أحمد الظرافي
10-03-2008, 04:12 PM
الزلاقة: معركة الفتح الإسلامي الثالث للأندلس
(في ذكرى وقوعها أكتوبر 1085م )
بقلم: أحمد الظرافي
سنة (92هـ /711م )، فتح المسلمون الأندلس، وبنوا فيها دولة عظيمة، مترامية الأطراف مرهوبة الجانب، كثيرة الخيرات، وأشادوا حضارة زاهيةً زاهرةً، كانت نموذجا يُحتذى، ونهل من معينها كل ظامىء، للعلم والمعرفة، وانتشر الإسلام ومعه لغة القرآن الكريم في كل أرجائها، وظل المسلمون في هذه الأرض أقوياء متمكنين، وفي بحبوحة من العيش، وفي أمنٍ استقرار، لهم الغلبة على عدوهم، والسيادة على أرضهم ومواردهم، ووصلوا إلى درجة مرموقة من التقدم والرقي في مختلف المجالات، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بجوارهم، غارقةً في ظلام دامس.
عصر الطوائف والفتن
لكن الأيام دول، والسعادة لا تدوم، والنواميس الكونية لا يُعفى أحد من الأخذ بها، حتى لو رفع أحسن الشعارات، وحمل أقدس الألقاب والمسميات، فمع القرن الخامس الهجري، وبعد سقوط الدولة العامرية سنة 399هـ/1009 م، ونتيجة لإهمال سنة الأخذ بالأسباب، وانحراف الخلف عما كان عليه السلف، وخلودهم للدعة والراحة، دخلت الخلافة الأموية في الأندلس، طور الضعف والوهن، وأخذت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وبلغ التدهور أقصاه، مع إلغاء الخلافة الأموية في الأندلس، رسميا وإلى الأبد، سنة 422هـ/1031م، ظنا من أصحاب الحل والعقد، أن ذلك هو الحل الشافي للمرض العضال الذي كانت تعاني منه.
وعلى إثر ذلك تمزقت البلاد شر ممزق، وظهرت على أنقاض دولة الخلافة، أكثر من عشرين دويلة ومملكة عرفت تاريخيا بوصفها سيء الصيت " دول الطوائف" وكان أشهرها دويلة بني عباد في أشبيلية، ودويلة بني جهور في قرطبة، ودويلة بني هود في سرقسطة، ودويلة بني ذي النون في طليطلة، ودويلة بني الأفطس في بطليوس، ودويلة بني باديس في غرناطة، ودويلة بني صمادح في المرية، ودويلات عديدة أخرى غيرها.
وخلال حكم هذه الدويلات الطائفية الصغيرة نشبت الفتنة، وضاع الجهاد، وعم الفساد، وانحلت القيم والمثل، وتلاشت عقيدة الولاء والبراء، وانتزع الوازع لديني من القلوب، وكان التناحر والشقاق والحروب الداخلية هو الذي يحكم العلاقة بين أمراء وملوك هذه الطوائف، الذين كانوا في تناقر دائم، مثل الديكة، ولم يكن هناك حدود لتناقضاتهم وخلافاتهم، وكانوا يتسابقون للاستنجاد بالأعداء من نصارى الشمال، ويغدقون عليهم التحف والهدايا للتقرب منهم ويتقربون إليهم بالمحظيات والجواري الحسان، لكسب ودهم، وانقلبت الموازين رأسا على عقب فبعد أن كان النصارى هم الذين يدفعون الجزية، صار أمراء الطوائف المحسوبين على الإسلام: دين العزة والقوة، هم الذين يدفعونها للنصارى كالذميين. وأما الجزية فقد كانت تدفع ذهبا وسلعا ومدنا وقلاعا وحصونا، وتحولت الأندلس إلى ساحة مفتوحة أمام كل مغامر وطامح في السلطة، وكل من به شبق لتبوأ المناصب كيفما اتفق، وكثرت الخيانات بين أبناء البيت الواحد، واستشرت النزعات الانفصالية كالوباء بين القادة والأمراء، وفقد الحكام الثقة بمن حولهم من بني جلدتهم وإخوانهم، فسرحوهم، واستعاضوا عنهم بجيوش من المرتزقة والمأجورين، لحمايتهم والدفاع عنهم، وبالرقيق الأبيض المجلوب من خارج البلاد، ومن أسواق النخاسة. وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمام شعراء المديح المتكسبين وإخوانهم من الشعراء الغزليين، إضافة إلى المغنيين والمطربين، وأصدقاء الكاسات ليلا ونهارا، وأمتلأت القصور بالجواري الحسان من كل جنسٍ ولون.
