أحمد الظرافي
09-23-2008, 12:04 AM
مشهد تمثيلي ( أبو يوسف القاضي يعظ الخليفة هارون الرشيد )
بقلم: أحمد الظرافي
مقدمة لا بد منها:
قدم أسد الثغور من بلاد طرطوس في أقصى شمال الشام ، إلى بلاط الخليفة هارون الرشيد شاكيا بحاكم الولاية ، ولما عرض قضيته على الرشيد، قوبلت بالتكذيب من قبل بعض الوزراء والمستشارين وألبسوا الأمر على الرشيد، وعندئذ قرر الرشيد استدعاء أبي يوسف القاضي للبت في القضية.
*****
الكاميرا على هارون الرشيد وهو يقول:
الرشيد: ها أنت قد عرفت قضية هذا الرجل الثغري وما أثير حولها
من جدل بين يدي أمير المؤمنين وأنا أريد منك أن تشفي غليلي في
هذا الأمر كله ، فأدركني بما عندك يا أبا يوسف ؟
تتراجع الكاميرا فنراه يجلس على أريكته وأبو يوسف قاضي القضاة
ماثلا أمامه ( شيخ وقور في الثمانين من عمره ، تسترسل لحية بيضاء
متوسطة تحت ذقنه ) ويبدو مجلس أمير المؤمنين قد التئم من جديد للنظر
في قضية أسد الثغور يتحامل أبو يوسف على النهوض ، قبل أن يقول
- بثقة وبلغة العالم المتمكن والقاض الفطن المجرب الأريب :
أبو يوسف: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأيده بالحق، وأيد الحق به،
وجعله ذخرا للإسلام والمسلمين..يا أمير المؤمنين، إن ولاية أمر الأمة
أمانة من أعظم الأمانات وإن الله سبحانه وتعالى قد قلدك إياها ، وابتلاك
بها ، وأصبح مآلك ، إما إلى ثواب من أعظم الثواب ، وإما إلى عقاب ،
من أعظم العقاب ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن من أحب الناس إليّ
وأقربهم مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل ، وإن أبغض الناس إليّ يوم
القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر" .وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ،
عندما سأله أن يوليه : " يا أبا ذر ، إنها أمانة ، وهي تأتي يوم القيامة
خزي ، وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى ما عليه فيها "
قال ذلك ورفع يده فبانت المسبحه بين ثنايا أصابعه.
وبلهفة الحريص على الإستفادة سأله الرشيد:
الرشيد: وما هو حقها يا أبا يوسف ؟ ما هو حقها ؟
أبو يوسف: إن أحق ما تعهد به الراعي من رعيته ، يا أمير المؤمنين -
كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - هو تعهدهم بالذي لله
عليهم ، في وظائف دينهم ، الذي هداهم الله له، وإنما على الراعي أن
يأمر رعيته بما أمر الله به من طاعته ، وأن ينهاههم عما نهاهم عنه
من معصيته ، وأن يقيم أمر الله إلى قريب الناس وبعيدهم ، ولا يبالي
على من كان الحق.
الرشيد: فيما يتعلق بولاتنا وعمالنا ، في الأمصار ، وفي الحواضر
والثغور ، فنحن لا ندخر وسعا، ولا نالوا جهدا في اختيار الأكفأ ،
والأصلح ، والأتقى لله منهم ، لكي يباشروا أمور الناس ، ويعملوا
فيهم بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نيابة عنا ،
فهل على أمير المؤمنين ، من وزرهم شيء ، إذا ما فرطوا في
أماناتهم ، التي ائتمنوا عليها يا أبا يوسف ؟
أبو يوسف: يا أمير المؤمنين، إن اختيارك لولاتك بالصفات والخلال
التي ذكرت بادرةٌ طيبة ، وخطوة حسنةٌ ، في الاتجاه الصحيح ..
ولكن مسئولية أمير المؤمنين – أبقاه الله وسلمه - لا تقف عند هذا
الحد ،ولكنها تمتد لتشمل متابعة ومراقبة أعمال أولئك الولاة والعمال
، حتى لا تسول لأحدهم نفسه الاستبداد برأيه ، والتصرف في أمور
الناس على هواه، فإن ذلك إن حدث فهو الفساد كله يا أمير المؤمنين
قال تعالى: ( ولو أتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ) .
