحد المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ، كان يقول : أستلقي على قفاي وأضع المِلحفة على نصف وجهي ، ثم أذكر المقالات وحُجج هؤلاء وهؤلاء،واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء.[ مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]
الإمام العلامة ابن دقيق العيد أبو الفتح القُشيري المتوفى سنة 702 هـ ، وإن كان رحمه الله ليس مثلهم من جهة العلم والعمل لكنه ندم على سلوكه سبيل أولئك الأشاعرة المتكلمين المخالفين للسلف ، والمخالفين حقيقةً لأبي الحسن الأشعري المنتسبين إليه ،
قال عنه الإمام الذهبي : وقد كان شيخُنا أبو الفتح القُشيري يقول :
تجاوزتُ حَدَّ الأكثرينَ إلى العُلا وسافرتُ واستبقيتهم في المفاوزِ
وخُضتُ بحاراً ليسَ يُدركُ قعرها وسيرتُ نفسي في قَسِيمِ المفاوزِ
ولَجَجْتُ في الأفكارِ ثم تراجعَ اختــياريْ إلى استحسانِ دينِ العجائزِ [ العلو للعلي الغفار ، للإمام الذهبي ص 188 ]
حتى الذين اشتهروا بالزندقة والضلال والـخُبث ، عند موتهم اعترفوا بتضييع أيامهم فيما منَّوا به أنفسهم من ذلك الكفر العظيم ، ومن هؤلاء الصوفي الضال القائل بوحدة الوجود المشهور بابن الفارض قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : وابن الفارض – من متأخري الاتحادية – صاحب التائية المعروفة »بنظم السلوك« وقد نظم فيها الاتحاد نظماً رائق اللفظ ، فهو أخبثُ من لحم خِنـزير في صينيةٍ من ذهب ، وما أحسنَ تسميتها»بنظم الشكوك«،لَمَّا حضرتهُ الوفاة أنشدَ :إن كانَ منـزلتيْ في الحُبِّ عندَكمُ ما قد لقيتُ فقد ضيعـتُ أيامي
أُمنيـةً ظَفِرتْ نفسي بهـا زمنـاً واليومَ أحسَبُها أضغاثُ أحلامي [ مجموع الفتاوي ( 4 / 73 - 74 ) ]
ولذلك كاد الإمام الشوكاني أن ينـزلق في طريق أولئك المتكلمين أهل الحيرة والشك ، ولكنه بفضل الله تعالى رمي بذلك ولزم مذهب السلف
أهل السنة والجماعة ، ولذلك قال عن نفسه:» واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرةً ، ولا استفدتُ
منها إلا العلم بأن تلك المقالات خُزعبلات ، فقلت إذ ذاك مُشيراً إلى ما استفدته من هذا العلم :
وغايةُ ما حصَّلتُهُ من مبـــاحثي ومن نظري من بعدِ طولِ التَّدبُّرِ
هو الوقفُ مـا بينَ الطريقينِ حـيرةً فما عِلمُ من لم يلقَ غيرَ التـحيُّرِ
على أنني قد خُضـتُ منه غِمـارهُ وما قنعتْ نفسي بدونِ التَّـبَحُّرِ
وعن هذا رميتُ بتلك القواعد من حالق ، وطرحتها خلفَ الحائط ، ورجعتُ إلى الطريقة المربوطة بأدلة الكتاب والسنة ، المعمودة بالأعمدة التي على
أوثقِ ما يعتمدُ عليه عباد الله وهم الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء الأمة المقتدِين بهم السالكين مسالكهم ، فطاحت الحيرة ، وانجابت ظُلمة العماية ،
وانقشعت وانكشفت ستور الغواية ولله الحمد … « [ أدب الطلب ومنتهى الأرب ( ص 146 – 147 ) ]
فليت كل المخالفين لمنهج السلف أن يعودوا إليه مذعنين، ومما يخالفه تاركين، وأن يفعلوا كما فعل هؤلاء الأئمة الصالحين،من التمسك بسبيل الصحابة
وأتباعهم من المؤمنين أتباع سيد المرسلين ، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
ولذلك كل من خالف عن سبيل السلف فإنه يوجد عنده من الخطأ بقدر ما خالف فيه سواءً كان من المنتسبين للعلم أم من آحاد الناس ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» ولهذا يوجد في كلام الرازي وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه ، ويوجد في كلام الرازي وأبي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقُدماء أصحابه ، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة مالا يوجد في كلام أبي محمد ببن كُلاَّب الذي أخذ أبو الحسن طريقته ، ويوجد في كلام ابن كُلاَّب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة مالا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة ، وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل هذا المآل فالسعيدُ من لزم السنة … « [ بُغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد ص 451 وتُعرف بالسبعينية ]
قال الإمام عبدالرحمن بن أحمد الكمالي في منظومته شهود الحق :
تَمسَّـك بديـنِ اللهِ ديـنِ نبيِّـهِ وعُضَ عليهِ بالنواجذِ تَسعدِ
وعانقْ كِتابَ الله ما دُمـتَ واجداً لهُ فقـريبٌ رفعُهُ وكأنْ قَدِ
وقدْ رُفعتْ أحكامُهُ عندَ بعضهـمْ ألَمَّا يكن ذا الرفعِ سُبحانَ سيدي
وصاحبْ حديثَ المصطفى مثلَ صحبهِ وإن لم تكن تقوى فقارب وسددِ
ولا تكُ من قومٍ أتتْ وتَفرَّقتْ بهمْ سُبُلٌ دون السبيلِ الـمُسَدَّدِ
وبعضهمُ في آخرِ العُمرِ قالَ قدْ أضعتُ نَفيسي في سرابٍ بِمَبْعَدِ
ألم يُغنني قول الإلهِ وأحمدٍ عنَ أقوال غيرٍ من بعيدٍ وأبعدِ
إلهي كأيمانِ العجائزِ جُدْ فقدْ وصلنَ ولمْ أسلمْ من اسر التَّبَعُّدِ
فيا ليت شعري هلْ نجا قبلَ موتهِ من الأسرِ أمْ كانَ اعتباراً لـمُهتدِ [ منظومة شهود الحق ص 160 – 162 ]
وقد وفق الله تعالى الإمام أبا محمد الجويني والد أبي المعالي الجويني إلي التخلص من مذهب الأشاعرة والاعتراف بأن ما كانوا يقولون به في صفات الله تعالى من التأويل إنما هو تحريفٌ للكلم عن مواضعه ، فذكر رحمه الله تعالى في رسالته المسماة:» بالنصيحة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف
والصوت في القرآن المجيد « قال فيها :» وبعد ، فهذه نصيحةٌ كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء ، والإخلاص والوفاء ، لما تعيَّنَ علي محبتهم في الله ، ونصيحتهم في صفات الله عز وجل …أُعرفهم فيها أيدهم الله تعالى بتأييده ، ووفقهم لطاعته ومزيده ، أنني كُنتُ برهةً من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت ، وكُنتُ متحيراً في الأقوال الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها وإثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقةً بحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كُتبهم : منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، ويؤول النـزول بنـزول الأمر ، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ، ويؤول القَدم
بقدم صدقٍ عند ربهم … وأمثال ذلك ، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنىً قائماً بالذات بلا حرفٍ ولا صوتٍ ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، وممن ذهب إلى هذه الأقوال قومٌ لهم في صدري منـزلة ، مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، عرفتُ فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم
الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازاتٌ لا يطمئن قلبي إليها ، وأجدُ الكدرَ والظُّلمةَ منها ، وأجدُ
ضيقَ الصدر وعدم انشراحهِ مقروناً بها ، فكنتُ كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره ،
وكنتُ أخافُ أن من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنـزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجدُ الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرَّح بها مُخبراً عن ربه واصفاً لهُ بها ، وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يَحضرُ مجلسهُ الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ؛ ثم لا أجد شيئاً يُعقبُ تلك النصوص التي كان يَصفُ ربهُ بها لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي المتكلمين : مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء،ونـزول الأمر للنـزول،وغير ذلك،ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ، ولم يُنقل عنه مقالةً تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخَر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرتبة ويد
النعمة والقدرة وغير ذلك ، وأجد الله عز وجل يقول : ( الرحمن على العرش استوى ) ( خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ( يخافون ربهم من فوقهم ) ( إليه يصعد الكلم الطيب ) … ثم ذكر الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وأنه هو الظاهر المراد من هذه النصوص ،
ثم قال : إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلَّصنا من شُبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل ، وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته ، والحقُ واضحٌ في ذلك والصدور تنشرحُ له ، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل : تحريف الاستواء بالاستيلاء
وغيره ، والوقوف في ذلك جهلٌ وعيٌّ ، وع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسهُ بهذه الصفات لنعرفهُ بها ، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدولٌ عن المقصودِ
منه تعالى في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لِـنُثبت ما وصف به نفسه ولا نقف في ذلك ، وكذلك التشبيه والتمثيل حماقةٌ وجهالةٌ فمن وفَّقهُ
الله تعالى للإثبات بلا تحريفٍ ولا تكييفٍ ولا وقوفٍ فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله …
وختم رسالته بقوله : فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة ولم يُعاجـلها بالإنكار ، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار ، وتأمل النصوص في الصفات ، وفكر بعقله في نـزولها وفي المعنى الذي نـزلت له وما الذي أُريد بعلمها من المخلوقات ، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفةُ الرب تعالى بها ، والتوجه إليه منها ، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها كما يليقُ بجلاله وعظمته بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل
ولا جمود ولا وقوف ، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر ، وكِفايةٌ لمن استبصر … « [ انظر رسالته ضمن الرسائل المنيرية ( 1 / 174 –
وقد مرَّ معنا شيئاً من كلامه في الوقفة الرابعة .
