أبو تقي
08-26-2008, 01:44 AM
عدد خاص
العددان 258-259 ، السنة الثانية والعشرون ، رجب وشعبان 1429هـ ، تموز وآب 2008م
النصرة: الطريق الشرعي لاستلام الحكم وواجب أهل القوة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأُوَل بشرف لا يدانيه شرف حيث قد أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم في المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلاً من الفريقين المتآخيين بعمل عظيم جليل، ناداهم به فُسموا مهاجرين وأنصاراً، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلاناً للدولة وانتقالاً لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام. ولولا النصرة والأنصار لم تكن هنالك هجرة أو مهاجرون، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة وهو كثيراً ما يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما، وأي ذكر وأي فضل هو ذاك!!
حيث إننا نتكلم عن النصرة التي تتلوها الهجرة، كان لا بد من الرجوع إلى سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الأسوة والقدوة والمثال، فقد كان عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة هادفاً لإقامة دار الإسلام، فسار في خطوات محددة واضحة المعالم ليقتدي به من خلفه حينما تغيب دار الإسلام عن الوجود، ويكون واجباً حينها العمل لإيجادها، وهو الذي ذكر ذلك الأفول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديثه التي بشرت أيضاً بعودة الخلافة ودار الإسلام من جديد.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي السنة العاشرة للبعثة أي قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد أن توفي عمه أبو طالب الذي كان يوفر له لوناً من ألوان النصرة والحماية تمكن من خلالها أن يقوم بحمله للدعوة وهو آمن، ولما أن تجمد في وجهه مجتمع مكة فما أثرت فيه دعوة الإسلام وما وجد فيه رأي عام على الإسلام وأفكاره، جاءه أمر الله عز وجل بطلب النصرة أي حسن المعونة، جاء في معاجم اللغة، النَّصْر: عَوْنُ المَظْلُوْمِ. والأنْصَارُ: جَماعَة الناصِرِ. وانْتَصَرَ: انْتَقَمَ من ظالِمِه. والنّصْرَةُ:حُسْنُ المَعُوْنَةِ. جاء في سيرة ابن هشام تحت باب: سَعْيُ الرّسُولِ إلَى ثَقِيفٍ يَطْلُبُ النّصْرَةَ: «قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنَ الأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلَى الطّائِفِ يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ، وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ».
وفي فتح الباري لابن حجر ومثله في تحفة الأحوذي والكلام لابن حجر،وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِم وَأَبُو نُعَيْم وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنِ اِبْن عَبَّاس حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب قَالَ: «لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيّه أَنْ يَعْرِض نَفْسَه عَلَى قَبَائِل الْعَرَب، خَرَجَ وَأَنَا مِنْهُ وَأَبُو بَكْر إِلَى مِنًى، حَتَّى دَفَعَنَا إِلَى مَجْلِس مِنْ مَجَالِس الْعَرَب».
فالأمر بطلب النصرة وتوقيته جاء من الله عز وجل كما يظهر من كلام علي (رضي الله عنه) فيما ورد آنفاً، فالتوقيت جاء بعد فقده (صلى الله عليه وآله وسلم) الحماية، فلم يعد آمناً، وما عادت قريش تتركه يبلغ دعوة ربه، وفي الوقت ذاته فإنه لم يكن من أمل هناك لأن يقوم مجتمع مكة بتسليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سلطانه حيث لم يوجد فيه رأي عام على الإسلام ابتداءً، فجاء الأمر بطلب النصرة حينها ليبعث الأمل في الدعوة حتى تصل إلى مكانها الذي ينبغي أن تقتعده، حيث الحكم والسلطان والتطبيق الشامل لأحكام الإسلام، فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطائف، وكانت حينذاك تعد من أقوى الكيانات القائمة في الجزيرة، فقد كانت تبز قريشاً في القوة والشرف والمكانة، وهذا ما جاء على لسان الوليد بن المغيرة حينما استنكر نزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون سادة مكة والطائف، فأنزل الله قوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف 31] وليس أدل على ذلك أيضاً من صعوبة فتحها على يد الدولة فيما بعد، وما كان من حصار وقتل شديدين على أسوارها والعودة عنها بعد أن رميت بالمنجنيق فصمدت، سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف وتقصد فيها سادتها وأشرافها، والتقى بثلاثة منهم وكلمهم في أمر الإسلام والنصرة، ثم عاد منها بعد أن يئس من خيرها وعدم استجابتها لما طلب، وكانت ثقيف البداية حتى إذا ما عاد إلى مكة ونزل في جوار المطعم بن عدي، بدأ يطلب النصرة من زعماء قبائل العرب القوية في المواسم، والذين هم بمثابة رؤساء الدول في وقتنا، جاء في ابن هشام في باب عرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه على القبائل، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَكّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلاَفِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ إلاّ قَلِيلاً مُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ آمَنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ إذَا كَانَتْ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَيّنَ (لَهُمْ) اللّهُ مَا بَعَثَهُ بِهِ"
وتروي السير أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي كل من كان له شرف ومكانة وقوة من القبائل في منازلهم في المواسم، جاء في ابن هشام تحت باب:" عَرْضُ الرّسُولِ نَفْسَهُ عَلَى الْعَرَبِ فِي الْمَوَاسِمِ": "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إلَى اللّهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ مِنْ الْهُدَى وَالرّحْمَةِ، وَهُوَ لا يَسْمَعُ بِقَادِمِ يَقْدَمُ مَكّةَ مِنْ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ، إلا تَصَدّى لَهُ فَدَعَاهُ إلَى اللّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ"، وتذكر السير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى كلباً في منازلهم فما قبلوا منه، وأتى بني حنيفة أهل اليمامة في منازلهم فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منه، وقد أتى بني عامر بن صعصعة فأبوا عليه إلا أن يعطيهم الحكم من بعده فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وأتى كندة من أهل اليمن في منازلهم فطلبوا الحكم من بعده أيضاً فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأتى بكر بن وائل في منازلهم فأبوا منعته لجوارهم فارس، وأتى ربيعة في منازلهم فما أجابوه، وأتى بني شيبان وقد كانوا يجاورون فارس في منازلهم فعرضوا عليه النصرة من جهة العرب دون الفرس، فكان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه»، واستمر (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلبه للنصرة رغم عدم استجابة عدد كثير من القبائل له، فما كلَّ ولا ملَّ ولا حادَ عن عمله هذا لغيره، جاء في زاد المعاد عن الواقدي "قَالَ: «وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة، وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة، وَفَزَارَةُ، وَغَسّانُ، وَمُرّةُ، وَحَنِيفَةُ، وَسُلَيْمٌ، وَعَبْسُ، وَبَنُو النّضْر،ِ وَبَنُو الْبَكّاءِ، وَكِنْدَةُ، وَكَلْبٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ، وَعُذْرَةُ، وَالْحَضَارِمَةُ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ." وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على طلبه للنصرة حتى أذن الله سبحانه وتعالى بنصرة دينه، قال ابن إسحاق فيما يرويه ابن هشام في سيرته: "فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الْمَوْسِمِ الّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النّفَرُ مِنْ الأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللّهُ بِهِمْ خَيْراً." فأسلم أولئك الرهط، وذهبوا ليصلحوا ما بينهم وبين الأوس، ثم قدموا في العام الذي يليه وكانوا اثني عشر، واجتمعوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة، وكانت بيعة العقبة الأولى. وبعد أن تهيأ مجتمع المدينة على يد مصعب الخير، قدموا عليه وقدم من أسلم من سادتهم وأشرافهم لينصروه، فاجتمعوا في العقبة الثانية، فكانت بيعة على الحرب، جاء في سيرة ابن هشام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيعة: "ثُمّ قَال: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ: نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ (نَبِيّاً) لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَنَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا (عَنْ كَابِرٍ)" فتمت بذلك كلمة الله وقامت للإسلام دولة.
وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب النصرة لتحقيق أمرين: أحدهما منع الأذى عنه وحمايته حتى يستطيع تبليغ رسالة ربه، والآخر إيصال الإسلام إلى الحكم وإقامة الدولة، ومن الأول ما رواه الحاكم عن جابر في المستدرَك على الصحيحين قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض نفسه على الناس... فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي؟ قال: فأتاه رجل من بني همدان فقال: أنا. فقال: وهل عند قومك منعة؟ قال: نعم. وسأله من أين هو فقال: من همدان. ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه -أي ينقضوا عهده- فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم ألقاك من عام قابل. قال: نعم»."
ومنه قول ابن اسحق في سيرة ابن هشام: "فكان رسول الله يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به"، فهذا الطلب للنصرة لأجل تمكينه من الدعوة وتبليغ الرسالة.
ومن الثاني ما جاء من ذكر إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بني شيبان في منازلهم وعرضهم عليه النصرة مجزوءة فرفضها، وكذلك ما جاء من مفاوضة مع بني عامر بن صعصعة وكندة وطلبهم الحكم من بعده ورفضه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وما تكلل به طلب النصرة من مبايعة الأوس والخزرج له على الحرب فيما دار في بيعة العقبة الثانية.