وعلاوة على ذلك محاسبة أولئك العمال والولاة - إن هم أساءوا
أو فرطوا في أماناتهم -بحيث يعزل الجائر ويقوم المائل ، ويثاب
المحسن ، ويعاقب المسيء . فإنك إن فعلت ذلك يا أميرالمؤمنين تكون
+ قد قمت بواجبك وأديت أمانتك ، وبرئت نفسك أمام الله ، وأمام الرعية
..وبعد ذلك فإن ما خفي على أمير المؤمنين من مظالم الحكام، فهم وحدهم
مسئولون عنها أمام الله وليس عليك منها شيء وإن كانت كزبد البحر.
يكرر الرشيد الجملة الأخيرة وهو يتطلع مبتسما نحو أبو يوسف
الرشيد : وإن كانت كزبد البحر يا أبا يوسف ؟
أبويوسف : أجل يا أمير المؤمنين وإن كانت كزبد البحر ، لأن الغيب لايعلمه
إلا الله - إلا أذا أغمضت عينيك عنهم وتركت لهم الحبل على الغارب.
ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدقق كثيرا
في اختيار ولاته وعماله فكان يختار ولاته من الزاهدين الورعين والتقاة
الصالحين والأمناء الصادقين الذين يهربون من الولاية والأمارة - مع قدرتهم
عليها وكفاءتهم لها - ورغم كل ذلك فقد كانت عيناه دائما مفتوحة على أعمالهم
وكان يجتمع بهم كل عام في مكة في موسم الحج فيسألهم ويحاسبهم على كل
صغيرة وكبيرة ويقتص منهم على رءوس الأشهاد إن هم ظلموا أو فرطوا
أو تبعوا الهوى في سياسة الناس.
الرشيد: وماذا عن الناس الذين يأتون الينا من الأمصار شاكين أو متظلمين
من هذا الوالي أو ذاك ؟ أهناك ضيرٌ في إعادتهم إلى ولاة وقضاة الأمصار
، إذا كنا نعلم أنهم ولاةً أو قضاة صالحين وعرفنا منهم الأنصاف ، وعدم
الجور ، ولم نسمع عنهم شيئا خادش لسمعتهم أو قادح في عدالتهم ؟ أم ماذا
ترى يا أبا يوسف ؟.
أبو يوسف: بل الأولى يا أمير المؤمنين أن يظل بابك مفتوحا ، لكل مظلوم
ولكل ذي حاجة ، على الدوام ، فإن أمير المؤمنين - بعد الله - هو ملجأ
المظلومين والمحتاجين ، وناصر الضعفاء والمقهورين ، وأبو الأرامل
والأيتام والمساكين ، وإن هؤلاء الناس ، ما كانوا ليكلفوا أنفسهم وعثاء
الطريق ، ومشقة السفر ليقدموا إليك ويزدحموا ببابك ، لو أنهم وجدوا
العدل والأنصاف في بلدانهم ، فبمن يلوذ هؤلاء يا أمير المؤمنين ، إن
أنت أغلقت بابك دونهم ، ولم تسمع لشكواهم ، أو تقضي حوائجهم؟ وإنما
يلوذ الناس بخليفتهم وإمامهم عند الضرورة وفي الكروب والملمات.
الرشيد : المشكلة يا أبا يوسف أن الذين يأتوننا ، للشكوى من الثغور ،
أو الأمصار ، أن البينة تعوزهم ، ونحن لا نملك دليلا على صحة
كلامهم ، من عدمه ، لأن الدليل غير متيسر أو متاح أمامنا في الحال
، فكيف ننظر في شكاواهم ، ونفصل فيها ، والأمر مبهم ومشكل على
هذا النحو ؟ وماذا لو كانت الشكوى بقصد الوشاية أو النكاية بهذا الوالي
أو ذاك كما زعم البعض في مجلسنا هذا.