وأما ذِكرُ الدكتور لبعض العلماء ونسبته لهم إما إلى الأشاعرة أو الماتريدية فلا يدل ذلك على أن كُل علماء الأمة كذلك ، و ذكرنا أنه قد يقع من بعض العلماء زلات وأخطاء ، وليس معنا هذا أن نوافقهُ في خطئه بل نُنبه عليه ، ونُحذر من ذلك الخطأ وخاصةً إذا كان هذا الخطأ في أمور الاعتقاد ، ومعلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام أن خير القرون في كُلِّ فضلٍ وعلمٍ وفهمٍ أنهم القرون الثلاثة والصاحبة رضوان الله عليهم لهم النصيب الأعظم من ذلك ثم التابعون لهم بإحسان من بعدهم ، ولم يقع منهم خلاف في شيءٍ من أمور الاعتقاد ولله الحمد ، وأما العصور المتأخرة فليست كذلك ، وقد نبَّه العُلماءُ الجهابذة على الأخطاء العقدية التي يقع فيها كثير من المنتسبين للعلم ، فمثلاً الحافظ ابن حجر العسقلاني وقع في أخطاء في العقيدة في شرحه المسمى : فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ونبَّه على أخطائه العلماء والأئمة أتباع السلف أهل السنة والجماعة بدون تجريحٍ لهُ ولا ذم متبعين في ذلك قولهُ صلى الله عليه وسلم : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلهُ أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد ، مع أن أمور الاعتقاد لا اجتهاد فيها بل نؤمنُ بها ، ونهتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم فيها ، وممن نبَّه على أخطاءه :
أ - العلامة المحدث الشيخ عبدالله بن محمد الدويش رحمه الله تعالى الذي كان يحفظ الكتب الستة بأسانيدها ، وكتابهُ مطبوع .
ب – سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى وتعليقاته مطبوعة في حاشية فتح الباري .
ج – الشيخ العلامة عبدالله بن سعدي الغامدي ، وكتابه مطبوع .
الوقفة الثالثة عشر
قول الدكتور :» والإخوة الذين يذمون الأشاعرة بإطلاق مخطئون متجاوزون… «
وقول الدكتور :» فالأشاعرة فئة من أهل السنة والجماعة ، ارتضتهم الأمة … «
[1] أنَّ الذم لا يكون إلا بمخالفة شيءٍ من الشرع الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده رضي الله عنهم ، وخاصةً إذا كان من
أمور الاعتقاد ، فمن خالف شيئاً من ذلك فهو مذموم .
[2] أن الأشاعرة قد ذمهم علماءٌ كبار من الشافعية وغيرهم ، ولذلك لما ألف الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي الشافعي
كتابه :» الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول « أنه لم يعتمد إلا على أقوال أئمة السلف وذكرَ منهم : الشافعي ، ومالك والثوري ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري صاحب الصحيح ، وسفيان بن عُيينة ، وعبدالله بن المبارك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد، وإسحق بن راهوية ، فذكرَ فيه أقوالهم في أصول السنة ما يُعرفُ به اعتقادهم ، وذكر في تراجمهم ما فيه التنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام ، وذكر أنه اقتصر في النقلِ عنهم دون غيرهم لأمرين عظيمين :
أحدهما : لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوعِ شرقاً وغرباً إلى مذاهبهم ، ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم،وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها : من جودة الحفظ والبصيرة والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة والإجماع والسند والرجال والأحوال ولُغات العرب ومواضعها والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمنقول والمعقول والصحيح والمدخُول ، مع الصدق والصلابة وظهور الأمانة والديانة ممن سواهم …
والثاني :أن في النقل عن هؤلاء إلزاماً للحجة على كلِّ من ينتحلُ مذهب إمامٍ يُخالفهُ في العقيدة ؛فإن أحدهما لا محالة يُضلِّلُ صاحبه أو يُبدعه أو يُكفره ،
فانتحالُ مذهبه – مع مخالفته لهُ في العقيدة – مستنكرٌ والله شرعاً وطبعاً ، فمن قال : أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد ! قُلنا له : هذا من الأضداد ،
لا بل من الارتداد ؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد ، ومن قال : أنا حنبلي الفروع مُعتزلي الأصول !! قُلنا له : قد ضللتَ إذاً عن سواء السبيل فيما تزعمه إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد … « [مجموع الفتاوى ( 4 / 176 – 177 ) ]
ثم قال رحمه الله تعالى :» وقد افتتن خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية ، وهذا والله سُبَّـةٌ وعار ، وفلتةٌ تعود بالوبال والنكال وسوء الدار ، على منتحلِ
مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار ، فإن مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية … « [ المصدر السابق ]
[3] أن الأشعري نفسه رحمه الله تعالى لَـمَّا تاب من الإعتزال وسلك طريقة أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كُلاَّب بقي في أقواله شيءٌ من أصول الجهمية كما مَرَّ معنا في الوقفة الثانية عشر .
[4] أن المنتسبين إلى الأشعري في الاعتقاد مختلفون فيما بينهم ، فمنهم من حذا حذو الأشعري وهم : المتقدمون من أتباعه وهم قليل كأمثال: ابن مجاهد
وتلميذه الباقلاني ، وكأبي علي بن شاذان ، وأبي محمد اللبان ، ومنهم من خالفه – وهم الغالبية – وخرج عن أقواله إلى أقوال المعتزلة والجهمية أمثال : أبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبوعبدالله الرازي وغيرهم ،
قال شخ الإسلام ابن تيمية:» وأئمة أصحاب الأشعري : كالقاضي أبي بكر الباقلاني وشيخه أبي عبدالله بن مجاهد ، وأصحابه : كأبي علي بن شاذان ،
وأبي محمد اللبان ، بل وشيوخ شيوخه : كأبي العباس القلانسي وأمثاله ، بل والحافظ البيهقي وأمثاله أقرب إلى السنة من كثيرٍ من أصحاب الأشعري
المتأخرين الذين خرجوا عن كثيرٍ من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة ، فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول
المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة … « [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ( ص 78 ) ]
ولذلك كان شؤم المتأخرين من هؤلاء المنتسبين إلى الأشعري على بعض المسلمين عظيماً بسبب ما ينسبونه إلى السلف من الأقوال الباطلة التي لم يقُل بها
أحدٌ من السلف ؛ وما ذاك إلا لقلةِ معرفتهم بآثار السلف ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن فرض أن أحداً نقل مذهب السلف كما يذكره : فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف : كأبي المعالي وأبي حامد
وابن الخطيب وأمثالهم ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يُعدون به من عواِّ أهل الصناعة فضلاً عن خواصِّها ، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف
البخاري ومسلماً وأحاديثهما إلا بالسماع كما يذكر ذلك العامَّة ، ولا يميزون بين الحديث الصحيح والمتواتر عند أهل العلم بالحديث وبين الحديث
الـمُفترى المكذوب ، وكتبهم أصدق شاهدٍ بذلك ففيها عجائب . [مجموع الفتاوى ( 4 / 71 – 72 ) ]
وقال في موضعٍ آخر : وأيضاً فقد ينصر المتكلمون أقوال السلفِ تارةً ، وأقوال المتكلمين تارةً : كما يفعله غيرُ واحد مثل : أبي المعالي الجويني ،
وأبي حامد الغزالي ، والرازي وغيرهم ، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارةً أنه هو المعتمد ، فلا يثبتون على دينٍ واحد وتغلبُ عليهم الشكوك وهذه
عادةُ الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة … [ مجموع الفتاوى ( 4 / 157 ) ]
[5] أن العلماء الجهابذة قد بينوا فساد مذهب الأشاعرة وغيرهم من الجهمية والمعتزلة والرافضة والصوفية أقطاب وحدة الوجود أهل الإلحاد القائلينَ
بالحلول والاتحاد ، وغيرهم من أهل الزيغ والعناد ، فمن أقوال أئمة السلف أهل السنة والجماعة في ذمِّ الأشاعرة :
أ- [ قول الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي ] كما مر معنا : وقد افتتن خلقٌ من المالكية بمذاهب الأشعرية ، وهذا والله سُبَّةٌ وعار ، وفلتتةٌ تعودُ بالوبال والنكال وسوء الدار … [ المصدر السابق ( 4 / 177 ) ]
وقال أيضاً رحمه الله تعالى : ولم تزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينتسبوا إلى الأشعري ، ويتبرءون مما بنى مذهبه عليه ، وينهون أصحابهم وأحبابهم من الحوم حواليه … [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ص 36 ]
ب - [ قول شيخ الإسلام ابن تيمية ] : والأشعرية : الأغلب عليهم أنهم مُرجئةٌ في باب الأسماء والأحكام ، جبريةٌ في باب القدر ، وأما في الصفات
فليسوا جهميةً محضة بل فيهم نوع من التجهم … [مجموع الفتاوى ( 6 / 55 ) ]
وقال أيضاً : ولهذا صار من يُعظم الشافعي من الزيدية والمعتزلة ونحوهم يطعن في كثيرٍ ممن ينتسب إليه ويقولون : الشافعي لم يكن فيلسوفاً ولا مرجئياً
وهؤلاء فلاسفة مُرجئة ، وغرضهم ذم الإرجاء … [ المصدر السابق ( 7 / 120 – 121 ) ]
ج_ [ الإمام العلاَّمة الحجة يحيى بن عمار السجستاني ]
قال عنهم : المعتزلة الجهمية الذكور ، والأشعرية الجهمية الإناث قال شيخ الإسلام : مرادهم الأشعرية الذين يُنفون الصفات الخبرية ، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يُظهر مقالةً تُناقض ذلك فهذا يُعد من أهل السنة،لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة؛لاسيما وأنه بذلك يوهم حُسناً بكلِّ من انتسب هذه النسبة وينفتح باب شر[ المصدر السابق ( 6 / 361 )
كتبه الوليد بن عبد الملك يرد به علي يوسف القرضاوي في مقال له نشره في مجلة المجتمع قال فيه ودندن بمثل ما قال بعضهم هنا . لا تحرمونا دعائكم
قول الدكتور :» فالأمة الإسلامية معظمها أشاعرة أو ماتُريدية ، فالمالكية والشافعية أشاعرة والحنفية ماتُريدية … «
[1] أن الأمة الإسلامية ليس معظمها أشاعرة ولا ماتُريدية لا في القديم ولا في الحديث ، بل فيها طوائف ضالة ومذاهب منتشرة كالمعتزلة الجهمية ،
والصوفية المنحرفة ، والرافضة الكفرة ، وغيرهم .
