صلاح الدين يوسف
08-15-2008, 03:11 AM
الحياة / «ثمة ما يُعد لطرابلس»، هذه العبارة تسمعها كثيراً عندما تزور المدينة، لكنك هذه المرة تشم رائحة توحي بصحتها. فالغموض الذي يكتنف الكثير من الوقائع والمآسي التي ألمت بطرابلس في السنتين الفائتتين يدفعك الى تصديق ما يشعر به العامة فيها. «ثمة ما يُعد لطرابلس» عبارة تلاحقك في أنحاء المدينة كلها. في الأزقة التي شهدت وتشهد الاشتباكات بين منطقتي بعل محسن وباب التبانة، وفي منطقة أبي سمرا حيث يُلاحق إسلاميون «جهاديون» وحيث قتل ابو هريرة الرجل الثاني في «فتح الإسلام»، وفي ساحة التل حيث دوى الانفجار صباح أمس الأربعاء الذي استهدف حافلة تقل جنوداً للجيش اللبناني ومدنيين، وكتب على زجاجها الأمامي الذي لم يتحطم «حلبا - بنت جبيل».
غموض الوقائع الطرابلسية ليس فقط وليد انعدام الحقائق والإثباتات التي تتيح إحالته الى أسباب واضحة ودالة، إنما أيضاً وليد تعقيدات تضافرت خلال السنتين الفائتتين بدءاً بذلك الاشتعال المباغت لأحداث نهر البارد التي سبقتها بيومين وثبة «فتح الإسلام» داخل المدينة، وما تخللها من ملاحقات لجماعات مسلحة في قلب المدينة وفي محيطها، ومروراً بالاشتباكات بين العلويين والسنّة في الحزام الشرقي للمدينة.
ومدينة طرابلس تُعَرّف نفسها هذه الأيام بصفتها ركيزة المشروع الذي انبثق عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، فهي التي غذت مشهد الاعتراض على ما سبق الاغتيال بكتلته الاجتماعية الرئيسة، وهي التي التحقت على نحو لا يقبل التردد بما سمي في حينه «انتفاضة الاستقلال»، وطرابلس هذه وإن كان تعريفها بهذه الوقائع يوحي بانسجامها وتماسكها حول ما أقدمت عليه، تمثل في الوقت نفسه الخاصرة الرخوة التي يمكن ان تشكل بداية نموذجية لضرب ذلك المشروع وتذريره وبعثرته، وليس أدل على ذلك الا واقعة كانت بادرة ومؤشراً واضحاً ومبكراً على احتمال من هذا النوع، وهي «واقعة الأشرفية» في العام 2006 التي تحولت فيها تظاهرة احتجاج على «الرسوم الدنماركية» الى فوضى عارمة تحطمت فيها منازل ومتاجر مواطنين «حلفاء» في «انتفاضة الاستقلال»، وفي حينه شاركت قوى «طرابلسية» في هذه الفوضى.
طرابلس تشعر اليوم انها تدفع ثمن دورها وواقعها في رفد «انتفاضة» العام 2005، وتقول ان استكمال إجهاض «الانتفاضة» لن يتم الا في حال الإتيان على دور المدينة وعلى وظيفتها تلك. وهي ترد معظم الوقائع الراهنة الى هذه الحقيقة. في هذا الشعور قدر كبير من الحقيقة، ولكن ذلك يعوزه قدر من التفصيل والتحديد حتى يتوضح، من دون ان يسقط المرء في فخ تحديد الجهات التي تقف وراء إقلاق المدينة.
لا تبعد ساحة التل حيث وقع الانفجار الأخير سوى مئات قليلة من الأمتار عن شارع سورية الذي يفصل بين المتقاتلين في التبانة وبعل محسن.
والساحة تلك هي خليط عمراني عثماني وكولونيالي حافظ الى حد كبير على تماسكه المشهدي على رغم تبدل الوظائف والأدوار على مدى عقود، في حين تشكل الفوضى العمرانية وملامح الفقر الشديد والحداثة المرتجلة سمات رئيسة لمشهد شارع سورية وللأزقة المتفرعة عنه، هناك حيث يتوارى الفتية المسلحون من الجانبين ويتربصون لبعضهم بعضاً في متاجر ومداخل أبنية، في ظل الانتشار الكثيف للجيش اللبناني. الجميع في تلك الأحياء يتحدث عن تفجر وشيك للأوضاع. لا يحددون كيف سيكون شكله، لكنهم يسلّمون بأنه ربما كان الاشتباك بين باب التبانة وبعل محسن هو خيار الراغبين في إشعال المدينة، الى ان يأتي انفجار ساحة التل ليشير الى إمكانات أخرى يمكلها الراغبون في ذلك.
