عزام
10-07-2008, 04:28 PM
مقال جميل للقرضاوي
الا اني لم اقتنع بتفضيل العلم على الجهاد بالمطلق
ما رايكم دام فضلكم
عزام
العلم والعلماء في ضوء السنة
تكاثرت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتتابعت - بعد آيات القرآن الكريم - في بيان فضل العلم ومنزلة العلماء عند الله وعند الناس ، في الدنيا والآخرة، ورفعت العلماء مكانا عليا ، لا يسعى إليه على قدم ، ولا يطار له على جناح إلا بوساطة العلم . ولا ريب أن أولى العلوم بذلك هو علم الدين ، الذي به يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه ، ويهتدي إلى غايته ، ويكتشف طريقه ، ويعلم ماله وما عليه ، ثم بعد ذلك كل علم كشف عن حقيقة تهدي الناس إلى حق ، أو تقربهم من خير، أو تحقق لهم مصلحة، أو تدرأ عنهم مفسدة . يقول صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيرا، يفقهه في الدين". ويقول : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الراحة، وذكرهم الله فيمن عنده " . ويقول : "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" . فهذه الأحاديث تدل على فضل العلم ، وبخاصة العلم بالدين ، أو على حد تعبير الحديث : الفقه في الدين . والواقع أن الفقه في الدين أخص وأعمق من مجرد العلم بالدين ، فالعلم معرفة بالظاهر فحسب ، والفقه معرفة بالظاهر واللب معا ، والعلم يتصل أكثر ما يتصل بالعقل وحده ، والفقه بالعقل والقلب جميعا. وحسب هذا العلم فضلا أن مجالسه تحفها ملائكة الله وتنزل عليها السكينة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكرها الله في الملأ الأعلى . وهذه الملائكة التي تحف مجالس العلم تضع أجنحتها لطالبيه ، فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل . . . والحف حفظ وحماية وصيانة . فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له ، وحبها إياه ، وحمايتها له ، وكفى بهذا شرفا وفضلا. هذه الأحاديث ومثلها كثير وكثير بجوار ما جاء في القرآن من آيات غزيرة وفيرة، جعلت أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم - ومن تبعهم بإحسان على مر القرون ، يشيدون بشأن العلم ، وينوهون بقدر العلماء، تحريضا على طلب العلم والزيادة منه ، وتحذيرا من الجهل وما يجره على أهله من شؤم في الدنيا والآخرة . يقول عمر: أيها الناس ، عليكم بطلب العلم ، فإن لله رداء محبة، فمن طلب بابا من العلم ، رداه الله بردائه ذاك. وسأل رجل ابن عباس عن الجهاد فقال له : ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجدا تعلم فيه القرآن ، وسنن النبي صلى الله عليه و سلم ، والفقه في الدين وقال ابن مسعود: نعم المجلس مجلس تنشر فيه الحكمة، وتنشر فيه الرحمة (يعني مجلس العلم) وقال معاذ بن جبل : تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين ، والنصير على السراء والضراء ، والوزير عند الأخلاء ، والقريب عند القرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواما ، فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم ، أدلة في الخير تقتفى آثارهم ، وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وكل رطب ويابس يستغفرلهم ، حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، والسماء ونجومها . .. إلى أن قال : به يطاع الله ، وبه يعبد، وبه يوحد، وبه يمجد، وبه يتورع ، وبه توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، وهو إمام والعمل تابعه ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء. وتال الحسن : لولا العلماء، لصار الناس مثل البهائم ، أي أنهم بالعلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية . وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد – صلى الله عليه و سلم - من آبائهم وأمهاتهم ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا ، وهم يحفظونهم من نار الآخرة . وسئل ابن المبارك : من الناس؟ فقال : العلماه . قيل : فمن الملوك قال : الزهاد .
العلم دليل الايمان :
والعلم في نظر الإسلام ليس مماثلا للإيمان ، فضلا عن أن يكون معاديا له كما شاعت هذه الفكرة في أوروبا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافه ، وتحارب العلم ، وتناصر الجمود والتقليد ، وتقاوم التفكير الحر والابتكار المبدع. وتدافع عن القوى المتسلطة من حكام وإقطاعيين ، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة . الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه ، لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه ، لا نصا ولا روحا . أما النصرانية، فتقوم أساسا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضده ، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم ، بل في نطاق الوجدان والقلب ، وليس من أثر العقائد أن تكون مقبولة عقلا، بل يحسن بها أن تكون شيئا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى "آمن ثم اعلم" . أو " اعتقد وأنت أعمى " . وآخر يقول على لسان القسيس : " أغمض عينيك ثم اتبعني " . وذلك لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث والتخليص والفداء، وما يتفرع عنها ، وما يلحق بها ، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم " اللامعقولة" وهو القديس ( أوجستين ) : أؤمن بهذا ، لأنه محال ! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة " التقليد " و" التبعية " كقول من قالوا : (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) المائدة : 104 أو (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ) الأحزاب : 67 ، أو " أنا مع الناس " كما في الحديث الذي رواه الترمذي : " لا يكن أحدكم امعة يقول انا مع الناس إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساءوا أسأت". ويرفض أيضا الظن ، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين . ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله : (مالهم به علم إلا اتباع الظن ) النساء : 157. وقال في اوثان المشركين وآلهتهم المزعومة: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) النجم : 3. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق ، والتفكير الهادىء، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) البقرة : 111. ولا عجب أن تكررت في القرآن هذه العبارات الموقظة للفكر من غفلته ، والمحررة للإنسان من ربقة تقليده وجموده ، مثل (أفلا تعقلون ) . (أفلا تتفكرون )، (أفلا ينظرون ) . (أولم ينظروا) . (أولم يتفكروا) . (لقوم يعقلون ) . ( لقوم يعلمون ) . ( لقوم يتفكرون ). وحسبك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير (قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ) سبأ : 146 . فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا ، فرض عليهم أن يتفكروا . فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن : (فا علم أنه لا إله الا الله) ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) المائدة : 198 (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، واعلموا أن الله غفور حليم ) البقرة : 235. لم يخش القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته ، لأن فكرة الإسلام : أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحق لا ينقض الحق ، واليقين لا يعارض اليقين ، إنما يعارض اليقين الظن ، وتنافي الحقيقة الشك أو الوهم أو الافتراض. ومن هنا لا يمكن بحال مناقضة صحيح المنقول لصريح المعقول، وإذا بدا لنا في بعض الأحيان تناقض ظاهري ، فلا بد ان يكون المنقول غير صحيح ، أو المعقول غير صحيح. وهذا يقع كثيرا: أن يظن ما ليس من الدين دينا، وأن يحسب ما ليس من العلم علما. فليست كل أفهام أهل الدين دينا ، كما أنه ليست كل نظريات اهل العلم علما.
إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلا إليه . قال تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ) الحج : 154 . فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها على بعض. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا .
والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الاخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفين جنبا إلى جنب كما قال تعالى : (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) الروم : 156. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي اذا ثبت أحدهما ، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم : العلم بمفهومه الشائع اليوم ، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة - فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم ، وحاجة الناس إليه لأن العلم المادي مطلوب للإنسان ولا شك ، ولكنه مطلوب طلب الوسائل لا طلب الغايات .
وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان ، ويطوي له المكان : فيقرب البعيد، ويلين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده ان يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان ونزعات نفسه الأمارة بالسوء . ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى " العلم الديني " الذي ينمي الإيمان ويحي الضمائر، ويغرس الفضائل ، ويقي الإنسان شح نفسه ، وطغيان غرائزه على عقله ، وهواه على ضميره ، وهذا هو الذي يعصم " العلم المادي" من الانحراف ، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان.
العلم دليل العمل
والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضا ، كما هو دليل للإيمان . ترجم الامام البخاري في جامعه الصحيح : " باب العلم قبل القول والعمل "، وقال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما، مصحح للنية المصححة للعمل ، فنبه المصنف (يعني البخاري ) على ذلك ، حتى لا يسبق إلى الذهن - من قولهم : إن العلم لا ينغع إلا بالعمل - تهوين أمر العلم ، والتساهل في طلبه " . واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها : قوله تعالى : (فا علم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) القتال : 119. فبدأ بالعلم ، وثنى بالعمل ، ورأس العلم معرفة الله تعالى وتوحيده . والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه و سلم ، فهو متناول لأمته . وقال جل ذكره : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 128. أي إنما يخاف الله عز وجل ويقدره حق قدره ، من عرفه ، و عرف عظيم قدرته ، وسلطانه على خلقه ، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفز على عمل الصالحات ، واجتناب السيئات . وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "، وذلك لأنه إذا فقه عمل ، وأحسن ما عمل .
فضل العلم على العبادة:
والإسلام - فيما نعلم - أول دين يفضل الاشتغال بالعلم وطلبه ، والتبحر فيه على التطوع بالشعائر المعروفة، من صلاة وصيام وحج ونحوها مع أن القرآن يعلن في صراحة وجلاء أن الله تعالى لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات : 56. ولكن العبادة اذا أديت على غير علم فهي كبنيان على غير أساس ، فالعلم هو الذي يوضح أركان العبادة، وشروطها ، وآدابها الظاهرة، وأسرارها الباطنة، كما يبين ما يصححها وما يبطلها ، وما يكملها أو ينقصها . والعلم يعرف صاحبه بمنازل الأشياء ، ومراتب الأعمال ، حتى يميز بين النفل والفرض ، ويبين المهم وغير المهم ، ويبين الأصول والفروع ، فلا يقدم نافلة على فريضة، ولا يقدم غير المهم على المهم ، ولا يضيع أصلا من أجل فرع . وفي مثل هذا قال السلف : إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة . وقالوا: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. ومن فضل العلم على العبادة أن معظم العبادات قاصرة النفع لا تتجاوز صاحبها ، فالمصلى والصائم ، والحاج والمعتمر ، والذاكر والمسبح ، يزيد عملهم من حسناتهم ، ويرفع من درجاتهم . . . ولكن المجتمع من ورائهم لا ينال من جراء عبادتهم شيئا مباشرا ، يحقق لهم منفعة، أو يدفع عنهم مضرة . أما العلم فنفعه متعد . . . لا يقتصر على صاحبه ، بل يتجاوزه إلى غيره من الناس من كل من يسمعه ، أو يقرؤه ، وقد يكون بينه وبينهم جبال ووهاد، أو بحار وقفار . فالعلم لا يعرف القيود، ولا يعترف بالحواجز والسدود، وخاصة في عصرنا الذي ينتشر فيه العلم المسموع بالإذاعة ، والمرئي بالتلفاز، في ثوان معدودة، بل في نفس اللحظة، إلى المستمعين والمشاهدين في مساحات شاسعة، وينشر العلم المكتوب بوساطة الطباعة الحديثة إلى آفاق المعمورة في أيام بل ساعات معدودات. ولا عجب أن روى أبو أمامة - رضي الله عنه - قال : ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان ، أحدهما عالم ، والآخر عابد ، فقال عليه الصلاة والسلام : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم "وروى عنه حذيفة بن اليمان: "فضل العالم خير من فضل العبادة " وقد تقدم حديث أبي الدرداء: " فضل العالم على العابد كغضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" . ومن فضل العلم على العبادة أنه لا ينقطع بانقطاع الحياة، ولا يموت بموت أصحابه. فمن صلى، أو صام، أو زكى، أو حج، أو اعتمر، أو سبح وهلل وكبر، فإن هذه الأعمال لها مثوبتها الجزيلة عند الله تعالى، ولكنها تنتهي بانتهاء أدائها والفراغ منها . أما العلم فإن أثره يظل باقيا ممتدا، ما دام في الناس من ينتفع به ، مهما تطاولت السنون ، وتعاقبت القرون. فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" وقال أيضا: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته ". وبهذا يعيش العالم عمرا طويلا بعد عمره المحدود، وبخاصة من كتب وصنف، فإن عمر المكتوب أطول، وأثره أبقى. ألا ترى أننا اليوم ننتفع بتراث علمائنا السابقين ، وندعو لهم ، ونترحم عليهم ، وبيننا وبينهم أزمان وقرون تندق فيها أعناق المطي . قال يحيى بن أكثم : قال الرشيد يوما : ما أنبل المراتب ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ما أنت فيه . قال : فتعرف من هو خير مني ؟ قلت : لا قال : لكني أعرفه . رجل يقول : حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قلت يا أمير المؤمنين : أهذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي عهد المؤمنين، قال : نعم ، ويلك ! هذا خير مني ، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يموت أبدا . ونحن نموت ونفنى والعلماء باقون ما بقي الدهر. وما أبلغ ما قال الإمام علي - رضي الله عنه - لكميل بن زياد: "العلم خير من المال : العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والعلم يزكو على الإنفاق ، والمال تنقصه النفقة، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ".
الاشتغال بالعلم أفضل ما يتطوع به :- وهذه الأحاديث وما جاء في معناها، وما جاء في فضل العلم عامة - هي التي جعلت كثيرا من السلف يعدون العلم أفضل ما يتطوعون به متقربين لله تعالى. فعن ابن مسعود قال: الدراسة صلاة . وعن أبي الدرداء قال : مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليل. وعن ابن عباس : تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها. وعن أبي هريرة : لأن أجلس ساعة فأفقه في ديني أحب الي من أن أحي ليلة إلى الصباح. وقال قتادة : باب من العلم يحفظه الرجل لعلاج نفسه ، وصلاح من بعده ، أفضل من عبادة حول. وقال الثوري : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وعنه أيضا: ما أ علم اليوم شيئا أفضل من طلب العلم ، قيل له: ليس لهم نية! قال : طلبهم له نية. وقال ابن وهب : كنت عند مالك قاعدا أسأله ، فجمعت كتبي لاقوم. قال مالك : أين تريد قال : قلت: أبادر إلى الصلاة . قال : ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه، إذا صح فيه النية. وقال الزهرى: ما عبد الله بمثل الفقه .
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: حظ من علم أحب إلي من حظ من عبادة وفال الشافعي : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقد نقل عن أبي حنيفة مثل ما نقل عن الشافعي ومالك وسفيان من تفضيل العلم على سائر النوافل. هؤلاء هم أئمة الفقه وأصحاب المذاهب المتبوعة. وبهذا يتضح أن المفاضلة بين العلم والعبادة لا تعني المفاضلة بين العلم المفروض والعبادة المفروضة، ولا بين نفل العلم وفرض العبادة، ولا العكس ، فإنه لا مفاضله بين فريضتين لازمتين. فلا يجوز أن يشغل شيء عن العبادة المفروضة كالصلاة والمحافظة عليها. وأدائها في وقتها ، ولو كان هو طلب العلم. ولا يتصور من ذي علم أن يجيز لنفسه أو غيره الاشتغال بالعلم عن أداء الفرائض المكتوبة. ولهذا لما نقل المحقق ابن القيم حديث عائشة، "فضل العلم خير من نفل العمل "، قال : وهذا الكلام هو فصل الخطاب في المسألة، فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضا فلا بد منهما كالصوم والصلاة، فإذا كانا فضلين - وهما النفلان المتطوع بهما - ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها ، لأن العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه ، والعبادة يختص نفسها لصاحبها - ولأن العلم تبقى فائدته ، ولما مر من الوجوه السابقة
. فضل العلم على الجهاد:
ويندرج في فضل العلم على العبادة فضله على الجهاد الذى هو ذروة سنام الإسلام الذي استفاضت في بيان فضيلته آيات القرآن وأحاديث الرسول . يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أحد أوعية العلم ، ومصابيح الهدى : والذي نفسي بيده ، ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء، لما يرون من كرامتهم أي : من كرامة العلماء . ويقول الفقيه الداعية المريي الحسن البصري : يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء. ذلك أن الجهاد لا يعرف فضله إلا بالعلم . ولا تتضح شروطه وحدوده إلا بالعلم. ولا يتبين الجهاد المشروع من القتال غير المشروع إلا بالعلم. ولا يتميز النفل فيه عن الفرض إلا بالعلم . ولا يعرف فرض الكفاية فيه من فرض العين إلا بالعلم. وكم رد النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم جاءه يجاهد معه، لأنه رأى أنه ترك واجبا يخصه ألزم من الجهاد، فعن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فاستأذنه في الجهاد ، فقال : " أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : "ففيهما فجاهد " . وفي رواية : أن الرجل قال : يا رسول الله ، جئت أريد الجهاد معك ، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان. قال : " فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما " . وعن أبي سعيد: أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن ، فقال : " هل لك أحد باليمن؟ فقال : أبواي ، فقال : أذنا لك ؟ فقال : لا، قال ارجع إليهما فاستأذنهها ، فإن أذنا لك فجاهد ، وإلا فبرهما ". وفي حديث آخر أنه – صلى الله عليه وسلم- قال لمن جاء يستشيره في الغزو معه : هل لك من أم ؟ قال : نعم ، فقال : " الزمها فإن الجنة عند رجليها ". وبهذه الأحاديث استدل العلماء على وجوب استئذان الأبوين في الجهاد، وبذلك قال الجمهور، وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع عنه الأبوان أو أحدهما ، لأن برهما فرض عين ، والجهاد فرض كفاية، فإذا صار الجهاد فرض عين فلا إذن، لأن تركه معصية، ولا طاعة لبشر في معصية الله تعالى. وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين ، لأن الكافرين لا يرضيان يوما بالجهاد لنصرة الإسلام وخذلان دينها. وكل هذه الحدود والفوارق الدقيقة إنما تعرف بالعلم ، فمن أعرض عن العلم ، واشتغل بالجهاد كان حريا أن يقع في الخطأ، أو ينحرف عن سواء الصراط وهو لا يدري . وكم من أناس في الماضي حملوا سيوفهم على عواتقهم يقاتلون من عصم الله دماءهم وأموالهم يزعمون أنهم بذلك يجاهدون، فيقتلون أهل الاسلام ، ويدعون أهل الأوثان ! أولئك هم الخوارج الذي صح الحديث في ذمهم من عشرة أوجه كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، وأيده ابن تيمية . وما ذلك إلا لأنهم تعبدوا قبل أن يتعلموا ، وجاهدوا قبل أن يتفقهوا، وتعجلوا العمل قبل العلم ، فضل سعيهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . وكم من شباب في زمننا دفعهم الحماس الكثير في صدورهم ، مع العلم القليل في رؤوسهم ، والإعجاب المزهو برأيهم ، إلى رفض أمتهم ، وتكفير جماهيرها ، واعتبار أوطانها ديار كفر لا دار إسلام ، فاستحلوا بذلك ما حرم الله ، وأسقطوا ما أوجب الله ، اتباعا لمتشابه النصوص ، وابتغاء الفتنة، وابتغاء تأو يله . ولو تعلموا وفقهوا ، وتلقوا العلم من أهله ، وعرفوه من مناهله ، لوقف بهم العلم عند حدودهم ، وعرفهم حقيقة الجهاد: كيف يكون ؟ ومتى يكون ؟ ولمن يكون ؟ وهذا ما نصح به الإمام الحسن البصري - رضي الله عنه حيث يقول : العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح . فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العباده طلبا لا يضر بالعلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم - ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا .على أن الجهاد الذي جاء به الإسلام ليس كله جهادا بالسيف ، فهناك جهاد بالقلب واللسان ، والحجة والبيان ، أي جهاد بالعلم . وهو المذكور في قوله تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به - أي القرآن - جهادا كبيرا) الفرقان : 152. فلم يكتف القرآن بتسميته جهادا، بل سماه "جهادا كبيرا" وهذا في مكة قبل أن يشرع القتال . وهو جهاد المنافقين في قوله سبحانه (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) سورة التوبة : 173 و سورة التحريم : 9 . فجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أحض باللسان . ولا تعجب إذا جاء في الحديث "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ". قال الإمام ابن القيم : "إنما جعل طلب العلم من سبيل الله ، لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد . فقوام الدين بالعلم والجهاد . ولهذا كان الجهاد نوعين : جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير. والثاني الجهاد بالحجة والبيان . وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل ، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين ، لعظم منفعته ، وشدة مؤنته . وكثرة أعدائه . قال تعالى في سورة الغرقان ، وهي مكية (ولو شئنا بعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) 511-152 . فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين . وهو جهاد المنافقين أيضا ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، ورمما كانوا يقاتلون عدوهم معهم . ومع هذا فقد قال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) . ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن . قال : والمقصود أن " سبيل الله " هي الجهاد ، وطلب العلم ، ودعوة الخلق به إلى الله ، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه : عليكم بطلب العلم ، فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادته ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد . ولهذا قرن - سبحانه - بين الكتاب والميزان والحديد الناصر، كما قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، إن الله قوي عزيز) الحديد : 25 . فذكر الكتاب والحديد ، إذ بهما قوام الدين . كما قيل :
والمقصود أن كلا من الجهاد بالسيف والحجة يسمى (سبيل الله ) وفسر الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ) النساء: 159 - بالأمراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله : هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم . فطلب العلم وتعلمه من أعظم سبيل الله عزوجل . قال كعب الأحبار: طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل . وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم : إذا جاء الموت طالب العلم ، وهو على هذا الحال ، مات وهوشهيد
الا اني لم اقتنع بتفضيل العلم على الجهاد بالمطلق
ما رايكم دام فضلكم
عزام
العلم والعلماء في ضوء السنة
تكاثرت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتتابعت - بعد آيات القرآن الكريم - في بيان فضل العلم ومنزلة العلماء عند الله وعند الناس ، في الدنيا والآخرة، ورفعت العلماء مكانا عليا ، لا يسعى إليه على قدم ، ولا يطار له على جناح إلا بوساطة العلم . ولا ريب أن أولى العلوم بذلك هو علم الدين ، الذي به يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه ، ويهتدي إلى غايته ، ويكتشف طريقه ، ويعلم ماله وما عليه ، ثم بعد ذلك كل علم كشف عن حقيقة تهدي الناس إلى حق ، أو تقربهم من خير، أو تحقق لهم مصلحة، أو تدرأ عنهم مفسدة . يقول صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيرا، يفقهه في الدين". ويقول : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الراحة، وذكرهم الله فيمن عنده " . ويقول : "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" . فهذه الأحاديث تدل على فضل العلم ، وبخاصة العلم بالدين ، أو على حد تعبير الحديث : الفقه في الدين . والواقع أن الفقه في الدين أخص وأعمق من مجرد العلم بالدين ، فالعلم معرفة بالظاهر فحسب ، والفقه معرفة بالظاهر واللب معا ، والعلم يتصل أكثر ما يتصل بالعقل وحده ، والفقه بالعقل والقلب جميعا. وحسب هذا العلم فضلا أن مجالسه تحفها ملائكة الله وتنزل عليها السكينة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكرها الله في الملأ الأعلى . وهذه الملائكة التي تحف مجالس العلم تضع أجنحتها لطالبيه ، فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل . . . والحف حفظ وحماية وصيانة . فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له ، وحبها إياه ، وحمايتها له ، وكفى بهذا شرفا وفضلا. هذه الأحاديث ومثلها كثير وكثير بجوار ما جاء في القرآن من آيات غزيرة وفيرة، جعلت أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم - ومن تبعهم بإحسان على مر القرون ، يشيدون بشأن العلم ، وينوهون بقدر العلماء، تحريضا على طلب العلم والزيادة منه ، وتحذيرا من الجهل وما يجره على أهله من شؤم في الدنيا والآخرة . يقول عمر: أيها الناس ، عليكم بطلب العلم ، فإن لله رداء محبة، فمن طلب بابا من العلم ، رداه الله بردائه ذاك. وسأل رجل ابن عباس عن الجهاد فقال له : ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجدا تعلم فيه القرآن ، وسنن النبي صلى الله عليه و سلم ، والفقه في الدين وقال ابن مسعود: نعم المجلس مجلس تنشر فيه الحكمة، وتنشر فيه الرحمة (يعني مجلس العلم) وقال معاذ بن جبل : تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين ، والنصير على السراء والضراء ، والوزير عند الأخلاء ، والقريب عند القرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواما ، فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم ، أدلة في الخير تقتفى آثارهم ، وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وكل رطب ويابس يستغفرلهم ، حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، والسماء ونجومها . .. إلى أن قال : به يطاع الله ، وبه يعبد، وبه يوحد، وبه يمجد، وبه يتورع ، وبه توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، وهو إمام والعمل تابعه ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء. وتال الحسن : لولا العلماء، لصار الناس مثل البهائم ، أي أنهم بالعلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية . وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد – صلى الله عليه و سلم - من آبائهم وأمهاتهم ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا ، وهم يحفظونهم من نار الآخرة . وسئل ابن المبارك : من الناس؟ فقال : العلماه . قيل : فمن الملوك قال : الزهاد .
العلم دليل الايمان :
والعلم في نظر الإسلام ليس مماثلا للإيمان ، فضلا عن أن يكون معاديا له كما شاعت هذه الفكرة في أوروبا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافه ، وتحارب العلم ، وتناصر الجمود والتقليد ، وتقاوم التفكير الحر والابتكار المبدع. وتدافع عن القوى المتسلطة من حكام وإقطاعيين ، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة . الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه ، لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه ، لا نصا ولا روحا . أما النصرانية، فتقوم أساسا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضده ، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم ، بل في نطاق الوجدان والقلب ، وليس من أثر العقائد أن تكون مقبولة عقلا، بل يحسن بها أن تكون شيئا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى "آمن ثم اعلم" . أو " اعتقد وأنت أعمى " . وآخر يقول على لسان القسيس : " أغمض عينيك ثم اتبعني " . وذلك لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث والتخليص والفداء، وما يتفرع عنها ، وما يلحق بها ، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم " اللامعقولة" وهو القديس ( أوجستين ) : أؤمن بهذا ، لأنه محال ! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة " التقليد " و" التبعية " كقول من قالوا : (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) المائدة : 104 أو (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ) الأحزاب : 67 ، أو " أنا مع الناس " كما في الحديث الذي رواه الترمذي : " لا يكن أحدكم امعة يقول انا مع الناس إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساءوا أسأت". ويرفض أيضا الظن ، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين . ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله : (مالهم به علم إلا اتباع الظن ) النساء : 157. وقال في اوثان المشركين وآلهتهم المزعومة: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) النجم : 3. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق ، والتفكير الهادىء، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) البقرة : 111. ولا عجب أن تكررت في القرآن هذه العبارات الموقظة للفكر من غفلته ، والمحررة للإنسان من ربقة تقليده وجموده ، مثل (أفلا تعقلون ) . (أفلا تتفكرون )، (أفلا ينظرون ) . (أولم ينظروا) . (أولم يتفكروا) . (لقوم يعقلون ) . ( لقوم يعلمون ) . ( لقوم يتفكرون ). وحسبك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير (قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ) سبأ : 146 . فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا ، فرض عليهم أن يتفكروا . فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن : (فا علم أنه لا إله الا الله) ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) المائدة : 198 (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، واعلموا أن الله غفور حليم ) البقرة : 235. لم يخش القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته ، لأن فكرة الإسلام : أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحق لا ينقض الحق ، واليقين لا يعارض اليقين ، إنما يعارض اليقين الظن ، وتنافي الحقيقة الشك أو الوهم أو الافتراض. ومن هنا لا يمكن بحال مناقضة صحيح المنقول لصريح المعقول، وإذا بدا لنا في بعض الأحيان تناقض ظاهري ، فلا بد ان يكون المنقول غير صحيح ، أو المعقول غير صحيح. وهذا يقع كثيرا: أن يظن ما ليس من الدين دينا، وأن يحسب ما ليس من العلم علما. فليست كل أفهام أهل الدين دينا ، كما أنه ليست كل نظريات اهل العلم علما.
إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلا إليه . قال تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ) الحج : 154 . فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها على بعض. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا .
والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الاخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفين جنبا إلى جنب كما قال تعالى : (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) الروم : 156. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي اذا ثبت أحدهما ، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم : العلم بمفهومه الشائع اليوم ، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة - فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم ، وحاجة الناس إليه لأن العلم المادي مطلوب للإنسان ولا شك ، ولكنه مطلوب طلب الوسائل لا طلب الغايات .
وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان ، ويطوي له المكان : فيقرب البعيد، ويلين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده ان يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان ونزعات نفسه الأمارة بالسوء . ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى " العلم الديني " الذي ينمي الإيمان ويحي الضمائر، ويغرس الفضائل ، ويقي الإنسان شح نفسه ، وطغيان غرائزه على عقله ، وهواه على ضميره ، وهذا هو الذي يعصم " العلم المادي" من الانحراف ، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان.
العلم دليل العمل
والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضا ، كما هو دليل للإيمان . ترجم الامام البخاري في جامعه الصحيح : " باب العلم قبل القول والعمل "، وقال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما، مصحح للنية المصححة للعمل ، فنبه المصنف (يعني البخاري ) على ذلك ، حتى لا يسبق إلى الذهن - من قولهم : إن العلم لا ينغع إلا بالعمل - تهوين أمر العلم ، والتساهل في طلبه " . واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها : قوله تعالى : (فا علم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) القتال : 119. فبدأ بالعلم ، وثنى بالعمل ، ورأس العلم معرفة الله تعالى وتوحيده . والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه و سلم ، فهو متناول لأمته . وقال جل ذكره : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 128. أي إنما يخاف الله عز وجل ويقدره حق قدره ، من عرفه ، و عرف عظيم قدرته ، وسلطانه على خلقه ، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفز على عمل الصالحات ، واجتناب السيئات . وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "، وذلك لأنه إذا فقه عمل ، وأحسن ما عمل .
فضل العلم على العبادة:
والإسلام - فيما نعلم - أول دين يفضل الاشتغال بالعلم وطلبه ، والتبحر فيه على التطوع بالشعائر المعروفة، من صلاة وصيام وحج ونحوها مع أن القرآن يعلن في صراحة وجلاء أن الله تعالى لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات : 56. ولكن العبادة اذا أديت على غير علم فهي كبنيان على غير أساس ، فالعلم هو الذي يوضح أركان العبادة، وشروطها ، وآدابها الظاهرة، وأسرارها الباطنة، كما يبين ما يصححها وما يبطلها ، وما يكملها أو ينقصها . والعلم يعرف صاحبه بمنازل الأشياء ، ومراتب الأعمال ، حتى يميز بين النفل والفرض ، ويبين المهم وغير المهم ، ويبين الأصول والفروع ، فلا يقدم نافلة على فريضة، ولا يقدم غير المهم على المهم ، ولا يضيع أصلا من أجل فرع . وفي مثل هذا قال السلف : إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة . وقالوا: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. ومن فضل العلم على العبادة أن معظم العبادات قاصرة النفع لا تتجاوز صاحبها ، فالمصلى والصائم ، والحاج والمعتمر ، والذاكر والمسبح ، يزيد عملهم من حسناتهم ، ويرفع من درجاتهم . . . ولكن المجتمع من ورائهم لا ينال من جراء عبادتهم شيئا مباشرا ، يحقق لهم منفعة، أو يدفع عنهم مضرة . أما العلم فنفعه متعد . . . لا يقتصر على صاحبه ، بل يتجاوزه إلى غيره من الناس من كل من يسمعه ، أو يقرؤه ، وقد يكون بينه وبينهم جبال ووهاد، أو بحار وقفار . فالعلم لا يعرف القيود، ولا يعترف بالحواجز والسدود، وخاصة في عصرنا الذي ينتشر فيه العلم المسموع بالإذاعة ، والمرئي بالتلفاز، في ثوان معدودة، بل في نفس اللحظة، إلى المستمعين والمشاهدين في مساحات شاسعة، وينشر العلم المكتوب بوساطة الطباعة الحديثة إلى آفاق المعمورة في أيام بل ساعات معدودات. ولا عجب أن روى أبو أمامة - رضي الله عنه - قال : ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان ، أحدهما عالم ، والآخر عابد ، فقال عليه الصلاة والسلام : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم "وروى عنه حذيفة بن اليمان: "فضل العالم خير من فضل العبادة " وقد تقدم حديث أبي الدرداء: " فضل العالم على العابد كغضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" . ومن فضل العلم على العبادة أنه لا ينقطع بانقطاع الحياة، ولا يموت بموت أصحابه. فمن صلى، أو صام، أو زكى، أو حج، أو اعتمر، أو سبح وهلل وكبر، فإن