من هناك
01-24-2009, 05:35 AM
قراءة في الحركات الاسلامية في طرابلس
جند الله نموذجاً
"...نداء بن لادن وصل بعد فوات الأوان" !
غسان علم الدين - طرابلس
نتيجة فشل الحركات الاسلامية العربية المحلية وانكفائها امام المد الحزبي اليساري العروبي من الستينات حتى اواخر السبعينات - برز لاعب اسلامي اساسي، غير عربي في الساحة الاسلامية عموماً، والعربية في شكل خاص، ولبنان تحديداً. هذا اللاعب هو حركة عُرفت باسم "جماعة التبليغ" التي أسسها الشيخ محمد الياس أحد خريجي المدرسة "الديوبندية". وهي المدرسة التي أعجب بها "الملا محمد عمر وأسامة بن لادن وأبو عائشة"، زعيم مجموعة الضنية الذي قتل في شمال لبنان.
تستلهم هذه المدرسة الفكر الوهابي، ويتخذ مبشروها ومبلغوها سبيلاً لنشر دعوتهم اسلوب الدعوة "الصحابية الحقة" التي تركّز على "الامر بالمعروف" دون التشديد على "النهي عن المنكر". لأن النفس لا تقبل الامتناع او الابتعاد اوالتخلي مباشرة عن "المنكر" اذ انه جانب يشتمل على الترك والامساك عن الكثير من اللذائذ والمتع الحسية وهو امر يشق على المريد في اول الطريق. جعلوا من اسلوبهم الحسن وتعاملهم الرقيق جواز مرورهم الى قلوب المسلمين.
واول عمل يقومون به عند دخولهم منزل احد المريدين هو تجنب الحديث في السياسة والسلاح والاحزاب والحكومات. لذلك تفتح لهم الابواب من دون تحفظ. ثم يبدأون بتمرير دعوتهم على مراحل متعددة، ومتنوعة. ثم يتآخون "في الله؟ وينطلقون في رحلة الدعوة التي تبدأ مع "الأخ الجديد" بإرساله في صحبة "كوكبة" من المسلمين تمتد لثلاثة ايام للدعوة "في سبيل الله"، ثم رحلة الاربعين يوماً، ثم رحلة الاربعة اشهر، التي يسمونها "الخروج في سبيل الله". فالايام الثلاثة هي بمثابة اختبار اولي لمدى التهيئة النفسية. ورحلة الاربعين يوماً يتم فيها صقله وتهذيبه وتعويده على الطاعات والسنن. اما الاربعة اشهر فهي لبلوغ المريد مرتبة "أهل الشورى".
بدأ نجم هذه الجماعات يظهر في اطار السياسة العملانية في منتصف السبعينات. وتحديداً في العام 1973 إثر تداعيات حرب تشرين وما أثير حولها من تساؤلات حول "الانتصارات" وما حصل في ثغرة "الدفرسوار، ومفاوضات الكيلو 101"، وما أثير حول الدخول الى القنيطرة من آراء تركت ردود فعل متضاربة في الشارع العربي عموماً، والاسلامي خصوصاً. وكانت هذه الحركات تختزن كل هذه التناقضات وترى فيها استفزازاً لمشاعرها، وتخييباً لآمالها وعقيدتها، لا سيما بعدما شهدته الحركات الاصولية الاسلامية في العالم العربي من قمع وتهميش في مصر وسوريا. وكان لحركة جيهمان السعودي الاسلامي الذي اقتحم الكعبة واعتصم داخلها، وطالب بتحرير "بيت المقدس" واقامة دولة اسلامية، أثر كبير في استنهاض هذه الحركات وبعث الروح فيها.
وبرزت اولى تحركات هذه الجماعات على الارض في لبنان عام 1975 متخذة من ذكرى المولد النبوي تأريخاً لبدء انطلاقتها في العمل الميداني بتظاهرة حاشدة جابت شوارع طرابلس وحملت عبارات اسلامية - جهادية. واختار المسؤولون عن هذه التنظيمات اسماً لحركتهم عرف بـ"جند الله".
خرجت التظاهرة مسلحة، وانطلقت من منطقة "أبي سمراء" (أحد احياء طرابلس) تقودها القوى الاسلامية تحت راية "جند الله". ورغم ان هذا التنظيم كان "عفوياً يفتقر الى صرامة الهيكلية التنظيمية، الا انه شكل متنفساً للاحتقان الداخلي الاسلامي. واصبحت معظم القوى الاسلامية التي ترفض الهيئات والتنظيمات والاحزاب اليسارية تعتبر "جند الله" "ملاذها الوحيد".
