أحمد الظرافي
10-25-2008, 11:23 AM
صقر قريش: عبقريـة من قلب المأساة
بقلم: أحمد الظرافي
لقد صار الكثيرون، ونتيجة لحملة التشويه التي تستهدف بني أمية، والمستمرة منذ حوالي أربعة عشرة قرنا، لا ينظرون إليهم، إلا من ناحية كونهم اغتصبوا الخلافة، وحولوها إلى ملكٍ وراثي عضوض، إلى جانب تحميلهم أوزار تداعيات الفتنة التي حدثت في صدر الإسلام - تلك الفتنة التي ما زال أصحاب العاهات المزمنة يعيشون متقوقعين حولها، وأسرى لذكرياتها الأليمة، حتى اليوم- متغافلين – عن عمد أو غير عمد – عن الدور البارز الذي لعبه خلفاء بني أمية في نشر الإسلام في الشرق والغرب، وعن الأعمال العظيمة التي قاموا بها، خدمةً لهذه الأمة
وإن النظرة المنصفة، المتجردة عن الهوى والحقد والتعصب، لتحمل صاحبها على الإعجاب أيما أعجاب، بحكام بني أمية، بشكلٍ عام، بل ورفعهم إلى مصاف القادة العظماء في التاريخ الإسلامي. وأنا لا أعفيهم من جرائمهم، ولا أزكيهم، وإنما أحسبهم، والله حسيبهم. وهاهنا واحدٌ من فحولهم، إنه الأمير الأموي، العبقري، الفذ، أحد العظماء في تاريخ الإسلام والعالم، عبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة الإسلام العظيمة في الأندلس، والذي عُرف في التاريخ، بصفته عبد الرحمن الداخل، أو بلقبه الفريد صقر قريش
فمن هو عبد الرحمن الداخل؟ وما الدور الذي لعبه في تاريخ الإسلام؟
نشأة عبد الرحمن الداخل
اسمه بالكامل: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولد في الشام، في إحدى قرى قنسرين عام 113هـ/ 731م، ونشأ في الرصاصة أو في دمشق نشأة أمير ، في بيت الخلافة، وتعلم الفروسية، وقرض الشعر، منذ نعومة أظفاره
وقد عُني بتربيته – في بداية الأمر- والده الأمير معاوية، ولكنه توفي، وهو لا زال طفلا صغيرا، فكفله جده الخليفة هشام بن عبد الملك، وضمه هو وإخوته إلى كنفه، وعوضه عن عطف الأب، وأهتم بتربيته أحسن اهتمام، وكان يتعهده ويؤثره بالصلة والرعاية على أترابه من الإخوة وأبناء العمومة، لما كان يتوسمه فيه من مخايل النجابة والنبوغ والتميز
وكانت أمه "راح" تنسب إلى قبيلة نفزاوة البربرية المغربية، وقد فقدها صغيرا ، وكانت شقيقته أم الأصبع تحنو عليه، وتحاول بدورها تعويضه عن بعض ما أفتقده من حنان الأم، وشبّ عبد الرحمن في الرصافة، في كنف جده الخليفة هشام بن عبد الملك، وظل في الشام حتى عهد الخليفة مروان بن محمد، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أخنى الدهر على الأمويين، فقام العباسيون بثورتهم ضدهم عام132هـ- 750م، فنكبوهم شر نكبة، وقوضوا دولتهم، وأقاموا لهم المذابح المرعبة، التي كان آخرها المذبحة الشهيرة قرب الرملة، عندما غدروا بمن تبقى منهم أحياءً فقتلوهم شر قتلة، بعد أن كانوا قد أعطوهم الأمان، وكان عددهم نيفا وسبعين رجلا من وجوه بني أمية، ولم ينجو من أفراد البيت الأموي، سوى أعداد قليلةٍ جدا، هي التي حالفها الحظ. وقد عاش عبد الرحمن بن معاوية، هذه النكبة بكل بشاعتها ومرارتها وأحزانها وآلامها، وكان واحدا ممن نجو بأعجوبة من مذابح سيوف العباسيين، وما كان سينجو ، لولا أن العناية الآلهية كانت تدخره لأمرٍ عظيم، وأيضا لولا ألمعيته، ولولا طريقته الفذة في الهرب، التي اعتمدت على الذكاء والفطنة والدهاء وروح المغامرة أيضا. وتعتبر قصة نجاته وانتقاله متخفيا إلى المغرب، ثم إلى الأندلس، ولمدة خمس سنوات، من أروع القصص المثيرة في التاريخ. وكان حينذاك، لا يزال شابا يافعا في العشرين من عمره.