ومن المفارقات والمضحكات المبكيات، أن أولئك الحكام رغم ما كانوا فيه من استكانة وخضوع وذل وهوان أمام الأعداء، كانوا شديدي التمسك والتباهي بأبهة الخلافة والملك وبالألقاب الجوفاء الرنانة، التي كانوا يطلقونها على أنفسهم، وكانوا حريصين عليها أشد الحرص، وكأنها ضرورة من الضرورات اللازمة للبقاء، ومن تلك الألقاب: الناصر والمنصور والمظفر والمعتمد، وغيرها من الألقاب التي تبعث على السخرية والاستهزاء مقارنة بحقيقتهم، وبما هو جارٍ على أرض الواقع في زمانهم، وصدق فيهم الشاعر وأوضح وأبان عندما قال:
مما يـزهدني في أرض أندلسٍ
أسماء معتمـدٍ فيها ومعتضــدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسدِ
حرب الاستئصال الصليبية
وتزامن ذلك الضعف والتمزق بين مسلمي الأندلس، مع بدء تكتل الممالك المسيحية في شمال ووسط أسبانيا، وإعلانهم ما سُمي في تاريخهم بـاسم " حرب الاسترداد " برعاية البابا والكنيسة الكاثوليكية، وبدعم من القوى الأوروبية، وهذه الحركة بدأت بسيطة ثم نمت وازدادت قوة مع مرور الأيام، وهي لم تكن في حقيقتها سوى حرب صليبية منظمة هدفها طرد المسلمين واستئصال شأفتهم من جميع أنحاء جزيرة الأندلس، ومحو الإسلام وإقتلاعه من الجذور من كل أرجاء تلك الأرض.
وتعاظم الخطر على مسلمي الأندلس بعد ظهور الفونسو السادس ( الأذفونش ) ، ذلك الملك القشتالي القوي الشخصية، وذي الطموح الواسع، والنزعة الصليبية الحاقدة والمتزمتة، والذي نجح في تثبيت وتوطيد الوحدة بين مملكتي قشتالة وليون تحت رايته، بعد أن قامت على يد والده فرديناند الأول، الذي كان هو من وضع الخطوط العريضة لحرب الاسترداد، كما أن الفونسو السادس ضمن في ولاء بقية الممالك الأسبانية الأخرى في الشمال ودعمها لمشروعه.
وفي عهد الفونسو السادس، وتحت قيادته وإشرافه، اشتدت وطأة حرب الاستئصال الصليبية، ضد ملوك الطوائف، فقد جعل هذا الملك من الإغارة على المدن والقواعد الأندلسية شغله الشاغل، وأخذ يوالي الغزوات على تلك المدن ويروع أهلها، ويهلك الحرث والنسل في طريقه في كل مرة، في نفس الوقت الذي كان فيه يضرب أولئك الملوك الصغار بعضهم ببعض، بعد أن صاروا بمثابة قطع شطرنج في يده. وكان يمعن في استذلالهم وفي فرض الجزية عليهم بقوة السلاح والقهر.
ومع كل ذلك فلم يكن راضيا عنهم ولا عن تحفهم أو ذهبهم أو هداياهم، وكان يتعنت في جباية الجزية منهم فلا يقبلها إلا من الذهب الخالص إمعانا في إذلالهم واحتقارهم والاستهانة بأمرهم أمام رعاياهم.
