مشاهدة النسخة كاملة : واجبات الحاكم وحقوق الرعية
يُحكى أن خبيرا نفسيا ، أحضر ستة قرود ـ أجلّكم الله ـ ووضعها في قفص! وعلق في أعلى القفص حزمة موز، وضع تحتها سلما ، بعد مدة قصيرة وجد أن قردا ما من المجموعة اعتلى السلم محاولا الوصول إلى الموز، وما أن وضع يده على الموز، ! حتى أطلق رشاشا من الماء الساخن على القردة الخمسة الباقين وأرعبهم!
بعد قليل حاول قرد آخر أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز، فكرر الخبير نفس ! العملية، ورش القردة الباقين بالماء الساخن ، ثم كرر العملية أكثر من مرة بعد هنيهة وجد أنه ما أن يحاول أي قرد أن يعتلي السلم للوصول إلى الموز حتى تمنعه المجموعة خوفا من الماء الساخن بعد ذلك أبعد الماء الساخن ، وأخرج قردا من الستة إلى خارج القفص، وضع مكانه قردا جديدا السعدان( مثلا ) لم يعاصر هذه التجربة ، ولم يشاهد رش الماء الساخن ، وسرعان ما سيذهب السعدان بطبيعة الحال إلى السلم لقطف الموز، وحينئذ هبت
مجموعة القردة المرعوبة من الماء الساخن لمنعه ومهاجمته ، بعد أكثر من محاولة ! تعلم السعدان أنه إن حاول قطف الموز سينال عقوبة صارمة من باقي أفراد المجموعة. بعد هذه المرحلة ، أخرج الخبير قردا آخر ممن عاصروا حوادث رش الماء الساخن ـ غير السعدان ـ وأدخل قردا جديدا عوضا عنه ، فوجد أن نفس المشهد السابق تكرر من جديد ، القرد الجديد يذهب إلى الموز، والقردة الباقية تنهال عليه ضربا لمنعه ، بما فيهم السعدان على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء، ولا يدري لماذا ضربوه في السابق. كل مافي الأمر أنه تعلم أن لمس الموز يعني الضرب على يد المجموعة ، لذلك ستجده يشارك، وهو في غاية الحماس والانفعال بكيل الضربات للقرد الجديد وربما يعوض بذلك أيضا ما أصابه من الضرب عندما حلّ في القفص. استمر الخبير بتكرار نفس التجربة ، أخرج قردا ممن عاصروا حوادث رش الماء الساخن، وضع قردا جديدا، فتكرر نفس الموقف، كرر هذا الأمر إلى أن استبدلت كل المجموعة ! القديمة في النهاية وجد أن القردة مستمرة في ضرب على كل من يجرؤ على الاقتراب من السلم، لماذا؟ لا أحد منهم يدري! ! لكن هذا ما وجدت المجموعة نفسها عليه منذ أن ! جاءت المغزى من هذه القصة الطريفة لا يخفى على ذي لب ، كما لاتخفى مناسبتها لموضوع مقالنا هذا عندما يمعن فيه القارئ العزيز النظــر، فالوضع الذي وصلت إليه شعوب الأمّة مع حكّامها ، يشبه ما في هذه القصة إلى حد كبير، ولعله من غير المستبعد أن يكون الحكّام قد طبقوا هذه التجربة مع شعوبهم المسكينة حتى لقد وصلت الشعوب إلى حالة سياسية من أعجب أوضاع التاريخ ، فثمة شعوب لاتعرف حقوقها، ولا تريد أن تعرفها، وتعاقب هي من يريد أن يعرفها فضلا عن المطالبة ! بها ، ثم جاءت أجيال إثــر أجيال ، لا تدري لماذا هي هكذا !؟
والعجيب الذي لا يكاد يصدق أن يتكبكب بعض المحسوبين على العلم الشرعي في ذلك القفص وتنجح فيهم التجربة نفسها ، فيبادرون بالزجر والتنفير من يطالب بحقوقه من الرعية أو حتى يسأل عنها ، ويتحدثون ـ دون أن يسألوا أنفسهم كيف صار أمرنا
إلى هذا الحال ويعلمون تلاميذهم ما تعلموه من مشايخهم ولا يسأل أحد كيف ولماذا ؟ ـ يتحدثون دائما عن حقوق ولي الأمر ، وواجبات الرعية ، ويجيبون عن كل سؤال ! يخطر على البال في هذا المجال إلا سؤالين فهما على كل مسلم حرم محـــرم:
: أحدهمـا
ــــــــ
من هو ولي الأمر شرعا وحقا
ما مدلول هذا الإسم الشرعي العظيم
ومتى يستحقه مدّعيه ، ومتى يسلب منه!
وهل له من شروط ، وهل تنقضه نواقض ، أم هو بلا شروط ، ولاينتقض البتة !؟
والأدهى والأمر ، أنك ترى بعض الذين يتكلمون عن شروط كلمة التوحيد ونواقضها فيسهبون، ويجرون أحكام التكفير المنبثقة عن ذلك على آحاد الناس، فلا يعذرونهم بجهلهم فيما لا يعذرون فيه بالجهل ، ويقومون في هذا المقام بالقسط بصرامة المؤمنين الموحدين
فإذا وصل الأمر إلى السلطة التي ليس لمتوليها عندهم شروط ولا ينقض سلطته ناقض ، فليس لأحد أن يسأله عما يفعل ، بل ليس لأحد أن يسأل العلماء عما تفعله السلطة حتى لو هدمت أركان الدين ، وقوضت مبانيه ، وحولت البلاد والعباد إلى أداة بيد الأعداء ليمرروا مخططاتهم على أمتنا ، بأموالنا ، وأيدينا ، وأرضنا ، بل وبدماءنا وكأنك ترى شروط كلمة التوحيد ، ونواقضها ـ عند هؤلاء ـ يقفان عند باب السلطان ، فلا يدخلان إلا بعد تفتيش أمني يسمح بمرور ما يبرئ السلطان من تبعات ما ! يخالفهما !
ولكأنك تسمعهم يقولون إن سأل سائل عن شروط من يتولى الأمر ، أو نواقض سلطته ، وليّ الأمر معلوم ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن بدعة ، والكيف مجهول ! ، ثم يأمرون بك فتجــر برجلك !