ونظراً الى ضخامة تلك المسيرة التي قدّر عددها في ذلك الحين، بعشرات الآلاف، لم يعد في مقدور القوى المنظمة السيطرة عليها، فحصل اطلاق نار كثيف. آنذاك كثرت لدى الناس الاخبار والاحاديث التي تناقلتها وسائل الاعلام عن "ان جند الله" "يمثلون الحالة الطائفية للرد مستقبلاً على القوى اليمينية المتطرفة، كحزب "الكتائب، والاحرار، وحراس الأرز" وسواهم.
في اعقاب تلك التظاهرة استدعت استخبارات أمن الدولة "الشعبة الثانية" أمير مجموعة "جند الله" وأُخضع لتحقيق مطول، تبين إثره انه تم تدريب عدد قليل من شباب "جند الله" لا يتجاوز العشرات، منهم من استمر في الحركة، ومنهم من توقف ولم يعد يُعرف عنه شيئاً.
وإثر اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 كانت الحركة قد استقطبت عدداً كبيراً من الشباب، واصبح مركزها في أبي سمراء منطلقاً لعملياتها "التثقيفية والعسكرية". وراحت تقيم محاضرات ولقاءات اسبوعية غايتها شرح مجريات الامور السياسية وابعادها على الساحة اللبنانية.
ولعبت حركة "جند الله" دوراً عسكرياً لافتاً في المعارك التي خاضتها الى جانب "الاحزاب الوطنية" والقوى اليسارية، الفلسطينية ضد التكتلات اليمينية - المسيحية في ذلك الوقت.
بعد دخول الجيش السوري الى شمال لبنان بصفتها "قوات ردع عربية" وجد "جند الله" ان دورهم تعطل، ولم يعد من مبرر لوجودهم او حملهم السلاح. وشعروا ان معركتهم تحولت صراعاً حقيقياً مع قوى المشروع الاسرائيلي المتمثل بـ"جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حداد. وقد أقامت حركة "جندالله" قاعدة عسكرية لها في منطقة الرشيدية في ضواحي مدينة صور. وخاضت معارك كثيرة مع "الجيش الجنوبي"، وسميت تلك القاعدة "قاعدة المشايخ"، وكانت بجانبها قواعد اخرى لمجموعات فلسطينية اسلامية مثل "الحركة الاسلامية المجاهدة" التي كانت تضم في صفوفها بعض الشباب من طاجيكستان، وكازاخستان، والذين كانوا متحمسين جداً "للدفاع عن الدين الاسلامي". ويقول كادر من "جند الله" ان "بعض المتاجرين من القوى اليسارية والفلسطينية كانوا يستغلون حماستنا وحماسة هؤلاء، كأن يصوّروننا ونحن نؤدي الصلاة، او نخوض بعض المعارك لبيعها في دول اسلامية كانت تدعم مثل هذه النشاطات. ويتابع قائلاً "تصدت مجموعات جند الله لإنزالات اسرائيلية في الاعوام 1979 و،1980 و.1981 كنا نستبسل دفاعاً عن القضية الفلسطينية، التي نعتبرها قضية الأمة المحمدية الاسلامية فهي ليست قضية اشخاص او كيانات اقليمية. وقد اكتشفنا انهم كانوا يعقدون الصفقات من وراء ظهورنا، ويساومون على دمائنا".
في العام ،1982 وفي اعقاب الاجتياح الاسرائيلي للجنوب وبيروت عاد كوادر الحركة الى معقلهم الاساسي في طرابلس والشمال عموماً، وجهزوا مجموعة كبيرة من الشباب المؤمن المسلم "للدفاع عن كرامتهم، وكرامة أمتهم". اذ أنهم اعتبروا ان "الجهاد في سبيل الله لا ينتهي".
ويضيف الكادر نفسه: "استُشهد لنا عدد من اخواننا المجاهدين في ساحة المعركة، وكان التعاطف على مستوى الشارع المسلم في معظم المناطق اللبنانية الا اننا كنا نشعر ان ركيزتنا الاساسية هي طرابلس. وكانت المقاومة الفلسطينية داعماً اساسياً لنا".