إن هذا الطلب الحثيث من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للنصرة لما أمره ربه سبحانه وتعالى بذلك، ومداومته على الفعل وصبره عليه وعدم حيده عنه رغم ما لاقاه من صد ورد وأذى، يدل على أن الطلب من الله كان جازماً في طلب النصرة، وبالتالي فهو فرض واجب، وهو من طريقة العمل لإقامة الدولة واستئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولا يجوز الحيد عنه، ويكون في أيامنا من الحزب السياسي الذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وفق طريقة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بطلبها من أهل القوة في زماننا، وهو ما يصدق على الجيوش في بلاد المسلمين، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتقصد القبائل باعتبارها الكياني، وكان يسأل عن القوة والمنعة فيها، وكان يطلب منها قبل ذلك الإسلام كشرط أساس لنصرة الإسلام، وهذا ما ينطبق على الجيوش في بلاد المسلمين أو على قبائل قوية في بعض المناطق باستطاعتها تغيير الحكم، وطلب النصرة من قبل الحزب الذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية عمل سياسي، إذ إن من يقوم بالعمل المادي هم أهل النصرة القادرين على ذلك، وبوصفه كذلك فإنه تحشد له الطاقات الممكنة، وينبه أهل القوة بشتى الوسائل لإعطاء النصرة عن طريق ضغط الأمة عليهم لتحملهم مسؤوليتهم العظيمة، وهو عمل طارئ بالرغم من كونه واجباً ومن الطريقة، يبدأ بعد تهيئة القاعدة الشعبية ووجود رأي عام على أفكار الإسلام الأساسية وعدم القدرة على التغيير الطبيعي حين تفقد المجتمعات تلك الإرادة وتسلبها منها الأنظمة، وينتهي هذا العمل باستلام الحكم وتطبيق الإسلام تطبيقاً جذرياً انقلابياً.
ولكون طلب النصرة بهذه الأهمية العظمى، إذ هو من أعظم الأحكام الشرعية لما يترتب عليه من قيام دولة الإسلام بعد غيابها، ورفع راية الله خفاقة بعدها، ويقضي على الظلمات المركب بعضها فوق بعض: من حكم بغير ما أنزل الله، وتسلط للرأسمالية وما تبعها من مآسٍ وويلات ومصائب جليلات، ولكونه يتعلق بفئة مخصوصة هي تلك التي تملك القوة والمنعة للتغيير ونصرة الدعوة، ولكونه طارئاً له وقت محدد وإن طال، فإن المسؤولية حينها تكون عظيمة جليلة على أولئك الذين يتوقف على استجابتهم التغيير، فأجرهم عظيم إن هم استجابوا، وأي أجر أعظم من الجنة.
فضل الأنصار
فضل الأنصار في القرآن الكريم:
يكفي الأنصار فضلاً ذكر الله تعالى لهم في كتابه العزيز حيث وصفهم بصفات هي مطمع كل مسلم، فذكر عنهم أنهم من السابقين الأولين، وطلب منا اتباعهم بإحسان، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار... فهنيئاً لهم ما ختموا عليه. قال تعالى مسجلاً لهم الشهادة العظمى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة 100] وقال تعـالى في حـقهم، وهـنيئاً لهــم من قــول: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة 117] وقال تعالى آمراً المؤمنين أن يكونوا أنصار الله فهنيئاً لمن كان كذلك (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف 14].
فضل الأنصار في السنة والسيرة النبوية المشرفة:
جاء في السير عما جاء في العقبة الثانية: قَالُوا -أي الأنصار-: "فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ نَحْنُ وَفّيْنَا (بِذَلِكَ) قَالَ الْجَنّةُ. قَالُوا: اُبْسُطْ يَدَك. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ"، وفي المقابل، فإن وزر من تطلب منهم النصرة عظيم، ذلك بأن يُؤتى الإسلام من قبلهم ويبقوا على طاعتهم للحكام المتسلطين على رقاب الأمة.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»، وروى الترمذي عن البراء بن عازب أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَوْ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الأَنْصَارِ: «لا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ»، وروى البخاري عن أنس قال: «رَأَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ عُرسٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مُمْثِلاً فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ»، وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، مَرَّتَيْنِ»، وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ «إِنَّ الأَنْصَارَ كَرِشِى وَعَيْبَتِى، وَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ». وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كرشي وعيبتي أي بطانته وخاصته، وعنده أيضاً عن ابن عباس أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»،روى البخاري قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ، رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ، قَالَتْ الأَنْصَارُ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ أَتْبَاعًا وَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ»، وفي تلك الخطبة المؤثرة بعد تقسيم غنائم حنين، خاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار قائلاً، واللفظ لأحمد عن أبي سعيد الخدري: «أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ» فأي فضل أعظم من أن يكون آية المؤمن حب قوم وآية النفاق بغضهم؟ وأي مكانة أعظم من أن يكون قوم هم أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم خاصته وبطانته؟ وأي شرف أعظم من أن تكون المغفرة لأبناء قوم وأبناء أبنائهم ونسائهم وذراريهم؟ بل وفوق ذلك أن يكون أتباعهم وأصحابهم منهم؟ وأي فضل هو ذاك أعظم من أن يهتز عرش الرحمن لموت رجل اسمه سعد بن معاذ، ما تميز به عن غيره من الصحابة إنما هو النصرة؟ روى البخاري عن عَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ».
كل ذلك الفضل إنما هو للأنصار وليس لغيرهم من أحد فضل مثله إلا ما كان للمهاجرين، فأين أنصار اليوم وقد فتح لهم باب النصرة من أوسع أبوابه ليعيدوا سيرة الأنصار الأُوَل، الأبطال الأول، وإنه إذا كان هذا الباب قد أغلق قروناً طوالاً فليفتح لهم من جديد. فهنيئاً لمن يصطفيه الله في فتحه، فإنه بعدها، والله أعلم، سيغلق ولا يفتح أبداً بعد ذلك.
أبو تقي الشامي
سعد بن معاذ
جواد عبد المحسن - الخليل
على أهل القوة اليوم أن يدركوا أن الدولة الإسلامية قد أقيمت مرة واحدة من قبل وهدمت مرة واحدة. وأن شأن من يقيمها اليوم سيكون كشأن من نصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودرجته ستكون إن شاء الله تعالى مثل درجة سعد بن معاذ (رضي الله عنه) الذي قال عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «لقد اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ»، وإنه لحريُّ لكل قائد من قادة المسلمين أن يقرأ عن سعد... إنه سعد الذي وقف يوم بدر يوم الفرقان وقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «لقد آمنا بك وصدقناك... وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصبرٌ في الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر له عينك، فسر على بركة الله».
وفي رواية: «لعلك أن تكون قد خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامضِ، فَصِل حِبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت».
هذا ما يجب أن يدركه المخاطب عن مواقف الرجال في مواقف الحسم المتعلقة بمصائر الأمة، فلم يكن بنو عبد الأشهل آلافاً، ولكنهم كما يقول الشاعر:
ثقالٌ إذا لاقوا، خفافٌ إذا دُعُوا=كثيرٌ إذا اشتدوا، قليلٌ إذا عُدوا
إنه سعد بن معاذ الذي قال عنه القوم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخفَّ علينا منه» فيجيبهم الرسول «ما يمنعه أن يخفَّ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومه قد حملوا معكم» أخرجه ابن سعد في الطبقات.
إنه سعد بن معاذ، وحين صعدت روحه إلى خالقها جاء جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «من هذا العبد الصالح الذي مات؟ فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش» أخرجه الحاكم ووافقه الذهبي وأخرج أحمد باسناد صحيح، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمَّ ضمَّة ثم أخرج عنه».
إنه سعد بن معاذ الذي توالت نعم الله عليه، وترادف كرمه عز وجل عليه فتقول أسماء بنت يزيد بن السكن... لما توفي سعد بن معاذ صاحت أمه، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليرقأ (لينقطع) دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له العرش» رواه الطبراني.
هذه هي المنزلة التي أعدها الله لمن قدم النصرة لرسول الله حين بنى دولة الاسلام... والمنزلة هي المنزلة نفسها وربما بفضل الله وجوده هي أعظم لمن ينصر المسلمين حين تقاذفتهم أمواج الكفر ميمنة وميسرة، وتكالبت عليهم الأمم ورمتهم كل الأنظمة عن قوس واحدة.
إن النياشين والرتب لن تمنع عن صاحبها من الله الغضب ولا شيئاً من اللهب إذا ما قصر في نصرة دين الله، وإن ما يجب أن يدركه الضابط صاحب القوة والمنعة، والذي نخصه في الخطاب أن سعد بن معاذ ليسَ فلتة من فلتات التاريخ لا يتكرر... بل يجب أن يدرك أنه سعد، ويستطيع أن يفعل وأن ينصر كما فعل ونصر سعد، وأن الخطاب له اليوم كما كان الخطاب في الأمس لسعد.
أسيد بن حضير
ورث المكارم كابراً عن كابر..
فأبوه حضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحداً من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء.
وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحداً من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ. فلما اصطفاه الإسلام، وهدي إلى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه، وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه كواحد من أنصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين إلى الإسلام العظيم. ولقد كان إسلامه يوم أسلم سريعاً، وحاسماً وشريفاً...
فعندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم إلى دين الله. يومئذ، جلس أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو إلى دين جديد لا يعرفونه.
وقال سعد لأسيد: "انطلق إلى هذا الرجل فازجره...". وحمل أسيد حربته، وأغذ السير إلى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام.
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها مصعب بن عمير إلى الله... وفاجأهم أسيد بغضبه وثورته...
وقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع.. فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته، كففنا عنك ما تكره".. كان أسيد رجلاً.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
فلما رأى مصعباً يحتكم به إلى العقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
لقد أنصفت، هات ما عندك...
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته. ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
"والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم.. عرفناه في إشراقه وتسهّله..!".
لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهوراً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله...
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟
قال له مصعب: تطهر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي...".