أبو يوسف: إن كل متظلم يدلي بمظلمته بين يدي أمير المؤمنين يجب أن
يُحمل على الظاهر ، وليس من الدين في شيء أن يتهم أحدٌ أحدا ، بأنه
جاء مغرضا ، أو مفسدا أو أنه مارقٌ عن الدين لأن أحدا لا يعرف ما في
قلوبهم ، ونحن غير مأمورين بمعرفة ما تكنه القلوب ، فالرسول عليه
الصلاة والسلام يقول: " لم أؤمر أن أشق على قلوب الناس ولاعن بطونهم "
ويقول رب العزة " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى "
فيكون من حق هؤلاء عليك يا أمير المؤمنين ، أن تفتح أبوابك لهم وأن تسمع
منهم ، وتنظر في شكاواهم بعين الحق والعدل ، قدر جهدك يا أمير المؤمنين
، وفي ضوء قوله تعالى " فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة " .
وما أراه يا أمير المؤمنين ، هو أن تنظر بعين الأنصاف والعدل في مسألة
هذا الرجل الثغري ، فإنه أن ثبت أن ما قاله صحيحا فستدفع خطرا عظيما
عن الإسلام والمسلمين قبل وقوعه ، وإن كان غير ذلك فانك لن تخسر شيئا
وسيتحمل هو وزر ما قال وستكون سبة له ، وأثما يطارده أبد الدهر ، ويوم
القيامة .. وهكذا كان نهج عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدين من قبلك .
فانهج نهجهم يا أمير المؤمنين فإن في ذلك جسر النجاة في الدنيا ، والفوز
برضوان الله ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى .
يتدخل الفضل بن الربيع فيقول - محتجا على أبي يوسف - :
الفضل: ماذا دهاك يا أبا يوسف ؟ إنك تكلف أمير المؤمنين أعمال عمر
بن الخطاب ، والخلفاء الراشدين ، وذاك عالم قد مضى وانقضى ،
ورعية أمير المؤمنين ليسوا مهاجرين ولا أنصارا.
يتبعه جعفر البرمكي ، والذي يقول - مزايدا على كلام الفضل بن الربيع
وكأنه قد وجد فرصته أخيرا للكلام ولإفحام أبي يوسف :
جعفر: الحق معك يا بن الربيع , وأنا أؤيد ما قلته . فإذا كنت يا أبا يوسف
تطلب من أمير المؤمنين أن يسلك سلوك عمر بن الخطاب ، فهات له رعيةً
مثل رعيته من الصحابة الأبرار، وهات له رجالا من حوله ، كالرجال الذين
كانوا حول عمر بن الخطاب ، أمثال عثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب
كرم الله وجهه ، وبقية الستة من أصحاب الشورى رضوان الله عليهم ؟
يظهر أبو يوسف طبيعيا غير متأثر بذلك النقد أو آبه به ، ويضيف برحابة
صدر ، ومتوجها نحو الرشيد بوجهه وخطابه:
أبو يوسف: اعلم يا أمير المؤمنين أن بعض من كان قبلكم ، من ملوك
بني حربٍ ومروان ، والذين استأثروا بأمر الناس بعد الخلفاء الراشدين
، قد اتخذوا من اختلاف الزمان وتغير الناس ، وسيلة للاستمرار والبقاء
في الحكم ، وربما وليجة للتمادي في الظلم والجور ، وذريعة لعدم إقامة
العدل ، فلماء جاء عمر بن العزيز رضي الله عنه أبطل هذا القول ،
وبرهن على زيفه ، وعدم صحته ، فحكم وأخلص لله ، فملأ الدنيا عدلا
، ولم تكن رعيته من الصحابة الأبرار، كما لم يكن حوله رجالا كالرجال
الذين كانوا حول عمر بن الخطاب.
يستمر أبو يوسف في وعظ أمير المؤمنين وهو يستزيده ..نتابع ذلك
من خلال الصورة فقط. لحظات ويعود الصوت ونرى الرشيد وهو
ينحني برأسه بعد أن يجهش في البكاء. تسود لحظة صمت لا يسمع
خالها سوى نشيج الرشيد ، عند ذلك يتدخل أولئك الثلاثة أحدهم بعد
الآخر ، وكأن الفرصة قد واتتهم للنيل من أبي يوسف ووصمه بالغلط
. يبتدأهم عبدالله بن المهدي بالقول زاجرا له ، وبلهجة المشفق على
أمير المؤمنين وكأن ذلك يغره :
عبد الله: كفى يا أبا يوسف !! كفى !! لقد أثقلت على أمير المؤمنين،
وكدرت عليه مجلسه.