ولم يعلموا أن الإمام مالك الذي قال هذه القولة ، إنما قالها في حق ملك السموات والأرض ليزرع هيبة الله في قلوب العامة أن يسألوا عن ذاته وكيفية صفاته، ثم جر الجنود السائل من رجله فأخرجوه من المسجد ، وأما السلطان فكان مالكٌ يقول رحمه الله ( والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه ، إلا نزع الله هيبته من صدري)
وقد نالته محنة من السلطة الجائرة بسبب أنه كان لايرى بيعة المكره بشيء ، وكانوا يكرهون الناس على الحلف بالطلاق في بيعتهــم ، وذكر الذهبي في السير : فغضب جعفر ـ يعني بن سليمان لما ولي المدينة ـ فدعا بمالك ، فاحتج عليه بما رفع إليه عنه ، فأمر بتجريده ، وضربه بالسياط ، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه ، وارتكب منه أمر عظيم ، فوالله ما زال مالك في رفعة وعلـــــو قال الذهبي : هذه ثمرة المحنة المحمودة ، أنه ترفع العبد عند المؤمنين )
8/81 سير أعلام النبلاء
: أما السؤال الثاني فهو
ــــــــــــ
هل للرعية من حقوق ، وما هي حقوقها ، وأين يقع منها حفظ الدين والعقيدة وهي أعظم الحقوق ، وكيف تدافع الرعية عن حقوقها ، وكيف تنتزعها ، هل لها جهات تجبر ولي الأمر على حفظ حقوق رعيته ، أم الرعية قطعان سائمة ، وأمواج بشرية هائمة ، واجبها أن تجعل ولي الأمر ، في رضا دائم ، وبال هانئ ناعم ، لا يكدر خاطره شيء ، ولا يلومه لائم هذا وأحسنهم طريقة الذي يمنحك حق النصيحة السرية ، الحق الأوحد والوحيد للرعية ، وما أدراك ما النصيحة السرية !؟ ثم ما أدراك ما هي !؟
هي أن تبحث جاهدا ليلا في جنح الظلام ، عمن يمكنه من علماء الحكمة ! ! أن ينقذ عندما يصل إلى عتبة الباب العالي دين الإسلام ، فتسرّ إليه بما تخشى منه على عقيدة التوحيد من ظهور موالاة الكافرين ، وانتهاك أساس الدين ، وتقريب المنافقين ، وإبعاد المصلحين ، وإياك أن يعلم أحد بما تفعل ، فتقترف جريمة الخروج على ولي الأمر ، تلك الطامة الكبرى ، والمصيبة العظمى تبحث عمّن يمكنه أن يصل إلى باب السلطان ، فيدخل عليه بعد الإذن ، فيتقدم بالشكر والعرفان ، ثم يهمس في إذنه بعد مقدمة طويلة عن عظيم حقه ، ووفرة نعمه ، وأنه لم يقصّر في شيء ـ حاشا وكلا ـ ولكن ثمة أمر صغير ، وهو جد صغير بل حقير والله جد حقير ، فإن رأى ولي الأمر أن يوليه اهتمامه فهو به جدير ، ثم يهمس في إذنه بحق الرعية عليــه ، من حفظ دينهم ، وأنه أعظم ما وُكــل إليــه فينظر إليه السلطان شزرا ، ويلمح إليه أنه أوشك أن يرتكب منكرا ، ويقتحم خطرا ، لكنه يبتسم ابتسامة المغضب فيقول : سننظر في هذا الأمر بما تقتضيه المصلحة ، فاخبروا الرعية بما يجب عليهم من مراعاة حقنا ، والسمع والطاعة ، والالتزام بالبيعة والجماعة فيتهلل وجه الفقيه الناصح الأمين حتى يكاد يطير فرحا ، ويخرج من عند السلطان مكبّرا مسبّحا ، ثم يجمع الفقهاء ، فيقول لهــم سرا في جنح الليل البهيم اللألْيـَل ! لقد وعدنا ولي الأمر خيرا ، وأن ينظر فيما تقتضيه المصلحة ، فيهـزّ الحاضرون من فقهاء الحكمة! الذين تحولوا إلى جيش النصيحة السرية ، جيش قيمته صفرية ، غير أنه صفر كبير جدا في واقعنـا السياسي ، يهزّون رؤوسهم ، ويرفعون أكف الضراعة أن يحفظ الله ولي الأمر لنا ، ويكلل جهوده بحفظ الدين بالنجاح ، ويبصره بما فيه الفلاح والصلاح
: والحاصل
ــــــ
أن هذا الوضع السياسي المنتكس ، فنكّس ديننا وأمتنا معه إلى أسفل سافلين ، تمّكن من قلوب الناس ، حتى صاروا فيه مثل تلك القصة عن تجربة القرود ، وكأنه قد زرع في قلب كل فرد من الشعب المسكين ، شرطي أقرب إليه من حبل الوتين ، فهو يخاف أن يسأل حتى نفسه عن حقه ، واستحكم هذا الأمر الخطير ، فشب عليه الصغير ، وهرم عليه الكبير ، واصبح المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وعرض للناس ـ حتــــى كثيـر من العلماء ـ من ذلك فساد في فطرهم ، وظلمة في قلوبهم ، وكدر في افهامهم ، ومحق في عقولهم وعمتهم هذه الأمور ، وغلبت عليهم حتى لم يروها منكرا ولئن استمر بنا هذا الحال ، فستأتي دولة أخرى تطمس فيها كل معالم الدين ، باسم الدين ، وتقوم فيها البدع مقام السنن باسم اتباع السنة ، وتقوم شهوات النفس مقام العقل ، ودواعي الهوى مقام الرشد ، والضلال مقام الهدى ، والمنكر مقام المعروف ، والجهل مقام العلم ، والرياء مقام الإخلاص ، والباطل مقام الحق ، والكذب مقام الصدق ، والمداهنة مقام النصيحة ، والظلم مقام العدل....
طرابلسي
10-02-2008, 10:55 AM
بارك الله فيك
فقد قلت بمثله سنة 2000 تعليقا على قصة القرود إنما أنزلتها على مسألة التقليد واتباع السادات والكبراء كفرعون لا أريكم إلا ما أرى فعطل الجمع عقولهم واتبعوا شرع الحاكم كما املاه عليهم علماءهم
بأن ولي الامر لا يسأل عما يفعل وأنتم تسألون دون نسيان بأن شرعيته مستمدة من شرع الله وليس من شرع الشيطان والله المستعان
بارك الله فيك اخي طرابلسي
ما رأيك بهذا المقال؟
عزام
رؤية أبي بكر لنظام الحكم في الإسلام
مقدمة
كان يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً فاصلاً بين نظامين في حكم أمة المسلمين : نظام نزول الوحي وقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظام انقطاع نزول الوحي وغياب الرسول صلى الله عليه وسلم. الوحي نفسه لا ينقطع وجوده في الأمة ما دام القرآن موجوداً "إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 9) ، وما دامت أمة المسلمين تتوارث القرآن جيلاً بعد جيل: "ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا…" ( فاطر 32). فالذي انقطع عن الأمة نزول الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذي انقطع عن الأمة قيادة رسول يحكم بالوحي. "وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى" (النجم 3-4).