وفي طرابلس بدأ "جند الله" مناوشات ومعارك جانبية مع الاحزاب اليسارية كالبعثيين العراقيين والشيوعيين، وجماعة حركة 24 تشرين. و"اضطروا" في تلك الاثناء لخوض معارك "لم تكن لمصلحتهم"، اذ ان طرابلس هي قاعدتهم الاستراتيجية.
وقبل وصول ابو عمار الى طرابلس كان امر طرابلس قد حُسم بانكفاء الدور السياسي للاحزاب اليسارية و"القوى الوطنية"، حيث لم يعد لها اي نفوذ او فاعلية. وكانت القوى الاسلامية بدأت تستعيد حيويتها على الساحة الطرابلسية التي شهدت صراعات ومعارك بين الاحزاب للقبض على زمام الموقف في المدينة، والتهيؤ للعب دور حيوي في المرحلة المقبلة، مرحلة وجود المقاومة الفلسطينية في طرابلس. وتجمعت القوى الاسلامية واتخذت قرارها بمؤازرة المقاومة الفلسطينية التي تلتقي اهدافها مع قضيتها المركزية: "تحرير فلسطين وبيت المقدس". وبعد اجتماعات مطولة اتفقت هذه القوى على مبايعة الشيخ سعيد شعبان "أميراً لها".
لكن حين "انحرفت مسيرة بعض المجموعات الاسلامية المتحالفة عن مسارها الصحيح المتمثل في إعلاء كلمة لا إله الا الله، محمد رسول الله، وشعار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وراحت تساير القوى المهيمنة في ذلك الوقت، بدأ جند الله يعدلون مسيرتهم. فإثر دخول القوات السورية الى طرابلس، وظهور تواطؤات من جانب بعض المجموعات المهيمنة التي سهلت دخول السوريين الى المدينة أعلنت حركة جند الله انسحابها من العمل الى جانب تلك القوى وأعلنت حل التنظيم لعدم وجود الدافع الجوهري الشرعي الاسلامي لمواصلة الجهاد في سبيل الله".
وفي الفترة الممتدة بين 1985 و2000 وهي فترة طويلة نسبياً. لم تظهر في لبنان حركات اسلامية ترفع شعار اقامة "الدولة" وتعمل على تحقيقه ضمن منظومة ايديولوجية وعقائدية محددة. الا ان الحركات الاصولية الاسلامية في العالم الاسلامي ظلت تعتبر ان في طرابلس تنظيماً اسلامياً يلتقي في توجهاته واهدافه مع توجهاتها واهدافها. وحاولت مراراً وتكراراً إقناع بعض الجهات باعادة إحياء "جند الله" وبعث الحياة من جديد في هذا التنظيم، الا ان تلك المحاولات جميعها باءت بالفشل.
وفي مطلع تسعينات القرن الماضي، حين راح نجم اسامة بن لادن يلمع في أفق الحركات الاصولية الاسلامية كـ"مجاهد" مسلم ضد القوى "المعادية للاسلام والمسلمين" تلقى الكثير من هذه الحركات تصريحاته الداعية الى محاربة هذه القوى كرسائل علنية موجهة اليهم. وقد كان أبو عائشة واحداً من الذين تجاوبوا وتزعم "مجموعة الضنية" وقتل في مواجهة مع الجيش اللبناني في اواخر ،1999 بعدما كان وجّه رسائل عديدة الى التنظيمات والحركات الاسلامية في لبنان، للعودة الى العمل على نشر الدعوة و"الجهاد في سبيل الله".
كان ابو عائشة يتوقع تجاوباً كبيراً مع دعوته من الاصوليين الاسلاميين، لا سيما بعد عودته من اميركا، التي تزوج فيها، وحصل على الجنسية الاميركية، وتدرب على استخدام الاسلحة كافة حتى قيادة الطائرات المقاتلة. كان شاباً ذكياً ووسيماً، مقرباً من زعيم تنظيم القاعدة، بعدما أظهر حنكة وبراعة ودهاء في الشيشان الى جانب المقاتلين العرب ضد الروس.
وحين عاد الى لبنان لحض الحركات الاصولية الاسلامية على العودة الى الكفاح ومواصلة "الجهاد" كان يضع تنظيم "جند الله" على رأس جدول اعماله، الا انه وقبيل فترة قصيرة من مقتله علم بأن التنظيم المذكور "حُلّ" تماماً، ولم يعد لكوادره التنظيمة اي أثر، وان رسالة بن لادن وصلت، ولكن بعد فوات الالوان.