جعفر: كان عليك أن تحسن السياسة في نصح أمير المؤمنين ، لا أن تسرف
في وعظه على هذا النحو.فما هكذا والله تكون النصحيحة يابن يعقوب .
ابن سهل: أجل، يا أبا يوسف، إن هذا لهو الإسراف بعينة. وأمير المؤمنين لم
يحضرك لمثل هذا ، فهيا يا أبا يوسف أعتذر من أمير المؤمنين ، أعتذر منه .
يرفع هارون الرشيد هامته ، وينظر إليهم باستياء ، قبل أن يخاطبهم
موبخا لهم قائلا بنبرة حزينة باكية من خشية الله –
الرشيد: كفوا عن هذا ، ويحكم !! ودعوا أبا يوسف وشأنه ، وليعظني بما يريد
، فما أنا ممن يغره قولكم هذا يابطالون ، ولا أنا مسرور بسماعة ، قاتلكم الله
!! إن المغرور من غررتموه ، والسعيد من بعدتم عنه ، وإني لظلوم لنفسي
إن لم يسامحني ربي .
يظهر الثلاثة وقد كسى السواد وجوههم ، وسكتوا وكأن كل منهم قد القم حجرا
، ويبدون في أماكنهم وقد ازدادوا قماءة ، حتى كأنهم أصغر مما كانوا عليه
من قبل . ينظر الرشيد إلى أبي يوسف نظرة إعجاب ، ويقول حامدا له
نصيحته ومثنيا عليه :
الرشيد: جزاك الله خيرا يا أبا يوسف، ولا حرمنا من علمك وفقهك ، وسداد رأيك ،
لقد قلت فصدقت ونصحت فأخلصت ، وأرشدت فهديت ، والله لولاك لهلك الرشيد
. وإني أسأل الله العلي القدير أن يعينني على القيام بمسئوليتي تجاه هذه الأمة خير
قيام ، وأن يسدد خطاي ويلهمني الحق والصواب وأن يتولاني برحمته ، ويتوفني
مسلما ، وليس عليّ مظلمة لأحد من المسلمين ، إنه سميع مجيب .
يحول النظر إلى أسد الثغور فيقول:
الرشيد: وأنت يا أخا الثغـور ، طب نفسا ، وقر عينا ، وعد إلى ديارك سالما
أو أبقى - إن شئت - ولن يمسك أحدا بسوء . فقد نظر أميرالمؤمنين في قضيتك .
يتطلع إليه أسد الثغور بفرحه مشوبة بالحذر ويقول متسائلا - وكأنه لم يفهم ما قاله–
أسد الثغور: نظر أمير المؤمنين في قضيتي ؟
الرشيد: أجل . منذ أول يوم عرضتها علىّ، وإن العيون الذين كلفوا بالتحقق
من شكواك لهم الآن في طريقهم إلى الثغور .
يضيف موجها الخطاب للجميع
الرشيد:إنما عمدت إلى إحضار أبي يوسف والسمع منه ليزداد يقيني ، وليطمئن
قلبي ، وحتى تعلم بطانتي بما كلفني الله به ، وتعـرف واجبها وما ينبغي عليها
نحوي ، فتعـمل على مساعدتي ، وعوني لتحقيق العدل .
ينظر إلى الكاميرا قائلا : - وهو يختتم كلامه -
الرشيد: وإن واجب بطانة كل حاكم هي كلمة الحق ، ومن لم يكن أهلا لذلك ،
فعليه أن يجلس في بيت أبيه وأمه .
يبتسم أسد الثغور ، ويتطلع نحو يزيد بن مزيد الشيباني، بوجه
متهلل ،ويمدا أيديهما ويتعانقان فرحا.في الوقت الذي يغشى
السواد فيه وجوه أولئك الثلاثة ويسقط في أيديهم .