وكانوا كلما أعطوه أزداد غطرسة وعتوا وانفتحت شهيته لطلب المزيد، فكان يريد أمتصاصهم لآخر رمق قبل أن يجهز عليهم ويرميهم عظاما، وكان جهنم كلما امتلأت قالت: هل من مزيد؟
وفي عام 467هـ، انقض بنو ذي النون أصحاب طليطلة، على قرطبة فاستولوا عليها، وقتلوا بها سراج الدولة أبو عمر بن المعتمد بن عّباد. هذا الأخير الذي كان قد انتزعها من بني جهور بالحيلة والخديعة..وقد دفع هذا الحادث المعتمد بن عباد إلى عقد معاهدة سرية مع الفونسو السادس، ملك قشتالة، تمت بمساعي وزيره ابن عمار، المعروف بانتهازيته وأصله الوضيع، والذي كان خير من يجيد كيل المديح شعرا ونثرا، وكان بارعا في فن الوصول، وسياسة التحالف مع أبليس اللعين، وتعهد المعتمد بن عّباد بموجب تلك الاتفاقية، أن يطلق يد الفونسو السادس، في محاربة بني ذي النون أصحاب طليطلة، وأن يدفع إليه ضريبة سنوية، نظير مساعدته له في استعادة قرطبة، وذلك ما كان.
وظل المعتمد بن عبّاد، طوال تلك السنوات، يدفع الجزية، للملك القشتالي ويصانعه ويستعديه على إخوانه – لانتزاع ما تحت أيديهم، وكان هذا هو سلوك ملوك الطوائف الآخرين بشكلٍ عام.
وكان لا بد أن يقع الفأس في الرأس، كي يستيقظ أولئك الملوك الصغار من غفلتهم، وصغارهم. فماذا حدث؟
سقوط طليطلة أو القارعة الكبرى
وظل الوضع في أندلس المسلمين، يسير من سيء إلى أسوأ، ودول الطوائف من ضعفٍ إلى ضعف، بينما نصارى الشمال يتقدمون ويقطعون المراحل، حتى استيقظ أمراء الطوائف على كبرى القوارع، وهي سقوط طليطلة، حاضرة الدولة القوطية السابقة، والمدينة المنيعة وشديدة الأهمية في وسط شبه جزيرة الأندلس، بيد الفونسو السادس، ملك قشتالة المسيحية في 6 من مايو سنة 1085 م ( 478هـ) ، والتي تم تحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة وحيل بين المسلمين وبين العودة إليها رغم الضمانات التي أعطيت لأهل المدينة قبل حادثة السقوط
وكانت طليطلة حينئذٍ قلب الأندلس، وإحدى قواعده الكبرى، ودرة مناطق الثغور.
وكان سقوط طليطلة، وهي عاصمة الثغر الأوسط، قبل سقوط سرقسطة، عاصمة الثغر الأعلى، يعني خرم الخريطة الأندلسية من الوسط وشطرها إلى شطرين وتمزيق شمل المسلمين، وشرذمتهم، وقطع خطوط الاتصال فيما بينهم، والتهام مدن أخرى لا تقل عنها أهمية وتحصينا، وغير ذلك من التداعيات الخطيرة التي تنذر بأفول شمس الإسلام في الأندلس في ذلك الوقت المبكر، وقد عبر الشاعر ابن العسال الطليطلي الزاهد عن تشاؤمه مما جرى، إدراكا منه لأهمية طليطلة وما سيجر إليها سقوطها بيد النصارى الغلاة من عواقب وخيمة على بقية المدن الأندلسية وعلى مستقبل المسلمين على ظهر هذه الأرض، فقال – ناعيا الأندلس ومؤذنا المسلمين فيها بالرحيل - :
يا أهل أنـدلسٍٍ شـدوا رحائلكم
فما المقـام بهــا إلا من الغلطِ
العقـد ينسل من أطرافـه وأرى
عقد الجزيرة منسولا من الوسـطِ
وكان سقوط مدينةطليطلة بداية المأساة؛ فهي أول بلد إسلامي يدخلهالفرنجة، وكان ذلك مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عميقًا. يقول شاعر مجهول يرثي طليطلةفي قصيدة طويلة تقطر بالحزن والأسى مطلعها: ( القصيدة كاملة منشورة بالأسفل )
لثُكلكِ كيف تبتسم الثغـورُ
سرورًا بعدما سُبيت ثغـورُ
يتبع
(في ذكرى وقوعها أكتوبر 1085م )
بقلم: أحمد الظرافي
سنة (92هـ /711م )، فتح المسلمون الأندلس، وبنوا فيها دولة عظيمة، مترامية الأطراف مرهوبة الجانب، كثيرة الخيرات، وأشادوا حضارة زاهيةً زاهرةً، كانت نموذجا يُحتذى، ونهل من معينها كل ظامىء، للعلم والمعرفة، وانتشر الإسلام ومعه لغة القرآن الكريم في كل أرجائها، وظل المسلمون في هذه الأرض أقوياء متمكنين، وفي بحبوحة من العيش، وفي أمنٍ استقرار، لهم الغلبة على عدوهم، والسيادة على أرضهم ومواردهم، ووصلوا إلى درجة مرموقة من التقدم والرقي في مختلف المجالات، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بجوارهم، غارقةً في ظلام دامس.