ما تسمعه في المدينة يثير فيك قدراً من الحيرة، ولكنه يقطع شكوكك في ان ثمة ما يدبر لطرابلس. فأن يقول لك رفعت عيد نجل رئيس «الحزب العربي الديموقراطي» الموالي لسورية والمتمركز في بعل محسن والذي يقاتل عناصره في مواجهة باب التبانة حيث يتمركز المقاتلون السنّة، ان القذيفة الأولى التي أطلقت من باب التبانة الى بعل محسن، أطلقها مقاتل مناصر لشخصية طرابلسية تعتبر من رموز المعارضة (المتحالفة مع سورية)، ففي قوله هذا إشارة الى ان الأمر يعدو كونه عداء «تاريخياً» بين التبانة وبعل محسن. وأن تسمع في التبانة ان تجار الأسلحة الذين يتولون تزويد المقاتلين في تلك المنطقة بالذخائر والرشاشات الخفيفة والمتوسطة مرتبطون برموز تلك المعارضة، ففي ذلك تعزيز لشكوكك بأن الأمر اعقد من اختصاره بـ «غضبة السنّة اللبنانيين» جراء ما أصابهم في بيروت بعد الحملة العسكرية التي نظمها حزب الله على العاصمة بيروت. فإذا سلمنا بأن طرابلس هي المجتمع النواة لبيئة الانتقال الذي شهده لبنان في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري يمكننا ساعتئذ ان نضع الوقائع الغامضة التي شهدتها وتشهدها في سياق ضرب هذه النواة، مع التسليم بأن هذه النواة تحمل الكثير من عناصر التفجير. في طرابلس كلام كثير عن الجماعات السلفية وعن أدوارها في الأحداث الأخيرة فيها. ويشعر العارفون بأوضاع المدينة ان ثمة من قرر النفخ في هذه الظاهرة وتصوير الوقائع بناء عليها. فالسلفيون في طرابلس ليسوا الطرف الأقوى من دون شك، لا بل ان ظاهرتهم تقتصر على نخب متدينة وشديدة التفكك، وهي مخترقة على نحو جلي من أجهزة سياسية وأمنية. وعلى رغم ذلك يجري وعلى نحو منهجي تصوير المشهد الطرابلسي بصفته مشهداً سلفياً. إنه بحسب الكثير من المراقبين في المدينة جزء من خطة إعداد المدينة لمصيرها، وبحسب هؤلاء فإن المواجهة بين جماعات منها وبين الجيش اللبناني لن تكتمل ظروفها من دون بلورة قناعة بأن عقدة الأزمة تتمثل في الوجود السلفي في المدينة، وبيئة السلفيين الشماليين قابلة للاستجابة لهذا النوع من التأزيم، فهؤلاء بينهم من هم عديمو الحساسية حيال صدام من هذا النوع، وبينهم أيضاً من يشكل فعلاً عبئاً أمنياً على المدينة، وهم منقسمون ومتنازعون الى حد يُسهل الاعتقاد بأنهم مأزق المدينة.
لكن ضرب السلفيين لا يهدف من دون شك الى ضرب ما يمثلون من احتمالات، ولكنه يهدف بالدرجة الأولى الى استهداف المجتمع الأوسع الذي يعيشون في كنفه في طرابلس والى تشتيته ونزع حالة كانت بدأت في التبلور في أنحائه، وتتمثل في ذلك الدور الذي لعبه في أعقاب اغتيال الحريري في العام 2005. علماً أنه لا بد من التذكير دائماً بأن السنوات التي سبقت العام 2005 كانت شهدت جهوداً حثيثة لجعل المجتمع الطرابلسي بيئة خصبة لأزمات غب الطلب.