رحلته المثيرة إلى المغرب
مضى عبد الرحمن، إلى المغرب متخفيا، يعبر البرابري والقفار، والمهامه والوديان، هاربا من سطوة ومذابح أصحاب الأعلام السوداء، الذين لم يكتفوا بالقضاء على الخلافة الأموية، وإنما أرادوا ، وهم في عنفوان ثورتهم، استئصال شأفة بني أمية عن بكرة أبيهم، كبارهم وصغارهم، حتى لا تقوم لهم قائمة أبد الدهر. وأخذ عبد الرحمن يتنقل متخفيا، من بلدٍ إلى بلد، فمن دمشق إلى فلسطين، ومنها إلى مصر، ثم سار إلى برقةٍ، وبقي فيها متواريا عن الانظار لفترة من الزمن، فقد كانت العيون تتربص به أينما سار، وحيثما وجد، ثم انتقل من برقة إلى القيروان عاصمة ولاية أفريقية
وبينما كان في أفريقيا علم به عاملها، فجدّ في طلبه، فمضى إلى أخواله، أهل أمه من قبيلة نفزاوة البربرية في أحواز طنجة، في المغرب الأقصى، واختفى في مضاربهم عن أعين العباسيين وحلفائهم. وقد قام أخواله بكل حب وتقدير، بتوفير الملاذ الآمن له أولا، ثم بعد ذلك لم يبخلوا عن مؤازرته بما أوتوا من قـوة ومن رباط الخيل، كي يحقق حلمه بإقامة دولة بني أمية مرة أخرى، رغم ما لحق بهم من مظالم على أيدي عمّال الخلفاء من آبائه، من أمثال عبيد الله بن الحبحاب وغيره
وفي غضون ذلك كان مولاه الدمشقي المخلص بدر قد وصل إليه، بنفقة وجواهر كان قد طلبها من أخته (أم الأصبع)، وكانت أنظار عبد الرحمن، تتطلع نحو العدوة الأندلسية، حيث كانت وحدة أهلها قد تمزقت، وآلت أحوالهم فيها إلى قلق واضطراب ومنازعات، فالحروب، لأسباب قبلية أو عنصرية، أو لمصالح مكاسب دنيوية مادية، كانت مشتعلة على أشدها فيما بينهم، وتخضب أرضها بالدماء، سواء بين القبائل العربية: القيسية واليمنية، أو بينها وبين القبائل البربرية، مما كان ينذر بإمكانية زوال دولة الإسلام فيها، لو دامت الحال كذلك مزيدا من الوقت، وكان من العسير جدا الاتفاق على زعيم واحد يلتئم حوله الجميع، لعدم استيفاء أي من الفرقاء المتنازعين لشروط الزعامة
وقد بدأ عبد الرحمن بن معاوية، مغامرته بأن أرسل مولاه بدر إلى أهل الأندلس يدعوهم إلى نفسه، وليمهد له الطريق، واعتمد في ذلك على موالي بني أمية الذين كانوا موجودين في الأندلس، في ذلك الوقت، فبذلوا الهمّة في الترويج للأمير الأموي الطريد، فرحب بالفكرة كثير من زعماء القبائل اليمنية والبربرية، وقليل من زعماء القبائل القيسية
الداخل في الأندلس
وكان الغيارى على وجود الإسلام في شبه جزيرة إيبيريا، قد ورأوا فيه قارب النجاة الذي يمكن أن يخلص الأندلس من أزمتها القبلية المزمنة، ومن الوضع اليائس الذي بات أهلها يتخبطون فيه، فأرسلوا إليه مركبا ووفدا من كبرائهم، فأبلغوه طاعتهم له، واصطحبوه إلى الأندلس.
وهكذا عبر عبد الرحمن الداخل المضيق، واستطاع بعد جهدٍ شاقٍ، من السفر والمغامرة ومواجهة الأخطار والتحديات، على مدى خمس سنوات، أن يصل إلى الأندلس، وكان أول مكان وطئت فيه أقدامه في الأندلس هو المنكِّب، - بتشديد الكاف - وهي مدينة ساحلية على الشاطئ الشرقي، يطلق عليه اليوم اسم المونييكر، لا تبعد كثيرا عن غرناطة، فالمسافة بينهما 85 كيلومتر فقط. وكان ذلك في ربيع الثاني سنة 138هـ- 755م
ثم مضى ذلك المغامر الجسور، إلى منطقة ألبيرة وأقام معسكره في طرش، وهناك توافد الأنصار لمبايعته، مأخوذين بشخصيته القوية وجرأته النادرة، ثم مضى إلى رية فأرشذونة ثم أشبيلية، فبايعه أهلها فورا، ثم تقدم بعد ذلك إلى العاصمة قرطبة بما تجمع لديه من جنود من اليمنية والبربر والموالي. وعند بلدة المصارة، في جنوب غرب قرطبة، على الضفة اليمنى من نهر الوادي الكبير، التقى عبد الرحمن الداخل بجيوش آخر ولاة الأندلس، يوسف الفهري، وصديقه زعيم القيسية، ورجل الأندلس القوي، وصاحب السلطة الحقيقية فيها، الصميل بن حاتم، وكان ذلك في 9 من ذي الحجة سنة 138هـ( مايو 756م ). وفي اليوم التالي، وهو صبيحة عيد الأضحى، دارت بين الفريقين رحى معركة كبرى، وتمكن عبد الرحمن الداخل بقيادته الذكية الواعية وباستعمال الدهاء والحيلة، وبما أبداه من روح عالية وثابة من تحقيق نصرٍ حاسم على خصومه. ودخل قرطبة، حيث صلى بالناس صلاة الجمعة، وخطب فيهم معلنا قيام دولته الجديدة، ورفع الراية الخضراء لأول مرة، وقضى على أسطورة الصميل بن حاتم، الذي طبع البلاد على مدى أكثر من عشر سنوات بطابعه المزاجي، وأغرقها في جحيم الاضطرابات.