[2] أن أئمة المذاهب لم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة المجتهدين ، بل كانوا من أئمة السلف أهل السنة والجماعة
كالإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر ، والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام ، والإمام إسحق بن راهويه إمام خراسان ، والإمام سفيان الثوري إمام العراق ،
والإمام المجاهد عبدالله بن المبارك ، وأئمة البصرة في زمانهم حماد بن سلمة وحماد بن زيد ، وإمام سمرقند الحجة عبدالله بن عبدالرحمن الدار مي السمرقندي
وأئمة اليمن الحفاظ معمر بن راشد الأزدي وعبدالرزاق الصنعاني ، وأئمة الحديث الجهابذة الراسخين علي بن المديني وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي
ويحيى بن معين ، ويحي القطان وشعبة بن الحجاج الأزدي ، وإمام الدنيا في زمانه الإمام البخاري صاحب الصحيح وصحيحه يشهد بذلك ، وتلميذه الإمام
الحافظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أيضاً ، وبقية أصحاب الكتب الستة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وخاتمة الجهابذة إمام المسلمين
في زمانه أبو الحسن الدارقطني وخليفته من بعده الخطيب البغدادي ، وإمام الأئمة ابن خزيمة والإمام ابن حبان والإمام الحاكم … وغيرهم كثير ولله الحمد
فلم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية ، بل سلفيين أهل السنة والجماعة .
[3] أن المالكية والشافعية ليسوا أشاعرة وليس الحنفية ماتُريدية ، ولنضرب لذلك أمثلةً يتبين فيها ذلك :
أما المالكية فالإمام مالك رحمه الله تعالى لم يكن أشعرياً لا هو ولا تلاميذه الذين أخذوا عنه كابن القاسم وسحنون وبشر بن عمر الزهراني ، ولا الذين
رووا عنه الموطأ كالإمام يحيى الليثي وأبي مصعب الزبيري ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم كثير ،
وأما أتباع مذهبه من الأئمة الكبار فلم يكونوا أشاعرة بل كشيخهم وإمامهم من أئمة السلف ، فمنهم : إمام المالكية في زمانه قاضي بغداد الإمام المشهور
إسماعيل بن اسحاق القاضي أحد أحفاد الإمام الثبت حماد بن زيد ، وإمام المالكية في العراق في زمانه القاضي عبدالوهاب المالكي ، وإمام المالكية في زمانه
الذي كان يُقال له مالك الصغير الإمام عبدالله بن أبي زيد القيرواني ، والإمام العلامة أبو عمرو الطلمنكي ، والإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي ،
والإمام الحجة أبو عبدالله المشهور بابن أبي زمنين ، وحافظ المغرب في زمانه إمام الأندلس بل المغرب الحجة العلامة أبو عمر بن عبدالبر ، وغيرهم كثير
ومن المتأخرين من المالكية وإن كان يُعتبر من الأئمة المجتهدين والجهابذة الراسخين الذي كان معدوم النظير في عصرنا الحاضر الإمام العلامة أبو عبدالله
محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ، وكتابهُ في التفسير [ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ] شاهدٌ على ذلك وعلى تقدمه وعلو منزلته .
وأما الشافعية : فإن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يكن أيضاً أشعرياً لا هو ولا تلاميذه الذين أخذوا عنه كالإمام إسماعيل بن يحيى المزني ، والإمام
الربيع بن سليمان المرادي ، وكالإمام البويطي وغيرهم ، وأما أتباع مذهبه الكبار الجهابذة فلم يكونوا أشاعرة بل أئمة سلفيين من أهل السنة والجماعة
أمثال : إمام الشافعية في زمانه أبي العباس بن سريج ، وإمام الشافعية في زمانه أبي العباس سعد بن علي الزنجاني ، والإمام حجة الإسلام أبي أحمد الحداد ،
وإمام الشافعية في زمانه إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي ، وكالإمام الحجة أبي بكر بن المنذر ، والإمام المشهور الذي كان يقال له الشافعي الثاني
أبو حامد الإسفراييني،وصاحبه الإمام العلامة الحجة شيخ الإسلام أبي القاسم الطبري اللالكائي وانظر كتابه [ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]
والإمام المشهور إمام المسلمين في زمانه أبي عبدالله محمد بن نصر المروزي ، وكذلك الأئمة حُفاظ عصرهم أبو الحجاج المزي ، والإمام علم الدين البرزالي
وأبو عبدالله الذهبي مؤرخ الإسلام ومفيد الشام ، والإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الشافعي ، ومن المتأخرين من الشافعية الإمام العلامة أحمد بن عبدالقادر الحِفظي وغيرهم كثير ولله الحمد .
وأما الحنفية : فإمامهم الإمام الفقيه أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى لم يكن ماتُريدياً لا هو ولا تلامذته الجهابذة أمثال : محمد بن الحسن الشيباني أحد
رواة موطأ الإمام مالك ، والقاضي أبي يوسف وغيرهم ، وأما أتباع مذهبه الجهابذة الكبار فلم يكونوا لا ماتُريدية ولا أشعرية ، بل أئمة سلفيين أمثال :
الإمام الفقيه هشام ابن عُبيدالله الرازي عالم الري في زمانه ، والإمام العلامة المحدث الفقيه إمام الحنفية في زمانه بل محدث الديار المصرية وفقيهها الإمام
أبو جعفر الطحاوي ، وعقيدته المسماة» بالعقيدة الطحاوية «مشهورة بين العلماء وطلبة العلم ، وأفضل من شرحها من العلماء الحنفية الإمام العلامة
القاضي ابن أبي العز الحنفي وأما من المتأخرين من علماء الحنفية بل من علماء العلم الإسلامي الإمام المجتهد العلامة محمد بن صديق بن حسن خان
القنُّوجي ، فقد أبان عن مذهب السلف في كتابه القيم » الدين الخالص « وهناك غيرهم من أئمة السلف .
وأما أتباع المذاهب الأخرى كالمذهب الزيدي مثلاً فقد ظهر منهم عُلماء اختاروا مذهب السلف وأيدوه ودافعوا عنه وردوا على من خالفه ، حتى على
نفس المذهب الزيدي الذي نشأوا في بداية حياتهم عليه ، ومن هؤلاء العلماء :
السيد الإمام العلامة محمد بن إبراهيم بن عبدالله المشهور بابن الوزير المتوفى سنة 840 صاحب كتاب» العواصم والقواصم في الذب عن سُنة أبي القاسم «
وكذلك الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى 1182 صاحب كتاب» سُبل السلام شرح بلوغ المرام «
وكذلك الإمام العلامة المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 ورسالته المسماة » بالتحف في مذاهب السلف تدل على ذلك
قول الدكتور : » وكل علمائنا وأئمتنا الكبار من هؤلاء … « - يقصِد الأشاعرة والماتُريدية - و ذكر منهم : الاسفراييني ، والجويني ، والباقلاني ، والغزالي ، والآمدي ، وابن حجر العسقلاني ، وأبو الوليد الباجي ، وغيرهم من العلماء ، وسنبين إن شاء الله هُنا حال بعض الذين ذكرهم ، وحال غيرهم ممن اتبع سبيلهم ونهج طريقهم حتى يتبين لنا الحق في ذلك من غيره والله وحده المستعان .
[1] أن الأئمة الكبار ، والعلماء الجهابذة الفخام لم يكونوا لا أشاعرة ولا ماتُريدية ولا معتزلة جهمية ولا رافضة ولا خوارج ولا قرامطة ولا باطنية ولا غير ذلك من الفرق المنحرفة الضالة ، بل هم أئمة سلفيين أهل سُنةٍ وجماعة كما مر معنا في الوقفة العاشرة .
[2] أن العلماء الذين ذكرهم لا يصلون في الفضل والعلم إلى مرتبة الأئمة الأربعة ولا أئمة الحديث والفقه والذين ذكرنا بعضاً منهم في الوقفة العاشرة .