هذه الأعمال لها مثوبتها الجزيلة عند الله تعالى، ولكنها تنتهي بانتهاء أدائها والفراغ منها . أما العلم فإن أثره يظل باقيا ممتدا، ما دام في الناس من ينتفع به ، مهما تطاولت السنون ، وتعاقبت القرون. فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" وقال أيضا: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته ". وبهذا يعيش العالم عمرا طويلا بعد عمره المحدود، وبخاصة من كتب وصنف، فإن عمر المكتوب أطول، وأثره أبقى. ألا ترى أننا اليوم ننتفع بتراث علمائنا السابقين ، وندعو لهم ، ونترحم عليهم ، وبيننا وبينهم أزمان وقرون تندق فيها أعناق المطي . قال يحيى بن أكثم : قال الرشيد يوما : ما أنبل المراتب ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ما أنت فيه . قال : فتعرف من هو خير مني ؟ قلت : لا قال : لكني أعرفه . رجل يقول : حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قلت يا أمير المؤمنين : أهذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي عهد المؤمنين، قال : نعم ، ويلك ! هذا خير مني ، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يموت أبدا . ونحن نموت ونفنى والعلماء باقون ما بقي الدهر. وما أبلغ ما قال الإمام علي - رضي الله عنه - لكميل بن زياد: "العلم خير من المال : العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والعلم يزكو على الإنفاق ، والمال تنقصه النفقة، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ".
الاشتغال بالعلم أفضل ما يتطوع به :- وهذه الأحاديث وما جاء في معناها، وما جاء في فضل العلم عامة - هي التي جعلت كثيرا من السلف يعدون العلم أفضل ما يتطوعون به متقربين لله تعالى. فعن ابن مسعود قال: الدراسة صلاة . وعن أبي الدرداء قال : مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليل. وعن ابن عباس : تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها. وعن أبي هريرة : لأن أجلس ساعة فأفقه في ديني أحب الي من أن أحي ليلة إلى الصباح. وقال قتادة : باب من العلم يحفظه الرجل لعلاج نفسه ، وصلاح من بعده ، أفضل من عبادة حول. وقال الثوري : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وعنه أيضا: ما أ علم اليوم شيئا أفضل من طلب العلم ، قيل له: ليس لهم نية! قال : طلبهم له نية. وقال ابن وهب : كنت عند مالك قاعدا أسأله ، فجمعت كتبي لاقوم. قال مالك : أين تريد قال : قلت: أبادر إلى الصلاة . قال : ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه، إذا صح فيه النية. وقال الزهرى: ما عبد الله بمثل الفقه .
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: حظ من علم أحب إلي من حظ من عبادة وفال الشافعي : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقد نقل عن أبي حنيفة مثل ما نقل عن الشافعي ومالك وسفيان من تفضيل العلم على سائر النوافل. هؤلاء هم أئمة الفقه وأصحاب المذاهب المتبوعة. وبهذا يتضح أن المفاضلة بين العلم والعبادة لا تعني المفاضلة بين العلم المفروض والعبادة المفروضة، ولا بين نفل العلم وفرض العبادة، ولا العكس ، فإنه لا مفاضله بين فريضتين لازمتين. فلا يجوز أن يشغل شيء عن العبادة المفروضة كالصلاة والمحافظة عليها. وأدائها في وقتها ، ولو كان هو طلب العلم. ولا يتصور من ذي علم أن يجيز لنفسه أو غيره الاشتغال بالعلم عن أداء الفرائض المكتوبة. ولهذا لما نقل المحقق ابن القيم حديث عائشة، "فضل العلم خير من نفل العمل "، قال : وهذا الكلام هو فصل الخطاب في المسألة، فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضا فلا بد منهما كالصوم والصلاة، فإذا كانا فضلين - وهما النفلان المتطوع بهما - ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها ، لأن العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه ، والعبادة يختص نفسها لصاحبها - ولأن العلم تبقى فائدته ، ولما مر من الوجوه السابقة
. فضل العلم على الجهاد:
ويندرج في فضل العلم على العبادة فضله على الجهاد الذى هو ذروة سنام الإسلام الذي استفاضت في بيان فضيلته آيات القرآن وأحاديث الرسول . يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أحد أوعية العلم ، ومصابيح الهدى : والذي نفسي بيده ، ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء، لما يرون من كرامتهم أي : من كرامة العلماء . ويقول الفقيه الداعية المريي الحسن البصري : يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء. ذلك أن الجهاد لا يعرف فضله إلا بالعلم . ولا تتضح شروطه وحدوده إلا بالعلم. ولا يتبين الجهاد المشروع من القتال غير المشروع إلا بالعلم. ولا يتميز النفل فيه عن الفرض إلا بالعلم . ولا يعرف فرض الكفاية فيه من فرض العين إلا بالعلم. وكم رد النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم جاءه يجاهد معه، لأنه رأى أنه ترك واجبا يخصه ألزم من الجهاد، فعن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فاستأذنه في الجهاد ، فقال : " أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : "ففيهما فجاهد " . وفي رواية : أن الرجل قال : يا رسول الله ، جئت أريد الجهاد معك ، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان. قال : " فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما " . وعن أبي سعيد: أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن ، فقال : " هل لك أحد باليمن؟ فقال : أبواي ، فقال : أذنا لك ؟ فقال : لا، قال ارجع إليهما فاستأذنهها ، فإن أذنا لك فجاهد ، وإلا فبرهما ". وفي حديث آخر أنه – صلى الله عليه وسلم- قال لمن جاء يستشيره في الغزو معه : هل لك من أم ؟ قال : نعم ، فقال : " الزمها فإن الجنة عند رجليها ". وبهذه الأحاديث استدل العلماء على وجوب استئذان الأبوين في الجهاد، وبذلك قال الجمهور، وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع عنه الأبوان أو أحدهما ، لأن برهما فرض عين ، والجهاد فرض كفاية، فإذا صار الجهاد فرض عين فلا إذن، لأن تركه معصية، ولا طاعة لبشر في معصية الله تعالى. وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين ، لأن الكافرين لا يرضيان يوما بالجهاد لنصرة الإسلام وخذلان دينها. وكل هذه الحدود والفوارق الدقيقة إنما تعرف بالعلم ، فمن أعرض عن العلم ، واشتغل بالجهاد كان حريا أن يقع في الخطأ، أو ينحرف عن سواء الصراط وهو لا يدري . وكم من أناس في الماضي حملوا سيوفهم على عواتقهم يقاتلون من عصم الله دماءهم وأموالهم يزعمون أنهم بذلك يجاهدون، فيقتلون أهل الاسلام ، ويدعون أهل الأوثان ! أولئك هم الخوارج الذي صح الحديث في ذمهم من عشرة أوجه كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، وأيده ابن تيمية . وما ذلك إلا لأنهم تعبدوا قبل أن يتعلموا ، وجاهدوا قبل أن يتفقهوا، وتعجلوا العمل قبل العلم ، فضل سعيهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . وكم من شباب في زمننا دفعهم الحماس الكثير في صدورهم ، مع العلم القليل في رؤوسهم ، والإعجاب المزهو برأيهم ، إلى رفض أمتهم ، وتكفير جماهيرها ، واعتبار أوطانها ديار كفر لا دار إسلام ، فاستحلوا بذلك ما حرم الله ، وأسقطوا ما أوجب الله ، اتباعا لمتشابه النصوص ، وابتغاء الفتنة، وابتغاء تأو يله . ولو تعلموا وفقهوا ، وتلقوا العلم من أهله ، وعرفوه من مناهله ، لوقف بهم العلم عند حدودهم ، وعرفهم حقيقة الجهاد: كيف يكون ؟ ومتى يكون ؟ ولمن يكون ؟ وهذا ما نصح به الإمام الحسن البصري - رضي الله عنه حيث يقول : العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح . فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العباده طلبا لا يضر بالعلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم - ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا .على أن الجهاد الذي جاء به الإسلام ليس كله جهادا بالسيف ، فهناك جهاد بالقلب واللسان ، والحجة والبيان ، أي جهاد بالعلم . وهو المذكور في قوله تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به - أي القرآن - جهادا كبيرا) الفرقان : 152. فلم يكتف القرآن بتسميته جهادا، بل سماه "جهادا كبيرا" وهذا في مكة قبل أن يشرع القتال . وهو جهاد المنافقين في قوله سبحانه (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) سورة التوبة : 173 و سورة التحريم : 9 . فجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أحض باللسان . ولا تعجب إذا جاء في الحديث "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ". قال الإمام ابن القيم : "إنما جعل طلب العلم من سبيل الله ، لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد . فقوام الدين بالعلم والجهاد . ولهذا كان الجهاد نوعين : جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير. والثاني الجهاد بالحجة والبيان . وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل ، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين ، لعظم منفعته ، وشدة مؤنته . وكثرة أعدائه . قال تعالى في سورة الغرقان ، وهي مكية (ولو شئنا بعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) 511-152 . فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين . وهو جهاد المنافقين أيضا ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، ورمما كانوا يقاتلون عدوهم معهم . ومع هذا فقد قال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) . ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن . قال : والمقصود أن " سبيل الله " هي الجهاد ، وطلب العلم ، ودعوة الخلق به إلى الله ، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه : عليكم بطلب العلم ، فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادته ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد . ولهذا قرن - سبحانه - بين الكتاب والميزان والحديد الناصر، كما قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، إن الله قوي عزيز) الحديد : 25 . فذكر الكتاب والحديد ، إذ بهما قوام الدين . كما قيل :
والمقصود أن كلا من الجهاد بالسيف والحجة يسمى (سبيل الله ) وفسر الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ) النساء: 159 - بالأمراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله : هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم . فطلب العلم وتعلمه من أعظم سبيل الله عزوجل . قال كعب الأحبار: طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل . وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم : إذا جاء الموت طالب العلم ، وهو على هذا الحال ، مات وهوشهيد