عصر الطوائف والفتن
لكن الأيام دول، والسعادة لا تدوم، والنواميس الكونية لا يُعفى أحد من الأخذ بها، حتى لو رفع أحسن الشعارات، وحمل أقدس الألقاب والمسميات، فمع القرن الخامس الهجري، وبعد سقوط الدولة العامرية سنة 399هـ/1009 م، ونتيجة لإهمال سنة الأخذ بالأسباب، وانحراف الخلف عما كان عليه السلف، وخلودهم للدعة والراحة، دخلت الخلافة الأموية في الأندلس، طور الضعف والوهن، وأخذت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وبلغ التدهور أقصاه، مع إلغاء الخلافة الأموية في الأندلس، رسميا وإلى الأبد، سنة 422هـ/1031م، ظنا من أصحاب الحل والعقد، أن ذلك هو الحل الشافي للمرض العضال الذي كانت تعاني منه.
وعلى إثر ذلك تمزقت البلاد شر ممزق، وظهرت على أنقاض دولة الخلافة، أكثر من عشرين دويلة ومملكة عرفت تاريخيا بوصفها سيء الصيت " دول الطوائف" وكان أشهرها دويلة بني عباد في أشبيلية، ودويلة بني جهور في قرطبة، ودويلة بني هود في سرقسطة، ودويلة بني ذي النون في طليطلة، ودويلة بني الأفطس في بطليوس، ودويلة بني باديس في غرناطة، ودويلة بني صمادح في المرية، ودويلات عديدة أخرى غيرها.
وخلال حكم هذه الدويلات الطائفية الصغيرة نشبت الفتنة، وضاع الجهاد، وعم الفساد، وانحلت القيم والمثل، وتلاشت عقيدة الولاء والبراء، وانتزع الوازع لديني من القلوب، وكان التناحر والشقاق والحروب الداخلية هو الذي يحكم العلاقة بين أمراء وملوك هذه الطوائف، الذين كانوا في تناقر دائم، مثل الديكة، ولم يكن هناك حدود لتناقضاتهم وخلافاتهم، وكانوا يتسابقون للاستنجاد بالأعداء من نصارى الشمال، ويغدقون عليهم التحف والهدايا للتقرب منهم ويتقربون إليهم بالمحظيات والجواري الحسان، لكسب ودهم، وانقلبت الموازين رأسا على عقب فبعد أن كان النصارى هم الذين يدفعون الجزية، صار أمراء الطوائف المحسوبين على الإسلام: دين العزة والقوة، هم الذين يدفعونها للنصارى كالذميين. وأما الجزية فقد كانت تدفع ذهبا وسلعا ومدنا وقلاعا وحصونا، وتحولت الأندلس إلى ساحة مفتوحة أمام كل مغامر وطامح في السلطة، وكل من به شبق لتبوأ المناصب كيفما اتفق، وكثرت الخيانات بين أبناء البيت الواحد، واستشرت النزعات الانفصالية كالوباء بين القادة والأمراء، وفقد الحكام الثقة بمن حولهم من بني جلدتهم وإخوانهم، فسرحوهم، واستعاضوا عنهم بجيوش من المرتزقة والمأجورين، لحمايتهم والدفاع عنهم، وبالرقيق الأبيض المجلوب من خارج البلاد، ومن أسواق النخاسة. وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمام شعراء المديح المتكسبين وإخوانهم من الشعراء الغزليين، إضافة إلى المغنيين والمطربين، وأصدقاء الكاسات ليلا ونهارا، وأمتلأت القصور بالجواري الحسان من كل جنسٍ ولون.