--------------------
قطـع
بقلم: أحمد الظرافي
مقدمة لا بد منها:
قدم أسد الثغور من بلاد طرطوس في أقصى شمال الشام ، إلى بلاط الخليفة هارون الرشيد شاكيا بحاكم الولاية ، ولما عرض قضيته على الرشيد، قوبلت بالتكذيب من قبل بعض الوزراء والمستشارين وألبسوا الأمر على الرشيد، وعندئذ قرر الرشيد استدعاء أبي يوسف القاضي للبت في القضية.
*****
الكاميرا على هارون الرشيد وهو يقول:
الرشيد: ها أنت قد عرفت قضية هذا الرجل الثغري وما أثير حولها
من جدل بين يدي أمير المؤمنين وأنا أريد منك أن تشفي غليلي في
هذا الأمر كله ، فأدركني بما عندك يا أبا يوسف ؟
تتراجع الكاميرا فنراه يجلس على أريكته وأبو يوسف قاضي القضاة
ماثلا أمامه ( شيخ وقور في الثمانين من عمره ، تسترسل لحية بيضاء
متوسطة تحت ذقنه ) ويبدو مجلس أمير المؤمنين قد التئم من جديد للنظر
في قضية أسد الثغور يتحامل أبو يوسف على النهوض ، قبل أن يقول
- بثقة وبلغة العالم المتمكن والقاض الفطن المجرب الأريب :
أبو يوسف: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأيده بالحق، وأيد الحق به،
وجعله ذخرا للإسلام والمسلمين..يا أمير المؤمنين، إن ولاية أمر الأمة
أمانة من أعظم الأمانات وإن الله سبحانه وتعالى قد قلدك إياها ، وابتلاك
بها ، وأصبح مآلك ، إما إلى ثواب من أعظم الثواب ، وإما إلى عقاب ،
من أعظم العقاب ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن من أحب الناس إليّ
وأقربهم مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل ، وإن أبغض الناس إليّ يوم
القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر" .وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ،
عندما سأله أن يوليه : " يا أبا ذر ، إنها أمانة ، وهي تأتي يوم القيامة
خزي ، وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى ما عليه فيها "
قال ذلك ورفع يده فبانت المسبحه بين ثنايا أصابعه.
وبلهفة الحريص على الإستفادة سأله الرشيد:
الرشيد: وما هو حقها يا أبا يوسف ؟ ما هو حقها ؟
أبو يوسف: إن أحق ما تعهد به الراعي من رعيته ، يا أمير المؤمنين -
كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - هو تعهدهم بالذي لله
عليهم ، في وظائف دينهم ، الذي هداهم الله له، وإنما على الراعي أن
يأمر رعيته بما أمر الله به من طاعته ، وأن ينهاههم عما نهاهم عنه
من معصيته ، وأن يقيم أمر الله إلى قريب الناس وبعيدهم ، ولا يبالي
على من كان الحق.
الرشيد: فيما يتعلق بولاتنا وعمالنا ، في الأمصار ، وفي الحواضر
والثغور ، فنحن لا ندخر وسعا، ولا نالوا جهدا في اختيار الأكفأ ،
والأصلح ، والأتقى لله منهم ، لكي يباشروا أمور الناس ، ويعملوا
فيهم بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نيابة عنا ،
فهل على أمير المؤمنين ، من وزرهم شيء ، إذا ما فرطوا في
أماناتهم ، التي ائتمنوا عليها يا أبا يوسف ؟
أبو يوسف: يا أمير المؤمنين، إن اختيارك لولاتك بالصفات والخلال
التي ذكرت بادرةٌ طيبة ، وخطوة حسنةٌ ، في الاتجاه الصحيح ..
ولكن مسئولية أمير المؤمنين – أبقاه الله وسلمه - لا تقف عند هذا
الحد ،ولكنها تمتد لتشمل متابعة ومراقبة أعمال أولئك الولاة والعمال
، حتى لا تسول لأحدهم نفسه الاستبداد برأيه ، والتصرف في أمور
الناس على هواه، فإن ذلك إن حدث فهو الفساد كله يا أمير المؤمنين
قال تعالى: ( ولو أتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ) .