الوحي موجود بوجود القرآن، وأمة المسلمين هي خليفة هذا القرآن. ولكن من سيخلف الرسول صلى الله عليه وسلم وما هي طبيعة سلطان هذا الخليفة بعد انقطاع نزول الوحي؟. والدليل على إدراك الأمة بضرورة وجود خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم يتولى أمر الأمة ، أنهم انشغلوا باختيار الخليفة قبل أن يدفن الرسول صلى الله عليه وسلم . الأنصار أرادوا أن يكون الخليفة منهم ، والمهاجرون أرادوا أن يكون منهم. والدليل على ضعف الحديث الذي يقول أن الخلافة في قريش ، أنه لو كان حديثاً صحيحاً لعلم به الأنصار ولما بادروا إلى طلب اختيار الخليفة منهم ، بل وترشيح أحدهم للخلافة . كان يوم السقيفة أو تجربة لأمة المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ومما حدث وقيل في ذلك اليوم نستخلص منه سوابق في عملية الاختيار هي في غاية الأهمية في بناء نظام إسلامي في الحكم .
1-يحق لجماعة من أمة المسلمين أن ترشح عنها شخصاً معيناً ترى أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما فعل الأنصار ، ويحق لجماعة أخرى أن ترشح منها شخصاً آخر كما فعل المهاجرون .
2- يحق لكل جماعة من هذه الجماعات أن تدعو إلى اختيار صاحبها بما تراه من حجج في سبيل اختياره ، كما فعل كل من الأنصار والمهاجرين ( ويلاحظ من يراجع مواقف الأنصار والمهاجرين في يوم السقيفة ، الحكمة السياسية عند المهاجرين عندما قالوا أن العرب في الجزيرة سيكونون أكثر تقبلاً لخليفة من قريش لمكانة قريش بينهم ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان منهم ) .
3- أن مبايعة أحد المرشحين للخلافة التزام ينتهي به الخلاف الذي كان بين الجماعتين قبل المبايعة.
4- أن مبايعة الأمة بما صار يعرف " بالمبايعة الكبرى" بعد " المبايعة الصغرى" ( أي اتفاق الجماعتين على اختيار شخص واحد للخلافة) شرط ضروري لشرعية خلافة الخليفة المنتخب.
وتمثل هذه الخطوات نظاماً في عمليات اختيار الخليفة لأمة المسلمين . واليوم وفي هذا الجيل تتوفر فيه وسائط الاتصال السريع والمباشر يمكن مشاركة أكبر عدد ممكن من أفراد الأمة في هذه الخطوات، ومشاركة جماعات و أحزاب من المسلمين في الدعوة إلى اختيار شخص معين لرئاسة الدولة . والبديل لهذا النظام هو حكم الملأ ( أي الفرد أو العائلة أو القلة القليلة ) وتحكمهم بالأمة .
فنظام اختيار رئيس الدولة خير من نظام حكم الملأ بالوراثة ، لأنه النظام الذي يضمن للناس أن يكون رئيس الدولة مسؤولاً عن قراراته وأعماله وتصرفاته بمقدرات الدولة أمام الله والناس ، وهو وحده ما يضمن سيادة الناس في تلك الدولة على أنفسهم بدلاً من سيادة الملأ. أما بالنسبة للأمة العربية ، فوجود ما يعرف بالدول القطرية وبقاؤها سيظل هو السبب في عجز الأمة عن التصدي بفعالية ونجاح للسياسات اليهودية / الأميركية في التحكم بالعرب وبكل قضية من قضاياهم .
وما لم يؤمن الناس في الأمة العربية أن البلاد العربية كلها، وكل ما فيها من ثروات ، هي للأمة وليس لمن يحكم في هذه الدول القطرية، وما لم يؤمنوا بأن الأمة هي صاحبة القرار في كل أمر عام من أمورها ، ويؤمنوا بوجود نظام سياسي غير نظام الملأ يضمن لها سيادتها على نفسها وعلى ثرواتها، ويمثل إرادتها في القرارات المتعلقة بحياتها وبمصيرها، وما لم يسع هؤلاء الناس جميعاً ، وبالطرق المشروعة إسلامياً ، أن يتجسد هذا النظام في واقع الأمة ، فسيظل مصيرها ومصير كل قضية من قضاياها رهن مصالح الملأ الذي يتحكمون بها.
أصول نظام الحكم
والآن سنبين ما هو هذا النظام؟ ونبين لماذا كان تصور أبي بكر له هو ما يمثل نظام الإسلام في الحكم . وإذا صح استخدام لغة التنظير السياسي لوصف رؤية أبي بكر رضي الله عنه فلقد كان أبو بكر في رأينا أول فيلسوف في التنظير السياسي في أمة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم . أدرك أبو بكر رضي الله عنه أن أهم عمل يمكن أن يقوم به بعد توليه خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد انقطاع نزول الوحي ، أن يبين لأمة المسلمين الأصول الكبرى التي يقوم عليها نظام حكم الأمة ليكون نظاماً إسلامياً ن وهذه الأصول التي استخلصناها من أول كلمة خاطب الأمة بها صغناها بصيغة تصلح لكل جيل من أجيال الأمة .
الأصل الأول : " أنا مثلكم " " وليت عليكم ولست بخيركم " .
إن ولي أمر الأمة لا يختلف عن غيره من المسلمين ، وأنه واحد منهم ، وإن ولاية أمر الأمة لا تعني بالضرورة أن من تختاره الأمة هو خير إنسان فيها . فالأمة لا تملك معايير محددة لتفضيل شخص على آخر في عملية اختيار من ترى أن يتولى أمرها. ويكفي أن الأكثرية فيها تنحاز إلى اختيار شخص على غيره من المرشحين إلى الخلافة ( أو إلى الرئاسة الأولى ) ، وعند ذلك تكون خلافة ذلك الشخص ( أو رئاسته) شرعية ، وعلى جميع فئات الأمة ومختلف الجماعات فيها أن تحترم هذه الشرعية وتلتزم بها حتى وإن كانت في صف المعارضة قبل أن تتم عملية الاختيار.
الأصل الثاني : " وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق . إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات . وإنما أنا متبع ولست بمبتدع " .
