من هناك
09-01-2008, 01:00 AM
رمضان «يفضح» فقراء المخيّم
راجانا حميّة
تعبق ضاحية بيروت الجنوبيّة برائحة شهر رمضان. كلّ شيءٍ في صباحاتها ومساءاتها يُشعرنا بأنه هنا. إعلانات المسلسلات الرمضانية على الطرقات. زينة الأحياء. عروض على أسعار السلع في المحالّ التجاريّة والمطاعم. يبدّل قدوم رمضان الضاحية كلّ يومٍ. يضيف شيئاً غير مألوف إلى مشهدها اليومي، فتغرينا أضواؤها الاستثنائيّة بأمسيات جميلة قادمة.
لكن، وسط كلّ هذا الفرح الموعود، ثمّة ما هو مؤلم: مكان، أضلّ «الضيف الكريم» طريقه إلى بيوته. في هذا المكان، واسمه مخيّم برج البراجنة، تتغيّر ملامح المشهد. هنا، يحلّ رمضان ثقيلاً على يوميّات أهل المخيم البائسين. بؤس زاده «استضافتهم المؤقته» لنازحي مخيم البارد منذ 457 يوماً. ينجح الفقر في فضح الفقراء: المقيمين الدائمين، والنازحين الذين لمّا ينتهوا بعد من هموم التشرّد. مع أن الشهور الأخيرة شهدت تخفيفاً للعبء عن كاهل المقيمين. فقد استأجرت 48 عائلة بيوتاً في المخيم. بيوت، يكاد القول إن بدل إيجاراتها قد «غصبه» النازحون من الأونروا أن يكون صحيحاً، لما لاقوه من عناء في قبول الأخيرة تمويلهم.
قاصد تلك البيوت، أو على الأصح تلك الغرف في بيوت أهل المخيم، لسؤال قاطنيها المؤقّتين عن التحضيرات لرمضان، لا يعرف إن كان سيحظى بلقائهم. فقد غادرت الأغلبية منذ الصباح الباكر بحثاً عن عمل أو بيت مستقل للإيجار خارج المخيّم مع قدوم شهر رمضان.
عائلة محمّد طه (أبو طارق) كانت في البيت، آخر حيّ الوزّان في المخيّم. لم يكن الاستدلال إليهم سهلاً. طريق طويلة تُجبر خلالها على التلصّص على خصوصيّات البؤس من الغرف المكشوفة على الزواريب.
أمام بيت طه، غطّت أم طارق بمنديل مرقّط خاطته من بضعة قمصان بالية، الجدران المتآكلة، التي بان «هيكلها العظمي» من الحديد. في الداخل، أي في «الغرفة»، يحاول أبو طارق تهيئة مكان يجلس فيه الضيوف القادمون. يُشغل الرجل الخمسيني بلمّ «الفراش» عن الأرض، ويضع مكانه كرسيّين. يبقى أبو طارق واقفاً، بانتظار الكرسي الثالث المستعار من عند الجيران. هذا كلّ ما في بيته. ينظر إلى ضيوفه بصمت يطول، ثم إلى ابنته التي تغلي القهوة على النار أمامه، متلهّياً بسيجارته التي لم تفارق يده الخشنة الكف من الشغل بـ«الباطون». ثم فجأة يفرج عن عبارة واحدة: «لم أعد قادراً على الشكوى». قبل ثلاثة أيّام من قدوم رمضان تبقى تحضيرات أبو طارق «على تكلة الله وهمّة المؤسسات الاجتماعية». يسترجع رمضان قبل سنتين من الآن، حيث كان عمله في الدهان يساعده على ادّخار المال. للمرّة الأولى يختبر أبو طارق «الشراء بالكيلو» بدل «الشوالات والأقفاص» بعد استبداله الدهان بالعتالة.
يختنق صوت أبو طارق. فعمله إضافةً إلى عمل أولاده السبعة في ورش المخيم لا يكفي حتى للضروريات. أضف إلى ذلك أن الأونروا شخصياً، تتلكّأ غالباً في دفع بدل إيجار الغرفة لمدد قد تصل إلى ثلاثة أشهر. أما الإعاشات الشهرية، فقد اختصرت منذ شهرين بـ«شبه إعاشة» تتضمّن «بضعة كيلوغرامات من الأرزّ والعدس والبرغل، وتنكة زيت، ومن دون معلّبات».
من حيّ الوزّان إلى حيّ التراشحة. لم تتغيّر الحكاية. عائلة أخرى تقطن غرفة «فوق السطوح»، استعارت صاحبتها، هديّة فلاح، ضرورياتها من الأقارب: «الغسّالة من سلفتي، البراد من بنت عمّي..». الصعب هنا، أنّك مجبر على المرور عبر ..غرف نوم الجيران لتصل إلى الدور الثالث حيث هي هديّة.