ومن المفارقات والمضحكات المبكيات، أن أولئك الحكام رغم ما كانوا فيه من استكانة وخضوع وذل وهوان أمام الأعداء، كانوا شديدي التمسك والتباهي بأبهة الخلافة والملك وبالألقاب الجوفاء الرنانة، التي كانوا يطلقونها على أنفسهم، وكانوا حريصين عليها أشد الحرص، وكأنها ضرورة من الضرورات اللازمة للبقاء، ومن تلك الألقاب: الناصر والمنصور والمظفر والمعتمد، وغيرها من الألقاب التي تبعث على السخرية والاستهزاء مقارنة بحقيقتهم، وبما هو جارٍ على أرض الواقع في زمانهم، وصدق فيهم الشاعر وأوضح وأبان عندما قال:
مما يـزهدني في أرض أندلسٍ
أسماء معتمـدٍ فيها ومعتضــدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسدِ
حرب الاستئصال الصليبية
وتزامن ذلك الضعف والتمزق بين مسلمي الأندلس، مع بدء تكتل الممالك المسيحية في شمال ووسط أسبانيا، وإعلانهم ما سُمي في تاريخهم بـاسم " حرب الاسترداد " برعاية البابا والكنيسة الكاثوليكية، وبدعم من القوى الأوروبية، وهذه الحركة بدأت بسيطة ثم نمت وازدادت قوة مع مرور الأيام، وهي لم تكن في حقيقتها سوى حرب صليبية منظمة هدفها طرد المسلمين واستئصال شأفتهم من جميع أنحاء جزيرة الأندلس، ومحو الإسلام وإقتلاعه من الجذور من كل أرجاء تلك الأرض.
وتعاظم الخطر على مسلمي الأندلس بعد ظهور الفونسو السادس ( الأذفونش ) ، ذلك الملك القشتالي القوي الشخصية، وذي الطموح الواسع، والنزعة الصليبية الحاقدة والمتزمتة، والذي نجح في تثبيت وتوطيد الوحدة بين مملكتي قشتالة وليون تحت رايته، بعد أن قامت على يد والده فرديناند الأول، الذي كان هو من وضع الخطوط العريضة لحرب الاسترداد، كما أن الفونسو السادس ضمن في ولاء بقية الممالك الأسبانية الأخرى في الشمال ودعمها لمشروعه.
وفي عهد الفونسو السادس، وتحت قيادته وإشرافه، اشتدت وطأة حرب الاستئصال الصليبية، ضد ملوك الطوائف، فقد جعل هذا الملك من الإغارة على المدن والقواعد الأندلسية شغله الشاغل، وأخذ يوالي الغزوات على تلك المدن ويروع أهلها، ويهلك الحرث والنسل في طريقه في كل مرة، في نفس الوقت الذي كان فيه يضرب أولئك الملوك الصغار بعضهم ببعض، بعد أن صاروا بمثابة قطع شطرنج في يده. وكان يمعن في استذلالهم وفي فرض الجزية عليهم بقوة السلاح والقهر.
ومع كل ذلك فلم يكن راضيا عنهم ولا عن تحفهم أو ذهبهم أو هداياهم، وكان يتعنت في جباية الجزية منهم فلا يقبلها إلا من الذهب الخالص إمعانا في إذلالهم واحتقارهم والاستهانة بأمرهم أمام رعاياهم.