وعلاوة على ذلك محاسبة أولئك العمال والولاة - إن هم أساءوا
أو فرطوا في أماناتهم -بحيث يعزل الجائر ويقوم المائل ، ويثاب
المحسن ، ويعاقب المسيء . فإنك إن فعلت ذلك يا أميرالمؤمنين تكون
+ قد قمت بواجبك وأديت أمانتك ، وبرئت نفسك أمام الله ، وأمام الرعية
..وبعد ذلك فإن ما خفي على أمير المؤمنين من مظالم الحكام، فهم وحدهم
مسئولون عنها أمام الله وليس عليك منها شيء وإن كانت كزبد البحر.
يكرر الرشيد الجملة الأخيرة وهو يتطلع مبتسما نحو أبو يوسف
الرشيد : وإن كانت كزبد البحر يا أبا يوسف ؟
أبويوسف : أجل يا أمير المؤمنين وإن كانت كزبد البحر ، لأن الغيب لايعلمه
إلا الله - إلا أذا أغمضت عينيك عنهم وتركت لهم الحبل على الغارب.
ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدقق كثيرا
في اختيار ولاته وعماله فكان يختار ولاته من الزاهدين الورعين والتقاة
الصالحين والأمناء الصادقين الذين يهربون من الولاية والأمارة - مع قدرتهم
عليها وكفاءتهم لها - ورغم كل ذلك فقد كانت عيناه دائما مفتوحة على أعمالهم
وكان يجتمع بهم كل عام في مكة في موسم الحج فيسألهم ويحاسبهم على كل
صغيرة وكبيرة ويقتص منهم على رءوس الأشهاد إن هم ظلموا أو فرطوا
أو تبعوا الهوى في سياسة الناس.
الرشيد: وماذا عن الناس الذين يأتون الينا من الأمصار شاكين أو متظلمين
من هذا الوالي أو ذاك ؟ أهناك ضيرٌ في إعادتهم إلى ولاة وقضاة الأمصار
، إذا كنا نعلم أنهم ولاةً أو قضاة صالحين وعرفنا منهم الأنصاف ، وعدم
الجور ، ولم نسمع عنهم شيئا خادش لسمعتهم أو قادح في عدالتهم ؟ أم ماذا
ترى يا أبا يوسف ؟.
أبو يوسف: بل الأولى يا أمير المؤمنين أن يظل بابك مفتوحا ، لكل مظلوم
ولكل ذي حاجة ، على الدوام ، فإن أمير المؤمنين - بعد الله - هو ملجأ
المظلومين والمحتاجين ، وناصر الضعفاء والمقهورين ، وأبو الأرامل
والأيتام والمساكين ، وإن هؤلاء الناس ، ما كانوا ليكلفوا أنفسهم وعثاء
الطريق ، ومشقة السفر ليقدموا إليك ويزدحموا ببابك ، لو أنهم وجدوا
العدل والأنصاف في بلدانهم ، فبمن يلوذ هؤلاء يا أمير المؤمنين ، إن
أنت أغلقت بابك دونهم ، ولم تسمع لشكواهم ، أو تقضي حوائجهم؟ وإنما
يلوذ الناس بخليفتهم وإمامهم عند الضرورة وفي الكروب والملمات.
الرشيد : المشكلة يا أبا يوسف أن الذين يأتوننا ، للشكوى من الثغور ،
أو الأمصار ، أن البينة تعوزهم ، ونحن لا نملك دليلا على صحة
كلامهم ، من عدمه ، لأن الدليل غير متيسر أو متاح أمامنا في الحال
، فكيف ننظر في شكاواهم ، ونفصل فيها ، والأمر مبهم ومشكل على
هذا النحو ؟ وماذا لو كانت الشكوى بقصد الوشاية أو النكاية بهذا الوالي
أو ذاك كما زعم البعض في مجلسنا هذا.