إن شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها، لا تتردد لحظة أمام إرادتها الحازمة.. ومن ثمّ، قام أسيد من غير إرجاء ولا إبطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلناً إسلامه، مودّعاً أيام وثنيّته، وجاهليته!! كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل إليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير وإخراجه.. وعاد إلى سعد... وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: «أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به..».
أجل.. لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي.. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!! وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلاً...
إنه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماماً في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره...
ويعلم أنه ليس بينه وبين الإسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه)...
لكنه لو قال لسعد: إني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة...
إذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه إلى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى...
فكيف السبيل لهذا؟.. كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفاً على أسعد ابن زرارة... وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد ابن معاذ... هنالك قال أسيد لسعد:
"لقد حدّثت أن بني الحارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك".. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعاً إلى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين...
ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطاً، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم...
هنالك أدرك الأمر الذي نسجه له أسيد لكي يحمله على السعي إلى هذا المجلس، وإلقاء السمع لما يقوله سفير الإسلام مصعب بن عمير. ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للإسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين!!
كان أسيد يحمل في قلبه إيماناً وثيقاً ومضيئاً... وكان إيمانه يفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلاً للثقة دوماً.. وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
"لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم... أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير دياركم... أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..
سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقاً عليه أن يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. وتألم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً، وقابله أسيد، فقال له النبي عليه السلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
قال الرسول: عبدالله بن أبيّ!!
قال أسيد: وماذا قال..؟؟
قال الرسول: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها إن شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز...
ثم قال أسيد:
"يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وان قومه لينظـمون له الخـرز ليتوّجوه على المدينة ملكاً، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكاً"... بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح كان أسيد دائماً يعالج المشاكل، ويواجه القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة...
وفي يوم السقيفة، إثر وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالاً في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاه... وقف أسيد فقال مخاطباً فريق الأنصار من قومه:
"تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المهاجرين... فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين...
ولقد كنا أنصار رسول الله... وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته... وكانت كلماته، برداً، وسلاماً. ولقد عاش أسيد بن حضير (رضي الله عنه) عابداً، قانتاً، باذلاً روحه وماله في سبيل الخير، جاعلاً وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار نصب عينيه:
"اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض..".
ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق وحبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعاً. وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن إحدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها...
ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه... وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد... وأبى أمير المؤمنين عمر إلا أن يحمل نعشه فوق كتفه... وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم... وعادوا إلى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه: نعم الرجل... أسيد بن حضير..".
ابو علي الحق
النصرة: دقة في التخطيط وجرأة في التنفيذ
إن النصرة حكم شرعي واجب على أهل القوة من المسلمين، وعليهم إثم التقصير فيه، وهو إثم عظيم، وهؤلاء عليهم واجبان، وكل واحد منهما لا يقل عن الآخر: الأول: واجب تسلم الحكم ولو بالقوة من الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والثاني: واجب تسليم الحكم للجهة التي تعمل لإقامة الحكم بما أنزل الله، فبهذين الواجبين يتحقق مقصود النصرة، ويتحقق فيمن يقوم بها أنهم أنصار الله، ونعمّا هم. وسيكون لهم شأن عظيم بعد قيامها كما كان لسابقيهم الذين نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمثال: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير. وسيذكرون بالخير حتى قيام الساعة.
وما يذكر في هذا الصدد، أن عملية التسلّم والتسليم تحتاج إلى تخطيط دقيق وجرأة لا مثيل لها في التنفيذ، واتخاذ خطة ووسائل وأساليب فيها إبداع...
وتحتاج إلى تعاون وتنسيق بين أهل القوة ممن يريدون نصرة الدعوة وبين الحزب الذي يعمل في الأمة، والذي يكون قد هيّأ سائر الأعمال الشرعية المطلوبة لإقامة الدولة الإسلامية من إيجاد شخصيات إسلامية ورجال دولة وأعضاء ناضجين على فكرته، ورأي عام على فكرته... ليتحركا بالتوافق للوصول إلى المقصود، وهو إقامة الحكم بما أنزل الله.
فالتخطيط، والبراعة في التنفيذ مطلوبان، ويذكرنا بهما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما هاجر من مكة إلى المدينة. فقد اتخذ خطة له واستعمل وسائل وأساليب ذكية جداً، آخذاً بعين الاعتبار أنها عقلية تابعة (للرأي والحرب والمكيدة)، فلم يترك ثغرة في التخطيط ولا تقصيراً في التنفيذ، ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متوكلاً على الله فيما يقوم به حق التوكل، مؤمناً بالله إيماناً لا يتطرق إليه أدنى ريب بأنه سبحانه هو معبوده المطاع وحده، وأنه سبحانه معينه ومنجز وعده له في نصره... فلننظر كيف خطط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف أعان الله، حتى قامت دولة الحق، دولة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) حتى يكون لنا ذلك نبراساً ونوراً نهتدي به في ظلمات هذه الأيام المدلهمة، وخاصة في طلب النصرة.
تذكر السِّيَر أن جبريل عليه السلام نزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي ربه تبارك وتعالى، وأخبره بمؤامرة قريش لقتله، وأذن له بالخروج، وقال له: «لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه».
ذهب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهاجرة إلى أبي بكر (رضي الله عنه)، وكان متقنعاً، وجاء في ساعة لا يأتي فيها أحد، وهو وقت الظهيرة، وقت الحر والقيظ، فأخبره بأمر الهجرة والصحبة، واتفق معه على خطة الهجرة كيف تكون، ثم عاد إلى بيته ينتظر مجيء الليل.
أما في المقلب الثاني، فقد كان أكابر المجرمين في قريش قد قضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ خطتهم بقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوزيع دمه في القبائل، وتم اختيار أحد عشر رئيساً من أكابرهم، ولما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه، وهنا بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتنفيذ خطته.
فقد أمر سيدنا علي (رضي الله عنه) أن ينام على فراشه، وطلب منه أن يتسجى ببرده الحضرمي الأخضر الذي كان من عادته أن يتسجى به وينام، وأخبره أنه لن يخلص إليه شيء يكرهه منهم، وكان مقصد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التمويه والتعمية على أعدائه، ونجح هذا الأمر، إذ خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس 9] ووضع التراب على رؤوس المحاصرين فلم يروه. ولما رآه رجل من خارجهم وأخبرهم أنه خرج، لم يصدقوه لأنهم كانوا يظنون أن ذاك الذي يتسجى ببرده هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهم عرفوا الحقيقة بعد وقت كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ابتعد عنهم وذهب إلى بيت أبي بكر (رضي الله عنه)، ومن هناك خرجا في رحلة الهجرة ضمن خطة محكمة، فلم يخرجا من باب البيت بل من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لا يراهما أحد ولا يعرف وجهتهما، ولحقا بغار ثور في اتجاه اليمن، وهو بعكس وجهته الأصلية، وكان ذلك في 27 من صفر.
لما تحقق المحاصرون أن علياً (رضي الله عنه) هو الذي في داخل البيت بدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طاش رأسهم. وسألوه عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبرهم أنه لا يعلم، وأسقط في يدهم.
وكان تخطيطه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أنظار قريش ستتجه لأول وهلة إلى طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً، فسلك الطريق الذي يضاده تماماً، وهو الطريق الجنوبي المتجه نحو اليمن. وبعد نحو خمسة أميال وصلا إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، وكان في الجبل غار، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ. وكان يبيت معهما عبد الله بن أبي بكر ويغادرهما في السحر، فيصبح في قريش وكأنه بائت معهم، وكان عندما يأتي إليهما فليخبرهما بما يتحدث به القوم. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يؤمن لهما اللبن في الغلس من كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه.
لما علمت قريش بخروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جن جنونهم، فضربوا علياً وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة علهم يظفرون بخبرهما، فلم يكن لهم ذلك. بعد ذلك ذهبوا إلى بيت أبي بكر (رضي الله عنه) وسألوا عنه، فلما أجابتهم ابنته أسماء بأنها لا تعرف لطم أبو جهل (لعنه الله) وجهها.
ثم اجتمعوا بعدها في جلسة طارئة ليقرروا فيها استخدام جميع الوسائل التي تمكنهم من القبض على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه)، فوضعت جميع منافذ الطرق من مكة تحت المراقبة الشديدة، ووضعوا مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة مقابل حياة كل منهما، حياً أو ميتاً. وعلى أثر ذلك جدّ الفرسان والمشاة وقصّاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان والهضاب... ولكن من دون جدوى، حتى وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، وحفظه يتم لمن يشاء.
وصلوا إلى مكان يقول فيه أبو بكر (رضي الله عنه): لو نظر أحدهم إلى موضع رجله لرآنا، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طمأنه وقال له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». وفي ذلك نزل قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 40]. وهكذا رجع المطاردون حين لم يبقَ بينهم وبينهما إلا خطوات معدودة.
بعد ثلاثة أيام خف الطلب، وتوقفت دوريات التفتيش، فتهيأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه) للخروج إلى المدينة، وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان على دين قومه، هادياً لهم في الطريق؛ لأنه كان ماهراً فيها، وأمناه على ذلك، وسلّما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ليوافيهما براحلتيهما، فلما كانت غرة شهر ربيع الأول، أتاهما على ما واعداه عليه، وأتت أسماء بسفرتهما، ثم ارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة.
أما بن أريقط، فقد أمعن في سلوك طريق الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لا يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقاً لا يسلكه أحد إلا نادراً.