ما تسمعه في أحياء طرابلس وفي شوارعها التي شهدت اشتباكات في الأسابيع الفائتة يحيلك الى احتمالات ليس الانفجار الأخير في ساحة التل أكثرها خطورة! ففي مقاهي باب التبانة حيث يجلس رجال من اعمار متفاوتة، يمكنك ان تسمع ومن دون أي تحفظ أحاديث عن أنواع الأسلحة التي يتداولها التجار هذه الأيام. الكلاشنيكوف الصيني هو احد الأسلحة الجديدة التي انزلها التجار الى السوق الطرابلسي. ويقول ابو عمر ان هذا الكلاشنيكوف هو من بين الأصناف الجديدة التي وزعها حزب الله على حلفائه في احزاب المعارضة، وان عناصر من هذه الأحزاب قامت ببيعها الى التجار في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، ووصل سعر القطعة الواحدة منه الى نحو الف دولار اميركي، اما سعر الطلقة فوصل الى دولار واحد. لكن الجميع يؤكد ان كميات الأسلحة في السوق معظمها قديم، ويشير أبو حسين الى رشاش متوسط من نوع «دوشكا» اشترته مجموعة من التبانة من أحد التجار ليتبين لها لاحقاً انه غير صالح للاستعمال بسبب قدمه، ويعدد انواعاً من الأسلحة الروسية الصنع التي استعملها شبان التبانة في الاشتباكات الأخيرة لم تعد سائدة هذه الأيام مثل الـ «غرينوف» والـ «عفاروف» التي من الصعب الحصول على ذخائر لها بعد انعدام تداولها.
والى جانب الأحاديث عن السلاح يمكنك ان تسمع من الشبان والرجال كلاماً عن مآزقهم في ظل انسداد الأوضاع في مناطقهم، فإلى جانب كونهم مقاتلين في الاشتباكات، هم أيضاً ضحايا تعطيل دورة الحياة في مناطقهم جراء الاشتباكات التي يخوضونها، كأن أقدارهم ان يتولوا هم بأنفسهم إعاقة سير حياتهم، فهم كما يقولون عديمو القدرة على منع أنفسهم من قتال يستهدفهم بالدرجة الأولى. يجيبون حين تسألهم عن ذلك بعبارة واحدة: «نريد ان ندافع عن منازلنا»، وهم إذ يتهمون خصومهم في جبل محسن بالمبادرة دائماً لإشعال المعارك، يضيفون: «ان المقاتلين في الجبل ضحايا مثلنا وفقراء مثلنا»، ويشيرون الى انهم يشترون السلاح من تجار حلفاء لمقاتلي الجبل. والسؤال في أحياء طرابلس لا يتمثل بالجهة التي توزع السلاح، لكن في الجهة التي تمول شراء السلاح من التجار! وأيضاً في سر سكوت الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية على وجود هؤلاء التجار! لتكتشف لاحقاً أن التمويل يأتي من جهات وأطراف قد لا ينسجم تمويلها هذا مع وقوفها الى جانب المعارضة او الموالاة في الانقسام اللبناني. وأيضاً لتلمس بيدك صلة بين هذا التمويل وبين الانتخابات النيابية المقبلة، إذ ان هذا التمويل يحقق مكاسب انتخابية من دون ان يعني ان من يقوم به متورط مباشرة بتسليح مجموعات في المدينة.
يمكنك ان تلمس بكل حواسك في أحياء طرابلس ان ثمة فراغاً مرعباً يملأ تلك الأحياء، فهي متروكة بالفعل الى هؤلاء الذين لا يستطيعون الا ان «يدافعوا عن منازلهم». فتيار المستقبل وهو الجهة المرشحة لأن تملأ هذا الفراغ لا يملك خبرات في مجال الإمساك بأحياء من هذا النوع، ويبقى وجوده فيها مقتصراً على ادوار لا تمت الى هذه الأزمات بصلة. هذا الأمر يسهل من دون شك مهمة دفع هذه المناطق الى المصير المندفعة اليه، وهو الأمر الذي يشعرك بأن لا مقاومة تذكر لأي راغب في إلقاء الأزمة في مجتمع الأزمات الطرابلسية.
وفي المقابل يبدو ان جبل محسن وان كان لا يبدي الكثير من المقاومة لمحاولات وضعه في صدارة الانقسام اللبناني فهو متخوف من احتمال تحوله الى كبش فداء في هذا الانقسام، إذ يشير رفعت عيد ومن دون أي تحفظ الى ان سكان الجبل العلويين، وهم أقلية في محيط سني واسع، يدفعون ثمناً لطرفي الانقسام اللبناني. فالمعارضة (الموالية لسورية) غير مستعدة لتبنيهم بصفتهم خط المواجهة الأول لها نظراً لما يشكله هذا التبني من خسائر انتخابية وغير انتخابية لها، والموالاة تفترض سلفاً ان الجبل يخوض معركة سورية في لبنان.