وكعائلة طه، يبدو أنّ رمضان لم يمر من هنا. لا تجد المرأة ما تجيب به، سوى أنّها تنتظر «يوم السبت (الماضي) حتى يقبض خالد (زوجها) معاشه كي نستطيع شراء الزيتون والجبنة والططلة». تتكلم «هدية» بلهجة شمالية. «الططلة» تعني المربّى بلهجة أهل الشمال. «الاستفاضة» في المشتريات ترف لا تقدر عليه «هدية». فمرتّب زوجها لا يتعدّى 50 ألف ليرة أسبوعيّاً. لكن، لا يبدو أنّ حالته المادّية هي المعوّق الأساسي عن التحضير لرمضان. فـ«النفسيّة الفرحة» تعوزها، كما قالت، للشعور بفرحة الشهر.
ومع ذلك، تبدو المرأة مصمّمة على الصوم، على عكس أسعد خليل الذي اتّخذ قراره بـ«نسف» رمضان من الروزنامة السنويّة. يكاد أسعد يختنق من اضطراره إلى قرار كهذا. لكنّه لا يجد مفرّاً من التبرير لزوجته التي تحاول ثنيه عن قراره. «شو أنا النبي محمّد لصوم وأفطر على ملح وتمر؟ ولك النبي ما كان عنده فراريج مشويّة ولا بطاطا مقليّة، افهموا».
هذا الحال حثّت بعض العائلات النازحة على العودة إلى البارد، المخيم الأم، ولو كان ركاماً. فهم وجدوا «حلاً» بالسكن في بعض أطراف المخيم التي لا تزال فيها بعض البيوت. على الأقل يكونون هنا أقرب إلى بيوتهم، ولو كانت مدمرة. تشير نائبة رئيس فرع بيروت لجمعيّة «النجدة الاجتماعية» الفلسطينية وصال الجشّي إلى «أنّ العائلات التي نزحت إلى مخيّم البرج فاقت 340 عائلة، ولكنّ أغلبها عاد إلى البارد والبداوي وطرابلس». وتضيف «حركة العودة لا تزال مستمرة، وخصوصاً مع اقتراب رمضان وموعد المدارس والجامعات».
راجانا حميّة
تعبق ضاحية بيروت الجنوبيّة برائحة شهر رمضان. كلّ شيءٍ في صباحاتها ومساءاتها يُشعرنا بأنه هنا. إعلانات المسلسلات الرمضانية على الطرقات. زينة الأحياء. عروض على أسعار السلع في المحالّ التجاريّة والمطاعم. يبدّل قدوم رمضان الضاحية كلّ يومٍ. يضيف شيئاً غير مألوف إلى مشهدها اليومي، فتغرينا أضواؤها الاستثنائيّة بأمسيات جميلة قادمة.
لكن، وسط كلّ هذا الفرح الموعود، ثمّة ما هو مؤلم: مكان، أضلّ «الضيف الكريم» طريقه إلى بيوته. في هذا المكان، واسمه مخيّم برج البراجنة، تتغيّر ملامح المشهد. هنا، يحلّ رمضان ثقيلاً على يوميّات أهل المخيم البائسين. بؤس زاده «استضافتهم المؤقته» لنازحي مخيم البارد منذ 457 يوماً. ينجح الفقر في فضح الفقراء: المقيمين الدائمين، والنازحين الذين لمّا ينتهوا بعد من هموم التشرّد. مع أن الشهور الأخيرة شهدت تخفيفاً للعبء عن كاهل المقيمين. فقد استأجرت 48 عائلة بيوتاً في المخيم. بيوت، يكاد القول إن بدل إيجاراتها قد «غصبه» النازحون من الأونروا أن يكون صحيحاً، لما لاقوه من عناء في قبول الأخيرة تمويلهم.
قاصد تلك البيوت، أو على الأصح تلك الغرف في بيوت أهل المخيم، لسؤال قاطنيها المؤقّتين عن التحضيرات لرمضان، لا يعرف إن كان سيحظى بلقائهم. فقد غادرت الأغلبية منذ الصباح الباكر بحثاً عن عمل أو بيت مستقل للإيجار خارج المخيّم مع قدوم شهر رمضان.
عائلة محمّد طه (أبو طارق) كانت في البيت، آخر حيّ الوزّان في المخيّم. لم يكن الاستدلال إليهم سهلاً. طريق طويلة تُجبر خلالها على التلصّص على خصوصيّات البؤس من الغرف المكشوفة على الزواريب.