وفي الطريق لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر ثياباً بيضاء.
وفي 8 ربيع الأول من السنة التي عدت فيما بعد الأولى من الهجرة. نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء.
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح.
كبَّر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجت المدينة كلها لاستقباله، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها... فأقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء أربعة أيام، ثم في اليوم الخامس ركب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر (رضي الله عنه) ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله فجاؤوا متقلدين سيوفهم فسار نحو المدينة ودخلها، وكانت البيوت والطرق ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات: ولله درها من أبيات:
طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فينا
جئت شرفت المدينة
حقاً:----------
وجب الشكر علينا
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع
مرحباً يا خير داع
ما دعا لله داع
إن ما يلفت النظر في خطة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للهجرة أمران مهمان:
1- الإعداد البشري: فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعد خطة من عنده، وكانت خطة محكمة لم يترك فيها جانباً من غير اهتمام، وهذا الذي أعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ينطبق عليه أنه من (الرأي والحرب والمكيدة). فالله سبحانه قد أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجرة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دبر خطة واتخذ لها كافة الوسائل والأساليب التي تمكنه من هجرة ناجحة. وفي مقابل ذلك فإن المطلوب ممن يقوم بنصرة دين الله أن يعدوا خطة محكمة تمام الإحكام، يتجلى فيها الدقة في التخطيط، والإبداع في اختيار الوسائل والأساليب، والجرأة في التنفيذ... فإن عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دل على ذلك، وهي من باب التذكير والاختصار:
- مبيت علي (رضي الله عنه) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
- خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيت أبي بكر في الظهيرة حتى لا يراه أحد.
- خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر (رضي الله عنه) من الكوة حتى لا يراهما أحد فيتابعهما ويعرف وجهتهما.
- سلوك طريق الجنوب نحو اليمن وهو على عكس الطريق إلى المدينة باتجاه الشمال.
- المبيت في غار ثور ثلاثة أيام ريثما يهدأ الطلب.
- الطلب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع ما يقوله الناس فيهما.
- تأمين الزاد عن طريق أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها).
- إعفاء الأثر عن طريق مولى أبي بكر وهو عامر بن فهيرة.
- استئجار دليل هادٍ خريت يعرف الطريق وهو ابن أريقط...
2- التدخل الرباني: ورد في السيرة فيما يتعلق بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض التدخلات الربانية المباشرة التي ذكرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. فما هي؟ وكيف نفسرها ونستفيد منها لوقتنا وعملنا في النصرة. ولنكتفِ بذكر مثلين منها:
- في رواية للإمام أحمد عن المطاردين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه، أنهم خرجوا يطوفون جبال مكة، حتى انتهوا إلى الجبل الذي هم فيه، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لرجل مواجه في الغار: يا رسول الله، إنه ليرانا. فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلا، إن ملائكة تسترنا بأجنحتها». فجلس ذلك الرجل، فبال مواجه الغار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان يرانا ما فعل هذا». ذكره ابن هشام. وفي رواية للبخاري: «فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ رأسه رآنا، قال: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما...».
فهنا بالرغم من كامل الجهد البشري في وضع الخطة وتنفيذها من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وصل الكفار المطاردون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكان اختفائه، فيما يدل على مبلغ اهتمامهم بقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والقضاء على دعوته، وهنا يظهر تأييد الله وعونه، وذلك مقابل بذلهما لكامل جهدهما، فقال جل من قائل: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 40]، وهنا يجـــب علـــى الدعاة وأهل القوة أن يعلموا يقيناً أن من ينصـــر الله لا يغلبه أحد، ونصــر العبد لخـــالقه ودينه تكون بالاتباع والتقيد والالتزام بإحسان، ونصر الله لعبده يكون بتأييده وجعل إظهار الدين على يديه.
- كذلك، فإنه مع بالغ الاحتياط من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه) استطاع سراقة بن مالك أن يلحق بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمن كان معه طمعاً بالجائزة، ويصل إليهم ويهم بإيذائهم أكثر من مرة، فلم يفلح حتى إن يدي فرس سراقة قد ساختا في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فعرف أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ممتنع عنه، وحدثته نفسه أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيظهر، فناداهم بالأمان، فوقفوا (كانوا أربعة: الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو بكر، وابن فهيرة، وابن أريقط (رضي الله عنهم)). فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أخفِ عنا» وكتب له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاب أمن بحسب طلبه، ورجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: لقد استبرأت لكم الخبر، لقد كفيتكم ما ههنا، فكان أول النهار جاهداً عليهم، وآخره حارساً لهم. وهكذا نجد مرة أخرى تدخلاً ربانياً كفى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه (رضوان الله عليهم) من الإيذاء، وكف عنهم ما يمنع من وصول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة لإقامة الدولة.
هذا التدخل الرباني استحقه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسن اتباعه وحسن قيامه بما هو مطلوب منه حتى إنه لم يقصر في إعداد العدة للهجرة أدنى تقصير، وكانت الجائزة من الله، الهدية، المنحة، المنة: إقامة الدولة الإسلامية في المدينة... واليوم، فإنه إذا قامت الثلة المؤمنة من أهل القوة وأهل الدعوة بهذا الفرض خير قيام، وبذلوا له كامل جهدهم من غير أي تقصير، فإن نصر الله آت ولاريب، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر 51] وإن تأييده وتدخله الرباني سيحصل وإن لم نعرف كيف، وقد لا نعلم بوجوده.
نداء حار إلى أهل القوة والمنعة
إننا نوجه هذا النداء من هنا إلى أصحاب الرتب والنياشين، إلى الضباط والألوية، إلى النقباء والجنود، إلى الجيوش الرابضة في عرينها في بلاد المسلمين كافة مستصرخين همتهم ونخوتهم ونجدتهم وغيرتهم على دينهم، فنقول:
يا أهل القوة والمنعة، أما آن لكم أن تغضبوا لله ؟ أما آن لكم أن تنصروا دين الله؟ أما آن لكم أن تنعتقوا من التبعية لحكامكم وتدينوا لله ربكم؟ أليس لكم في سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة وأسيد بن حضير أسوة حسنة؟ ألا تشتاقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؟ أين حمية الإسلام في نفوسكم وأنتم ترون علوج الكفر تنتهك أعراض المسلمات، ويهينون كتاب ربكم، ويسيئون إلى نبيكم، فأين غضبكم لله؟ أليس فيكم رجل يغضب لله فيطيح بهذه العروش وينصر العاملين للخلافة؟ ألا تحسبون الحساب ليوم تقفون فيه بين يدي ربكم، فلا يغني عنكم زعيم ولا حاكم، ولا تغني عنكم مناصبكم ولا رتبكم ونياشينكم ولا أموال حكامكم التي كانوا يغرونكم بها؟ ألا هبوا وتحركوا على بركة من ربكم، وأعلموا أنها والله ما هي إلا نفس واحدة، فإما أن تُزهق في سبيل الله -المالك لها وحده-ـ فتكون لكم الجنان وصحبة سيد الشهداء والحوراء العيناء، وإما أن تُزهق في سبيل هؤلاء الحكام الظلمة وهذه الدنيا الفانية فتكون الحسرة عليكم يوم القيامة والعياذ بالله. فاتقوا الله في أمتكم وفي دينكم وفي أنفسكم، وأروا الله من أنفسكم ما يرضيه عنكم ليغفر لكم ما سلف من ذنوبكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون 99-101].
أيها الضباط في هذه الجيوش الرابضة، يا أهل القوة والمنعة: إن هذه اللحظات لهي لحظات العزم والحسم، وإن الأمة لتنتظر منكم الموقف الذي تشهد به لكم، وإن العالم الذي يئن بسبب براثن الكفر وجشع الرأسمالية لينتظر اللحظة التي تتحركون فيها لقلب أنظمة الجور هذه، وتعلن فيها الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. فإن أجبتم هذا النداء الموجه لكم في هذه الذكرى -ذكرى هدم الخلافة- فإنه والله شرف كبير لكم في هذه الدنيا أنكم أنتم من أقام الخلافة ونصر العاملين لإقامتها. وإن أبيتم إلا القعود عن نصرة العاملين، فإن الله الذي نصر أنبياءه من قبل، سينصر أولياءه اليوم، ويقيض لهذا الشرف العظيم من هو أولى به منكم فتبوؤون بالإثم والخسران المبين. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة 54] قال ابن كثير رحمه الله: «إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن اللّه سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً».
أخيراً نقول إننا سائرون في هذا الطريق على هدى من الله وأملنا بتحقق غايتنا بتوفيق ربنا كبير ، وإننا نوجه نداءنا للمسلمين كافةً رجالاً ونساءً أن يحملوا هذا الهم معنا؛ لأنه فرض الساعة الذي لا يجوز لأحد أن يقعد عنه، ولا أن يقصر فيه، كما أننا نكرر نداءنا للجيوش قائلين لهم: إنها والله هذه هي اللحظات التي تُفتقدون فيها، وهي والله سوق الجنة قد فتحت لكم، فأروا الله من أنفسكم خيراً، وانصروا دين الله كي تفوزوا بعز الدنيا والآخرة. نسأل الله أن يفتح قلوبكم وأن يشرح صدوركم لهذا الأمر وأن ييسر لهذه الأمة من بينكم من ينال شرف نصرة هذه الدين وإعلان الخلافة إنه سميع مجيب.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال 24].
http://www.al-waie.org/issues/258-259/article.php?id=678_0_50_0_C (http://www.al-waie.org/issues/258-259/article.php?id=678_0_50_0_C)
العددان 258-259 ، السنة الثانية والعشرون ، رجب وشعبان 1429هـ ، تموز وآب 2008م
النصرة: الطريق الشرعي لاستلام الحكم وواجب أهل القوة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأُوَل بشرف لا يدانيه شرف حيث قد أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم في المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلاً من الفريقين المتآخيين بعمل عظيم جليل، ناداهم به فُسموا مهاجرين وأنصاراً، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلاناً للدولة وانتقالاً لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام. ولولا النصرة والأنصار لم تكن هنالك هجرة أو مهاجرون، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة وهو كثيراً ما يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما، وأي ذكر وأي فضل هو ذاك!!