من دون شك، ثمة من يُعد العدة لجولة جديدة في طرابلس. الأرجح ان الاشتباكات في جبل محسن وباب التبانة لم تلب المطلوب في شكل كامل، إذ انها أحدثت فرزاً قد لا ينسجم مع الأهداف المتوخاة. المعارضة فيها تشتت، والموالاة انكفأت، وبرزت الحسابات الانتخابية. انفجار الأمس يدفع الى الاعتقاد بأن ما سيملأ الفراغ الكبير في المدينة هو وهم السلفيين. انفجار في حافلة مدينة يعيد التذكير بوقائع إرهابية تنتمي الى عالم هؤلاء والى أنماط أنشطتهم في العالم.
أما الخصم فهو الجيش اللبناني الذي قتل عناصر منه في هذا الانفجار، والذي سبق ان خاض مواجهات مع «فتح الإسلام» بالقرب من المدينة، ناهيك عن ان المعركة مع هؤلاء تحاكي ميلاً دولياً الى مكافحة هذه الظاهرة.
عناصر السيناريو المقبل الذي يهيأ لطرابلس تكتمل، من دون ان تواجه مقاومة تذكر.
غموض الوقائع الطرابلسية ليس فقط وليد انعدام الحقائق والإثباتات التي تتيح إحالته الى أسباب واضحة ودالة، إنما أيضاً وليد تعقيدات تضافرت خلال السنتين الفائتتين بدءاً بذلك الاشتعال المباغت لأحداث نهر البارد التي سبقتها بيومين وثبة «فتح الإسلام» داخل المدينة، وما تخللها من ملاحقات لجماعات مسلحة في قلب المدينة وفي محيطها، ومروراً بالاشتباكات بين العلويين والسنّة في الحزام الشرقي للمدينة.
ومدينة طرابلس تُعَرّف نفسها هذه الأيام بصفتها ركيزة المشروع الذي انبثق عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، فهي التي غذت مشهد الاعتراض على ما سبق الاغتيال بكتلته الاجتماعية الرئيسة، وهي التي التحقت على نحو لا يقبل التردد بما سمي في حينه «انتفاضة الاستقلال»، وطرابلس هذه وإن كان تعريفها بهذه الوقائع يوحي بانسجامها وتماسكها حول ما أقدمت عليه، تمثل في الوقت نفسه الخاصرة الرخوة التي يمكن ان تشكل بداية نموذجية لضرب ذلك المشروع وتذريره وبعثرته، وليس أدل على ذلك الا واقعة كانت بادرة ومؤشراً واضحاً ومبكراً على احتمال من هذا النوع، وهي «واقعة الأشرفية» في العام 2006 التي تحولت فيها تظاهرة احتجاج على «الرسوم الدنماركية» الى فوضى عارمة تحطمت فيها منازل ومتاجر مواطنين «حلفاء» في «انتفاضة الاستقلال»، وفي حينه شاركت قوى «طرابلسية» في هذه الفوضى.
طرابلس تشعر اليوم انها تدفع ثمن دورها وواقعها في رفد «انتفاضة» العام 2005، وتقول ان استكمال إجهاض «الانتفاضة» لن يتم الا في حال الإتيان على دور المدينة وعلى وظيفتها تلك. وهي ترد معظم الوقائع الراهنة الى هذه الحقيقة. في هذا الشعور قدر كبير من الحقيقة، ولكن ذلك يعوزه قدر من التفصيل والتحديد حتى يتوضح، من دون ان يسقط المرء في فخ تحديد الجهات التي تقف وراء إقلاق المدينة.
لا تبعد ساحة التل حيث وقع الانفجار الأخير سوى مئات قليلة من الأمتار عن شارع سورية الذي يفصل بين المتقاتلين في التبانة وبعل محسن.