وكانوا كلما أعطوه أزداد غطرسة وعتوا وانفتحت شهيته لطلب المزيد، فكان يريد أمتصاصهم لآخر رمق قبل أن يجهز عليهم ويرميهم عظاما، وكان جهنم كلما امتلأت قالت: هل من مزيد؟
وفي عام 467هـ، انقض بنو ذي النون أصحاب طليطلة، على قرطبة فاستولوا عليها، وقتلوا بها سراج الدولة أبو عمر بن المعتمد بن عّباد. هذا الأخير الذي كان قد انتزعها من بني جهور بالحيلة والخديعة..وقد دفع هذا الحادث المعتمد بن عباد إلى عقد معاهدة سرية مع الفونسو السادس، ملك قشتالة، تمت بمساعي وزيره ابن عمار، المعروف بانتهازيته وأصله الوضيع، والذي كان خير من يجيد كيل المديح شعرا ونثرا، وكان بارعا في فن الوصول، وسياسة التحالف مع أبليس اللعين، وتعهد المعتمد بن عّباد بموجب تلك الاتفاقية، أن يطلق يد الفونسو السادس، في محاربة بني ذي النون أصحاب طليطلة، وأن يدفع إليه ضريبة سنوية، نظير مساعدته له في استعادة قرطبة، وذلك ما كان.
وظل المعتمد بن عبّاد، طوال تلك السنوات، يدفع الجزية، للملك القشتالي ويصانعه ويستعديه على إخوانه – لانتزاع ما تحت أيديهم، وكان هذا هو سلوك ملوك الطوائف الآخرين بشكلٍ عام.
وكان لا بد أن يقع الفأس في الرأس، كي يستيقظ أولئك الملوك الصغار من غفلتهم، وصغارهم. فماذا حدث؟
سقوط طليطلة أو القارعة الكبرى
وظل الوضع في أندلس المسلمين، يسير من سيء إلى أسوأ، ودول الطوائف من ضعفٍ إلى ضعف، بينما نصارى الشمال يتقدمون ويقطعون المراحل، حتى استيقظ أمراء الطوائف على كبرى القوارع، وهي سقوط طليطلة، حاضرة الدولة القوطية السابقة، والمدينة المنيعة وشديدة الأهمية في وسط شبه جزيرة الأندلس، بيد الفونسو السادس، ملك قشتالة المسيحية في 6 من مايو سنة 1085 م ( 478هـ) ، والتي تم تحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة وحيل بين المسلمين وبين العودة إليها رغم الضمانات التي أعطيت لأهل المدينة قبل حادثة السقوط
وكانت طليطلة حينئذٍ قلب الأندلس، وإحدى قواعده الكبرى، ودرة مناطق الثغور.
وكان سقوط طليطلة، وهي عاصمة الثغر الأوسط، قبل سقوط سرقسطة، عاصمة الثغر الأعلى، يعني خرم الخريطة الأندلسية من الوسط وشطرها إلى شطرين وتمزيق شمل المسلمين، وشرذمتهم، وقطع خطوط الاتصال فيما بينهم، والتهام مدن أخرى لا تقل عنها أهمية وتحصينا، وغير ذلك من التداعيات الخطيرة التي تنذر بأفول شمس الإسلام في الأندلس في ذلك الوقت المبكر، وقد عبر الشاعر ابن العسال الطليطلي الزاهد عن تشاؤمه مما جرى، إدراكا منه لأهمية طليطلة وما سيجر إليها سقوطها بيد النصارى الغلاة من عواقب وخيمة على بقية المدن الأندلسية وعلى مستقبل المسلمين على ظهر هذه الأرض، فقال – ناعيا الأندلس ومؤذنا المسلمين فيها بالرحيل - :
يا أهل أنـدلسٍٍ شـدوا رحائلكم
فما المقـام بهــا إلا من الغلطِ
العقـد ينسل من أطرافـه وأرى
عقد الجزيرة منسولا من الوسـطِ
وكان سقوط مدينةطليطلة بداية المأساة؛ فهي أول بلد إسلامي يدخلهالفرنجة، وكان ذلك مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عميقًا. يقول شاعر مجهول يرثي طليطلةفي قصيدة طويلة تقطر بالحزن والأسى مطلعها: ( القصيدة كاملة منشورة بالأسفل )
لثُكلكِ كيف تبتسم الثغـورُ
سرورًا بعدما سُبيت ثغـورُ
يتبع