حيث إننا نتكلم عن النصرة التي تتلوها الهجرة، كان لا بد من الرجوع إلى سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الأسوة والقدوة والمثال، فقد كان عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة هادفاً لإقامة دار الإسلام، فسار في خطوات محددة واضحة المعالم ليقتدي به من خلفه حينما تغيب دار الإسلام عن الوجود، ويكون واجباً حينها العمل لإيجادها، وهو الذي ذكر ذلك الأفول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديثه التي بشرت أيضاً بعودة الخلافة ودار الإسلام من جديد.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي السنة العاشرة للبعثة أي قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد أن توفي عمه أبو طالب الذي كان يوفر له لوناً من ألوان النصرة والحماية تمكن من خلالها أن يقوم بحمله للدعوة وهو آمن، ولما أن تجمد في وجهه مجتمع مكة فما أثرت فيه دعوة الإسلام وما وجد فيه رأي عام على الإسلام وأفكاره، جاءه أمر الله عز وجل بطلب النصرة أي حسن المعونة، جاء في معاجم اللغة، النَّصْر: عَوْنُ المَظْلُوْمِ. والأنْصَارُ: جَماعَة الناصِرِ. وانْتَصَرَ: انْتَقَمَ من ظالِمِه. والنّصْرَةُ:حُسْنُ المَعُوْنَةِ. جاء في سيرة ابن هشام تحت باب: سَعْيُ الرّسُولِ إلَى ثَقِيفٍ يَطْلُبُ النّصْرَةَ: «قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنَ الأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلَى الطّائِفِ يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ، وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ».
وفي فتح الباري لابن حجر ومثله في تحفة الأحوذي والكلام لابن حجر،وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِم وَأَبُو نُعَيْم وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنِ اِبْن عَبَّاس حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب قَالَ: «لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيّه أَنْ يَعْرِض نَفْسَه عَلَى قَبَائِل الْعَرَب، خَرَجَ وَأَنَا مِنْهُ وَأَبُو بَكْر إِلَى مِنًى، حَتَّى دَفَعَنَا إِلَى مَجْلِس مِنْ مَجَالِس الْعَرَب».
فالأمر بطلب النصرة وتوقيته جاء من الله عز وجل كما يظهر من كلام علي (رضي الله عنه) فيما ورد آنفاً، فالتوقيت جاء بعد فقده (صلى الله عليه وآله وسلم) الحماية، فلم يعد آمناً، وما عادت قريش تتركه يبلغ دعوة ربه، وفي الوقت ذاته فإنه لم يكن من أمل هناك لأن يقوم مجتمع مكة بتسليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سلطانه حيث لم يوجد فيه رأي عام على الإسلام ابتداءً، فجاء الأمر بطلب النصرة حينها ليبعث الأمل في الدعوة حتى تصل إلى مكانها الذي ينبغي أن تقتعده، حيث الحكم والسلطان والتطبيق الشامل لأحكام الإسلام، فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطائف، وكانت حينذاك تعد من أقوى الكيانات القائمة في الجزيرة، فقد كانت تبز قريشاً في القوة والشرف والمكانة، وهذا ما جاء على لسان الوليد بن المغيرة حينما استنكر نزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون سادة مكة والطائف، فأنزل الله قوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف 31] وليس أدل على ذلك أيضاً من صعوبة فتحها على يد الدولة فيما بعد، وما كان من حصار وقتل شديدين على أسوارها والعودة عنها بعد أن رميت بالمنجنيق فصمدت، سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف وتقصد فيها سادتها وأشرافها، والتقى بثلاثة منهم وكلمهم في أمر الإسلام والنصرة، ثم عاد منها بعد أن يئس من خيرها وعدم استجابتها لما طلب، وكانت ثقيف البداية حتى إذا ما عاد إلى مكة ونزل في جوار المطعم بن عدي، بدأ يطلب النصرة من زعماء قبائل العرب القوية في المواسم، والذين هم بمثابة رؤساء الدول في وقتنا، جاء في ابن هشام في باب عرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه على القبائل، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَكّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلاَفِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ إلاّ قَلِيلاً مُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ آمَنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ إذَا كَانَتْ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَيّنَ (لَهُمْ) اللّهُ مَا بَعَثَهُ بِهِ"
وتروي السير أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي كل من كان له شرف ومكانة وقوة من القبائل في منازلهم في المواسم، جاء في ابن هشام تحت باب:" عَرْضُ الرّسُولِ نَفْسَهُ عَلَى الْعَرَبِ فِي الْمَوَاسِمِ": "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إلَى اللّهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ مِنْ الْهُدَى وَالرّحْمَةِ، وَهُوَ لا يَسْمَعُ بِقَادِمِ يَقْدَمُ مَكّةَ مِنْ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ، إلا تَصَدّى لَهُ فَدَعَاهُ إلَى اللّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ"، وتذكر السير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى كلباً في منازلهم فما قبلوا منه، وأتى بني حنيفة أهل اليمامة في منازلهم فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منه، وقد أتى بني عامر بن صعصعة فأبوا عليه إلا أن يعطيهم الحكم من بعده فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وأتى كندة من أهل اليمن في منازلهم فطلبوا الحكم من بعده أيضاً فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأتى بكر بن وائل في منازلهم فأبوا منعته لجوارهم فارس، وأتى ربيعة في منازلهم فما أجابوه، وأتى بني شيبان وقد كانوا يجاورون فارس في منازلهم فعرضوا عليه النصرة من جهة العرب دون الفرس، فكان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه»، واستمر (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلبه للنصرة رغم عدم استجابة عدد كثير من القبائل له، فما كلَّ ولا ملَّ ولا حادَ عن عمله هذا لغيره، جاء في زاد المعاد عن الواقدي "قَالَ: «وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة، وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة، وَفَزَارَةُ، وَغَسّانُ، وَمُرّةُ، وَحَنِيفَةُ، وَسُلَيْمٌ، وَعَبْسُ، وَبَنُو النّضْر،ِ وَبَنُو الْبَكّاءِ، وَكِنْدَةُ، وَكَلْبٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ، وَعُذْرَةُ، وَالْحَضَارِمَةُ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ." وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على طلبه للنصرة حتى أذن الله سبحانه وتعالى بنصرة دينه، قال ابن إسحاق فيما يرويه ابن هشام في سيرته: "فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الْمَوْسِمِ الّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النّفَرُ مِنْ الأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللّهُ بِهِمْ خَيْراً." فأسلم أولئك الرهط، وذهبوا ليصلحوا ما بينهم وبين الأوس، ثم قدموا في العام الذي يليه وكانوا اثني عشر، واجتمعوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة، وكانت بيعة العقبة الأولى. وبعد أن تهيأ مجتمع المدينة على يد مصعب الخير، قدموا عليه وقدم من أسلم من سادتهم وأشرافهم لينصروه، فاجتمعوا في العقبة الثانية، فكانت بيعة على الحرب، جاء في سيرة ابن هشام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيعة: "ثُمّ قَال: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ: نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ (نَبِيّاً) لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَنَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا (عَنْ كَابِرٍ)" فتمت بذلك كلمة الله وقامت للإسلام دولة.
وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب النصرة لتحقيق أمرين: أحدهما منع الأذى عنه وحمايته حتى يستطيع تبليغ رسالة ربه، والآخر إيصال الإسلام إلى الحكم وإقامة الدولة، ومن الأول ما رواه الحاكم عن جابر في المستدرَك على الصحيحين قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض نفسه على الناس... فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي؟ قال: فأتاه رجل من بني همدان فقال: أنا. فقال: وهل عند قومك منعة؟ قال: نعم. وسأله من أين هو فقال: من همدان. ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه -أي ينقضوا عهده- فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم ألقاك من عام قابل. قال: نعم»."
ومنه قول ابن اسحق في سيرة ابن هشام: "فكان رسول الله يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به"، فهذا الطلب للنصرة لأجل تمكينه من الدعوة وتبليغ الرسالة.
ومن الثاني ما جاء من ذكر إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بني شيبان في منازلهم وعرضهم عليه النصرة مجزوءة فرفضها، وكذلك ما جاء من مفاوضة مع بني عامر بن صعصعة وكندة وطلبهم الحكم من بعده ورفضه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وما تكلل به طلب النصرة من مبايعة الأوس والخزرج له على الحرب فيما دار في بيعة العقبة الثانية.