أن الماتُريدي والمنتسبين إليه وكثيراً من المنتسبين للأشعري هم في الحقيقة موافقون للمعتزلة والجهمية في كثير من أقوالهم التي تقلدوها ، وبيان ذلك فيما يلي : إن أول من أنكر صفات الله تعالى في دار الإسلام هو الجعد بن درهم ، فقد أنكر صفة محبة الله تعالى لعباده المؤمنين وأنكر كلام الله تعالى ،فقتله الأمير خالد بن عبدالله القسري في عيد الأضحى حيث خطب الناس وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيرا ، ثم نزل فذبحه كما تذبح الشاة ، ثم أخذ هذه المقالة الخبيثة الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم ونشرها بين المسلمين فنُسبت هذه البدعة إليه فسُميت ببدعة الجهمية ، وكل من قال بذلك فهو جهمي ، ثم أخذ هذه البدعة الضال بشر بن غياث المِريسي الجهمي وحاول نشرها بين المسلمين ، فرد عليه عُلماء السلف الجهابذة الأجلاء أهل السنة والجماعة ، وصاحوا بهم من كل مكان وبدَّعوهم وكفروهم وضللوهم على هذه البدعة التي انتشرت بين بعض عوام المسلمين ، بل وصلَ
أثرها السيء إلى بعض المنتسبين للعلم من أتباع الأئمة الأربعة حتى أدى ذلك بهم إلى تأويل صفات الله تعالى بزعم أن ظاهرها يقتضي التشبيه ، وهذا القول أول من عُرف به هم الجهمية وأتباعهم من المعتزلة وأهل الكلام ،قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وهذا القول أول من عُرف به هم الجهمية والمعتزلة وانتقل منهم إلى الكُلاَّبية والأشعرية والسالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة : كأبي الحسن التميمي ، وابنه أبي الفضل ، وابن ابنه رزق الله ، والقاضي أبي يعلى ، وابن عقيل ، وأبي الحسن بن الزاغوني ، وأبي الفرج
ابن الجوزي ، وغير هؤلاء من أصحاب أحمد وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض في كلامه ، وكأبي المعالي الجويني وأمثاله من أصحاب الشافعي ،وكأبي الوليد الباجي وطائفة من أصحاب مالك ، وكأبي الحسن الكرخي وطائفة من أصحاب أبي حنيفة « . [ مجموع الفتاوى ( 5 / 576 ) ]
ولهذا كان من الواجب أن نبين بعض حال هؤلاء الذين سماهم الدكتور ووصفهم أنهم من أهل السنة والجماعة ، فنبدأ بالأشعري فنقول وبالله التوفيق :
الأشعري ( أبو الحسن ) رحمه الله تعالى المتوفى سنة 324 هـ
فقد كان في مبدأ أمره يقول بقول المعتزلة الذين منهم شيخه وزوج أمه أبو علي الجبائي رأس المعتزلة وهذا الذي أثر فيه وجعله يتمسك بمذهب المعتزلة
أربعين سنة ، ثم بعد ذلك تحول عنه إلى مذهب الكُلابية أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كُلاب ، وتاب من القول بمذهب المعتزلة وجعل يرد عليهم
ويفضح مذاهبهم وأقوالهم ، فألف في هذه الفترة كتبه : » اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع « و » كشف الأسرار وهتك الأستار « وغيرها من الكتب « [ انظر الفهرست لابن النديم ص 257 وكذلك تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 39 – 42 ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال سلك طريق أبي محمد بن كُلاَّب « [ مجموع الفتاوى ( 5 / 556 )] »وذكر الإمام الذهبي أن الأشعري لحقَ بالكلابية وسلك طريقهم « [ سير أعلام النبلاء ( 11 / 228 ) ] وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر ابن كُلاب:» ونصر طريقته أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وخالفه في بعض الأشياء ولكنه على طريقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه «[ اجتماع الجيوش الإسلامية ص 257 ] ولذلك أثر فيه هذا في ترك مذهب المعتزلة والقول بما يوافق السلف في غالب مذهبهم ، وإن كان له أقوال وافق فيها الجهمية وذلك بسبب عدم إحاطته بمذهب السلف في كل ما يقولون به إحاطةً كاملةً ،
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية :» وأما ابن كُلاَّب والقلانسي والأشعري … هؤلاء معروفون بالصفاتية ، مشهورون بمذهب الإثبات ، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية …« [مجموع الفتاوى (12 / 206 ) ]
وقال أيضاً:» وأبو الحسن الأشعري نصر قول» جهم « في» الإيمان « مع أنه نصر المشهور عن» أهل السنة « أنه : »يستثني في الإيمان «… وهو دائماً ينصر – في المسائل التي فيها النـزاع بين أهل الحديث وغيرهم – قول أهل الحديث ، لكنهُ لم يكن خبيراً بمآخذهم ، فينصره على مايراه هو من الأصول التي تلقَّاها عن غيرهم ، فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء ، كما فعل في مسألة الإيمان نصرَ فيها قول جهم مع نصره للاستثناء ولهذا خالفهُ كثير من أصحابه في الاستثناء واتَّبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك ، ومن لم يقف إلا على كُتُب الكلام ولم يعرف ماقاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب ، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة ، بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره الأشعري وهو عندهم شَرٌّ من قول المرجئة … « [ مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 7 / 120 – 121 ) ]
( تكملة الوقفة الثانية عشرة )
الإمام أبو حامد الاسفراييني
الإمام أبو حامد الاسفراييني لم يكن من الأشاعرة بتاتاً،بل كان ممن يذمون الأشاعرة وكان رحمه الله يُحذر منهم أشد التحذير ، كما نقل عنه الإمام العلامة شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي قال:» سمعت الأمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول:سمعت الإمام أبا بكر عبيدالله بن أحمد يقول:سمعت الشيخ
أبا حامد الاسفراييني يقول :» مذهبي ومذهب الشافعي وفقها الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر…«[ شرح الأصفهانية 35]
ولذلك كان الإمام أبو حامد يُحذر من الأشاعرة ومن الإمام أبي بكر الباقلاني لأنه وإن كان ينتسب إلى الأشعري فقد كان له أقوال مخالفة لمذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وسأذكر ذلك في بيان حال الباقلاني إن شاء الله تعالى .
أبو بكر بن الطيب الباقلاني
أما القاضي أبو بكر الباقلاني فهو وإن كان ينتسب إلى الأشعري فإنه كان يوافق المعتزلة في كثيرٍ مما يقولون مما جعل الأئمة في زمانه يُحذرون منه ، ويذمون
الأشاعرة لذلك السبب ، قال الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي :» كان الشيخ أبو حامد الاسفراييني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام …« وقال أيضاً:» كان الشيخ أبو حامد الاسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من » قطيعة الكرخ « إلى » الجامع المنصور « يدخل الرباط المعروف » بالروزي « المحاذي للجامع ، ويُقبل على من حضر ويقول : اشهدوا عليَّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قال الإمام أحمد بن حنبل لا كما يقول الباقلاني ، ويتكرر ذلك منه ، فقيل له في ذلك ؛ فقال : حتى تنتشر في الناس وفي أهل البلاد ويشيع الخبرُ في أهل البلاد أني بريءٌ مما هم عليه – يعني الأشعرية – وبريءٌ من مذهب الباقلاني ؛ فإن جماعة من المتفقهة الغُرباء يدخلون على الباقلاني خفيةً ويقرؤون عليه فيعتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة ، فيظن ظانٌ أنهم مني تعلموه وأنا قُلته ، وأنا بريءٌ من مذهب الباقلاني وعقيدته …« [ شرح الأصفهانية من 35 – 36 ]
وذكر الأمام الكرجي :» أن أبا بكر الباقلاني إذا خرج إلى الحمام يتبرقع خوفاً من الشيخ أبي حامد الاسفراييني لكي لا يراه «
ونتيجةً لذلك فقد تاب الباقلاني من كثير من الأقوال المخالفة لمذهب السلف وألف كتاب » تمهيد الأوائل « وكتاب » الإبانة « وذكر فيها أنهُ يقول
بما قاله السلف في الاعتقاد في الجملة ، وإن كان مع ذلك يوجد عنده بعض الأقوال المخالفة لمذهب السلف والتي بقيت لديه بسبب عدم إحاطتهِ الإحاطة التامة بمذهب السلف ، وبسبب علم الكلام الذي تعلمه والأصول التي أخذها عن غير أهل السنة والجماعة ويأتي إن شاء الله مزيد بيان لذلك .
