طرابلسي
10-17-2008, 08:11 PM
درس في الوطنية
أ.د. ناصر العمر
كثر الكلام في السنوات القليلة الماضية عن الوطنية وانقسم الناس حولها؛ فمنهم من يرى التمسك بها والدعوة إليها نوعاً من أنواع الفسق أو الكفر، فيحذر منها ويحاربها، ومنهم من يمجدها ويرفع من شأنها ويجعلها معقد الولاء والبراء حتى تصل به الحال إلى عدها نوعاً من أنواع العبادة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فهذا إفراط وذاك تفريط، والحق وسط بينهما.
إن كثيراً مما يقال اليوم وينشر في وسائل الإعلام من التمييز والتفرقة بين المسلمين على أساس الوطن والانتماء إليه، هو من دعاوى الجاهلية التي وضعها الإسلام وقضى عليها، فالعبرة في شرع الله ليست بالجنسية أو الوطن إنما هي بالإيمان، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات/10]، والتمييز بين الناس إنما هو بالتقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"(1).
لكن العلمانيين ومن لف لفهم لا يرضون بذلك، فالأخوة عندهم أخوة الوطن، وابن بلدهم -وإن كان فاسقاً- أفضل من الأجنبي وإن كان تقياً، حتى وصلت بهم الحال في بعض بلاد الله إلى عد اليهودي والنصراني من أهل وطنهم أقرب وأحب إليهم من المسلم غير المواطن، وما هذا إلا تمييع لمبدأ الولاء والبراء الذي هو من أوثق عرى الإيمان!
لقد جُبِل الإنسان على حب المكان الذي نشأ وترعرع فيه، وجبل كذلك على التعاون مع أترابه في الذود عن حياضه ودفع كل ما قد يمسه من مكروه، فإذا كان هذا الحب والتعاون تابعاً لما يحبه الله ويرضاه، وإذا كانت الوطنية تعبيراً عن هذا الحب بأداء كل ما من شأنه رفعة هذا الوطن بما يوافق شرع الله عز وجل و لا يترتب عليه تعد على أي حد من حدوده أو حكم من أحكامه، فهي مشروعة محمودة.
فالصورة الأولى التي يروج لها العلمانيون مرفوضة محرمة، والصورة الثانية مقبولة محترمة؛ وتبقى الصورة الثالثة وهي التي تجعل الوطنية شعارات ومظاهر جوفاء وأناشيد وعرضات، فهذه تجني على الوطنية وتزري بها وتجعلها دعوى فارغة، وهذا رأس مال البطالين.
إن هجرة المسلمين إلى الحبشة ثم هجرتهم إلى المدينة المنورة تعطينا درساً عظيماً في الوطنية كما ينبغي أن تكون؛ لقد كان المهاجرون رضي الله عنهم يحبون وطنهم مكة المكرمة، ولولا أذى أهلها لهم ومنعهم إياهم من إقامة شعائر دينهم فيها ما تركوها ولا هاجروا منها، لا أدل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلقي النظرة الأخيرة على مكة يوم هجرته المباركة: "و الله! إني لأعلم أنك خير أرض الله، و أحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجتُ"(2).
فها هو خير المهاجرين من الأولين والآخرين يصرح بحبه لوطنه، ويبين مكانته عند الله مما لا يمكن أن يدانيه فيها غيره، ومع ذلك فإنه يترك هذا الوطن ويخرج منه ويأمر أصحابه بتركه والخروج منه، بل ويرجع بعد سنوات ليفتح هذا الوطن بجيش جُلُّ أفراده ليسوا من أبنائه، وينتصر بهم على أهل وطنه مما هو في ميزان أهل الباطل خيانة للوطنية. وفي المقابل، نجد الأنصار رضي الله عنهم يحبون المهاجرين ويفضلونهم على مواطني مدينتهم من غير المسلمين وينصرونهم عليهم، وفي هذا خيانة للوطنية عند أهل الباطل كذلك.