إحياء الدولة الأموية
واستطاع عبد الرحمن الداخل بمفرده، وبتوفيق من الله له، أن يخلق كل شيء من لا شيء. جاء من المشرق شابا يافعا، وحيدا أعزلا شريدا، طريدا، ومطلوباً للعباسيين للتخلص منه كواحد من الأسرة الأموية، ولم يكن معه جيش ولا مال ولا عصبية، ولم يكن يملك من السلاح سوى الطموح والجرأة والثقة بالله، فنجح بذكائه وشجاعته وحسن سياسته، أن يتسلم زمام الحكم في الأندلس، وأن يقضي على أعدائه، وأن يعيد تكوين الدولة الإسلامية فيها، وأن يجعل منها دولة مستقلة سياسيا عن الخلافة العباسية في المشرق، وأن يصبح بسرعة خارقة الأمير القادر على تحقيق وحدة البلاد الأندلسية وازدهارها، وأن يبعث في أقصى غرب دولة الإسلام ما قضى عليه العباسيون في المشرق من دولة لبني أمية. وهي الدولة العظيمة التي أعطت الأندلس شخصيتها الحضارية الإسلامية المميزة، وبريقها العالمي، في العصور الوسطى
وقد عزَّ على الخليفة أبو جعفر المنصور ، ثاني خلفاء العباسيين، أن يرى عبد الرحمن الداخل، ذلك الشاب الأموي الطريد، الذي أفلت بأعجوبة من سيوفهم، يشيد مجدا جديدا للأمويين، في ظل خلافة العباسيين ودولتهم، فسولت له نفسه إزاحته، وإعادة الأندلس إلى الخلافة، كما كان الحال من قبل، فاتفق في السر مع أمير عربي من الأندلس اسمه العلاء بن مغيث الجذامي، ووعده بإمارة الأندلس، إن هو انتصر على خصمه، وبعث له بلواء الدولة العباسية وبسجل تعيينه على الأندلس، وكانت النتيجة أن عبد الرحمن الداخل، قتل العلاء، أمير العباسيين، وشتت شمل أنصاره، ثم حشى رأسه بالملح والكافور وأرسله إلى المنصور وذلك سنة 147هـ، وكان حينذاك في الحج ، فلما رآه صاح قائلا: " الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرا "
بيد أن ذلك لم يحل دون اعتراف أبي جعفر المنصور، بمواهب الأمير الأموي، وتفوقه، فهو الذي أطلق عليه لقب ( صقر قريش )، وقد فسر ذلك بكونه عبر البحر وقطع القفر ودخل بلدا أعجميا منفردا بنفسه، ومؤيدا بأمره، فمصر الأمصار، ودون الدواوين، وجند الأجناد، وافتتح الثغور، وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين، ونال ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة شكيمته وعزمه. وهكذا صار عبد الرحمن الداخل، يلقب منذ ذلك الوقت بلقب صقر قريش. ومنذ ذلك الوقت أيضا، كف عنه العباسيون، وكف هو عنهم، ولا صحة لما قيل من أن هناك تحالفا قد تم بين هارون الرشيد، وشارلمان ملك النصارى وإمبراطور الغرب، ضد عبد الرحمن الداخل
شخصية الداخل
كان عبد الرحمن الداخل شخصية فذة بنّاءة، يندر أن يجود الزمان بمثلها، وقلما وجد مثيلا لها في التاريخ الإسلامي، وقد اتصف بجميع الصفات التي تؤهله للإمارة والحكم والسلطان، وكان قياديا طموحا من طراز رفيع، تشع من عينيه، فحولة الرجولة، وقوة الإرادة، والعزم والتصميم، وكان سياسيا ذكيا، مهوب الجانب، واسع العلم والثقافة، وعلى درجة عالية من الوعي والحصافة والخبرة، وقد جسد ذلك بقدرته على تحويل الفكرة إلى عمل، وبقدرته على استصفاء العناصر المخلصة، واستبعاد الانتهازيين المشكوك بولائهم، وكذا بقدرته على اختطاف كل الفرص التي تساعده على تحقيق النصر، وعلى العمل والبناء والوحدة، وبخروجه سالما وظافرا من جميع المؤامرات التي استمرت تلاحقه أكثر من ثلاثين عاما، من غير أن تنال من إرادته الفولاذية شيئا. ولقد وصفه المؤرخون فقالوا: أنه أصهب خفيف العارضين، صبوح الوجه، طويل القامة، نحيف الجسم... أشقر الشعر، له ضفيرتان، ولا يعيبه سوى فقدان إحدى عينيه. وكان فصيحا لسينا شاعرا عالما حليما حازما، سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعةٍ، ولا يكل الأمور لغيره، شجاعا، مقداما بعيد الغور ، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، سخيا جوادا، وعلى سيرة جميلة من العدل في قضائه، وكان يحب البياض ويؤثره على غيره من الألوان في أعلامه وملابسه وقصوره
ولعل من أبرز الصفات التي اتصف بها عبد الرحمن الداخل، في رأيي، إضافة إلى كل ذلك، هي صفتي التسامي عن الحقد والضغينة والثأر، والقدرة على تجاوز أحداث الماضي بكل بشاعتها، فإنه وعلى الرغم من عظم النكبة التي حصلت لأسرته، وتقويض خلافة ومجد آبائه، ومقتل جل أهله وعشيرته، وبعضهم ذبح أمام عينيه، وعلى الرغم مما قاساه من أهوال وآلام ومتاعب، وحياة تشرد، إلا أنه لم يظل أسيرا لتلك الصفحة الدموية المؤلمة، ولم يشغل نفسه بها، ولم يكن التباكي ديدنه، ولم يقعد يندب حظه، ويقيم المآتم ومواكب العزاء على القتلى من أهله وقومه، ولم يشغله هاجس الثاُر والانتقام من العباسيين، ويقعد به عن مسئوليات الحاضر والمستقبل، ولم تستطع التجربة المرة التي مر بها، أن تطبعه بطابعها الأسود الكئيب، أو تؤثر على نفسيته، أو تنعكس على طريقة تعامله مع الأعداء والخصوم، فظل العفو والترفع عن الدنايا، والكف عن الدماء، والتحرر من عقدة التعصب والحقد والانتقام، من شيمه وسجاياه، وظل الوفاء للإسلام، والإخلاص له، والرغبة الصادقة في خدمته وإعلاء شأنه، من أهم أولوياته. وهذا رغم وفائه لأهله، ورغم أن الشام وطبيعتها وأشجارها، والمرابع الذي قضى فيها صباه، ظلت تعيش في قلبه ووجدانه، ولم ينساها طوال حياته، وقد خلدها بشعر رائع بديع، ينم عن عاطفة صادقة جياشة