رفع أبو بكر رضي الله عنه بهذا الكلام ، والعصمة من الأخطاء عن كل ولي أمر لأمة المسلمين . فقد انتهت العصمة من الأخطاء بوفاة الرسول ، والأمة بدورها لا ينبغي لها أن تطلب العصمة ممن يتولى أمرها، وولي الأمر إذا ادعاها ، أو دل سلوكه ، أو إعلامه على أنه معصوم من الأخطاء ، فإنما يحيي بذلك تراثاً قديماً وجد قبل الإسلام في الحضارات القديمة عندما كان تأليه ولي الأمر ( الملك) عقيدة راسخة ومألوفة ، ويحيي بذلك الاستبداد بالأمة وبفرض إرادته الشخصية عليها وإلغاء سيادتها على نفسها . وهذا النوع من ولاة الأمر لا يزال هو السائد في أكثر البلاد العربية ، وسكوت الأمة عنه قبول بنظام حكم الملأ الذي ينكره الإسلام على نظام الأمة الذي يرضى به الإسلام والذي بينه أبو بكر في هذه المجموعة من الأصول . والمحك في هذه القضية ليس في حسن أداء المستبد ولكنه في استبداده بالأمة ، وحسن الأداء لا يبرر استبداده بالأمة . ثم يؤكد أبو بكر رضي الله عنه في هذا القول أنه "متبع" أي أن ولي أمر أمة المسلمين ملتزم باتباع القرآن والسنة وبالتوجه بهما في إدارته لأمور الأمة .
الأصل الثالث: " فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني " " فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".
اعتراف صريح بأنه ليس معصوماً من الخطأ، وأن ولي أمر الأمة قد يخطىء وقد يصيب في قراراته حتى ولو حسنت النية. واعتراف صريح بسيادة الأمة بالاعتراف لها بأنها هي المرجع في بيان ما تريده هي (الصواب) وبيان ما لا تريده (الخطأ) وهي مصدر العون لما تريده وللدولة، وهي مصدر السلطة التنفيذية لتقويم إساءات ولي الأمر .
وعلى أساس هذا الأصل تكون طاعة ولي الأمر التي يأمر بها القرآن في قوله تعالى: "وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .. " (النساء 59) مشروطة بقناعة الأمة بأن ولي الأمر أصاب في الموقف المعني ولم يخطىء. وهذه الآية في سورة النساء هي الوحيدة التي تضيف طاعة أولي الأمر لطاعة الرسول من بين آيات كثيرة تطالب بطاعة الرسول فقط. وفي هذا الأصل لفتة دقيقة في غاية الأهمية ويجب التنبه لها. فالمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه وباعتراف عمر كان من أعلم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم علماً بالقرآن وبالسنة. فما معنى اعترافه بأنه قد يخطىء وقد يصيب وقد يسيء وقد يحسن في إدارة شؤون الأمة وهو على هذا القدر من العلم بالقرآن والسنة.
المعنى واضح . معناه أن الحكم قد تطرأ عليه قضايا لا يجد لها ولي الأمر مرجعاً محدداً في القرآن أو في السنة ، أو تقتضي تأويلاً لما في القرآن وفي السنة ، ، وولي الأمر المطالب بقرار في تلك القضايا قد يخطىء وقد يصيب في قراره والأمة هي المرجع في مثل هذا التأويل .
وهذا المعنى يصير أكثر وضوحاً بمثل هذا المثل التالي : فمثلاً يأمر القرآن الأمة بأن تعد من القوى العسكرية ما تستطيع إعداده. فهذا الأمر يقتضي مئات بل وآلاف القرارات ، منها ما هو أساسي ومنها ما هو فرعي في عمليات هذا الإعداد المعقدة . وكذلك الأمر في إدارة شؤون الأمة في مجالات الجرب والسلام ، وفي مجالات التربية والصحة والزراعة والصناعة … إلى آخر ما تحتاجه الأمة لتطوير قدراتها البشرية والمادية من علوم وتكنولوجيا .
فمن القرآن والسنة تلتقط الأمة مقاصد الإسلام في هذه المجالات ولكن يبقى عليها تجسيد هذه المقاصد في واقع هذه المجالات ، وهذا التجسيد بطبيعته يخضع للصواب وللخطأ كما يصير مصدراً للخبرة والتجارب. ورأينا أن العلوم الطبيعية وعلوم الأحياء مصدر أساسي لمعرفة آيات الله تعالى في خلقه ، ومصدر أساسي لتسخير هذه العلوم في حياة الإنسان ، ولا غنى لأمة المسلمين عنها ، وعلى الأمة أن تطلبها من كل مصدر وجدت فيه ( اطلبوا العلم ولو في الصين) وعليها أن تشارك في تطويرها . فلقد جعل القرآن العلم أصلاً من أمهات الأصول التي يقوم عليها نظام التوحيد في الإسلام . وعبارات " أعينوني و قوموني " عبارات فعل وعمل ، وتشمل جميع أفراد الأمة البالغين العاقلين . فالأمة هي في أفرادها من منظور ، والأمة هي في تنظيم أفرادها لأهداف الأمة من منظور آخر .
فلا سيادة للأمة إلا إذا كان من حق كل فرد بالغ عاقل فيها أن يصرح برأيه في ما يبدو له أنه خطأ من قبل ولي الأمر ، ومن حقه أن يصرح برأيه في ما يبدو له أنه " يعين " ولي الأمر على تحقيق ما تريده الأمة ، حقوق تلازم إسلامه وانتماءه للأمة . ولا سيادة للأمة إلا إذا كان من حق الجماعات فيها تنظيم أنفسهم إما " التقويم " أخطاء ولي الأمر و" إساءاته" وإما " لإعانته" في تحقيق الأهداف التي تريدها الأمة أو التي يقتضيها الإسلام من الأمة . وللأفراد وللجماعات في الأمة أن يستخدموا الوسائل المشروعة لتجسيد هذه الحقوق من وسائط إعلامية واجتماعات وتنظيمات ودراسات .
وهذه الحقوق وهذه الوسائل يجب أن يضمنها دستور للأمة وتضمنها قوانين معينة ، وإلا بقيت في عالم التمنيات والشعارات . ولا يوجد ما يحرم على الأمة أن تستأنس بتجارب الأمم الأخرى في بناء دستور إسلامي لها يعكس أهمية الإنسان الفرد في نظام التوحيد الذي جاء به الإسلام ، ويعكس سيادة الأمة والقيود التي يجب أن تقيد سلطان ولي الأمر على الأمة وعلى أفرادها، بل على العكس من واجب الأمة ، وحتى لا تكون تحت رحمة المستبدين ، كما كانت لقرون طويلة ( وكما هي في الحاضر ) أن تصنع لنفسها هذا الدستور وأن تضع القوانين التي تضمن للإنسان التمتع بالحقوق التي تلازم إسلامه .
وأرى أنه لا يوجد في القرآن أو السنة ما يمنع تحديد مدة ولاية ولي الأمر . فتاريخ الأمة وحاضرها كله يدل على أن بقاء ولي الأمر في السلطة ولزمن لا يحدده الدستور مفسد لولي الأمر ومفسد للملأ الذين يلتفون حوله . وهنا أيضاً لا يوجد في الإسلام ما يحرم على الأمة أن تستأنس بتجارب الأمم الأخرى وبالحكمة في هذه التجارب في تحديد ولاية ولي الأمر في مدة زمنية معروفة ، ولا يوجد كذلك في الإسلام ما يحرم على الأمة التبصر بتجارب الأمم الأخرى وفي كيفية رصد أعمال ولي الأمر وقراراته ، وفي محاسبته ومحاسبة أعوانه والتبصر بالقوانين والوسائل التي تضمن لها ذلك .