أبو المعالي الجويني الابن ، المتوفى سنة 478 هـ
مع أن الإمام أبي محمد الجويني والد أبي المعالي قد تاب من مذهب الأشعري إلا أن ابنه لم يسلك طريق أبيه ، فقد كان يقول بمذهب الجهمية ويُنكر
علو الله على خلقه ، مع أنه ينسب نفسه للأشعري ، وفي هذا المقام قصة معروفة :» فقد ذكر الإمام محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة ،
أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرةً والأستاذ أبو المعالي يذكر على منبره ويقول:» كان الله ولا عرش « ونفى الاستواء ، فقال له الشيخ أبو جعفر:
يا أستاذ دعنا من ذكر العرش – يعني أن ذلك ثبت بالسمع – أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارفٌ قط : يا الله إلا وجدَ من
قلبه معنىً يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفعُ هذه الضرورة من قلوبنا ؟! فصرخ أبو المعالي ووضع يده على رأسه وقال : حيَّرني الهمداني
حيرني الهمداني ونزل « [ مجموع الفتاوى ( 4 / 44 و 61 ) وانظر أيضاً ( 3 / 220
وسبب حيرته هذه هو عدم سلوكه طريق السلف أهل السنة والجماعة ، فلم يكن عنده من العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وبآثار السلف ما يعتصم به من هذه الحيرة والشبهات والشكوك ، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأما الجويني ومن سلك طريقته : فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن
أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم ، قليل المعرفة بالآثار ، فأثَّر فيه مجموع الأمرين …« [ مجموع الفتاوى ( 6 / 52 ) ]
وفي آخر حياته ترك أبو المعالي ما كان ينتحله من مذهب الجهمية المعتزلة ، قال في كتابه » الرسالة النظامية « :» اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل … « [ مجموع الفتاوى ( 5 / 100 –101 ) ] وانظر أيضاً [ ( العلو ، للذهبي ص 187- 188 ) ]
فأحسنَ أبو المعالي في ترك مذهب الضُّلال والقول بترك التأويل- أي التحريف - في نصوص الصفات ، ولكنهُ أخطأ في نسبة التفويض إلى السلف خطأً
عظيماً ، وما ذلك إلا لأنه لم يكن على معرفةٍ كاملة وإحاطة تامةٍ بمذهب السلف رحمهم الله تعالى كما مر معنا ،
ومع هذا فقد ندم أشد الندم على سلوكه الطريق السابق واختار أن يموت على عقيدة أمه أو عجائز نيسابور ،فقال:» يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو
أني عرفتُ أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به ، وقال عند موته : لقد خُضتُ البحر الخِضم وخلَّيت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه ،
والآن إن لم يتداركن الله برحمته فالويل لابن الجويني وها أنذا أموت على عقيدة أمي – أو قال – : عقيدة عجائز نيسابور «[ مجموع الفتاوى ( 4 / 73 )
الغزالي ( أبو حامد ) المتوفى سنة 505 هـ
أما الغزالي فقد تكلم عن نفسه في كتابه » المنقذ من الضلال « فبين أنه درس أولاً علم الكلام وثنى بالفلسفة وثلَّث بتعاليم الباطنية وربَّع بطريق الصوفية وأما طريقة السلف في تعلم آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده فلم يذكرها في كتابه ، ولذلك تكلم فيه خَلقٌ من العلماء حتى أخص الناس به تكلموا فيه وحذروا منه ومن كُتبه ، ونذكر منهم ما يلي :
أ - [ الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي ] فقد كان من رُفقاء الغزالي واجتمع به وعرفه حق المعرفة ، فقال في جواب لسائل يسأله عنه :
» سلامٌ عليك فإني رأيت أبا حامد وكلمته فوجدته امرءاً وافر الفهم والعقل وممارسةٍ للعلوم ، وكان ذلك معظم زمانه ، ثم خالف عن طريقِ العلماء ودخلَ في غِمار العمال ، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان ، ثم سابها وجعل يطعن على الفقهاء بمذاهبِ الفلاسفة ورموز الحلاج ، وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين ، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين … «
وقال عن كتابه » إحياء علوم الدين « : » وهو لعمر الله أشبه بإماتة علوم الدين … «
ثم قال عنه :» فلما عمل كتابه الإحياء عَمَدَ فتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية ، وكان غير أنيسٍ بها ولا خبيرٍ بمعرفتها فسقط على أُم رأسه ،
فلا في علماء المسلمين قَرَّ ، ولا في أحوال الزاهدين استقرَّ ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم كتاباً على وجه الأرض أكثرُ كذباً على الرسول منه ، ثم شبَّكهُ بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج ومعاني رسائل إخوان الصفا … وما مثلُ من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية إلا كمن يغسل الثوب بالبول ، ثم يسوق الكلام سوقاً يُرعد فيه ويبرق ، ويُمنِّي ويُشوِّقُ ، حتى إذا تشوفت له النفوس قال: هذا من علم المعاملة وما وراءه من علم المكاشفة لا يجوز تسطيره في الكتب ، ويقول : هذا من سر الصدر الذي نُهينا عن إفشائه ، وهذا فعل الباطنية وأهل الدَّغل والدَّخل في الدين ، يستقل الموجود ، ويُعلق النفوس بالمفقود ، وهو تشويش لعقائد القلوب ، وتوهين لما عليه الجماعة ، فلئن كان الرجل يعتقدُ ما سطَّرهُ لم يَبعد تكفيرُهُ ، وإن كان لا يعتقده فما أقربَ تضليلُه ، وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة خِيفَ عليهم أن يعتقدوا إذاً صحتَ ما فيه … « [ انظر مقدمة كتاب الحوادث والبدع للإمام الطرطوشي ( ص 17 –18 ) ]
ب - [ الإمام العلامة أبو عمرو بن الصلاح ]
فقد ذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح – فيما جمعهُ من طبقات أصحاب الشافعي وقرَّرهُ الشيخ أبو زكريا النووي – قال في هذا الكتاب:» فصلٌ في بيان
أشياء مهمةٍ أُنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ، ولم يرتضيها أهل مذهبهِ من الشذوذ في مصنفاته « ثم ذكر ما يُنتقد عليه حتى قال:» فكيف غَفَلَ الغزالي عن شيخه إمام الحرمين ومِن قبلهِ مِن كلِّ إمام هو لهُ مُقدِّم ، ولمحله في تحقيق الحقائقِ رافعٌ ومُعظِّم ، ثم لم يرفع أحدٌ منهم بالمنطقِ رأساً ، ولا بنى عليه أُسَّاً ، ولقد بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُمَ شؤمها على المتفقهة ، حتى كثُرَ فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان . [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ص 132]
ج – [ الإمام أبو عبدالله المازري المالكي ]
فقد قال عن الغزالي:» وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته علوم الفلسفة ، وأكسبته قراءة الفلسفة جُرأةً على المعاني ،
وتسهيلاً للهجوم على الحقائق … « [ شرح الأصفهانية ص 133 – 134 ]
وقال عنه:» وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان لهُ عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا ، وذكر المازري أن الغزالي كان يُعوِّل على ابن سينا الفيلسوف
في أكثر ما يشير إليه في علم الفلسفة « ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه:» بأن من لم يكن عنده من البسطة
في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز له … « [ نفس المصدر السابق ]
د – [ الإمام ابن العربي المالكي ]
قال عن شيخه وصاحبه الغزالي:» شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر ، وقد حكى ابن العربي عنه من القول بمذاهب
الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كُتبه ، ورد عليه العُلماء « . [ مجموع الفتاوى ( 4 / 164 ) ]
ه – [ شيخ الإسلام ابن تيمية ]
قال عنه:» والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة بسبب كلام ابن سينا في الشفاء وغيره ، ورسائل إخوان الصفا ، وكلام أبي حيان التوحيدي ، وأما
المادة المعتزلية في كلامه فقليلة أو معدومة ، وكلامه في الإحياء غالبه جيد ، لكن فيه مواد فاسدة : مادة فلسفية ، ومادة كلامية ، ومادة من تُرَّهات
الصوفية ، ومادة من الأحاديث الموضوعة …« [مجموع الفتاوى ( 6 / 54 – 55 ) ] وقال عن » كتاب الإحياء « :» والإحياء فيه فوائد كثيرة ، لكن فيه مواد مذمومة ، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد ، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلين وألبسه ثياب المسلمين ، وقد أنكر أئمةُ الدين على أبي حامد هذا في كُتبه ، وقالوا : مرَّضه الشفاء يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة ، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة كثيرة ، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وتُرَّهاتهم …« [مجموع الفتاوى ( 10 / 551- 552 ) ]وقال عنه أيضاً:» في كلامه مادة فلسفية وأمور أُضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المُخالفة للنبوة ، بل الـمُخالفة لصريح العقل ، حتى تكلم فيه جماعات من عُلماء خُراسان والعراق والمغرب : كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني ، وأبي الوفاء بن عقيل ، والقشيري ، والطرطوشي ، وابن رشد ، والمازري ، وجماعات من الأولين … وذكر منهم الإمام ابن الصلاح والإمام النووي . [ شرح الأصفهانية ص 132 ] وانظر [ مجموع الفتاوى ( 4 / 66 ) ]
وقال عنه في موضع آخر : » يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يُحرفون كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة والباطنية … « [ مجموع الفتاوى ( 10 / 403 ) ]
وسبب كلام هؤلاء العلماء في الغزالي وغيره هو : عدم سلوكهم طريقة السلف أهل السنة والجماعة في الإحاطة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم
وآثار الصحابة رضي الله عنهم ، ولذلك قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء ، ولا تلقَّى عن هذه
الطبقة ، ولا كان خبيراً بطريقة الصحابة والتابعين ، بل كان يقول عن نفسه:» أنا مُزجى البضاعة في الحديث « ولهذا يوجد في كُتبه من الأحاديث
الموضوعة والحكايات الموضوعة مالا يَعتمد عليه من لهُ علمٌ بالآثار… « [ شرح الأصفهانية ص 128 ]
والغزالي في آخر حياته تاب مما كان قد صدر منه مما يُخالف دين الإسلام،كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حينما تكلم عنه فقال:» وأجود مالهُ من المواد المادة الصوفية ولو سلك فيها مسلك الصوفية وأهل العلم بالآثار النبوية واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصلَ مطلوبه ، ونالَ مقصوده ، ولكنه في آخر عُمره سلك هذا السبيل … « [ شرح الأصفهانية ص 146 ]
ولذلك قال عنه تلميذه أبو الحسن عبدالغافر الفارسي : وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجالسة أهله ، ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم اللذين هما حجة الإسلام … « [ طبقات الشافعية للسبكي ( 4 / 111 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 19 / 325 – 326 ) ]
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغزالي مات وعلى صدره صحيح البخاري [ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ( 1 / 162 )] وذكر عنه أنه كان يقول:» أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام« [مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]
وألف كتباً في هذه المرحلة مثل :» إلجام العوام عن علم الكلام « و » وتهافت الفلاسفة « وغيرها ،
فإذا كان الغزالي قد اعترف بما آل إليه أمره من الشك والحيرة في آخر حياته ، وتاب مما قد صدر منه قبل مماته ، فهذا أمرٌ بينه وبين الله تعالى المطلع
على سريرته ، وأما كتبه التي ألفها وفيها ما حذر العلماء منه فينبغي تركها والتحذير منها وعد اشتغال الناس بها ،
كما قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح : » أبو حامد كثُر القول فيه ومنه ، فأما هذه الكُتب – يعني المخالفة للحق – فلا يُلتفتُ إليها ، وأما الرجل
فَـيُسكت عنه ويفوض أمره إلى الله « [مجموع الفتاوى ( 4 / 65 ) ].