أهم أعماله وانجازاته
ما أن استقر عبد الرحمن الداخل أميرا في قرطبة حتى انصرف أولا إلى توحيد البلاد، فبادر بإخماد الفتن والقضاء على عوامل التعصب البغضاء، التي كانت تقض مضاجع المجتمع، واستطاع إقامة وحدة سياسية قوية في الأندلس، وأقام للملك أبهةً وشعارا. وقد كان دخوله إلى قرطبة، بمثابة فتح آخر للأندلس، وانتصار جديد للإسلام، فأعاد إليه اعتباره، وعصم الله به شمل الأمة المحمدية في الأندلس، وحفظ به تضحيات رواد الفتح السابقين، وولدت الأندلس على يديه من جديد. كما بادر عبد الرحمن، بإصلاح الإدارة، وتخفيف الخراج على الفلاحين، وقام بتشكيل جيش جديد، بلغ عدده زهاء أربعين ألف مقاتل، وكان حسن التنظيم والتجهيز، ومتحرر من العقد العصبية ومن الولاءات القبلية الضيقة، التي كانت أساس مصاعب البلاد، ومنها كانت شرور الحرب الأهلية، واستطاع عبد الرحمن بواسطة ذلك الجيش أن يحمي الأمة الأندلسية المسلمة من طمع الطامعين، وأن يصد به عنها غزو الفرنج المعتدين. ولعل أروع انتصار حققه عبد الرحمن الداخل، ضد عدوان خارجي، كان عام 162هـ/ 777م، إذ قام شارلمان النصراني إمبراطور الغرب، والمعروف بشدة ولائه للكنيسة، وبرغبته الجامحة في تقويض وجود دولة الإسلام في الأندلس، قام بحملة صليبية ضخمة، على الأندلس، بالتنسيق مع الخصوم الداخليين المناوئين لحكم عبد الرحمن الداخل، ثم تجهز له عبد الرحمن في العام التالي فرده على عقبه. ولحقت بجيش شارلمان نكبة رهيبة لم ينكب مثلها في حياته قط، جعلته ينزع من خياله مجرد التفكير في غزو الأندلس مرة أخرى، فقد أفنت مؤخرة هذا الجيش، وقُتُل فيها عددا من قواده من أشهرهم ( رولان ) المقرب من شارلمان، والذي خلده الفرنسيون في ملحمة شعرية معروفة باسمه، غلب عليها الطابع الأسطوري. ورد الله كيد الخارجين إلى نحورهم، ولم ينالوا خيرا بل باءوا بكبائر الآثام
وما أن وطد عبد الرحمن الداخل حكمه حتى قام بأعمال عمرانية هامة، فأنشأ قنوات الري، وأعاد بناء وترميم سور قرطبة القديم الذي أتت عليه الحروب وعاديات الزمن، وشيد على سفح جبل قرطبة، منية الرصافة، وهي قصر يشبه قصر جده هشام بن عبد الملك، في بادية الشام، وجعل لهذا القصر، بستانا زرع فيها ضروبا من الأغراس وأشجار الفاكهة الشامية، والتي لم تكن قبل ذلك معروفة في شبه الجزيرة الأيبيرية، كالدراق، والرمان، والتين، والنخيل، وتولدت من هذه الأشجار، كل الأشجار المماثلة لها في الأندلس
ومن أهم الأوابد التي أسسها عبد الرحمن الداخل، جامع قرطبة، الذي انعكست فيه المؤثرات الشامية المقتبسة عن الجامع الأموي بدمشق، وقد استمر خلفاؤه بتوسيعه خاصة في عهد عبد الرحمن الثاني والحكم الثاني. ويبدو هذا المسجد بعد اكتمال عمارته من أروع المنشآت الإسلامية، يتجلى ذلك في أقواسه وأعمدته وفي محرابه وقبته الفخمة، وفي خزفه وفسيفسائه وكتاباته الرائعة. ولقد أنشا عبد الرحمن أيضا المدارس والمكتبات التي أغناها بالمخطوطات الهامة
قرطبة جوهرة الإسلام
يعتبر عهد عبد الرحمن الداخل قمة في الازدهار، وقد قام حكمه على مبادىء ثلاثة: التسامح مع أهل الذمة، وتوحيد البلاد، وبناء الدولة المتقدمة. وقد حرص عبد الرحمن الداخل أن يجعل من قرطبة، صورة من دمشق، في شوارعها وحدائقها وفي منازلها البيضاء ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورود ونافورات المياه
وكان مذهب الإمام الأوزاعي الشامي، هو المذهب السائد في عهده، وهو المرجع المعتمد في أمور القضاء والتشريع، قبل أن يحل محله بعد ذلك مذهب الإمام مالك بن أنس
وقد مات هذا الحاكم الأموي الشجاع والعظيم، في قرطبة سنة 172هـ ( 788م )، عن تسعة وخمسين عاما، وحكم الأندلس مدة اثنتين وثلاثين سنة، قضاها في جهادٍ مستمر في الداخل والخارج، من أجل ترسيخ دعائم دولة الإسلام في الأندلس
واستمر خلفاؤه الذين توالوا على الحكم من بعده ما يقرب من الثلاثة قرون، وفي عهدهم زادت دولة الإسلام في الأندلس إزدهارا على ازدهارها، وبلغت أوج مجدها وعزها، وظلت مرهوبة الجانب، مركزية السلطة، يسودها الأمن والاستقرار، وتفيض أرضها بالخير: فالحقول خضراء زاهية، وأنظمة الري دقيقة ومحكمة، والأقوات موفورة بأرخص الأسعار، ويتحرك الناس في صحة بادية وملابس نظيفة، وانكمش الفقر أو تلاشى، لاسيما في عصر الخلافة الأموية، بين عامي 316 و400 هجرية، والذي وصلت فيه الأندلس إلى مستوى من الرخاء لم تشهده من قبل في العصور السابقة. وأصبحت قرطبة ( جوهرة الإسلام )، ورمزا لوجهه الحضاري المشرق، وضرب بها المثل فى العلم والرفاهية والرقي، وبلغت شهرتها الخافقين، وأمتازت قرطبة بأناقة بيوتها المريحة، وبحماماتها الكثيرة النظيفة، وكان فيها مائة وثلاثة عشرة دارا ، وواحد وعشرون ربضا وسبعون خزانة كتب، وحوانيت شتى تباع بها الكتب، ومساجد وقصور وحمامات، وكانت شوارعها على مسافة أميال مضاءة بالمصابيح، وأرضها معبدة بالبلاط الحجري والآجري. حدث كل ذلك حين كانت عواصم أوروبا بجوارها، لا تزال غارقة في الجهل والظلام الدامس. وقد استمر حكم الأمويين للأندلس حتى عام 1030م.]