أبو يوسف: إن كل متظلم يدلي بمظلمته بين يدي أمير المؤمنين يجب أن
يُحمل على الظاهر ، وليس من الدين في شيء أن يتهم أحدٌ أحدا ، بأنه
جاء مغرضا ، أو مفسدا أو أنه مارقٌ عن الدين لأن أحدا لا يعرف ما في
قلوبهم ، ونحن غير مأمورين بمعرفة ما تكنه القلوب ، فالرسول عليه
الصلاة والسلام يقول: " لم أؤمر أن أشق على قلوب الناس ولاعن بطونهم "
ويقول رب العزة " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى "
فيكون من حق هؤلاء عليك يا أمير المؤمنين ، أن تفتح أبوابك لهم وأن تسمع
منهم ، وتنظر في شكاواهم بعين الحق والعدل ، قدر جهدك يا أمير المؤمنين
، وفي ضوء قوله تعالى " فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة " .
وما أراه يا أمير المؤمنين ، هو أن تنظر بعين الأنصاف والعدل في مسألة
هذا الرجل الثغري ، فإنه أن ثبت أن ما قاله صحيحا فستدفع خطرا عظيما
عن الإسلام والمسلمين قبل وقوعه ، وإن كان غير ذلك فانك لن تخسر شيئا
وسيتحمل هو وزر ما قال وستكون سبة له ، وأثما يطارده أبد الدهر ، ويوم
القيامة .. وهكذا كان نهج عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدين من قبلك .
فانهج نهجهم يا أمير المؤمنين فإن في ذلك جسر النجاة في الدنيا ، والفوز
برضوان الله ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى .
يتدخل الفضل بن الربيع فيقول - محتجا على أبي يوسف - :
الفضل: ماذا دهاك يا أبا يوسف ؟ إنك تكلف أمير المؤمنين أعمال عمر
بن الخطاب ، والخلفاء الراشدين ، وذاك عالم قد مضى وانقضى ،
ورعية أمير المؤمنين ليسوا مهاجرين ولا أنصارا.
يتبعه جعفر البرمكي ، والذي يقول - مزايدا على كلام الفضل بن الربيع
وكأنه قد وجد فرصته أخيرا للكلام ولإفحام أبي يوسف :
جعفر: الحق معك يا بن الربيع , وأنا أؤيد ما قلته . فإذا كنت يا أبا يوسف
تطلب من أمير المؤمنين أن يسلك سلوك عمر بن الخطاب ، فهات له رعيةً
مثل رعيته من الصحابة الأبرار، وهات له رجالا من حوله ، كالرجال الذين
كانوا حول عمر بن الخطاب ، أمثال عثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب
كرم الله وجهه ، وبقية الستة من أصحاب الشورى رضوان الله عليهم ؟
يظهر أبو يوسف طبيعيا غير متأثر بذلك النقد أو آبه به ، ويضيف برحابة
صدر ، ومتوجها نحو الرشيد بوجهه وخطابه:
أبو يوسف: اعلم يا أمير المؤمنين أن بعض من كان قبلكم ، من ملوك
بني حربٍ ومروان ، والذين استأثروا بأمر الناس بعد الخلفاء الراشدين
، قد اتخذوا من اختلاف الزمان وتغير الناس ، وسيلة للاستمرار والبقاء
في الحكم ، وربما وليجة للتمادي في الظلم والجور ، وذريعة لعدم إقامة
العدل ، فلماء جاء عمر بن العزيز رضي الله عنه أبطل هذا القول ،
وبرهن على زيفه ، وعدم صحته ، فحكم وأخلص لله ، فملأ الدنيا عدلا
، ولم تكن رعيته من الصحابة الأبرار، كما لم يكن حوله رجالا كالرجال
الذين كانوا حول عمر بن الخطاب.
يستمر أبو يوسف في وعظ أمير المؤمنين وهو يستزيده ..نتابع ذلك
من خلال الصورة فقط. لحظات ويعود الصوت ونرى الرشيد وهو
ينحني برأسه بعد أن يجهش في البكاء. تسود لحظة صمت لا يسمع
خالها سوى نشيج الرشيد ، عند ذلك يتدخل أولئك الثلاثة أحدهم بعد
الآخر ، وكأن الفرصة قد واتتهم للنيل من أبي يوسف ووصمه بالغلط
. يبتدأهم عبدالله بن المهدي بالقول زاجرا له ، وبلهجة المشفق على
أمير المؤمنين وكأن ذلك يغره :
عبد الله: كفى يا أبا يوسف !! كفى !! لقد أثقلت على أمير المؤمنين،
وكدرت عليه مجلسه.