الأمة في اختيار ولي الأمر لا تتنازل له عن سيادتها ولا يجوز لها شرعاً أن تتنازل ، فهي الخليفة للقرآن :" ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا .. " ( فاطر 32)، وهي كما يؤكد لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤسسة الوحيدة في المجتمع التي " لا تجتمع على خطأ" أو "على ضلالة" والمؤسسة الوحيدة التي إذا استحسنت أمراً فهو حسن ( حديث للرسول صلى الله عليه وسلم .
تعود المسلمون على التنازل عن سيادة الأمة بفعل قرون طويلة من الاستبداد بها، وبذلك التنازل الطويل الأمد تعطل في حياتها أهم ما يدعو إليه الإسلام في نظرته إلى الإسلام ، فكان التخلف والضعف نتائج حتمية لذلك التنازل الطويل الأمد، ولذلك التعطيل. ولا توظيف للدين في الإسلام إلا بتوظيف سيادة الأمة وبتوظيف نظرة التوحيد الإسلامي إلى الإنسان. أما تطبيق الأحكام الشرعية فهذه نطاقها محدود، فهذه الأحكام لا تستنفد مقاصد الإسلام في نظرته إلى الأمة وفي نظرته إلى الإنسان . ومنهجها "النصوصي" لا يصلح للكشف عن نظرة الإسلام إلى الإنسان وإلى العلم وإلى التوحيد ، وعما تحمله هذه النظرة من طاقات في التقدم والرقي ، وفي بناء النظم التربوية والسياسية وغيرها .
الأصل الرابع: "الصدق أمانة والكذب خيانة"
الصدق بين ولي الأمر ( أو الدولة ) وبين الناس والدولة " أمانة يحاسب عليها كل من هؤلاء ، والصدق مبدأ أساسي في إدارة شؤون الأمة. فعلى ولي الأمر ( والدولة) ألا يخفي شيئاً عن الأمة في ما ينوي عمله من خطط وبرامج ومشاريع، إلا في ما يتعلق بأمن الأمة . ذلك أن المشاركة المطلوبة من الأمة ومن أفرادها في " إعانة " ولي الأمر وفي " تقويمه " تقتضي توفير المعلومات اللازمة للمشاركة الذكية والفعالة، وتقتضي أن تكون هذه المعلومات في متناول من شاء الحصول عليها .
وكذلك " صدق" أفراد الأمة في كل ما يتعلق بحياة الأمة ، وهذا الصدق المطلوب يقتضي الاعتراف بحق التعبير بوسائل التعبير المختلفة المشروعة، بالكلام وبالكتابة وبغيرها من وسائط التعبير الحديثة، وهذا الحق يقتضي بدوره الحماية الدستورية والقانونية ، وألا يتعرض صاحبه لنقمة ولي الأمر و" ومخابراته " .
و" الكذب " كذب ولي الأمر على الناس ، وإخفاء الحقائق عنهم ، واستخدام وسائل الإعلام لخدمة صورة مثالية لولي الأمر ولطمس الحقائق عن الناس " خيانة " للأمة. وكذلك من جانب أفراد الأمة ، فالكذب من جانبهم وترويج الإشاعات التي لا تستند إلى الحقائق " خيانة " للأمة وكذلك سكوتهم عن كذب وبي الأمر .
ومن الأفكار الشائعة في البلاد العربية اليوم هي أنه علينا أن نحرص على السكوت عما يفضح عيوب الأمة ، وعيوب الدولة كي " لا ننشر غسيلنا الوسخ " علناً وتنكشف حقيقة أوضاعنا لأعداء الأمة. وهذا المبدأ من الرواسب القبلية القديمة عندما كانت القبيلة تحرص على تعظيم ما يحسّن سمعتها وعلى إخفاء ما يفضح عيوبها ، مع العلم بأن أعداءنا لهم وسائلهم في التعرف على حقيقة أوضاعنا وفي مختلف جوانبها، فإن هذا المبدأ لا يخدم أحداً إلا ولي الأمر والملأ من حوله، بل ويشجعه على الإمعان في الاستبداد بالأمة وفي الفساد في الأرض لعلمه بأن الأمة ستختار السكوت عنه وعن أوضاعها، وكأنها قبيلة من القبائل الجاهلية ترى أن المحافظة على سمعة الأمة هي في السكوت عن عيوبها وعن عيوب من يحكمها .
الأصل الخامس : " والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله . والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله " .
فما لم يطمئن الفرد في الأمة أن المساواة أمام القانون مبدأ تحرص الدولة على تطبيقه تطبيقاً مطلقاً ، فالنظام الإجتماعي كله معرض للفساد ولخطر الانهيار. فعندما يدرك القوي أن القانون سوف لا يطاله لقربه من ولي الأمر أو من ملئه، ويدرك الضعيف أن القانون لا يحميه ولا يحمي عرضه وأمواله من القوي المقرب لولي الأمر ولملئه، عندئذ يصير الحرص على التقرب من ولي الأمر ومن ملئه بخدمة مصالحهم الخاصة ، وبالسكوت عنهم في استبدادهم بالأمة وفي تسخير ثرواتها لصالحهم هو البديل لسيادة القانون في حياة الأمة .
ولي الأمر من جانبه يحرص على ولاء الأقوياء وعلى ولاء الجماعات القوية في المجتمع ، ويجد أن بقاءه في الحكم يعتمد إلى درجة كبيرة على أن يضمن لنفسه ولاء هؤلاء بخدمة مصالحهم وبالسكوت عن تجاوزاتهم ، ولذلك حرصت الأمم التي كافحت ضد استبداد ولي الأمر أن يكون القضاء بين الناس في يد غير يد ولي الأمر ، أي أن يكون مستقلاً عن نفوذ ولي الأمر والدولة، وأن يكون تنفيذ أحكام القضاء ، من جهة أخرى ، ملزماً لولي الأمر وللدولة. كل ذلك للمحافظة على حقوق الناس ، الضعيف منهم والقوي ولتقييد سلطان ولي الأمر من استغلال نفوذه للتمييز بين القوي والضعيف خدمة لبقائه ولاستبداده بالحكم. وهذا المبدأ في المساواة أمام القانون كان من أهم المبادىء التي حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيقها حتى ولو كان على " فاطمة " ابنته رضي الله عنها. وأمة تتهاون في تطبيق هذا المبدأ وفي ضمان استقلال مؤسسة القضاء فيه أمة كتبت على نفسها استبداد أولي الأمر بها .