الرازي أبو عبدالله عُمر بن الحسين المعروف ( بابن الخطيب ) المتوفى سنة 606 هـ
أما الرازي فقد أتعب نفسه طول حياته بالبحث فيما عاد عليه بالضرر من الحيرة والشك كما اعترف هو بنفسه ، وقبل أن نذكر كلامه عن نفسه وكلام العلماء الصادقين فيه نبين بعض ما قد صدرَ منه من الأقوال الفاسدة والخطيرة المنحرفة ،
[1] أنه كان يطعن في الأدلة الشرعية من حيث دلالتها فزعم أنها لا تُفيد اليقين ، ومن حيث أن الأخبار الشرعية لا تفيد العلم ، وهذه زلةٌ عظيمة
تجرُّ بلاء عظيماً ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :» فتجد أبا عبدالله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين وفي إفادة الأخبار للعلم ، وهذان
هما مقدمة الزندقة « [ مجموع الفتاوى ( 4 / 104 ) ]وقال عنه في موضعٍ آخر :» أنه من أعظم الناس طعناً في الأدلة السمعية حتى ابتدع قولاً ما عُرف به قائلٌ مشهور غيره وهو أنها لا تفيد اليقين « [مجموع الفتاوى ( 13 / 141 ) ].
[2] أنه قدم العقل على النقل من الكتاب والسنة ، فجعل العقل أصلاً والنقل تابعاً ، وافترض افتراضاً باطلاً وهو كما في كتابه تأسيس التقديس
وهو : أنه لو خالف النقل عقلٌ فماذا يحصل ؟!! ، وهذا نوعٌ من الطعن في الأدلة الشرعية فإنه لا يمكن أن يُخالف نقلٌ صحيح عقلٌ سليم صريح ،
كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم : درء تعارض العقل والنقل ويسمى أيضاً : موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ، ولهذا قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : وكُتب أصول الدين لجميع الطوائف مملوءة بالاحتجاج بالأدلة السمعية الخبرية ، لكن الرازي طعن في ذلك في المطالب العالية
قال: لأن الاستدلال بالسمع مشروط بأن لا يُعارضه قاطعٌ عقلي ، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه ، قال : والعلم بانتفاء المعارض العقلي متعذر ،
[مجموع الفتاوى ( 13 / 139 ) ] وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السابق .
[3] أن الرازي قد صنف كتباً في كيفية عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر ، وذكر فيها أن التقرب إلى هذه الكواكب يكون بفعل الفواحش
وشرب الخمر والغناء ونحو ذلك مما حرمه الله تعالى ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم عن فتنة التتار وقهرهم للخليفة بالعراق وقتلهم ببغداد
مقتلة عظيمة جداً قال : وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع ، حتى صنف الرازي كتاباً في عبادة الكواكب
والأصنام وعمل السحر وسماه : السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ويُقال أنه صنفه لأم السلطان : علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين
خوارزم شاه ، وكان من أعظم ملوك الأرض ، وكان للرازي به اتصال قوي ، حتى إنه وصى إليه على أولاده ، وصنف له كتاباً سماه الرسالة العلائية
في الاختيارات السماوية وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين…وأهل النجوم لهم اختيارات
إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعاً سعيداً فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم ، وقد صنف الناس كتباً في الرد عليهم ، وذكروا كثرة ما يقع
من خلاف مقصودهم فيما يُخبرون به ويأمرون به،وكم يُخبرون من خبر فيكون كذباً،وكم يأمرون باختيار فيكون شراً، والرازي صنف الاختيارات
لهذا الملك ، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك ، كما ذكر في السر المكتوم في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها والشرك بها ودعائها ،
مثل ما يدعوا الموحدون ربهم بل أعظم ، بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء ونحو ذلك مما حرمه الله ورسوله … [مجموع الفتاوى ( 13 / 180 – 181]
[4] أنه كان أعظم المتكلمين في باب الحيرة والشك والاضطراب وتناقض المقالات ، كما اعترف بنفسه في آخر حياته ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
عنه : وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب – باب الحيرة والشك والاضطراب – لكن هو مسرفٌ في هذا الباب بحيث له نهمة في
التشكيك دون التحقيق … [مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]وقال عنه في موضعٍ آخر : وأما ابن الخطيب فكثير الاضطراب جداً ، لا يستقر على حال ، وإنما هو بحثٌ وجدل ، بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه … [مجموع الفتاوى ( 6 / 55 ) ]
وسبب اضطرابه هو وأمثاله ممن ذكرناهم وغيرهم هو : عدم سلوكهم سبيل المؤمنين من السلف الصالح أهل السنة والجماعة ، وتوليهم لمذاهب أهل
الضلالة ، من المتكلمين والفلاسفة ، مما جعل أكابرهم في آخر حياتهم يعترفون بالحيرة والندامة ، ومنهم الرازي نفسه ، حتى قال عنه شيخ الإسلام
ابن تيمية : فهو تارة يرجح قوله قول الفلاسفة ، وتارة قول المتكلمة ، وتارة يحار ويقف ، واعترف في آخر عُمره بأن طريق هؤلاء وهؤلاء لا تشفي
عليلاً ولا تروي غليلاً … « [مجموع الفتاوى ( 3 / 128 ) ]
وهذا هو الذي استقر عليه الرازي في آخر حياته حيث قال في كتابه» أقسام اللذات« :» لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات : ( الرحمن على العرش استوى ) ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح يرفعه ) واقرأ في النفي : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( ولا يحيطون به علما ) ( هل تعلم له سميا ) ثم قال : ومن جرَّب مثل
تجربتي عرف مثل معرفتي ، وكان دائماً يتمثل : نهاية إقـدام العقـول عقـالُ وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصلُ دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالُ [مجموع الفتاوى ( 4 / 72- 73 ) ]
وكان يقول كما قال أمثاله من قبل : من لزم دين العجائز كان هو الفائز ، وكأن الجميع اتفقوا على أن غاية ما علموه طيلة حياتهم لا يُساوي دينَ
واعتقاد العجائز ، وما ذاك إلا لأن إيمانهن واعتقادهن قويٌ صحيحٌ سليمٌ من تلك الشبهات والوساوس التي في نفوس أولئك القوم المتكلمين ،
وقبل وفاته كتب وصيته التي أعلن فيها تبريه مما كان يقول به ورجوعه إلى مذهب السلف الصالح أهل السنة والجماعة واختياره طريقهم دون غيرهم من الناس وإثبات ما ورد من صفات الله تعالى على الوجه المراد منها واللائق بجلال الله تعالى وعظمته ، قال الإمام الحافظ أبو الفداء بن كثير:(( وقد ذُكرت وصيته عند موته ، وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف ، وتسليم ما ورد على الوجه اللائق بجلال الله سبحانه .[ البداية والنهاية ( 13 / 55 )]
فيا ليت من انحرف عن طريق السلف الصالح أهل السنة والجماعة أن يتوب إلى الله ويرجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويفعل
مثل ما فعل هؤلاء من التوبة والندم والرجوع إلى ذلك .وقد تأثر كثير من تلاميذ الرازي بحاله الأول حال الحيرة والشك ، فمنهم تلميذه شمس الدين عبدالحميد الخسروشاهي المتوفى سنة 652 هـ حيث قالَ لما دخلَ عليه بعض الفُضلاء قال له شمس الدين (( : ما تعتقد ؟ فقال له الرجل : ما يعتقده المسلمون ، فقال له : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به ؟! فقال الرجل : نعم ، قال له : اُشكر الله على هذه النعمة ، ولكني والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى أخضل لحيته . [ شرح العقيدة الطحاوية ( 1 / 245 –246 ) ]
الآمــــدي
وأما الآمدي فقد كانت الحيرة والشك تغلب عليه حتى اعترف هو بذلك ، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في
عامة الأصول الكبار ، حتى أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يُقرر في كتبه
لا إثبات إلا لصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئاً من الأصول الكبار التي يحتاج إلى معرفتها .[ مجموع الفتاوى ( 5 / 562 ) ]
الشهرستاني أبو الفتح محمد بن القاسم بن عبدالكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ.
كان الشهرستاني من عُلماء الأشاعرة المتكلمين وقد اعترف في آخر ما حصله من ذلك بالحيرة والشك ، وأن جميع من أخذ عنهم من أولئك كانوا أيضاً
في حيرة تظهر عليم في غالب أحوالهم ، فقال عن نفسه في كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام : … فقد أشار إلى من إشارته غُنم ، وطاعته حَتم ، أن
أجمع له مشكلات الأصول ، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول ، لِحُسن ظنه بي أني وقفت على نهايات النظر ، وفُزتُ بغايات مطارحِ
الفِكَر ، ولعلَّهُ استسمن ذا ورم ، ونفخ في غير ضرم ، ثم أنشد بعد هذا قوله :
لعمري لقد طُفتُ المعاهد كلها وسيرتُ طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلا واضعاً كفَّ حائـرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ [ نهاية الإقدام ص 1 –2 ]
وقد ردَّ عليه الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني بقوله :
لعلكَ أهملتَ الطوافَ بمعهـدِ الرسولِ ومن لاقاهُ من كلِّ عالِمِ
فما حارَ من يُهدى بهديِّ محمدٍ ولستَ تـراهُ قارعـاً سِـنَّ نادِمِ [ حاشية درء تعاض العقل والنقل ، تحقيق د : محمد رشاد سالم ( 1 / 159 ) ]
ولا شكَّ أن من وصل حالهُ إلى تلك الحيرة والشك – إن لم يتداركه الله برحمته – أنه يُصبح زنديق ضال مضل ، كما هي حال الزنادقة .