بقلم: أحمد الظرافي
لقد صار الكثيرون، ونتيجة لحملة التشويه التي تستهدف بني أمية، والمستمرة منذ حوالي أربعة عشرة قرنا، لا ينظرون إليهم، إلا من ناحية كونهم اغتصبوا الخلافة، وحولوها إلى ملكٍ وراثي عضوض، إلى جانب تحميلهم أوزار تداعيات الفتنة التي حدثت في صدر الإسلام - تلك الفتنة التي ما زال أصحاب العاهات المزمنة يعيشون متقوقعين حولها، وأسرى لذكرياتها الأليمة، حتى اليوم- متغافلين – عن عمد أو غير عمد – عن الدور البارز الذي لعبه خلفاء بني أمية في نشر الإسلام في الشرق والغرب، وعن الأعمال العظيمة التي قاموا بها، خدمةً لهذه الأمة
وإن النظرة المنصفة، المتجردة عن الهوى والحقد والتعصب، لتحمل صاحبها على الإعجاب أيما أعجاب، بحكام بني أمية، بشكلٍ عام، بل ورفعهم إلى مصاف القادة العظماء في التاريخ الإسلامي. وأنا لا أعفيهم من جرائمهم، ولا أزكيهم، وإنما أحسبهم، والله حسيبهم. وهاهنا واحدٌ من فحولهم، إنه الأمير الأموي، العبقري، الفذ، أحد العظماء في تاريخ الإسلام والعالم، عبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة الإسلام العظيمة في الأندلس، والذي عُرف في التاريخ، بصفته عبد الرحمن الداخل، أو بلقبه الفريد صقر قريش
فمن هو عبد الرحمن الداخل؟ وما الدور الذي لعبه في تاريخ الإسلام؟
نشأة عبد الرحمن الداخل
اسمه بالكامل: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولد في الشام، في إحدى قرى قنسرين عام 113هـ/ 731م، ونشأ في الرصاصة أو في دمشق نشأة أمير ، في بيت الخلافة، وتعلم الفروسية، وقرض الشعر، منذ نعومة أظفاره
وقد عُني بتربيته – في بداية الأمر- والده الأمير معاوية، ولكنه توفي، وهو لا زال طفلا صغيرا، فكفله جده الخليفة هشام بن عبد الملك، وضمه هو وإخوته إلى كنفه، وعوضه عن عطف الأب، وأهتم بتربيته أحسن اهتمام، وكان يتعهده ويؤثره بالصلة والرعاية على أترابه من الإخوة وأبناء العمومة، لما كان يتوسمه فيه من مخايل النجابة والنبوغ والتميز
وكانت أمه "راح" تنسب إلى قبيلة نفزاوة البربرية المغربية، وقد فقدها صغيرا ، وكانت شقيقته أم الأصبع تحنو عليه، وتحاول بدورها تعويضه عن بعض ما أفتقده من حنان الأم، وشبّ عبد الرحمن في الرصافة، في كنف جده الخليفة هشام بن عبد الملك، وظل في الشام حتى عهد الخليفة مروان بن محمد، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أخنى الدهر على الأمويين، فقام العباسيون بثورتهم ضدهم عام132هـ- 750م، فنكبوهم شر نكبة، وقوضوا دولتهم، وأقاموا لهم المذابح المرعبة، التي كان آخرها المذبحة الشهيرة قرب الرملة، عندما غدروا بمن تبقى منهم أحياءً فقتلوهم شر قتلة، بعد أن كانوا قد أعطوهم الأمان، وكان عددهم نيفا وسبعين رجلا من وجوه بني أمية، ولم ينجو من أفراد البيت الأموي، سوى أعداد قليلةٍ جدا، هي التي حالفها الحظ. وقد عاش عبد الرحمن بن معاوية، هذه النكبة بكل بشاعتها ومرارتها وأحزانها وآلامها، وكان واحدا ممن نجو بأعجوبة من مذابح سيوف العباسيين، وما كان سينجو ، لولا أن العناية الآلهية كانت تدخره لأمرٍ عظيم، وأيضا لولا ألمعيته، ولولا طريقته الفذة في الهرب، التي اعتمدت على الذكاء والفطنة والدهاء وروح المغامرة أيضا. وتعتبر قصة نجاته وانتقاله متخفيا إلى المغرب، ثم إلى الأندلس، ولمدة خمس سنوات، من أروع القصص المثيرة في التاريخ. وكان حينذاك، لا يزال شابا يافعا في العشرين من عمره.