الأصل السادس : " لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله، إلا ضربهم الله بالذل" .
ركّز الإعلام الغربي، وعلى مدى القرن العشرين، تركيزاً خاصاً على اتهام الدين في الإسلام بأنه " دين قتالي " ، وعلى أن " الدين " في تراثهم دين محبة وتسامح. فكيف يكون الإسلام " ديناً " حسناً ما دام يدعو إلى القتال ؟ ترك الغربيون القتال للدولة العلمانية عندهم ورخصوا لها استعمار شعوب البشر، وإبادتهم في بعض الحالات ، كما فعل الأوروبيون في سكان أميركا الأصليين . ومع أن الدين كان الحليف للدولة العلمانية الغربية في استعمار شعوب الأرض تاريخياً ، إلا أنهم وبالوقاحة المعهودة عنهم، يؤكدون على أن " الدين" عندهم بريء من إكراه شعوب أفريقيا وأميركا وآسيا على التنصر. وما الذي يدعو له دينهم؟ يدعو إلى الإيمان بما ينكره العقل البشري.. وإلى عقيدة " الشعب المختار " التي هي أساس العنصرية اليهودية والغربية.
حللوا لأنفسهم تسخير شعوب الأرض باسم الدولة وكان الدين حليفهم في ذلك التسخير ( وفي زيارة لمدينة في المكسيك عام 1958 شاهدت رسوم إبادة من يسمونهم "بالهنود الحمر" سكان البلاد الأصليين ، تملأ حيطان كنيسة تلك المدينة ، وكأن تلك الإبادة تمثل ما أراده إلههم لهؤلاء السكان ) . الدين في الإسلام ليس الدين في التراث اليهودي / الغربي ، ولا الجهاد في الإسلام مثل القتال في ذلك التراث . القتال في اليهودية الغاية منه إبادة أو طرد غير اليهود من فلسطين. هذا هو ما يحرص عليه "إله اليهودية" في كتاب اليهود. والقتال في الغرب مرخص به للدولة العلمانية .
أما الجهاد في الإسلام فالغاية منه تحرير الإنسان من كل تراث يقوم على الإيمان بما ينكره العقل ومن أساطير المؤسسات الدينية الكهنوتية ، وتوجيهه إلى الحق بوعيه لما جعل الله فيه من قوى فطرية وبكيفية توظيف هذه القوى في معرفة الحقيقة في آيات الله في خلقه .
الجهاد في الإسلام انتصار للإنسان ، وليس انتصاراً لمصالح الدولة العلمانية، ولا لاستعباد الشعوب الضعيفة واستغلال ثرواتها.
والجهاد يبدأ بمجاهدة النفس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) ويشتمل على مجاهدة الشر حيثما كان، وعلى مجاهدة الكفار بالأيدي وباللسان كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعندما تغتصب أرض من أرض المسلمين فالجهاد لتحريرها فرض عين على كل مسلم ، وإلا أصيبت أمة المسلمين بالذل كما هي حال العرب مع اليهود. والذل معناه علو شأن أعداء الله اليهود على العرب المؤمنين بالله ، وفي ذلك خسارة لا تقل عن خسارة الأرض . والهجمة على المسلمين وعلى الإسلام في هذه الأيام في الإعلام اليهودي والأميركي والغربي الغاية مها استئصال الاعتزاز بالإسلام من نفوس المسلمين كي يتمكن اليهود والأميركيون والغربيون من إحكام التحكم بالأمة العربية وبأمة المسلمين وبمصيرها .
هم يفخرون بالدعوة إلى حقوق الإنسان وإلى الديمقراطية على المستوى العالمي ، ويقولون أنهم يقاتلون من أجل هذه الأهداف ، مع أن الواقع كله يدل على أنهم يستخدمون هذه الدعوة لأغراضهم القومية. يسكتون عن حقوق الإنسان في فلسطين ، وعن حقوقه في البلاد التي تضطهد المسلمين ، لا يخجلون من هذا التمييز ضد المسلمين، ولا من العنصرية التي تحركهم إلى محاربة المسلمين. وإذا انتفض المسلمون دفاعاً عن أنفسهم وعن أرضهم فيتهمونهم "بالإرهاب" . هذا النفاق ما هو إلا مظهر من مظاهر عقيدتهم اليهودية/ المسيحية التي تميز بين البشر وتقسّم البشر إلى فئتين: فئة "اختارها" الإله في مفهومهم للإيمان به، وفئة أخرى حرمها ذلك الإله من الإيمان به، وحرمت بالتالي من التمتع بالحقوق الإنسانية ومن فضائل الإيمان بالله . لا يخجلون من قتال الناس لأغراضهم الخاصة، ونحن المسلمون صرنا نخجل من القتال من أجل الإنسان الذي أراد الله تعالى التحرر من الباطل وبالتوجه بالحق إلى الحق ، وصار الكثيرون منا يأخذون كلامهم عنا بجدية أكثر مما يأخذون كلام الحق، وهذه الظاهرة علامة من علامات " الذل" الذي تعودنا عليه بترك الجهاد في سبيل الله.
الأصل السابع : " أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله ، فلا طاعة لي عليكم " .
هذا شرط آخر لطاعة ولي الأمر، ذكرنا من قبل أن طاعته مشروطة بتجاوبه مع إرادة الأمة المعلنة في بيان أخطاء ولي الأمر ، وفي بيان ما هو صواب في قراراته وأعماله في إدارة شؤون الأمة، وبتجاوبه في إشراك أفراد الأمة في تصحيح الخطأ وفي إعانته على تحقيق الصواب. أما الشرط الثالث لطاعته فهو في طاعته لله ولرسوله. فإذا عصى الله ورسوله صار تقويم معصيته واجبا على الأمة وعلى أفرادها ( فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ) . ولكن ماذا إذا كانت معصية ولي الأمر تهدد كيان الأمة ووحدتها واستقرارها؟ وهل تكتفي الأمة بعدم طاعته في هذه الحالات؟ وهل تكتفي الأمة بمثل هذا الموقف السلبي عندما يقرر ولي الأمر التنازل عن حقوق المسلمين وعن أرضهم ؟ أو عندما يسخر ثروات الأمة لمصالحه الشخصية ولأهوائه ؟ أو عندما يفصل المسلمين بعضهم عن البعض الآخر باسم " السيادة" على أرض معينة ( أي الدولة القطرية) ويميز بين المسلمين بين "مواطن" و"أجنبي غير مواطن " ، ويحرم سائر المسلمين من دخول البلاد التي يحكمها والإقامة فيها والعمل فيها…؟ إلى غير ذلك من قضايا أفرزها وجود الدولة القطرية؟ .