وهناك غير هؤلاء ممن اعترف بحيرته على سلوك هذا الطريق فمنهم :
محمد بن نامور أبو عبدالله الخونجي المتوفى سنة 646 هـ فقد قال عند موته : ما عرفت مما حصلتُه شيئاً سِوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح ، ثم قال:
الافتقار وصفٌ سلبيٌّ أموت وما عرفت شيئاً . [ شرح الطحاوية المصدر السابق ]
محمد بن سالم بن واصل الحموي المتوفى سنة 697 هـ ، أحد المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ، كان يقول : أستلقي على قفاي وأضع المِلحفة على نصف وجهي ، ثم أذكر المقالات وحُجج هؤلاء وهؤلاء،واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء.[ مجموع الفتاوى ( 4 / 28 ) ]
الإمام العلامة ابن دقيق العيد أبو الفتح القُشيري المتوفى سنة 702 هـ ، وإن كان رحمه الله ليس مثلهم من جهة العلم والعمل لكنه ندم على سلوكه سبيل أولئك الأشاعرة المتكلمين المخالفين للسلف ، والمخالفين حقيقةً لأبي الحسن الأشعري المنتسبين إليه ،
قال عنه الإمام الذهبي : وقد كان شيخُنا أبو الفتح القُشيري يقول :
تجاوزتُ حَدَّ الأكثرينَ إلى العُلا وسافرتُ واستبقيتهم في المفاوزِ
وخُضتُ بحاراً ليسَ يُدركُ قعرها وسيرتُ نفسي في قَسِيمِ المفاوزِ
ولَجَجْتُ في الأفكارِ ثم تراجعَ اختــياريْ إلى استحسانِ دينِ العجائزِ [ العلو للعلي الغفار ، للإمام الذهبي ص 188 ]
حتى الذين اشتهروا بالزندقة والضلال والـخُبث ، عند موتهم اعترفوا بتضييع أيامهم فيما منَّوا به أنفسهم من ذلك الكفر العظيم ، ومن هؤلاء الصوفي الضال القائل بوحدة الوجود المشهور بابن الفارض قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : وابن الفارض – من متأخري الاتحادية – صاحب التائية المعروفة »بنظم السلوك« وقد نظم فيها الاتحاد نظماً رائق اللفظ ، فهو أخبثُ من لحم خِنـزير في صينيةٍ من ذهب ، وما أحسنَ تسميتها»بنظم الشكوك«،لَمَّا حضرتهُ الوفاة أنشدَ :إن كانَ منـزلتيْ في الحُبِّ عندَكمُ ما قد لقيتُ فقد ضيعـتُ أيامي
أُمنيـةً ظَفِرتْ نفسي بهـا زمنـاً واليومَ أحسَبُها أضغاثُ أحلامي [ مجموع الفتاوي ( 4 / 73 - 74 ) ]
ولذلك كاد الإمام الشوكاني أن ينـزلق في طريق أولئك المتكلمين أهل الحيرة والشك ، ولكنه بفضل الله تعالى رمي بذلك ولزم مذهب السلف
أهل السنة والجماعة ، ولذلك قال عن نفسه:» واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرةً ، ولا استفدتُ
منها إلا العلم بأن تلك المقالات خُزعبلات ، فقلت إذ ذاك مُشيراً إلى ما استفدته من هذا العلم :
وغايةُ ما حصَّلتُهُ من مبـــاحثي ومن نظري من بعدِ طولِ التَّدبُّرِ
هو الوقفُ مـا بينَ الطريقينِ حـيرةً فما عِلمُ من لم يلقَ غيرَ التـحيُّرِ
على أنني قد خُضـتُ منه غِمـارهُ وما قنعتْ نفسي بدونِ التَّـبَحُّرِ
وعن هذا رميتُ بتلك القواعد من حالق ، وطرحتها خلفَ الحائط ، ورجعتُ إلى الطريقة المربوطة بأدلة الكتاب والسنة ، المعمودة بالأعمدة التي على
أوثقِ ما يعتمدُ عليه عباد الله وهم الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء الأمة المقتدِين بهم السالكين مسالكهم ، فطاحت الحيرة ، وانجابت ظُلمة العماية ،
وانقشعت وانكشفت ستور الغواية ولله الحمد … « [ أدب الطلب ومنتهى الأرب ( ص 146 – 147 ) ]
فليت كل المخالفين لمنهج السلف أن يعودوا إليه مذعنين، ومما يخالفه تاركين، وأن يفعلوا كما فعل هؤلاء الأئمة الصالحين،من التمسك بسبيل الصحابة
وأتباعهم من المؤمنين أتباع سيد المرسلين ، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
ولذلك كل من خالف عن سبيل السلف فإنه يوجد عنده من الخطأ بقدر ما خالف فيه سواءً كان من المنتسبين للعلم أم من آحاد الناس ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» ولهذا يوجد في كلام الرازي وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه ، ويوجد في كلام الرازي وأبي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقُدماء أصحابه ، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة مالا يوجد في كلام أبي محمد ببن كُلاَّب الذي أخذ أبو الحسن طريقته ، ويوجد في كلام ابن كُلاَّب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة مالا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة ، وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل هذا المآل فالسعيدُ من لزم السنة … « [ بُغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد ص 451 وتُعرف بالسبعينية ]
قال الإمام عبدالرحمن بن أحمد الكمالي في منظومته شهود الحق :
تَمسَّـك بديـنِ اللهِ ديـنِ نبيِّـهِ وعُضَ عليهِ بالنواجذِ تَسعدِ
وعانقْ كِتابَ الله ما دُمـتَ واجداً لهُ فقـريبٌ رفعُهُ وكأنْ قَدِ
وقدْ رُفعتْ أحكامُهُ عندَ بعضهـمْ ألَمَّا يكن ذا الرفعِ سُبحانَ سيدي
وصاحبْ حديثَ المصطفى مثلَ صحبهِ وإن لم تكن تقوى فقارب وسددِ
ولا تكُ من قومٍ أتتْ وتَفرَّقتْ بهمْ سُبُلٌ دون السبيلِ الـمُسَدَّدِ
وبعضهمُ في آخرِ العُمرِ قالَ قدْ أضعتُ نَفيسي في سرابٍ بِمَبْعَدِ
ألم يُغنني قول الإلهِ وأحمدٍ عنَ أقوال غيرٍ من بعيدٍ وأبعدِ
إلهي كأيمانِ العجائزِ جُدْ فقدْ وصلنَ ولمْ أسلمْ من اسر التَّبَعُّدِ
فيا ليت شعري هلْ نجا قبلَ موتهِ من الأسرِ أمْ كانَ اعتباراً لـمُهتدِ [ منظومة شهود الحق ص 160 – 162 ]
وقد وفق الله تعالى الإمام أبا محمد الجويني والد أبي المعالي الجويني إلي التخلص من مذهب الأشاعرة والاعتراف بأن ما كانوا يقولون به في صفات الله تعالى من التأويل إنما هو تحريفٌ للكلم عن مواضعه ، فذكر رحمه الله تعالى في رسالته المسماة:» بالنصيحة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف
والصوت في القرآن المجيد « قال فيها :» وبعد ، فهذه نصيحةٌ كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء ، والإخلاص والوفاء ، لما تعيَّنَ علي محبتهم في الله ، ونصيحتهم في صفات الله عز وجل …أُعرفهم فيها أيدهم الله تعالى بتأييده ، ووفقهم لطاعته ومزيده ، أنني كُنتُ برهةً من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت ، وكُنتُ متحيراً في الأقوال الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها وإثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقةً بحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كُتبهم : منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، ويؤول النـزول بنـزول الأمر ، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ، ويؤول القَدم
بقدم صدقٍ عند ربهم … وأمثال ذلك ، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنىً قائماً بالذات بلا حرفٍ ولا صوتٍ ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، وممن ذهب إلى هذه الأقوال قومٌ لهم في صدري منـزلة ، مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، عرفتُ فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم
الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازاتٌ لا يطمئن قلبي إليها ، وأجدُ الكدرَ والظُّلمةَ منها ، وأجدُ
ضيقَ الصدر وعدم انشراحهِ مقروناً بها ، فكنتُ كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره ،
وكنتُ أخافُ أن من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنـزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجدُ الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرَّح بها مُخبراً عن ربه واصفاً لهُ بها ، وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يَحضرُ مجلسهُ الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ؛ ثم لا أجد شيئاً يُعقبُ تلك النصوص التي كان يَصفُ ربهُ بها لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي المتكلمين : مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء،ونـزول الأمر للنـزول،وغير ذلك،ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ، ولم يُنقل عنه مقالةً تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخَر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرتبة ويد
النعمة والقدرة وغير ذلك ، وأجد الله عز وجل يقول : ( الرحمن على العرش استوى ) ( خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ( يخافون ربهم من فوقهم ) ( إليه يصعد الكلم الطيب ) … ثم ذكر الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وأنه هو الظاهر المراد من هذه النصوص ،
ثم قال : إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلَّصنا من شُبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل ، وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته ، والحقُ واضحٌ في ذلك والصدور تنشرحُ له ، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل : تحريف الاستواء بالاستيلاء
وغيره ، والوقوف في ذلك جهلٌ وعيٌّ ، وع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسهُ بهذه الصفات لنعرفهُ بها ، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدولٌ عن المقصودِ
منه تعالى في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لِـنُثبت ما وصف به نفسه ولا نقف في ذلك ، وكذلك التشبيه والتمثيل حماقةٌ وجهالةٌ فمن وفَّقهُ
الله تعالى للإثبات بلا تحريفٍ ولا تكييفٍ ولا وقوفٍ فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله …
وختم رسالته بقوله : فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة ولم يُعاجـلها بالإنكار ، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار ، وتأمل النصوص في الصفات ، وفكر بعقله في نـزولها وفي المعنى الذي نـزلت له وما الذي أُريد بعلمها من المخلوقات ، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفةُ الرب تعالى بها ، والتوجه إليه منها ، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها كما يليقُ بجلاله وعظمته بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل
ولا جمود ولا وقوف ، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر ، وكِفايةٌ لمن استبصر … « [ انظر رسالته ضمن الرسائل المنيرية ( 1 / 174 –
وقد مرَّ معنا شيئاً من كلامه في الوقفة الرابعة .