النهار الاربعاء 5 كانون الاول 2001
جند الله نموذجاً
"...نداء بن لادن وصل بعد فوات الأوان" !
غسان علم الدين - طرابلس
نتيجة فشل الحركات الاسلامية العربية المحلية وانكفائها امام المد الحزبي اليساري العروبي من الستينات حتى اواخر السبعينات - برز لاعب اسلامي اساسي، غير عربي في الساحة الاسلامية عموماً، والعربية في شكل خاص، ولبنان تحديداً. هذا اللاعب هو حركة عُرفت باسم "جماعة التبليغ" التي أسسها الشيخ محمد الياس أحد خريجي المدرسة "الديوبندية". وهي المدرسة التي أعجب بها "الملا محمد عمر وأسامة بن لادن وأبو عائشة"، زعيم مجموعة الضنية الذي قتل في شمال لبنان.
تستلهم هذه المدرسة الفكر الوهابي، ويتخذ مبشروها ومبلغوها سبيلاً لنشر دعوتهم اسلوب الدعوة "الصحابية الحقة" التي تركّز على "الامر بالمعروف" دون التشديد على "النهي عن المنكر". لأن النفس لا تقبل الامتناع او الابتعاد اوالتخلي مباشرة عن "المنكر" اذ انه جانب يشتمل على الترك والامساك عن الكثير من اللذائذ والمتع الحسية وهو امر يشق على المريد في اول الطريق. جعلوا من اسلوبهم الحسن وتعاملهم الرقيق جواز مرورهم الى قلوب المسلمين.
واول عمل يقومون به عند دخولهم منزل احد المريدين هو تجنب الحديث في السياسة والسلاح والاحزاب والحكومات. لذلك تفتح لهم الابواب من دون تحفظ. ثم يبدأون بتمرير دعوتهم على مراحل متعددة، ومتنوعة. ثم يتآخون "في الله؟ وينطلقون في رحلة الدعوة التي تبدأ مع "الأخ الجديد" بإرساله في صحبة "كوكبة" من المسلمين تمتد لثلاثة ايام للدعوة "في سبيل الله"، ثم رحلة الاربعين يوماً، ثم رحلة الاربعة اشهر، التي يسمونها "الخروج في سبيل الله". فالايام الثلاثة هي بمثابة اختبار اولي لمدى التهيئة النفسية. ورحلة الاربعين يوماً يتم فيها صقله وتهذيبه وتعويده على الطاعات والسنن. اما الاربعة اشهر فهي لبلوغ المريد مرتبة "أهل الشورى".
بدأ نجم هذه الجماعات يظهر في اطار السياسة العملانية في منتصف السبعينات. وتحديداً في العام 1973 إثر تداعيات حرب تشرين وما أثير حولها من تساؤلات حول "الانتصارات" وما حصل في ثغرة "الدفرسوار، ومفاوضات الكيلو 101"، وما أثير حول الدخول الى القنيطرة من آراء تركت ردود فعل متضاربة في الشارع العربي عموماً، والاسلامي خصوصاً. وكانت هذه الحركات تختزن كل هذه التناقضات وترى فيها استفزازاً لمشاعرها، وتخييباً لآمالها وعقيدتها، لا سيما بعدما شهدته الحركات الاصولية الاسلامية في العالم العربي من قمع وتهميش في مصر وسوريا. وكان لحركة جيهمان السعودي الاسلامي الذي اقتحم الكعبة واعتصم داخلها، وطالب بتحرير "بيت المقدس" واقامة دولة اسلامية، أثر كبير في استنهاض هذه الحركات وبعث الروح فيها.
وبرزت اولى تحركات هذه الجماعات على الارض في لبنان عام 1975 متخذة من ذكرى المولد النبوي تأريخاً لبدء انطلاقتها في العمل الميداني بتظاهرة حاشدة جابت شوارع طرابلس وحملت عبارات اسلامية - جهادية. واختار المسؤولون عن هذه التنظيمات اسماً لحركتهم عرف بـ"جند الله".
خرجت التظاهرة مسلحة، وانطلقت من منطقة "أبي سمراء" (أحد احياء طرابلس) تقودها القوى الاسلامية تحت راية "جند الله". ورغم ان هذا التنظيم كان "عفوياً يفتقر الى صرامة الهيكلية التنظيمية، الا انه شكل متنفساً للاحتقان الداخلي الاسلامي. واصبحت معظم القوى الاسلامية التي ترفض الهيئات والتنظيمات والاحزاب اليسارية تعتبر "جند الله" "ملاذها الوحيد".