فهل يعصي الحاكم لله ورسوله في هذه الحالات؟ وما هو موقف الأمة وموقف أفرادها ، بمن فيهم من هو " مواطن" في دولة ولي الأمر هذا، من هذه المعصيات؟
نرى أن الثورة بالعنف قد تحمل مخاطر لا تقل خطراً عن السكوت عن هذه المعصيات ، ونرى أن أمر المسلمين يجب أن تكون بنظام الانتخاب لا الوراثة، وأن تحدد ولاية شخص معين بزمن محدد يحدده دستور الأمة. بمثل هذه الإجراءات فقط يضطر ولي الأمر للتجاوب مع ما تريده الأمة . أما وحدة الأمة وتجاوز ما خلفته الدولة القطرية في حياة العرب والمسلمين ، فهذه يجب أن تصير هدفاً سياسياً للناس في كل بلد من هذه البلاد ، فنختار من تختاره على أساس التزامه بتحقيق وحدة الأمة.
والمطالبة بوحدة الأمة قد تكون مطالبة بوحدة فيدرالية تجمع الأمة تحت مظلة سياسية واحدة مع المحافظة على "ولايات" بديلة للدولة القطرية الموجودة في الحاضر. هذه الوحدة يأمر بها القرآن وتقتضيها مصالح الأمة العليا كي لا تظل أمة مستضعفة وبحاجة إلى حماية أميركا أو غيرها ، وكي تسعى إلى ما وجدت من أجله من غايات . ووحدة أمة المسلمين في هذا العصر تقتضي تجاوز ما خلفه التاريخ من تمزيقها إلى طوائف . فالأسباب التي جزأت وحدة الأمة أسباب قديمة ، وفي هذا العصر لا مبرر لها إلا قوة الإستمرار والتنشئة التي ينشأ عليه أفراد الطائفة . والإسلام الذي يجمع بين هذه الطوائف هو الإسلام الذي نزل به القرآن وتوجهت به السنة .
وهذا الإسلام يقوم نظام الدين فيه على أساس نظرة إلى الإنسان تميز بها الإسلام، وجعلت الإنسان الفرد المسؤول عن مصيره في هذه الحياة ، وذلك بوعيه هو بما جعل الله فيه من قوى فطرية وبوعيه بكيفية توظيف هذه القوى في معرفة آيات الله تعالى في خلقه سعياً منه لمعرفة الله والإيمان به تعالى . هذه النظرة إلى الإنسان هي نظرة القرآن والسنة له ، وهي النظرة التي تجمع بين أفراد أمة المسلمين ، وهذه النظرة تدعو إلى نظام في التربية هدفه تربية هذا الإنسان . هذه هي الأرضية الأساسية التي يقتضيها إسلام الإنسان لله تعالى، وبهذا النوع من التربية تترسخ الهوية الإسلامية في كل مسلم ، وفي كل بلد من البلاد العربية .
أما تعبد المسلمين لله فالعبادات معروفة ( وتقوى الأفراد لا يعلمها إلا الله ) . وإذا اختلفت مذاهب المسلمين في بعض التعبد ، فوحدة الأمة هي الأهم . وحتى مع وجود هذه الاختلافات الفرعية فكل المذاهب الرئيسة تصلح للتعبد ، ولا مبرر لتجزئة الأمة إلى طوائف .
أما تاريخ المسلمين فيجب إعادة كتابته خالياً من العصبيات الطائفية وأن يُكتب من منظور نظرة الإسلام إلى الإنسان وإلى العلم وإلى التوحيد ، ليتحرر هذا الجيل ، وأجيال المسلمين اللاحقة ، من عصبيات ينشأون عليها وكأنها من صلب الإسلام الذي نزل به القرآن وتوجهت به السنة . عندئذ فقط سنتعلم من أخطائنا ، وسيعلم مواطنونا ما يحمله الإسلام من طاقات في التقدم والرقي الحضاري ، وسندرك لماذا كان الحرص على وحدة الأمة واجب على كل مسلم .
الأصل الثامن : " ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء "
هذا ، ويقول الله تعالى في كتابه العزيز : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ... ) الإسراء 16 . وتاريخ البشر كله يدل على أن شيوع الفحشاء من أكبر الأسباب في تدهور الأمم وانحطاطها، وتدل هذه الآية على أن هذا الانتشار يبدأ في سلوك الطبقة الغنية في المجتمع . ومع انتشار التلفزيون ، وانتشار الأفلام والمجلات والكتب في مواضيع الجنس المكشوف ، يزداد شيوع الفحشاء في المجتمعات الغربية وفي بعض المجتمعات الفقيرة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية . فازداد تعاطي المخدرات إلى نسب عالية في أميركا وأوروبا ، وبازدياده ازدادت جرائم السلب والنهب والقتل لتوفير الأموال اللازمة لشراء المخدرات ، وصار الزنا من السلوك الطبيعي المألوف، واللواط بين الرجال والسحاق بين النساء من ضمن الدعوة إلى حقوق الإنسان . وفي المجتمعات الفقيرة ازدادت التجارة بالبنات الصغيرات وبالصبيان لإسباع شهوات السواح من البلاد الغنية ... إلى آخر ما هنالك من إسراف في الفحشاء .
ما هو دور الاسرة ؟ وما هو دور التربية ؟ والمدرسة ؟ والإعلام ؟ والدولة ووزرائها المعنية في دفع هذه المخاطر عن المجتمعات العربية والإسلامية ؟ هذه الأمثلة تحتاج إلى برامج تثقيفية فعالة في مخاطبة الكبار والصغار في المجتمع . واستخدام القانون وحده بغرض القمع في هذه الأحوال قد يؤدي إلى نتائج عكسية . ولكن يجب أن يكون القانون حاداً ضد دخول المخدرات وتوزيعها ، وضد دخول الأفلام والمجلات والكتب في الآداب المكشوفة .
الأصل التاسع : " قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله "
العبادات والصلاة خاصة من أهم الأصول التي يقوم عليها نظام الحياة في المجتمع الإسلامي . وأسرار هذه العبادات ومنافعها معروفة .
ولكن يجب التذكير بها في المجتمع المعاصر لأنها صارت مقترنة بسلوك المحافظين غير التقدميين في فكر من يظنون أن تحديث المجتمع يقتضي الانسلاخ عنها، وفي فكر من يظنون أن الحضارة هي في تقليد الغربيين وفي ترك ما ليس موجوداً عند " العلمانيين" منهم .
الوقوف أمام الله فرداً والوقوف مع الجماعة أمام الله جماعة ، يعمق في المسلم إسلامه لله تعالى وما يعنيه هذا الإسلام في حياته الخاصة وفي سلوكه في المجتمع ، ويعمق فيه الإحساس بوجود الأمة وما يعنيه وجودها في حياة الناس فيها وفي حياة البشر .