إن الإنسان لا يمكن أن يحكم على الأمور حكماً صائباً إلا إذا علم الغاية التي خلق من أجلها -وهي عبادة الله جل وعلا- وأقر بها وعمل بمقتضاها، فلما كان البقاء في مكة يحقق العبودية لله سبحانه وتعالى بقي عليه السلام فيها، ولما تعذر ذلك وصارت عبوديته لربه تبارك وتعالى تتحقق بالهجرة منها هاجر وتركها، ولما صارت هذه العبودية تتحقق بمقاتلة أهلها ثم بفتحها قاتلهم ثم فتحها.
فتحقيق العبودية لله جل وعلا هو الأصل، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى عاقبة من تمسكوا بالأرض والوطن ولم يهاجروا رغم عدم تمكنهم من إقامة دينهم فقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء/97].
إن الهجرة درس عظيم في الوطنية قد لا يفقهه دعاة الوطنية الجاهلية لأنهم جعلوا ولاءهم وانتماءهم للحجارة والطين!
ولو أنهم عقلوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سمع أنصارياً يقول يا للأنصار ومهاجرياً يقول يا للمهاجرين -لإشكال حصل بينهما- فقال: "ما بال دعوى جاهلية ... دعوها فإنها منتنة"(3) لعلموا أي جرم يجنونه على أنفسهم وعلى وطنهم الذي يريدون العودة به إلى الجاهلية العمياء.
وأخيراً فإن عقيدة الولاء والبراء تقضي بأن يقرب المسلم البر التقي أياً كان وطنه، ويقدم على من دونه ولو كان حسيباً نسيباً، وفي المقابل يجب على هذا الغريب أن يحفظ الولاء لدولة الإسلام التي هاجر إليها، وأن يعلم أن عليه من الحقوق مثل ما له من الواجبات، على حد ما جاء في حديث بريدة عند مسلم في أعراب المسلمين وفيه: ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين... الحديث(4)، والله المستعان.
أ.د. ناصر العمر
كثر الكلام في السنوات القليلة الماضية عن الوطنية وانقسم الناس حولها؛ فمنهم من يرى التمسك بها والدعوة إليها نوعاً من أنواع الفسق أو الكفر، فيحذر منها ويحاربها، ومنهم من يمجدها ويرفع من شأنها ويجعلها معقد الولاء والبراء حتى تصل به الحال إلى عدها نوعاً من أنواع العبادة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فهذا إفراط وذاك تفريط، والحق وسط بينهما.
إن كثيراً مما يقال اليوم وينشر في وسائل الإعلام من التمييز والتفرقة بين المسلمين على أساس الوطن والانتماء إليه، هو من دعاوى الجاهلية التي وضعها الإسلام وقضى عليها، فالعبرة في شرع الله ليست بالجنسية أو الوطن إنما هي بالإيمان، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات/10]، والتمييز بين الناس إنما هو بالتقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"(1).
لكن العلمانيين ومن لف لفهم لا يرضون بذلك، فالأخوة عندهم أخوة الوطن، وابن بلدهم -وإن كان فاسقاً- أفضل من الأجنبي وإن كان تقياً، حتى وصلت بهم الحال في بعض بلاد الله إلى عد اليهودي والنصراني من أهل وطنهم أقرب وأحب إليهم من المسلم غير المواطن، وما هذا إلا تمييع لمبدأ الولاء والبراء الذي هو من أوثق عرى الإيمان!
لقد جُبِل الإنسان على حب المكان الذي نشأ وترعرع فيه، وجبل كذلك على التعاون مع أترابه في الذود عن حياضه ودفع كل ما قد يمسه من مكروه، فإذا كان هذا الحب والتعاون تابعاً لما يحبه الله ويرضاه، وإذا كانت الوطنية تعبيراً عن هذا الحب بأداء كل ما من شأنه رفعة هذا الوطن بما يوافق شرع الله عز وجل و لا يترتب عليه تعد على أي حد من حدوده أو حكم من أحكامه، فهي مشروعة محمودة.