أمام بيت طه، غطّت أم طارق بمنديل مرقّط خاطته من بضعة قمصان بالية، الجدران المتآكلة، التي بان «هيكلها العظمي» من الحديد. في الداخل، أي في «الغرفة»، يحاول أبو طارق تهيئة مكان يجلس فيه الضيوف القادمون. يُشغل الرجل الخمسيني بلمّ «الفراش» عن الأرض، ويضع مكانه كرسيّين. يبقى أبو طارق واقفاً، بانتظار الكرسي الثالث المستعار من عند الجيران. هذا كلّ ما في بيته. ينظر إلى ضيوفه بصمت يطول، ثم إلى ابنته التي تغلي القهوة على النار أمامه، متلهّياً بسيجارته التي لم تفارق يده الخشنة الكف من الشغل بـ«الباطون». ثم فجأة يفرج عن عبارة واحدة: «لم أعد قادراً على الشكوى». قبل ثلاثة أيّام من قدوم رمضان تبقى تحضيرات أبو طارق «على تكلة الله وهمّة المؤسسات الاجتماعية». يسترجع رمضان قبل سنتين من الآن، حيث كان عمله في الدهان يساعده على ادّخار المال. للمرّة الأولى يختبر أبو طارق «الشراء بالكيلو» بدل «الشوالات والأقفاص» بعد استبداله الدهان بالعتالة.
يختنق صوت أبو طارق. فعمله إضافةً إلى عمل أولاده السبعة في ورش المخيم لا يكفي حتى للضروريات. أضف إلى ذلك أن الأونروا شخصياً، تتلكّأ غالباً في دفع بدل إيجار الغرفة لمدد قد تصل إلى ثلاثة أشهر. أما الإعاشات الشهرية، فقد اختصرت منذ شهرين بـ«شبه إعاشة» تتضمّن «بضعة كيلوغرامات من الأرزّ والعدس والبرغل، وتنكة زيت، ومن دون معلّبات».
من حيّ الوزّان إلى حيّ التراشحة. لم تتغيّر الحكاية. عائلة أخرى تقطن غرفة «فوق السطوح»، استعارت صاحبتها، هديّة فلاح، ضرورياتها من الأقارب: «الغسّالة من سلفتي، البراد من بنت عمّي..». الصعب هنا، أنّك مجبر على المرور عبر ..غرف نوم الجيران لتصل إلى الدور الثالث حيث هي هديّة.
وكعائلة طه، يبدو أنّ رمضان لم يمر من هنا. لا تجد المرأة ما تجيب به، سوى أنّها تنتظر «يوم السبت (الماضي) حتى يقبض خالد (زوجها) معاشه كي نستطيع شراء الزيتون والجبنة والططلة». تتكلم «هدية» بلهجة شمالية. «الططلة» تعني المربّى بلهجة أهل الشمال. «الاستفاضة» في المشتريات ترف لا تقدر عليه «هدية». فمرتّب زوجها لا يتعدّى 50 ألف ليرة أسبوعيّاً. لكن، لا يبدو أنّ حالته المادّية هي المعوّق الأساسي عن التحضير لرمضان. فـ«النفسيّة الفرحة» تعوزها، كما قالت، للشعور بفرحة الشهر.
ومع ذلك، تبدو المرأة مصمّمة على الصوم، على عكس أسعد خليل الذي اتّخذ قراره بـ«نسف» رمضان من الروزنامة السنويّة. يكاد أسعد يختنق من اضطراره إلى قرار كهذا. لكنّه لا يجد مفرّاً من التبرير لزوجته التي تحاول ثنيه عن قراره. «شو أنا النبي محمّد لصوم وأفطر على ملح وتمر؟ ولك النبي ما كان عنده فراريج مشويّة ولا بطاطا مقليّة، افهموا».
هذا الحال حثّت بعض العائلات النازحة على العودة إلى البارد، المخيم الأم، ولو كان ركاماً. فهم وجدوا «حلاً» بالسكن في بعض أطراف المخيم التي لا تزال فيها بعض البيوت. على الأقل يكونون هنا أقرب إلى بيوتهم، ولو كانت مدمرة. تشير نائبة رئيس فرع بيروت لجمعيّة «النجدة الاجتماعية» الفلسطينية وصال الجشّي إلى «أنّ العائلات التي نزحت إلى مخيّم البرج فاقت 340 عائلة، ولكنّ أغلبها عاد إلى البارد والبداوي وطرابلس». وتضيف «حركة العودة لا تزال مستمرة، وخصوصاً مع اقتراب رمضان وموعد المدارس والجامعات».