ومن المستحسن أن يذكر الإمام في صلاة الجمعة بقوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) النحل 90 . تجتمع في هذه الآية أهم القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية . فكلمة العدل كلمة جامعة لمعنى المساواة المماثلة ، تشمل العدل بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ونفسه ، وبين الإنسان وغيره من الناس ببذل العون وترك الخيانة والإساءة إليهم .
والإحسان يُطلق على كل شيء حسن في الفكر وفي العمل ، فيطلق على حسن العمل وإتقانه، " وأحسنت إلى " فلان " تعني أوصلت إليه ما ينتفع به . وينهي عن الفحشاء أي عن كل قبيح في القول أو في الفعل والمنكر أي عن ما ينكره الشرع وتنكره الفطرة والبغي أي عن التطاول على الناس بالظلم والعدوان .
الخلاصة
هذه الأصول التسعة هي الأصول الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام ، كما رآها أول خليفة لأمة المسلمين ، وبدونها مجتمعة لا يستقيم هذا النظام ولا يكون إسلامياً في الحكم . وهذا النظام نظام للأمة ونظام لكل مجتمع من مجتمعات المسلمين ، ويقوم أصلاً على الاعتراف بأن رئيس الدولة لا يختلف عن سائر الناس في المجتمع ، وبأنه قد يخطىء وقد يصيب في قراراته حتى وإن كان صادق النية ، حتى وإن كان عالماً بالقرآن وبالسنة . ويقوم أصلاً على الاعتراف بأن الأمة ( أفراداً أو جماعة) هي المرجع في بيان الخطأ وفي بيان الصواب في قرارات رئيس الدولة، وعلى رئيس الدولة واجب بأن يطيع ما تراه الأمة . ويقوم أصلاً على الصدق بين رئيس الدولة وبين الناس ، وعلى تجنب مخادعة الناس بالكشف عن كل ما تفعله الدولة ( إلا في ما يخص أمن الدولة ) لتكون مشاركة الناس في أمور المجتمع عن وعي وعلم .
ويقم اصلاً على أساس المساواة أمام القانون ، وعلى أساس معاقبة من يميز بين الناس في تطبيق القانون إن كان رئيس الدولة أو أي شخص آخر من الدولة . ويقوم أصلاً على التزام الأمة والدولة معاً بالجهاد في سبيل الله أي الجهاد بوسائله المختلفة في سبيل الانتصار إلى الإنسان كما يراه الإسلام، وإلى العلم كما يراه الإسلام ، وإلى الحق والعدل كما يراه الإسلام ، وعلى الحذر من انتشار الفحشاء وأنواعها ووسائلها بالتربية وبالتثقيف وبالإعلام وبتطبيق القانون على من ستسبب بهذا الانتشار. ويقوم أصلاً على شكر الله تعالى بالتعبد له بالصلاة وبغيرها من العبادات . كانت رؤية أبي بكر رضي الله عنه ، رؤية لمجتمع يلتقي أهله وجهاً لوجه . وفي المجتمع الكبير يتعذر ذلك على الناس ، ولقد اخترعوا في التجربة الغربية مجموعة من الإجراءات للتعويض عن اللقاء وجهاً لوجه ، إجراءات كلها لضمان سيادة الأمة على ولاة أمرها ومن بيده السلطة التنفيذية ، فاخترعوا تمثيل الأمة بانتخاب من ينوب عنها ، واجتماع هؤلاء النواب بانتخاب من ينوب عنها ، واجتماع هؤلاء النواب في مكان واحد معين ، وتكليفهم بمراقبة أعمال الدولة وبمطالبتها بما يريده الناس بالتشريع وبغيره . واخترعوا وثيقة أساسية ( أي الدستور) تبين مجموعة من الحريات والحقوق تحمي الإنسان من بغي من بيده السلطة وتيسر له المشاركة في شؤون الأمة ، وتبين السلطات الأساسية في الدولة ، ونطاق كل منها ، فتبين أولاً السلطة التنفيذية وثانياً التشريعية وثالثاً القضاء والعلاقات بين هذه السلطات الثلاث. اخترعوا كل ذلك في الغرب ، وطوروه ليتحرروا من سلطان الملوك ( الذين كانوا يدّعون أن ما يريدونه من الناس يمثل مشيئة الله ) وليتحرروا من سلطان الكنيسة .
لم يكن في نظام الدين في الإسلام كنيسة ، ولا كان فيه ملك أو خليفة يحق له أن يدّعي أن إرادته تمثل الإرادة الإلهية ، ولكن كان في تراثنا نظام الاستبداد بالناس بالقوة ، وهذا هو النظام الذي تعودنا عليه وتعود عليه الحكام على مدى قرون طويلة . فكان إلغاء سيادة الأمة . وإلغاء مسؤولياتها عن نفسها ، وانفراد الحاكم بالحكم هو النمط الذي خضعت له الأمة ، وبلغة القرآن ، كان نظام الحكم في المجتمعات الإسلامية نظام الملأ الذي ينفرد فيه فرد أو فئة المترفين بالحكم، ولا يزال هذا النظام هو السائد في البلاد العربية. وبسيادة نظام الملأ تخضع الأمة إلى نظام من الشرك بالله ، وإلى نظام يتناقض تناقضاً كلياً مع نظام التوحيد الذي هو الأصل الأم لكل نظام في المجتمع الإسلامي إن كان سياسياً أو تربوياً أو غيره، ولم نتعلم كيف نطلب هذه النظم من نظام التوحيد بسبب طغيان منهج الفقهاء في طلب موقف الإسلام من الديمقراطية ومن حقوق الإنسان .
فبعض المفكرين في هذا العصر استحسن نظام الديمقراطية ، فأراد أن يبين أن الإسلام يتسع لكل شيء حسن . وبفعل التعود على المنهج "النصوصي" فتش هؤلاء عن نصوص في القرآن وفي السنة تبين أن الإسلام يدعو إلى نظام ديمقراطي في الحكم ، ووجدوا في النصوص التي تأمر بالشورى ضالتهم . لم يدرك هؤلاء أنهم وضعوا الإسلام في موضع المحاكمة بمعايير من خارجه، وجعلوا المعايير الغربية المرجع في الحكم عليه ، كما أنهم لم يعرفوا من أين يطلب نظام الحكم في الإسلام . مبدأ الشورى جزء من نظام الحكم في الإسلام ، ولكنه ليس المرجع الأصلي لطلب هذا النظام . في هذا الفصل بينا من أين يطلب هذا النظام ؟ ولماذا يجب أن يطلب من نظام التوحيد؟
وبينا أن رؤية أبي بكر هي التعبير الصحيح والصادق لهذا النظام . وأشرنا إلى كيف يمكن تطوير رؤية أبي بكر في المجتمع الكبير تطويراً يضمن سيادة الأمة ويضمن عدم انفراد الحاكم بالحكم وخضوعه لسيادة الأمة.