جعفر: كان عليك أن تحسن السياسة في نصح أمير المؤمنين ، لا أن تسرف
في وعظه على هذا النحو.فما هكذا والله تكون النصحيحة يابن يعقوب .
ابن سهل: أجل، يا أبا يوسف، إن هذا لهو الإسراف بعينة. وأمير المؤمنين لم
يحضرك لمثل هذا ، فهيا يا أبا يوسف أعتذر من أمير المؤمنين ، أعتذر منه .
يرفع هارون الرشيد هامته ، وينظر إليهم باستياء ، قبل أن يخاطبهم
موبخا لهم قائلا بنبرة حزينة باكية من خشية الله –
الرشيد: كفوا عن هذا ، ويحكم !! ودعوا أبا يوسف وشأنه ، وليعظني بما يريد
، فما أنا ممن يغره قولكم هذا يابطالون ، ولا أنا مسرور بسماعة ، قاتلكم الله
!! إن المغرور من غررتموه ، والسعيد من بعدتم عنه ، وإني لظلوم لنفسي
إن لم يسامحني ربي .
يظهر الثلاثة وقد كسى السواد وجوههم ، وسكتوا وكأن كل منهم قد القم حجرا
، ويبدون في أماكنهم وقد ازدادوا قماءة ، حتى كأنهم أصغر مما كانوا عليه
من قبل . ينظر الرشيد إلى أبي يوسف نظرة إعجاب ، ويقول حامدا له
نصيحته ومثنيا عليه :
الرشيد: جزاك الله خيرا يا أبا يوسف، ولا حرمنا من علمك وفقهك ، وسداد رأيك ،
لقد قلت فصدقت ونصحت فأخلصت ، وأرشدت فهديت ، والله لولاك لهلك الرشيد
. وإني أسأل الله العلي القدير أن يعينني على القيام بمسئوليتي تجاه هذه الأمة خير
قيام ، وأن يسدد خطاي ويلهمني الحق والصواب وأن يتولاني برحمته ، ويتوفني
مسلما ، وليس عليّ مظلمة لأحد من المسلمين ، إنه سميع مجيب .
يحول النظر إلى أسد الثغور فيقول:
الرشيد: وأنت يا أخا الثغـور ، طب نفسا ، وقر عينا ، وعد إلى ديارك سالما
أو أبقى - إن شئت - ولن يمسك أحدا بسوء . فقد نظر أميرالمؤمنين في قضيتك .
يتطلع إليه أسد الثغور بفرحه مشوبة بالحذر ويقول متسائلا - وكأنه لم يفهم ما قاله–
أسد الثغور: نظر أمير المؤمنين في قضيتي ؟
الرشيد: أجل . منذ أول يوم عرضتها علىّ، وإن العيون الذين كلفوا بالتحقق
من شكواك لهم الآن في طريقهم إلى الثغور .
يضيف موجها الخطاب للجميع
الرشيد:إنما عمدت إلى إحضار أبي يوسف والسمع منه ليزداد يقيني ، وليطمئن
قلبي ، وحتى تعلم بطانتي بما كلفني الله به ، وتعـرف واجبها وما ينبغي عليها
نحوي ، فتعـمل على مساعدتي ، وعوني لتحقيق العدل .
ينظر إلى الكاميرا قائلا : - وهو يختتم كلامه -
الرشيد: وإن واجب بطانة كل حاكم هي كلمة الحق ، ومن لم يكن أهلا لذلك ،
فعليه أن يجلس في بيت أبيه وأمه .
يبتسم أسد الثغور ، ويتطلع نحو يزيد بن مزيد الشيباني، بوجه
متهلل ،ويمدا أيديهما ويتعانقان فرحا.في الوقت الذي يغشى
السواد فيه وجوه أولئك الثلاثة ويسقط في أيديهم .
--------------------
قطـع