رحلته المثيرة إلى المغرب
مضى عبد الرحمن، إلى المغرب متخفيا، يعبر البرابري والقفار، والمهامه والوديان، هاربا من سطوة ومذابح أصحاب الأعلام السوداء، الذين لم يكتفوا بالقضاء على الخلافة الأموية، وإنما أرادوا ، وهم في عنفوان ثورتهم، استئصال شأفة بني أمية عن بكرة أبيهم، كبارهم وصغارهم، حتى لا تقوم لهم قائمة أبد الدهر. وأخذ عبد الرحمن يتنقل متخفيا، من بلدٍ إلى بلد، فمن دمشق إلى فلسطين، ومنها إلى مصر، ثم سار إلى برقةٍ، وبقي فيها متواريا عن الانظار لفترة من الزمن، فقد كانت العيون تتربص به أينما سار، وحيثما وجد، ثم انتقل من برقة إلى القيروان عاصمة ولاية أفريقية
وبينما كان في أفريقيا علم به عاملها، فجدّ في طلبه، فمضى إلى أخواله، أهل أمه من قبيلة نفزاوة البربرية في أحواز طنجة، في المغرب الأقصى، واختفى في مضاربهم عن أعين العباسيين وحلفائهم. وقد قام أخواله بكل حب وتقدير، بتوفير الملاذ الآمن له أولا، ثم بعد ذلك لم يبخلوا عن مؤازرته بما أوتوا من قـوة ومن رباط الخيل، كي يحقق حلمه بإقامة دولة بني أمية مرة أخرى، رغم ما لحق بهم من مظالم على أيدي عمّال الخلفاء من آبائه، من أمثال عبيد الله بن الحبحاب وغيره
وفي غضون ذلك كان مولاه الدمشقي المخلص بدر قد وصل إليه، بنفقة وجواهر كان قد طلبها من أخته (أم الأصبع)، وكانت أنظار عبد الرحمن، تتطلع نحو العدوة الأندلسية، حيث كانت وحدة أهلها قد تمزقت، وآلت أحوالهم فيها إلى قلق واضطراب ومنازعات، فالحروب، لأسباب قبلية أو عنصرية، أو لمصالح مكاسب دنيوية مادية، كانت مشتعلة على أشدها فيما بينهم، وتخضب أرضها بالدماء، سواء بين القبائل العربية: القيسية واليمنية، أو بينها وبين القبائل البربرية، مما كان ينذر بإمكانية زوال دولة الإسلام فيها، لو دامت الحال كذلك مزيدا من الوقت، وكان من العسير جدا الاتفاق على زعيم واحد يلتئم حوله الجميع، لعدم استيفاء أي من الفرقاء المتنازعين لشروط الزعامة
وقد بدأ عبد الرحمن بن معاوية، مغامرته بأن أرسل مولاه بدر إلى أهل الأندلس يدعوهم إلى نفسه، وليمهد له الطريق، واعتمد في ذلك على موالي بني أمية الذين كانوا موجودين في الأندلس، في ذلك الوقت، فبذلوا الهمّة في الترويج للأمير الأموي الطريد، فرحب بالفكرة كثير من زعماء القبائل اليمنية والبربرية، وقليل من زعماء القبائل القيسية
الداخل في الأندلس
وكان الغيارى على وجود الإسلام في شبه جزيرة إيبيريا، قد ورأوا فيه قارب النجاة الذي يمكن أن يخلص الأندلس من أزمتها القبلية المزمنة، ومن الوضع اليائس الذي بات أهلها يتخبطون فيه، فأرسلوا إليه مركبا ووفدا من كبرائهم، فأبلغوه طاعتهم له، واصطحبوه إلى الأندلس.
وهكذا عبر عبد الرحمن الداخل المضيق، واستطاع بعد جهدٍ شاقٍ، من السفر والمغامرة ومواجهة الأخطار والتحديات، على مدى خمس سنوات، أن يصل إلى الأندلس، وكان أول مكان وطئت فيه أقدامه في الأندلس هو المنكِّب، - بتشديد الكاف - وهي مدينة ساحلية على الشاطئ الشرقي، يطلق عليه اليوم اسم المونييكر، لا تبعد كثيرا عن غرناطة، فالمسافة بينهما 85 كيلومتر فقط. وكان ذلك في ربيع الثاني سنة 138هـ- 755م
ثم مضى ذلك المغامر الجسور، إلى منطقة ألبيرة وأقام معسكره في طرش، وهناك توافد الأنصار لمبايعته، مأخوذين بشخصيته القوية وجرأته النادرة، ثم مضى إلى رية فأرشذونة ثم أشبيلية، فبايعه أهلها فورا، ثم تقدم بعد ذلك إلى العاصمة قرطبة بما تجمع لديه من جنود من اليمنية والبربر والموالي. وعند بلدة المصارة، في جنوب غرب قرطبة، على الضفة اليمنى من نهر الوادي الكبير، التقى عبد الرحمن الداخل بجيوش آخر ولاة الأندلس، يوسف الفهري، وصديقه زعيم القيسية، ورجل الأندلس القوي، وصاحب السلطة الحقيقية فيها، الصميل بن حاتم، وكان ذلك في 9 من ذي الحجة سنة 138هـ( مايو 756م ). وفي اليوم التالي، وهو صبيحة عيد الأضحى، دارت بين الفريقين رحى معركة كبرى، وتمكن عبد الرحمن الداخل بقيادته الذكية الواعية وباستعمال الدهاء والحيلة، وبما أبداه من روح عالية وثابة من تحقيق نصرٍ حاسم على خصومه. ودخل قرطبة، حيث صلى بالناس صلاة الجمعة، وخطب فيهم معلنا قيام دولته الجديدة، ورفع الراية الخضراء لأول مرة، وقضى على أسطورة الصميل بن حاتم، الذي طبع البلاد على مدى أكثر من عشر سنوات بطابعه المزاجي، وأغرقها في جحيم الاضطرابات.