وأما ذِكرُ الدكتور لبعض العلماء ونسبته لهم إما إلى الأشاعرة أو الماتريدية فلا يدل ذلك على أن كُل علماء الأمة كذلك ، و ذكرنا أنه قد يقع من بعض العلماء زلات وأخطاء ، وليس معنا هذا أن نوافقهُ في خطئه بل نُنبه عليه ، ونُحذر من ذلك الخطأ وخاصةً إذا كان هذا الخطأ في أمور الاعتقاد ، ومعلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام أن خير القرون في كُلِّ فضلٍ وعلمٍ وفهمٍ أنهم القرون الثلاثة والصاحبة رضوان الله عليهم لهم النصيب الأعظم من ذلك ثم التابعون لهم بإحسان من بعدهم ، ولم يقع منهم خلاف في شيءٍ من أمور الاعتقاد ولله الحمد ، وأما العصور المتأخرة فليست كذلك ، وقد نبَّه العُلماءُ الجهابذة على الأخطاء العقدية التي يقع فيها كثير من المنتسبين للعلم ، فمثلاً الحافظ ابن حجر العسقلاني وقع في أخطاء في العقيدة في شرحه المسمى : فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ونبَّه على أخطائه العلماء والأئمة أتباع السلف أهل السنة والجماعة بدون تجريحٍ لهُ ولا ذم متبعين في ذلك قولهُ صلى الله عليه وسلم : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلهُ أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد ، مع أن أمور الاعتقاد لا اجتهاد فيها بل نؤمنُ بها ، ونهتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم فيها ، وممن نبَّه على أخطاءه :
أ - العلامة المحدث الشيخ عبدالله بن محمد الدويش رحمه الله تعالى الذي كان يحفظ الكتب الستة بأسانيدها ، وكتابهُ مطبوع .
ب – سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى وتعليقاته مطبوعة في حاشية فتح الباري .
ج – الشيخ العلامة عبدالله بن سعدي الغامدي ، وكتابه مطبوع .
الوقفة الثالثة عشر
قول الدكتور :» والإخوة الذين يذمون الأشاعرة بإطلاق مخطئون متجاوزون… «
وقول الدكتور :» فالأشاعرة فئة من أهل السنة والجماعة ، ارتضتهم الأمة … «
[1] أنَّ الذم لا يكون إلا بمخالفة شيءٍ من الشرع الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده رضي الله عنهم ، وخاصةً إذا كان من
أمور الاعتقاد ، فمن خالف شيئاً من ذلك فهو مذموم .
[2] أن الأشاعرة قد ذمهم علماءٌ كبار من الشافعية وغيرهم ، ولذلك لما ألف الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي الشافعي
كتابه :» الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول « أنه لم يعتمد إلا على أقوال أئمة السلف وذكرَ منهم : الشافعي ، ومالك والثوري ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري صاحب الصحيح ، وسفيان بن عُيينة ، وعبدالله بن المبارك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد، وإسحق بن راهوية ، فذكرَ فيه أقوالهم في أصول السنة ما يُعرفُ به اعتقادهم ، وذكر في تراجمهم ما فيه التنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام ، وذكر أنه اقتصر في النقلِ عنهم دون غيرهم لأمرين عظيمين :
أحدهما : لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوعِ شرقاً وغرباً إلى مذاهبهم ، ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم،وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها : من جودة الحفظ والبصيرة والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة والإجماع والسند والرجال والأحوال ولُغات العرب ومواضعها والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمنقول والمعقول والصحيح والمدخُول ، مع الصدق والصلابة وظهور الأمانة والديانة ممن سواهم …
والثاني :أن في النقل عن هؤلاء إلزاماً للحجة على كلِّ من ينتحلُ مذهب إمامٍ يُخالفهُ في العقيدة ؛فإن أحدهما لا محالة يُضلِّلُ صاحبه أو يُبدعه أو يُكفره ،
فانتحالُ مذهبه – مع مخالفته لهُ في العقيدة – مستنكرٌ والله شرعاً وطبعاً ، فمن قال : أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد ! قُلنا له : هذا من الأضداد ،
لا بل من الارتداد ؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد ، ومن قال : أنا حنبلي الفروع مُعتزلي الأصول !! قُلنا له : قد ضللتَ إذاً عن سواء السبيل فيما تزعمه إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد … « [مجموع الفتاوى ( 4 / 176 – 177 ) ]
ثم قال رحمه الله تعالى :» وقد افتتن خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية ، وهذا والله سُبَّـةٌ وعار ، وفلتةٌ تعود بالوبال والنكال وسوء الدار ، على منتحلِ
مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار ، فإن مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية … « [ المصدر السابق ]
[3] أن الأشعري نفسه رحمه الله تعالى لَـمَّا تاب من الإعتزال وسلك طريقة أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كُلاَّب بقي في أقواله شيءٌ من أصول الجهمية كما مَرَّ معنا في الوقفة الثانية عشر .
[4] أن المنتسبين إلى الأشعري في الاعتقاد مختلفون فيما بينهم ، فمنهم من حذا حذو الأشعري وهم : المتقدمون من أتباعه وهم قليل كأمثال: ابن مجاهد
وتلميذه الباقلاني ، وكأبي علي بن شاذان ، وأبي محمد اللبان ، ومنهم من خالفه – وهم الغالبية – وخرج عن أقواله إلى أقوال المعتزلة والجهمية أمثال : أبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبوعبدالله الرازي وغيرهم ،
قال شخ الإسلام ابن تيمية:» وأئمة أصحاب الأشعري : كالقاضي أبي بكر الباقلاني وشيخه أبي عبدالله بن مجاهد ، وأصحابه : كأبي علي بن شاذان ،
وأبي محمد اللبان ، بل وشيوخ شيوخه : كأبي العباس القلانسي وأمثاله ، بل والحافظ البيهقي وأمثاله أقرب إلى السنة من كثيرٍ من أصحاب الأشعري
المتأخرين الذين خرجوا عن كثيرٍ من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة ، فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول
المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة … « [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ( ص 78 ) ]
ولذلك كان شؤم المتأخرين من هؤلاء المنتسبين إلى الأشعري على بعض المسلمين عظيماً بسبب ما ينسبونه إلى السلف من الأقوال الباطلة التي لم يقُل بها
أحدٌ من السلف ؛ وما ذاك إلا لقلةِ معرفتهم بآثار السلف ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن فرض أن أحداً نقل مذهب السلف كما يذكره : فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف : كأبي المعالي وأبي حامد
وابن الخطيب وأمثالهم ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يُعدون به من عواِّ أهل الصناعة فضلاً عن خواصِّها ، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف
البخاري ومسلماً وأحاديثهما إلا بالسماع كما يذكر ذلك العامَّة ، ولا يميزون بين الحديث الصحيح والمتواتر عند أهل العلم بالحديث وبين الحديث
الـمُفترى المكذوب ، وكتبهم أصدق شاهدٍ بذلك ففيها عجائب . [مجموع الفتاوى ( 4 / 71 – 72 ) ]
وقال في موضعٍ آخر : وأيضاً فقد ينصر المتكلمون أقوال السلفِ تارةً ، وأقوال المتكلمين تارةً : كما يفعله غيرُ واحد مثل : أبي المعالي الجويني ،
وأبي حامد الغزالي ، والرازي وغيرهم ، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارةً أنه هو المعتمد ، فلا يثبتون على دينٍ واحد وتغلبُ عليهم الشكوك وهذه
عادةُ الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة … [ مجموع الفتاوى ( 4 / 157 ) ]
[5] أن العلماء الجهابذة قد بينوا فساد مذهب الأشاعرة وغيرهم من الجهمية والمعتزلة والرافضة والصوفية أقطاب وحدة الوجود أهل الإلحاد القائلينَ
بالحلول والاتحاد ، وغيرهم من أهل الزيغ والعناد ، فمن أقوال أئمة السلف أهل السنة والجماعة في ذمِّ الأشاعرة :
أ- [ قول الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي الشافعي ] كما مر معنا : وقد افتتن خلقٌ من المالكية بمذاهب الأشعرية ، وهذا والله سُبَّةٌ وعار ، وفلتتةٌ تعودُ بالوبال والنكال وسوء الدار … [ المصدر السابق ( 4 / 177 ) ]
وقال أيضاً رحمه الله تعالى : ولم تزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينتسبوا إلى الأشعري ، ويتبرءون مما بنى مذهبه عليه ، وينهون أصحابهم وأحبابهم من الحوم حواليه … [ شرح الأصفهانية لابن تيمية ص 36 ]
ب - [ قول شيخ الإسلام ابن تيمية ] : والأشعرية : الأغلب عليهم أنهم مُرجئةٌ في باب الأسماء والأحكام ، جبريةٌ في باب القدر ، وأما في الصفات
فليسوا جهميةً محضة بل فيهم نوع من التجهم … [مجموع الفتاوى ( 6 / 55 ) ]
وقال أيضاً : ولهذا صار من يُعظم الشافعي من الزيدية والمعتزلة ونحوهم يطعن في كثيرٍ ممن ينتسب إليه ويقولون : الشافعي لم يكن فيلسوفاً ولا مرجئياً
وهؤلاء فلاسفة مُرجئة ، وغرضهم ذم الإرجاء … [ المصدر السابق ( 7 / 120 – 121 ) ]
ج_ [ الإمام العلاَّمة الحجة يحيى بن عمار السجستاني ]
قال عنهم : المعتزلة الجهمية الذكور ، والأشعرية الجهمية الإناث قال شيخ الإسلام : مرادهم الأشعرية الذين يُنفون الصفات الخبرية ، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يُظهر مقالةً تُناقض ذلك فهذا يُعد من أهل السنة،لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة؛لاسيما وأنه بذلك يوهم حُسناً بكلِّ من انتسب هذه النسبة وينفتح باب شر[ المصدر السابق ( 6 / 361 )