إن هذا الطلب الحثيث من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للنصرة لما أمره ربه سبحانه وتعالى بذلك، ومداومته على الفعل وصبره عليه وعدم حيده عنه رغم ما لاقاه من صد ورد وأذى، يدل على أن الطلب من الله كان جازماً في طلب النصرة، وبالتالي فهو فرض واجب، وهو من طريقة العمل لإقامة الدولة واستئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولا يجوز الحيد عنه، ويكون في أيامنا من الحزب السياسي الذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وفق طريقة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بطلبها من أهل القوة في زماننا، وهو ما يصدق على الجيوش في بلاد المسلمين، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتقصد القبائل باعتبارها الكياني، وكان يسأل عن القوة والمنعة فيها، وكان يطلب منها قبل ذلك الإسلام كشرط أساس لنصرة الإسلام، وهذا ما ينطبق على الجيوش في بلاد المسلمين أو على قبائل قوية في بعض المناطق باستطاعتها تغيير الحكم، وطلب النصرة من قبل الحزب الذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية عمل سياسي، إذ إن من يقوم بالعمل المادي هم أهل النصرة القادرين على ذلك، وبوصفه كذلك فإنه تحشد له الطاقات الممكنة، وينبه أهل القوة بشتى الوسائل لإعطاء النصرة عن طريق ضغط الأمة عليهم لتحملهم مسؤوليتهم العظيمة، وهو عمل طارئ بالرغم من كونه واجباً ومن الطريقة، يبدأ بعد تهيئة القاعدة الشعبية ووجود رأي عام على أفكار الإسلام الأساسية وعدم القدرة على التغيير الطبيعي حين تفقد المجتمعات تلك الإرادة وتسلبها منها الأنظمة، وينتهي هذا العمل باستلام الحكم وتطبيق الإسلام تطبيقاً جذرياً انقلابياً.
ولكون طلب النصرة بهذه الأهمية العظمى، إذ هو من أعظم الأحكام الشرعية لما يترتب عليه من قيام دولة الإسلام بعد غيابها، ورفع راية الله خفاقة بعدها، ويقضي على الظلمات المركب بعضها فوق بعض: من حكم بغير ما أنزل الله، وتسلط للرأسمالية وما تبعها من مآسٍ وويلات ومصائب جليلات، ولكونه يتعلق بفئة مخصوصة هي تلك التي تملك القوة والمنعة للتغيير ونصرة الدعوة، ولكونه طارئاً له وقت محدد وإن طال، فإن المسؤولية حينها تكون عظيمة جليلة على أولئك الذين يتوقف على استجابتهم التغيير، فأجرهم عظيم إن هم استجابوا، وأي أجر أعظم من الجنة.
فضل الأنصار
فضل الأنصار في القرآن الكريم:
يكفي الأنصار فضلاً ذكر الله تعالى لهم في كتابه العزيز حيث وصفهم بصفات هي مطمع كل مسلم، فذكر عنهم أنهم من السابقين الأولين، وطلب منا اتباعهم بإحسان، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار... فهنيئاً لهم ما ختموا عليه. قال تعالى مسجلاً لهم الشهادة العظمى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة 100] وقال تعـالى في حـقهم، وهـنيئاً لهــم من قــول: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة 117] وقال تعالى آمراً المؤمنين أن يكونوا أنصار الله فهنيئاً لمن كان كذلك (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف 14].
فضل الأنصار في السنة والسيرة النبوية المشرفة:
جاء في السير عما جاء في العقبة الثانية: قَالُوا -أي الأنصار-: "فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ نَحْنُ وَفّيْنَا (بِذَلِكَ) قَالَ الْجَنّةُ. قَالُوا: اُبْسُطْ يَدَك. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ"، وفي المقابل، فإن وزر من تطلب منهم النصرة عظيم، ذلك بأن يُؤتى الإسلام من قبلهم ويبقوا على طاعتهم للحكام المتسلطين على رقاب الأمة.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»، وروى الترمذي عن البراء بن عازب أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَوْ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الأَنْصَارِ: «لا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ»، وروى البخاري عن أنس قال: «رَأَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ عُرسٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مُمْثِلاً فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ»، وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، مَرَّتَيْنِ»، وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ «إِنَّ الأَنْصَارَ كَرِشِى وَعَيْبَتِى، وَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ». وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كرشي وعيبتي أي بطانته وخاصته، وعنده أيضاً عن ابن عباس أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»،روى البخاري قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ، رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ، قَالَتْ الأَنْصَارُ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ أَتْبَاعًا وَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ»، وفي تلك الخطبة المؤثرة بعد تقسيم غنائم حنين، خاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار قائلاً، واللفظ لأحمد عن أبي سعيد الخدري: «أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ» فأي فضل أعظم من أن يكون آية المؤمن حب قوم وآية النفاق بغضهم؟ وأي مكانة أعظم من أن يكون قوم هم أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم خاصته وبطانته؟ وأي شرف أعظم من أن تكون المغفرة لأبناء قوم وأبناء أبنائهم ونسائهم وذراريهم؟ بل وفوق ذلك أن يكون أتباعهم وأصحابهم منهم؟ وأي فضل هو ذاك أعظم من أن يهتز عرش الرحمن لموت رجل اسمه سعد بن معاذ، ما تميز به عن غيره من الصحابة إنما هو النصرة؟ روى البخاري عن عَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ».
كل ذلك الفضل إنما هو للأنصار وليس لغيرهم من أحد فضل مثله إلا ما كان للمهاجرين، فأين أنصار اليوم وقد فتح لهم باب النصرة من أوسع أبوابه ليعيدوا سيرة الأنصار الأُوَل، الأبطال الأول، وإنه إذا كان هذا الباب قد أغلق قروناً طوالاً فليفتح لهم من جديد. فهنيئاً لمن يصطفيه الله في فتحه، فإنه بعدها، والله أعلم، سيغلق ولا يفتح أبداً بعد ذلك.
أبو تقي الشامي
سعد بن معاذ
جواد عبد المحسن - الخليل
على أهل القوة اليوم أن يدركوا أن الدولة الإسلامية قد أقيمت مرة واحدة من قبل وهدمت مرة واحدة. وأن شأن من يقيمها اليوم سيكون كشأن من نصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودرجته ستكون إن شاء الله تعالى مثل درجة سعد بن معاذ (رضي الله عنه) الذي قال عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «لقد اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ»، وإنه لحريُّ لكل قائد من قادة المسلمين أن يقرأ عن سعد... إنه سعد الذي وقف يوم بدر يوم الفرقان وقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «لقد آمنا بك وصدقناك... وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصبرٌ في الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر له عينك، فسر على بركة الله».
وفي رواية: «لعلك أن تكون قد خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامضِ، فَصِل حِبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت».
هذا ما يجب أن يدركه المخاطب عن مواقف الرجال في مواقف الحسم المتعلقة بمصائر الأمة، فلم يكن بنو عبد الأشهل آلافاً، ولكنهم كما يقول الشاعر:
ثقالٌ إذا لاقوا، خفافٌ إذا دُعُوا=كثيرٌ إذا اشتدوا، قليلٌ إذا عُدوا
إنه سعد بن معاذ الذي قال عنه القوم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخفَّ علينا منه» فيجيبهم الرسول «ما يمنعه أن يخفَّ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومه قد حملوا معكم» أخرجه ابن سعد في الطبقات.
إنه سعد بن معاذ، وحين صعدت روحه إلى خالقها جاء جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «من هذا العبد الصالح الذي مات؟ فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش» أخرجه الحاكم ووافقه الذهبي وأخرج أحمد باسناد صحيح، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمَّ ضمَّة ثم أخرج عنه».
إنه سعد بن معاذ الذي توالت نعم الله عليه، وترادف كرمه عز وجل عليه فتقول أسماء بنت يزيد بن السكن... لما توفي سعد بن معاذ صاحت أمه، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليرقأ (لينقطع) دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له العرش» رواه الطبراني.
هذه هي المنزلة التي أعدها الله لمن قدم النصرة لرسول الله حين بنى دولة الاسلام... والمنزلة هي المنزلة نفسها وربما بفضل الله وجوده هي أعظم لمن ينصر المسلمين حين تقاذفتهم أمواج الكفر ميمنة وميسرة، وتكالبت عليهم الأمم ورمتهم كل الأنظمة عن قوس واحدة.
إن النياشين والرتب لن تمنع عن صاحبها من الله الغضب ولا شيئاً من اللهب إذا ما قصر في نصرة دين الله، وإن ما يجب أن يدركه الضابط صاحب القوة والمنعة، والذي نخصه في الخطاب أن سعد بن معاذ ليسَ فلتة من فلتات التاريخ لا يتكرر... بل يجب أن يدرك أنه سعد، ويستطيع أن يفعل وأن ينصر كما فعل ونصر سعد، وأن الخطاب له اليوم كما كان الخطاب في الأمس لسعد.
أسيد بن حضير
ورث المكارم كابراً عن كابر..
فأبوه حضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحداً من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء.
وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحداً من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ. فلما اصطفاه الإسلام، وهدي إلى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه، وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه كواحد من أنصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين إلى الإسلام العظيم. ولقد كان إسلامه يوم أسلم سريعاً، وحاسماً وشريفاً...
فعندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم إلى دين الله. يومئذ، جلس أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو إلى دين جديد لا يعرفونه.
وقال سعد لأسيد: "انطلق إلى هذا الرجل فازجره...". وحمل أسيد حربته، وأغذ السير إلى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام.
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها مصعب بن عمير إلى الله... وفاجأهم أسيد بغضبه وثورته...
وقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع.. فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته، كففنا عنك ما تكره".. كان أسيد رجلاً.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
فلما رأى مصعباً يحتكم به إلى العقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
لقد أنصفت، هات ما عندك...
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته. ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
"والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم.. عرفناه في إشراقه وتسهّله..!".
لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهوراً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله...
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟
قال له مصعب: تطهر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي...".