إحياء الدولة الأموية
واستطاع عبد الرحمن الداخل بمفرده، وبتوفيق من الله له، أن يخلق كل شيء من لا شيء. جاء من المشرق شابا يافعا، وحيدا أعزلا شريدا، طريدا، ومطلوباً للعباسيين للتخلص منه كواحد من الأسرة الأموية، ولم يكن معه جيش ولا مال ولا عصبية، ولم يكن يملك من السلاح سوى الطموح والجرأة والثقة بالله، فنجح بذكائه وشجاعته وحسن سياسته، أن يتسلم زمام الحكم في الأندلس، وأن يقضي على أعدائه، وأن يعيد تكوين الدولة الإسلامية فيها، وأن يجعل منها دولة مستقلة سياسيا عن الخلافة العباسية في المشرق، وأن يصبح بسرعة خارقة الأمير القادر على تحقيق وحدة البلاد الأندلسية وازدهارها، وأن يبعث في أقصى غرب دولة الإسلام ما قضى عليه العباسيون في المشرق من دولة لبني أمية. وهي الدولة العظيمة التي أعطت الأندلس شخصيتها الحضارية الإسلامية المميزة، وبريقها العالمي، في العصور الوسطى
وقد عزَّ على الخليفة أبو جعفر المنصور ، ثاني خلفاء العباسيين، أن يرى عبد الرحمن الداخل، ذلك الشاب الأموي الطريد، الذي أفلت بأعجوبة من سيوفهم، يشيد مجدا جديدا للأمويين، في ظل خلافة العباسيين ودولتهم، فسولت له نفسه إزاحته، وإعادة الأندلس إلى الخلافة، كما كان الحال من قبل، فاتفق في السر مع أمير عربي من الأندلس اسمه العلاء بن مغيث الجذامي، ووعده بإمارة الأندلس، إن هو انتصر على خصمه، وبعث له بلواء الدولة العباسية وبسجل تعيينه على الأندلس، وكانت النتيجة أن عبد الرحمن الداخل، قتل العلاء، أمير العباسيين، وشتت شمل أنصاره، ثم حشى رأسه بالملح والكافور وأرسله إلى المنصور وذلك سنة 147هـ، وكان حينذاك في الحج ، فلما رآه صاح قائلا: " الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرا "
بيد أن ذلك لم يحل دون اعتراف أبي جعفر المنصور، بمواهب الأمير الأموي، وتفوقه، فهو الذي أطلق عليه لقب ( صقر قريش )، وقد فسر ذلك بكونه عبر البحر وقطع القفر ودخل بلدا أعجميا منفردا بنفسه، ومؤيدا بأمره، فمصر الأمصار، ودون الدواوين، وجند الأجناد، وافتتح الثغور، وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين، ونال ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة شكيمته وعزمه. وهكذا صار عبد الرحمن الداخل، يلقب منذ ذلك الوقت بلقب صقر قريش. ومنذ ذلك الوقت أيضا، كف عنه العباسيون، وكف هو عنهم، ولا صحة لما قيل من أن هناك تحالفا قد تم بين هارون الرشيد، وشارلمان ملك النصارى وإمبراطور الغرب، ضد عبد الرحمن الداخل
شخصية الداخل
كان عبد الرحمن الداخل شخصية فذة بنّاءة، يندر أن يجود الزمان بمثلها، وقلما وجد مثيلا لها في التاريخ الإسلامي، وقد اتصف بجميع الصفات التي تؤهله للإمارة والحكم والسلطان، وكان قياديا طموحا من طراز رفيع، تشع من عينيه، فحولة الرجولة، وقوة الإرادة، والعزم والتصميم، وكان سياسيا ذكيا، مهوب الجانب، واسع العلم والثقافة، وعلى درجة عالية من الوعي والحصافة والخبرة، وقد جسد ذلك بقدرته على تحويل الفكرة إلى عمل، وبقدرته على استصفاء العناصر المخلصة، واستبعاد الانتهازيين المشكوك بولائهم، وكذا بقدرته على اختطاف كل الفرص التي تساعده على تحقيق النصر، وعلى العمل والبناء والوحدة، وبخروجه سالما وظافرا من جميع المؤامرات التي استمرت تلاحقه أكثر من ثلاثين عاما، من غير أن تنال من إرادته الفولاذية شيئا. ولقد وصفه المؤرخون فقالوا: أنه أصهب خفيف العارضين، صبوح الوجه، طويل القامة، نحيف الجسم... أشقر الشعر، له ضفيرتان، ولا يعيبه سوى فقدان إحدى عينيه. وكان فصيحا لسينا شاعرا عالما حليما حازما، سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعةٍ، ولا يكل الأمور لغيره، شجاعا، مقداما بعيد الغور ، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، سخيا جوادا، وعلى سيرة جميلة من العدل في قضائه، وكان يحب البياض ويؤثره على غيره من الألوان في أعلامه وملابسه وقصوره
ولعل من أبرز الصفات التي اتصف بها عبد الرحمن الداخل، في رأيي، إضافة إلى كل ذلك، هي صفتي التسامي عن الحقد والضغينة والثأر، والقدرة على تجاوز أحداث الماضي بكل بشاعتها، فإنه وعلى الرغم من عظم النكبة التي حصلت لأسرته، وتقويض خلافة ومجد آبائه، ومقتل جل أهله وعشيرته، وبعضهم ذبح أمام عينيه، وعلى الرغم مما قاساه من أهوال وآلام ومتاعب، وحياة تشرد، إلا أنه لم يظل أسيرا لتلك الصفحة الدموية المؤلمة، ولم يشغل نفسه بها، ولم يكن التباكي ديدنه، ولم يقعد يندب حظه، ويقيم المآتم ومواكب العزاء على القتلى من أهله وقومه، ولم يشغله هاجس الثاُر والانتقام من العباسيين، ويقعد به عن مسئوليات الحاضر والمستقبل، ولم تستطع التجربة المرة التي مر بها، أن تطبعه بطابعها الأسود الكئيب، أو تؤثر على نفسيته، أو تنعكس على طريقة تعامله مع الأعداء والخصوم، فظل العفو والترفع عن الدنايا، والكف عن الدماء، والتحرر من عقدة التعصب والحقد والانتقام، من شيمه وسجاياه، وظل الوفاء للإسلام، والإخلاص له، والرغبة الصادقة في خدمته وإعلاء شأنه، من أهم أولوياته. وهذا رغم وفائه لأهله، ورغم أن الشام وطبيعتها وأشجارها، والمرابع الذي قضى فيها صباه، ظلت تعيش في قلبه ووجدانه، ولم ينساها طوال حياته، وقد خلدها بشعر رائع بديع، ينم عن عاطفة صادقة جياشة