فالصورة الأولى التي يروج لها العلمانيون مرفوضة محرمة، والصورة الثانية مقبولة محترمة؛ وتبقى الصورة الثالثة وهي التي تجعل الوطنية شعارات ومظاهر جوفاء وأناشيد وعرضات، فهذه تجني على الوطنية وتزري بها وتجعلها دعوى فارغة، وهذا رأس مال البطالين.
إن هجرة المسلمين إلى الحبشة ثم هجرتهم إلى المدينة المنورة تعطينا درساً عظيماً في الوطنية كما ينبغي أن تكون؛ لقد كان المهاجرون رضي الله عنهم يحبون وطنهم مكة المكرمة، ولولا أذى أهلها لهم ومنعهم إياهم من إقامة شعائر دينهم فيها ما تركوها ولا هاجروا منها، لا أدل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلقي النظرة الأخيرة على مكة يوم هجرته المباركة: "و الله! إني لأعلم أنك خير أرض الله، و أحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجتُ"(2).
فها هو خير المهاجرين من الأولين والآخرين يصرح بحبه لوطنه، ويبين مكانته عند الله مما لا يمكن أن يدانيه فيها غيره، ومع ذلك فإنه يترك هذا الوطن ويخرج منه ويأمر أصحابه بتركه والخروج منه، بل ويرجع بعد سنوات ليفتح هذا الوطن بجيش جُلُّ أفراده ليسوا من أبنائه، وينتصر بهم على أهل وطنه مما هو في ميزان أهل الباطل خيانة للوطنية. وفي المقابل، نجد الأنصار رضي الله عنهم يحبون المهاجرين ويفضلونهم على مواطني مدينتهم من غير المسلمين وينصرونهم عليهم، وفي هذا خيانة للوطنية عند أهل الباطل كذلك.
إن الإنسان لا يمكن أن يحكم على الأمور حكماً صائباً إلا إذا علم الغاية التي خلق من أجلها -وهي عبادة الله جل وعلا- وأقر بها وعمل بمقتضاها، فلما كان البقاء في مكة يحقق العبودية لله سبحانه وتعالى بقي عليه السلام فيها، ولما تعذر ذلك وصارت عبوديته لربه تبارك وتعالى تتحقق بالهجرة منها هاجر وتركها، ولما صارت هذه العبودية تتحقق بمقاتلة أهلها ثم بفتحها قاتلهم ثم فتحها.
فتحقيق العبودية لله جل وعلا هو الأصل، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى عاقبة من تمسكوا بالأرض والوطن ولم يهاجروا رغم عدم تمكنهم من إقامة دينهم فقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء/97].
إن الهجرة درس عظيم في الوطنية قد لا يفقهه دعاة الوطنية الجاهلية لأنهم جعلوا ولاءهم وانتماءهم للحجارة والطين!
ولو أنهم عقلوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سمع أنصارياً يقول يا للأنصار ومهاجرياً يقول يا للمهاجرين -لإشكال حصل بينهما- فقال: "ما بال دعوى جاهلية ... دعوها فإنها منتنة"(3) لعلموا أي جرم يجنونه على أنفسهم وعلى وطنهم الذي يريدون العودة به إلى الجاهلية العمياء.
وأخيراً فإن عقيدة الولاء والبراء تقضي بأن يقرب المسلم البر التقي أياً كان وطنه، ويقدم على من دونه ولو كان حسيباً نسيباً، وفي المقابل يجب على هذا الغريب أن يحفظ الولاء لدولة الإسلام التي هاجر إليها، وأن يعلم أن عليه من الحقوق مثل ما له من الواجبات، على حد ما جاء في حديث بريدة عند مسلم في أعراب المسلمين وفيه: ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين... الحديث(4)، والله المستعان.