إن شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها، لا تتردد لحظة أمام إرادتها الحازمة.. ومن ثمّ، قام أسيد من غير إرجاء ولا إبطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلناً إسلامه، مودّعاً أيام وثنيّته، وجاهليته!! كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل إليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير وإخراجه.. وعاد إلى سعد... وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: «أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به..».
أجل.. لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي.. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!! وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلاً...
إنه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماماً في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره...
ويعلم أنه ليس بينه وبين الإسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه)...
لكنه لو قال لسعد: إني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة...
إذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه إلى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى...
فكيف السبيل لهذا؟.. كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفاً على أسعد ابن زرارة... وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد ابن معاذ... هنالك قال أسيد لسعد:
"لقد حدّثت أن بني الحارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك".. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعاً إلى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين...
ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطاً، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم...
هنالك أدرك الأمر الذي نسجه له أسيد لكي يحمله على السعي إلى هذا المجلس، وإلقاء السمع لما يقوله سفير الإسلام مصعب بن عمير. ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للإسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين!!
كان أسيد يحمل في قلبه إيماناً وثيقاً ومضيئاً... وكان إيمانه يفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلاً للثقة دوماً.. وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
"لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم... أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير دياركم... أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..
سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقاً عليه أن يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. وتألم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً، وقابله أسيد، فقال له النبي عليه السلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
قال الرسول: عبدالله بن أبيّ!!
قال أسيد: وماذا قال..؟؟
قال الرسول: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها إن شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز...
ثم قال أسيد:
"يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وان قومه لينظـمون له الخـرز ليتوّجوه على المدينة ملكاً، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكاً"... بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح كان أسيد دائماً يعالج المشاكل، ويواجه القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة...
وفي يوم السقيفة، إثر وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالاً في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاه... وقف أسيد فقال مخاطباً فريق الأنصار من قومه:
"تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المهاجرين... فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين...
ولقد كنا أنصار رسول الله... وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته... وكانت كلماته، برداً، وسلاماً. ولقد عاش أسيد بن حضير (رضي الله عنه) عابداً، قانتاً، باذلاً روحه وماله في سبيل الخير، جاعلاً وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار نصب عينيه:
"اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض..".
ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق وحبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعاً. وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن إحدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها...
ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه... وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد... وأبى أمير المؤمنين عمر إلا أن يحمل نعشه فوق كتفه... وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم... وعادوا إلى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه: نعم الرجل... أسيد بن حضير..".
ابو علي الحق
النصرة: دقة في التخطيط وجرأة في التنفيذ
إن النصرة حكم شرعي واجب على أهل القوة من المسلمين، وعليهم إثم التقصير فيه، وهو إثم عظيم، وهؤلاء عليهم واجبان، وكل واحد منهما لا يقل عن الآخر: الأول: واجب تسلم الحكم ولو بالقوة من الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والثاني: واجب تسليم الحكم للجهة التي تعمل لإقامة الحكم بما أنزل الله، فبهذين الواجبين يتحقق مقصود النصرة، ويتحقق فيمن يقوم بها أنهم أنصار الله، ونعمّا هم. وسيكون لهم شأن عظيم بعد قيامها كما كان لسابقيهم الذين نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمثال: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير. وسيذكرون بالخير حتى قيام الساعة.
وما يذكر في هذا الصدد، أن عملية التسلّم والتسليم تحتاج إلى تخطيط دقيق وجرأة لا مثيل لها في التنفيذ، واتخاذ خطة ووسائل وأساليب فيها إبداع...
وتحتاج إلى تعاون وتنسيق بين أهل القوة ممن يريدون نصرة الدعوة وبين الحزب الذي يعمل في الأمة، والذي يكون قد هيّأ سائر الأعمال الشرعية المطلوبة لإقامة الدولة الإسلامية من إيجاد شخصيات إسلامية ورجال دولة وأعضاء ناضجين على فكرته، ورأي عام على فكرته... ليتحركا بالتوافق للوصول إلى المقصود، وهو إقامة الحكم بما أنزل الله.
فالتخطيط، والبراعة في التنفيذ مطلوبان، ويذكرنا بهما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما هاجر من مكة إلى المدينة. فقد اتخذ خطة له واستعمل وسائل وأساليب ذكية جداً، آخذاً بعين الاعتبار أنها عقلية تابعة (للرأي والحرب والمكيدة)، فلم يترك ثغرة في التخطيط ولا تقصيراً في التنفيذ، ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متوكلاً على الله فيما يقوم به حق التوكل، مؤمناً بالله إيماناً لا يتطرق إليه أدنى ريب بأنه سبحانه هو معبوده المطاع وحده، وأنه سبحانه معينه ومنجز وعده له في نصره... فلننظر كيف خطط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف أعان الله، حتى قامت دولة الحق، دولة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) حتى يكون لنا ذلك نبراساً ونوراً نهتدي به في ظلمات هذه الأيام المدلهمة، وخاصة في طلب النصرة.
تذكر السِّيَر أن جبريل عليه السلام نزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي ربه تبارك وتعالى، وأخبره بمؤامرة قريش لقتله، وأذن له بالخروج، وقال له: «لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه».
ذهب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهاجرة إلى أبي بكر (رضي الله عنه)، وكان متقنعاً، وجاء في ساعة لا يأتي فيها أحد، وهو وقت الظهيرة، وقت الحر والقيظ، فأخبره بأمر الهجرة والصحبة، واتفق معه على خطة الهجرة كيف تكون، ثم عاد إلى بيته ينتظر مجيء الليل.
أما في المقلب الثاني، فقد كان أكابر المجرمين في قريش قد قضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ خطتهم بقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوزيع دمه في القبائل، وتم اختيار أحد عشر رئيساً من أكابرهم، ولما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه، وهنا بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتنفيذ خطته.
فقد أمر سيدنا علي (رضي الله عنه) أن ينام على فراشه، وطلب منه أن يتسجى ببرده الحضرمي الأخضر الذي كان من عادته أن يتسجى به وينام، وأخبره أنه لن يخلص إليه شيء يكرهه منهم، وكان مقصد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التمويه والتعمية على أعدائه، ونجح هذا الأمر، إذ خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس 9] ووضع التراب على رؤوس المحاصرين فلم يروه. ولما رآه رجل من خارجهم وأخبرهم أنه خرج، لم يصدقوه لأنهم كانوا يظنون أن ذاك الذي يتسجى ببرده هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهم عرفوا الحقيقة بعد وقت كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ابتعد عنهم وذهب إلى بيت أبي بكر (رضي الله عنه)، ومن هناك خرجا في رحلة الهجرة ضمن خطة محكمة، فلم يخرجا من باب البيت بل من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لا يراهما أحد ولا يعرف وجهتهما، ولحقا بغار ثور في اتجاه اليمن، وهو بعكس وجهته الأصلية، وكان ذلك في 27 من صفر.
لما تحقق المحاصرون أن علياً (رضي الله عنه) هو الذي في داخل البيت بدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طاش رأسهم. وسألوه عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبرهم أنه لا يعلم، وأسقط في يدهم.
وكان تخطيطه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أنظار قريش ستتجه لأول وهلة إلى طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً، فسلك الطريق الذي يضاده تماماً، وهو الطريق الجنوبي المتجه نحو اليمن. وبعد نحو خمسة أميال وصلا إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، وكان في الجبل غار، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ. وكان يبيت معهما عبد الله بن أبي بكر ويغادرهما في السحر، فيصبح في قريش وكأنه بائت معهم، وكان عندما يأتي إليهما فليخبرهما بما يتحدث به القوم. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يؤمن لهما اللبن في الغلس من كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه.
لما علمت قريش بخروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جن جنونهم، فضربوا علياً وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة علهم يظفرون بخبرهما، فلم يكن لهم ذلك. بعد ذلك ذهبوا إلى بيت أبي بكر (رضي الله عنه) وسألوا عنه، فلما أجابتهم ابنته أسماء بأنها لا تعرف لطم أبو جهل (لعنه الله) وجهها.
ثم اجتمعوا بعدها في جلسة طارئة ليقرروا فيها استخدام جميع الوسائل التي تمكنهم من القبض على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه)، فوضعت جميع منافذ الطرق من مكة تحت المراقبة الشديدة، ووضعوا مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة مقابل حياة كل منهما، حياً أو ميتاً. وعلى أثر ذلك جدّ الفرسان والمشاة وقصّاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان والهضاب... ولكن من دون جدوى، حتى وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، وحفظه يتم لمن يشاء.
وصلوا إلى مكان يقول فيه أبو بكر (رضي الله عنه): لو نظر أحدهم إلى موضع رجله لرآنا، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طمأنه وقال له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». وفي ذلك نزل قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 40]. وهكذا رجع المطاردون حين لم يبقَ بينهم وبينهما إلا خطوات معدودة.
بعد ثلاثة أيام خف الطلب، وتوقفت دوريات التفتيش، فتهيأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه) للخروج إلى المدينة، وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان على دين قومه، هادياً لهم في الطريق؛ لأنه كان ماهراً فيها، وأمناه على ذلك، وسلّما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ليوافيهما براحلتيهما، فلما كانت غرة شهر ربيع الأول، أتاهما على ما واعداه عليه، وأتت أسماء بسفرتهما، ثم ارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة.
أما بن أريقط، فقد أمعن في سلوك طريق الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لا يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقاً لا يسلكه أحد إلا نادراً.
وفي الطريق لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر ثياباً بيضاء.