أهم أعماله وانجازاته
ما أن استقر عبد الرحمن الداخل أميرا في قرطبة حتى انصرف أولا إلى توحيد البلاد، فبادر بإخماد الفتن والقضاء على عوامل التعصب البغضاء، التي كانت تقض مضاجع المجتمع، واستطاع إقامة وحدة سياسية قوية في الأندلس، وأقام للملك أبهةً وشعارا. وقد كان دخوله إلى قرطبة، بمثابة فتح آخر للأندلس، وانتصار جديد للإسلام، فأعاد إليه اعتباره، وعصم الله به شمل الأمة المحمدية في الأندلس، وحفظ به تضحيات رواد الفتح السابقين، وولدت الأندلس على يديه من جديد. كما بادر عبد الرحمن، بإصلاح الإدارة، وتخفيف الخراج على الفلاحين، وقام بتشكيل جيش جديد، بلغ عدده زهاء أربعين ألف مقاتل، وكان حسن التنظيم والتجهيز، ومتحرر من العقد العصبية ومن الولاءات القبلية الضيقة، التي كانت أساس مصاعب البلاد، ومنها كانت شرور الحرب الأهلية، واستطاع عبد الرحمن بواسطة ذلك الجيش أن يحمي الأمة الأندلسية المسلمة من طمع الطامعين، وأن يصد به عنها غزو الفرنج المعتدين. ولعل أروع انتصار حققه عبد الرحمن الداخل، ضد عدوان خارجي، كان عام 162هـ/ 777م، إذ قام شارلمان النصراني إمبراطور الغرب، والمعروف بشدة ولائه للكنيسة، وبرغبته الجامحة في تقويض وجود دولة الإسلام في الأندلس، قام بحملة صليبية ضخمة، على الأندلس، بالتنسيق مع الخصوم الداخليين المناوئين لحكم عبد الرحمن الداخل، ثم تجهز له عبد الرحمن في العام التالي فرده على عقبه. ولحقت بجيش شارلمان نكبة رهيبة لم ينكب مثلها في حياته قط، جعلته ينزع من خياله مجرد التفكير في غزو الأندلس مرة أخرى، فقد أفنت مؤخرة هذا الجيش، وقُتُل فيها عددا من قواده من أشهرهم ( رولان ) المقرب من شارلمان، والذي خلده الفرنسيون في ملحمة شعرية معروفة باسمه، غلب عليها الطابع الأسطوري. ورد الله كيد الخارجين إلى نحورهم، ولم ينالوا خيرا بل باءوا بكبائر الآثام
وما أن وطد عبد الرحمن الداخل حكمه حتى قام بأعمال عمرانية هامة، فأنشأ قنوات الري، وأعاد بناء وترميم سور قرطبة القديم الذي أتت عليه الحروب وعاديات الزمن، وشيد على سفح جبل قرطبة، منية الرصافة، وهي قصر يشبه قصر جده هشام بن عبد الملك، في بادية الشام، وجعل لهذا القصر، بستانا زرع فيها ضروبا من الأغراس وأشجار الفاكهة الشامية، والتي لم تكن قبل ذلك معروفة في شبه الجزيرة الأيبيرية، كالدراق، والرمان، والتين، والنخيل، وتولدت من هذه الأشجار، كل الأشجار المماثلة لها في الأندلس
ومن أهم الأوابد التي أسسها عبد الرحمن الداخل، جامع قرطبة، الذي انعكست فيه المؤثرات الشامية المقتبسة عن الجامع الأموي بدمشق، وقد استمر خلفاؤه بتوسيعه خاصة في عهد عبد الرحمن الثاني والحكم الثاني. ويبدو هذا المسجد بعد اكتمال عمارته من أروع المنشآت الإسلامية، يتجلى ذلك في أقواسه وأعمدته وفي محرابه وقبته الفخمة، وفي خزفه وفسيفسائه وكتاباته الرائعة. ولقد أنشا عبد الرحمن أيضا المدارس والمكتبات التي أغناها بالمخطوطات الهامة
قرطبة جوهرة الإسلام
يعتبر عهد عبد الرحمن الداخل قمة في الازدهار، وقد قام حكمه على مبادىء ثلاثة: التسامح مع أهل الذمة، وتوحيد البلاد، وبناء الدولة المتقدمة. وقد حرص عبد الرحمن الداخل أن يجعل من قرطبة، صورة من دمشق، في شوارعها وحدائقها وفي منازلها البيضاء ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورود ونافورات المياه
وكان مذهب الإمام الأوزاعي الشامي، هو المذهب السائد في عهده، وهو المرجع المعتمد في أمور القضاء والتشريع، قبل أن يحل محله بعد ذلك مذهب الإمام مالك بن أنس
وقد مات هذا الحاكم الأموي الشجاع والعظيم، في قرطبة سنة 172هـ ( 788م )، عن تسعة وخمسين عاما، وحكم الأندلس مدة اثنتين وثلاثين سنة، قضاها في جهادٍ مستمر في الداخل والخارج، من أجل ترسيخ دعائم دولة الإسلام في الأندلس
واستمر خلفاؤه الذين توالوا على الحكم من بعده ما يقرب من الثلاثة قرون، وفي عهدهم زادت دولة الإسلام في الأندلس إزدهارا على ازدهارها، وبلغت أوج مجدها وعزها، وظلت مرهوبة الجانب، مركزية السلطة، يسودها الأمن والاستقرار، وتفيض أرضها بالخير: فالحقول خضراء زاهية، وأنظمة الري دقيقة ومحكمة، والأقوات موفورة بأرخص الأسعار، ويتحرك الناس في صحة بادية وملابس نظيفة، وانكمش الفقر أو تلاشى، لاسيما في عصر الخلافة الأموية، بين عامي 316 و400 هجرية، والذي وصلت فيه الأندلس إلى مستوى من الرخاء لم تشهده من قبل في العصور السابقة. وأصبحت قرطبة ( جوهرة الإسلام )، ورمزا لوجهه الحضاري المشرق، وضرب بها المثل فى العلم والرفاهية والرقي، وبلغت شهرتها الخافقين، وأمتازت قرطبة بأناقة بيوتها المريحة، وبحماماتها الكثيرة النظيفة، وكان فيها مائة وثلاثة عشرة دارا ، وواحد وعشرون ربضا وسبعون خزانة كتب، وحوانيت شتى تباع بها الكتب، ومساجد وقصور وحمامات، وكانت شوارعها على مسافة أميال مضاءة بالمصابيح، وأرضها معبدة بالبلاط الحجري والآجري. حدث كل ذلك حين كانت عواصم أوروبا بجوارها، لا تزال غارقة في الجهل والظلام الدامس. وقد استمر حكم الأمويين للأندلس حتى عام 1030م.]