ونظراً الى ضخامة تلك المسيرة التي قدّر عددها في ذلك الحين، بعشرات الآلاف، لم يعد في مقدور القوى المنظمة السيطرة عليها، فحصل اطلاق نار كثيف. آنذاك كثرت لدى الناس الاخبار والاحاديث التي تناقلتها وسائل الاعلام عن "ان جند الله" "يمثلون الحالة الطائفية للرد مستقبلاً على القوى اليمينية المتطرفة، كحزب "الكتائب، والاحرار، وحراس الأرز" وسواهم.
في اعقاب تلك التظاهرة استدعت استخبارات أمن الدولة "الشعبة الثانية" أمير مجموعة "جند الله" وأُخضع لتحقيق مطول، تبين إثره انه تم تدريب عدد قليل من شباب "جند الله" لا يتجاوز العشرات، منهم من استمر في الحركة، ومنهم من توقف ولم يعد يُعرف عنه شيئاً.
وإثر اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 كانت الحركة قد استقطبت عدداً كبيراً من الشباب، واصبح مركزها في أبي سمراء منطلقاً لعملياتها "التثقيفية والعسكرية". وراحت تقيم محاضرات ولقاءات اسبوعية غايتها شرح مجريات الامور السياسية وابعادها على الساحة اللبنانية.
ولعبت حركة "جند الله" دوراً عسكرياً لافتاً في المعارك التي خاضتها الى جانب "الاحزاب الوطنية" والقوى اليسارية، الفلسطينية ضد التكتلات اليمينية - المسيحية في ذلك الوقت.
بعد دخول الجيش السوري الى شمال لبنان بصفتها "قوات ردع عربية" وجد "جند الله" ان دورهم تعطل، ولم يعد من مبرر لوجودهم او حملهم السلاح. وشعروا ان معركتهم تحولت صراعاً حقيقياً مع قوى المشروع الاسرائيلي المتمثل بـ"جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حداد. وقد أقامت حركة "جندالله" قاعدة عسكرية لها في منطقة الرشيدية في ضواحي مدينة صور. وخاضت معارك كثيرة مع "الجيش الجنوبي"، وسميت تلك القاعدة "قاعدة المشايخ"، وكانت بجانبها قواعد اخرى لمجموعات فلسطينية اسلامية مثل "الحركة الاسلامية المجاهدة" التي كانت تضم في صفوفها بعض الشباب من طاجيكستان، وكازاخستان، والذين كانوا متحمسين جداً "للدفاع عن الدين الاسلامي". ويقول كادر من "جند الله" ان "بعض المتاجرين من القوى اليسارية والفلسطينية كانوا يستغلون حماستنا وحماسة هؤلاء، كأن يصوّروننا ونحن نؤدي الصلاة، او نخوض بعض المعارك لبيعها في دول اسلامية كانت تدعم مثل هذه النشاطات. ويتابع قائلاً "تصدت مجموعات جند الله لإنزالات اسرائيلية في الاعوام 1979 و،1980 و.1981 كنا نستبسل دفاعاً عن القضية الفلسطينية، التي نعتبرها قضية الأمة المحمدية الاسلامية فهي ليست قضية اشخاص او كيانات اقليمية. وقد اكتشفنا انهم كانوا يعقدون الصفقات من وراء ظهورنا، ويساومون على دمائنا".
في العام ،1982 وفي اعقاب الاجتياح الاسرائيلي للجنوب وبيروت عاد كوادر الحركة الى معقلهم الاساسي في طرابلس والشمال عموماً، وجهزوا مجموعة كبيرة من الشباب المؤمن المسلم "للدفاع عن كرامتهم، وكرامة أمتهم". اذ أنهم اعتبروا ان "الجهاد في سبيل الله لا ينتهي".
ويضيف الكادر نفسه: "استُشهد لنا عدد من اخواننا المجاهدين في ساحة المعركة، وكان التعاطف على مستوى الشارع المسلم في معظم المناطق اللبنانية الا اننا كنا نشعر ان ركيزتنا الاساسية هي طرابلس. وكانت المقاومة الفلسطينية داعماً اساسياً لنا".