وفي 8 ربيع الأول من السنة التي عدت فيما بعد الأولى من الهجرة. نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء.
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح.
كبَّر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجت المدينة كلها لاستقباله، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها... فأقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء أربعة أيام، ثم في اليوم الخامس ركب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر (رضي الله عنه) ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله فجاؤوا متقلدين سيوفهم فسار نحو المدينة ودخلها، وكانت البيوت والطرق ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات: ولله درها من أبيات:
طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فينا
جئت شرفت المدينة
حقاً:----------
وجب الشكر علينا
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع
مرحباً يا خير داع
ما دعا لله داع
إن ما يلفت النظر في خطة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للهجرة أمران مهمان:
1- الإعداد البشري: فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعد خطة من عنده، وكانت خطة محكمة لم يترك فيها جانباً من غير اهتمام، وهذا الذي أعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ينطبق عليه أنه من (الرأي والحرب والمكيدة). فالله سبحانه قد أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجرة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دبر خطة واتخذ لها كافة الوسائل والأساليب التي تمكنه من هجرة ناجحة. وفي مقابل ذلك فإن المطلوب ممن يقوم بنصرة دين الله أن يعدوا خطة محكمة تمام الإحكام، يتجلى فيها الدقة في التخطيط، والإبداع في اختيار الوسائل والأساليب، والجرأة في التنفيذ... فإن عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دل على ذلك، وهي من باب التذكير والاختصار:
- مبيت علي (رضي الله عنه) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
- خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيت أبي بكر في الظهيرة حتى لا يراه أحد.
- خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر (رضي الله عنه) من الكوة حتى لا يراهما أحد فيتابعهما ويعرف وجهتهما.
- سلوك طريق الجنوب نحو اليمن وهو على عكس الطريق إلى المدينة باتجاه الشمال.
- المبيت في غار ثور ثلاثة أيام ريثما يهدأ الطلب.
- الطلب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع ما يقوله الناس فيهما.
- تأمين الزاد عن طريق أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها).
- إعفاء الأثر عن طريق مولى أبي بكر وهو عامر بن فهيرة.
- استئجار دليل هادٍ خريت يعرف الطريق وهو ابن أريقط...
2- التدخل الرباني: ورد في السيرة فيما يتعلق بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض التدخلات الربانية المباشرة التي ذكرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. فما هي؟ وكيف نفسرها ونستفيد منها لوقتنا وعملنا في النصرة. ولنكتفِ بذكر مثلين منها:
- في رواية للإمام أحمد عن المطاردين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه، أنهم خرجوا يطوفون جبال مكة، حتى انتهوا إلى الجبل الذي هم فيه، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لرجل مواجه في الغار: يا رسول الله، إنه ليرانا. فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلا، إن ملائكة تسترنا بأجنحتها». فجلس ذلك الرجل، فبال مواجه الغار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان يرانا ما فعل هذا». ذكره ابن هشام. وفي رواية للبخاري: «فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ رأسه رآنا، قال: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما...».
فهنا بالرغم من كامل الجهد البشري في وضع الخطة وتنفيذها من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وصل الكفار المطاردون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكان اختفائه، فيما يدل على مبلغ اهتمامهم بقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والقضاء على دعوته، وهنا يظهر تأييد الله وعونه، وذلك مقابل بذلهما لكامل جهدهما، فقال جل من قائل: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 40]، وهنا يجـــب علـــى الدعاة وأهل القوة أن يعلموا يقيناً أن من ينصـــر الله لا يغلبه أحد، ونصــر العبد لخـــالقه ودينه تكون بالاتباع والتقيد والالتزام بإحسان، ونصر الله لعبده يكون بتأييده وجعل إظهار الدين على يديه.
- كذلك، فإنه مع بالغ الاحتياط من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه (رضي الله عنه) استطاع سراقة بن مالك أن يلحق بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمن كان معه طمعاً بالجائزة، ويصل إليهم ويهم بإيذائهم أكثر من مرة، فلم يفلح حتى إن يدي فرس سراقة قد ساختا في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فعرف أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ممتنع عنه، وحدثته نفسه أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيظهر، فناداهم بالأمان، فوقفوا (كانوا أربعة: الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو بكر، وابن فهيرة، وابن أريقط (رضي الله عنهم)). فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أخفِ عنا» وكتب له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاب أمن بحسب طلبه، ورجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: لقد استبرأت لكم الخبر، لقد كفيتكم ما ههنا، فكان أول النهار جاهداً عليهم، وآخره حارساً لهم. وهكذا نجد مرة أخرى تدخلاً ربانياً كفى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه (رضوان الله عليهم) من الإيذاء، وكف عنهم ما يمنع من وصول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة لإقامة الدولة.
هذا التدخل الرباني استحقه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسن اتباعه وحسن قيامه بما هو مطلوب منه حتى إنه لم يقصر في إعداد العدة للهجرة أدنى تقصير، وكانت الجائزة من الله، الهدية، المنحة، المنة: إقامة الدولة الإسلامية في المدينة... واليوم، فإنه إذا قامت الثلة المؤمنة من أهل القوة وأهل الدعوة بهذا الفرض خير قيام، وبذلوا له كامل جهدهم من غير أي تقصير، فإن نصر الله آت ولاريب، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر 51] وإن تأييده وتدخله الرباني سيحصل وإن لم نعرف كيف، وقد لا نعلم بوجوده.
نداء حار إلى أهل القوة والمنعة
إننا نوجه هذا النداء من هنا إلى أصحاب الرتب والنياشين، إلى الضباط والألوية، إلى النقباء والجنود، إلى الجيوش الرابضة في عرينها في بلاد المسلمين كافة مستصرخين همتهم ونخوتهم ونجدتهم وغيرتهم على دينهم، فنقول:
يا أهل القوة والمنعة، أما آن لكم أن تغضبوا لله ؟ أما آن لكم أن تنصروا دين الله؟ أما آن لكم أن تنعتقوا من التبعية لحكامكم وتدينوا لله ربكم؟ أليس لكم في سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة وأسيد بن حضير أسوة حسنة؟ ألا تشتاقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؟ أين حمية الإسلام في نفوسكم وأنتم ترون علوج الكفر تنتهك أعراض المسلمات، ويهينون كتاب ربكم، ويسيئون إلى نبيكم، فأين غضبكم لله؟ أليس فيكم رجل يغضب لله فيطيح بهذه العروش وينصر العاملين للخلافة؟ ألا تحسبون الحساب ليوم تقفون فيه بين يدي ربكم، فلا يغني عنكم زعيم ولا حاكم، ولا تغني عنكم مناصبكم ولا رتبكم ونياشينكم ولا أموال حكامكم التي كانوا يغرونكم بها؟ ألا هبوا وتحركوا على بركة من ربكم، وأعلموا أنها والله ما هي إلا نفس واحدة، فإما أن تُزهق في سبيل الله -المالك لها وحده-ـ فتكون لكم الجنان وصحبة سيد الشهداء والحوراء العيناء، وإما أن تُزهق في سبيل هؤلاء الحكام الظلمة وهذه الدنيا الفانية فتكون الحسرة عليكم يوم القيامة والعياذ بالله. فاتقوا الله في أمتكم وفي دينكم وفي أنفسكم، وأروا الله من أنفسكم ما يرضيه عنكم ليغفر لكم ما سلف من ذنوبكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون 99-101].
أيها الضباط في هذه الجيوش الرابضة، يا أهل القوة والمنعة: إن هذه اللحظات لهي لحظات العزم والحسم، وإن الأمة لتنتظر منكم الموقف الذي تشهد به لكم، وإن العالم الذي يئن بسبب براثن الكفر وجشع الرأسمالية لينتظر اللحظة التي تتحركون فيها لقلب أنظمة الجور هذه، وتعلن فيها الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. فإن أجبتم هذا النداء الموجه لكم في هذه الذكرى -ذكرى هدم الخلافة- فإنه والله شرف كبير لكم في هذه الدنيا أنكم أنتم من أقام الخلافة ونصر العاملين لإقامتها. وإن أبيتم إلا القعود عن نصرة العاملين، فإن الله الذي نصر أنبياءه من قبل، سينصر أولياءه اليوم، ويقيض لهذا الشرف العظيم من هو أولى به منكم فتبوؤون بالإثم والخسران المبين. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة 54] قال ابن كثير رحمه الله: «إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن اللّه سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً».
أخيراً نقول إننا سائرون في هذا الطريق على هدى من الله وأملنا بتحقق غايتنا بتوفيق ربنا كبير ، وإننا نوجه نداءنا للمسلمين كافةً رجالاً ونساءً أن يحملوا هذا الهم معنا؛ لأنه فرض الساعة الذي لا يجوز لأحد أن يقعد عنه، ولا أن يقصر فيه، كما أننا نكرر نداءنا للجيوش قائلين لهم: إنها والله هذه هي اللحظات التي تُفتقدون فيها، وهي والله سوق الجنة قد فتحت لكم، فأروا الله من أنفسكم خيراً، وانصروا دين الله كي تفوزوا بعز الدنيا والآخرة. نسأل الله أن يفتح قلوبكم وأن يشرح صدوركم لهذا الأمر وأن ييسر لهذه الأمة من بينكم من ينال شرف نصرة هذه الدين وإعلان الخلافة إنه سميع مجيب.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال 24].
http://www.al-waie.org/issues/258-259/article.php?id=678_0_50_0_C (http://www.al-waie.org/issues/258-259/article.php?id=678_0_50_0_C)