والساحة تلك هي خليط عمراني عثماني وكولونيالي حافظ الى حد كبير على تماسكه المشهدي على رغم تبدل الوظائف والأدوار على مدى عقود، في حين تشكل الفوضى العمرانية وملامح الفقر الشديد والحداثة المرتجلة سمات رئيسة لمشهد شارع سورية وللأزقة المتفرعة عنه، هناك حيث يتوارى الفتية المسلحون من الجانبين ويتربصون لبعضهم بعضاً في متاجر ومداخل أبنية، في ظل الانتشار الكثيف للجيش اللبناني. الجميع في تلك الأحياء يتحدث عن تفجر وشيك للأوضاع. لا يحددون كيف سيكون شكله، لكنهم يسلّمون بأنه ربما كان الاشتباك بين باب التبانة وبعل محسن هو خيار الراغبين في إشعال المدينة، الى ان يأتي انفجار ساحة التل ليشير الى إمكانات أخرى يمكلها الراغبون في ذلك.
ما تسمعه في المدينة يثير فيك قدراً من الحيرة، ولكنه يقطع شكوكك في ان ثمة ما يدبر لطرابلس. فأن يقول لك رفعت عيد نجل رئيس «الحزب العربي الديموقراطي» الموالي لسورية والمتمركز في بعل محسن والذي يقاتل عناصره في مواجهة باب التبانة حيث يتمركز المقاتلون السنّة، ان القذيفة الأولى التي أطلقت من باب التبانة الى بعل محسن، أطلقها مقاتل مناصر لشخصية طرابلسية تعتبر من رموز المعارضة (المتحالفة مع سورية)، ففي قوله هذا إشارة الى ان الأمر يعدو كونه عداء «تاريخياً» بين التبانة وبعل محسن. وأن تسمع في التبانة ان تجار الأسلحة الذين يتولون تزويد المقاتلين في تلك المنطقة بالذخائر والرشاشات الخفيفة والمتوسطة مرتبطون برموز تلك المعارضة، ففي ذلك تعزيز لشكوكك بأن الأمر اعقد من اختصاره بـ «غضبة السنّة اللبنانيين» جراء ما أصابهم في بيروت بعد الحملة العسكرية التي نظمها حزب الله على العاصمة بيروت. فإذا سلمنا بأن طرابلس هي المجتمع النواة لبيئة الانتقال الذي شهده لبنان في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري يمكننا ساعتئذ ان نضع الوقائع الغامضة التي شهدتها وتشهدها في سياق ضرب هذه النواة، مع التسليم بأن هذه النواة تحمل الكثير من عناصر التفجير. في طرابلس كلام كثير عن الجماعات السلفية وعن أدوارها في الأحداث الأخيرة فيها. ويشعر العارفون بأوضاع المدينة ان ثمة من قرر النفخ في هذه الظاهرة وتصوير الوقائع بناء عليها. فالسلفيون في طرابلس ليسوا الطرف الأقوى من دون شك، لا بل ان ظاهرتهم تقتصر على نخب متدينة وشديدة التفكك، وهي مخترقة على نحو جلي من أجهزة سياسية وأمنية. وعلى رغم ذلك يجري وعلى نحو منهجي تصوير المشهد الطرابلسي بصفته مشهداً سلفياً. إنه بحسب الكثير من المراقبين في المدينة جزء من خطة إعداد المدينة لمصيرها، وبحسب هؤلاء فإن المواجهة بين جماعات منها وبين الجيش اللبناني لن تكتمل ظروفها من دون بلورة قناعة بأن عقدة الأزمة تتمثل في الوجود السلفي في المدينة، وبيئة السلفيين الشماليين قابلة للاستجابة لهذا النوع من التأزيم، فهؤلاء بينهم من هم عديمو الحساسية حيال صدام من هذا النوع، وبينهم أيضاً من يشكل فعلاً عبئاً أمنياً على المدينة، وهم منقسمون ومتنازعون الى حد يُسهل الاعتقاد بأنهم مأزق المدينة.
لكن ضرب السلفيين لا يهدف من دون شك الى ضرب ما يمثلون من احتمالات، ولكنه يهدف بالدرجة الأولى الى استهداف المجتمع الأوسع الذي يعيشون في كنفه في طرابلس والى تشتيته ونزع حالة كانت بدأت في التبلور في أنحائه، وتتمثل في ذلك الدور الذي لعبه في أعقاب اغتيال الحريري في العام 2005. علماً أنه لا بد من التذكير دائماً بأن السنوات التي سبقت العام 2005 كانت شهدت جهوداً حثيثة لجعل المجتمع الطرابلسي بيئة خصبة لأزمات غب الطلب.