وفي طرابلس بدأ "جند الله" مناوشات ومعارك جانبية مع الاحزاب اليسارية كالبعثيين العراقيين والشيوعيين، وجماعة حركة 24 تشرين. و"اضطروا" في تلك الاثناء لخوض معارك "لم تكن لمصلحتهم"، اذ ان طرابلس هي قاعدتهم الاستراتيجية.
وقبل وصول ابو عمار الى طرابلس كان امر طرابلس قد حُسم بانكفاء الدور السياسي للاحزاب اليسارية و"القوى الوطنية"، حيث لم يعد لها اي نفوذ او فاعلية. وكانت القوى الاسلامية بدأت تستعيد حيويتها على الساحة الطرابلسية التي شهدت صراعات ومعارك بين الاحزاب للقبض على زمام الموقف في المدينة، والتهيؤ للعب دور حيوي في المرحلة المقبلة، مرحلة وجود المقاومة الفلسطينية في طرابلس. وتجمعت القوى الاسلامية واتخذت قرارها بمؤازرة المقاومة الفلسطينية التي تلتقي اهدافها مع قضيتها المركزية: "تحرير فلسطين وبيت المقدس". وبعد اجتماعات مطولة اتفقت هذه القوى على مبايعة الشيخ سعيد شعبان "أميراً لها".
لكن حين "انحرفت مسيرة بعض المجموعات الاسلامية المتحالفة عن مسارها الصحيح المتمثل في إعلاء كلمة لا إله الا الله، محمد رسول الله، وشعار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وراحت تساير القوى المهيمنة في ذلك الوقت، بدأ جند الله يعدلون مسيرتهم. فإثر دخول القوات السورية الى طرابلس، وظهور تواطؤات من جانب بعض المجموعات المهيمنة التي سهلت دخول السوريين الى المدينة أعلنت حركة جند الله انسحابها من العمل الى جانب تلك القوى وأعلنت حل التنظيم لعدم وجود الدافع الجوهري الشرعي الاسلامي لمواصلة الجهاد في سبيل الله".
وفي الفترة الممتدة بين 1985 و2000 وهي فترة طويلة نسبياً. لم تظهر في لبنان حركات اسلامية ترفع شعار اقامة "الدولة" وتعمل على تحقيقه ضمن منظومة ايديولوجية وعقائدية محددة. الا ان الحركات الاصولية الاسلامية في العالم الاسلامي ظلت تعتبر ان في طرابلس تنظيماً اسلامياً يلتقي في توجهاته واهدافه مع توجهاتها واهدافها. وحاولت مراراً وتكراراً إقناع بعض الجهات باعادة إحياء "جند الله" وبعث الحياة من جديد في هذا التنظيم، الا ان تلك المحاولات جميعها باءت بالفشل.
وفي مطلع تسعينات القرن الماضي، حين راح نجم اسامة بن لادن يلمع في أفق الحركات الاصولية الاسلامية كـ"مجاهد" مسلم ضد القوى "المعادية للاسلام والمسلمين" تلقى الكثير من هذه الحركات تصريحاته الداعية الى محاربة هذه القوى كرسائل علنية موجهة اليهم. وقد كان أبو عائشة واحداً من الذين تجاوبوا وتزعم "مجموعة الضنية" وقتل في مواجهة مع الجيش اللبناني في اواخر ،1999 بعدما كان وجّه رسائل عديدة الى التنظيمات والحركات الاسلامية في لبنان، للعودة الى العمل على نشر الدعوة و"الجهاد في سبيل الله".
كان ابو عائشة يتوقع تجاوباً كبيراً مع دعوته من الاصوليين الاسلاميين، لا سيما بعد عودته من اميركا، التي تزوج فيها، وحصل على الجنسية الاميركية، وتدرب على استخدام الاسلحة كافة حتى قيادة الطائرات المقاتلة. كان شاباً ذكياً ووسيماً، مقرباً من زعيم تنظيم القاعدة، بعدما أظهر حنكة وبراعة ودهاء في الشيشان الى جانب المقاتلين العرب ضد الروس.
وحين عاد الى لبنان لحض الحركات الاصولية الاسلامية على العودة الى الكفاح ومواصلة "الجهاد" كان يضع تنظيم "جند الله" على رأس جدول اعماله، الا انه وقبيل فترة قصيرة من مقتله علم بأن التنظيم المذكور "حُلّ" تماماً، ولم يعد لكوادره التنظيمة اي أثر، وان رسالة بن لادن وصلت، ولكن بعد فوات الالوان.
النهار الاربعاء 5 كانون الاول 2001