ما تسمعه في أحياء طرابلس وفي شوارعها التي شهدت اشتباكات في الأسابيع الفائتة يحيلك الى احتمالات ليس الانفجار الأخير في ساحة التل أكثرها خطورة! ففي مقاهي باب التبانة حيث يجلس رجال من اعمار متفاوتة، يمكنك ان تسمع ومن دون أي تحفظ أحاديث عن أنواع الأسلحة التي يتداولها التجار هذه الأيام. الكلاشنيكوف الصيني هو احد الأسلحة الجديدة التي انزلها التجار الى السوق الطرابلسي. ويقول ابو عمر ان هذا الكلاشنيكوف هو من بين الأصناف الجديدة التي وزعها حزب الله على حلفائه في احزاب المعارضة، وان عناصر من هذه الأحزاب قامت ببيعها الى التجار في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، ووصل سعر القطعة الواحدة منه الى نحو الف دولار اميركي، اما سعر الطلقة فوصل الى دولار واحد. لكن الجميع يؤكد ان كميات الأسلحة في السوق معظمها قديم، ويشير أبو حسين الى رشاش متوسط من نوع «دوشكا» اشترته مجموعة من التبانة من أحد التجار ليتبين لها لاحقاً انه غير صالح للاستعمال بسبب قدمه، ويعدد انواعاً من الأسلحة الروسية الصنع التي استعملها شبان التبانة في الاشتباكات الأخيرة لم تعد سائدة هذه الأيام مثل الـ «غرينوف» والـ «عفاروف» التي من الصعب الحصول على ذخائر لها بعد انعدام تداولها.
والى جانب الأحاديث عن السلاح يمكنك ان تسمع من الشبان والرجال كلاماً عن مآزقهم في ظل انسداد الأوضاع في مناطقهم، فإلى جانب كونهم مقاتلين في الاشتباكات، هم أيضاً ضحايا تعطيل دورة الحياة في مناطقهم جراء الاشتباكات التي يخوضونها، كأن أقدارهم ان يتولوا هم بأنفسهم إعاقة سير حياتهم، فهم كما يقولون عديمو القدرة على منع أنفسهم من قتال يستهدفهم بالدرجة الأولى. يجيبون حين تسألهم عن ذلك بعبارة واحدة: «نريد ان ندافع عن منازلنا»، وهم إذ يتهمون خصومهم في جبل محسن بالمبادرة دائماً لإشعال المعارك، يضيفون: «ان المقاتلين في الجبل ضحايا مثلنا وفقراء مثلنا»، ويشيرون الى انهم يشترون السلاح من تجار حلفاء لمقاتلي الجبل. والسؤال في أحياء طرابلس لا يتمثل بالجهة التي توزع السلاح، لكن في الجهة التي تمول شراء السلاح من التجار! وأيضاً في سر سكوت الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية على وجود هؤلاء التجار! لتكتشف لاحقاً أن التمويل يأتي من جهات وأطراف قد لا ينسجم تمويلها هذا مع وقوفها الى جانب المعارضة او الموالاة في الانقسام اللبناني. وأيضاً لتلمس بيدك صلة بين هذا التمويل وبين الانتخابات النيابية المقبلة، إذ ان هذا التمويل يحقق مكاسب انتخابية من دون ان يعني ان من يقوم به متورط مباشرة بتسليح مجموعات في المدينة.
يمكنك ان تلمس بكل حواسك في أحياء طرابلس ان ثمة فراغاً مرعباً يملأ تلك الأحياء، فهي متروكة بالفعل الى هؤلاء الذين لا يستطيعون الا ان «يدافعوا عن منازلهم». فتيار المستقبل وهو الجهة المرشحة لأن تملأ هذا الفراغ لا يملك خبرات في مجال الإمساك بأحياء من هذا النوع، ويبقى وجوده فيها مقتصراً على ادوار لا تمت الى هذه الأزمات بصلة. هذا الأمر يسهل من دون شك مهمة دفع هذه المناطق الى المصير المندفعة اليه، وهو الأمر الذي يشعرك بأن لا مقاومة تذكر لأي راغب في إلقاء الأزمة في مجتمع الأزمات الطرابلسية.
وفي المقابل يبدو ان جبل محسن وان كان لا يبدي الكثير من المقاومة لمحاولات وضعه في صدارة الانقسام اللبناني فهو متخوف من احتمال تحوله الى كبش فداء في هذا الانقسام، إذ يشير رفعت عيد ومن دون أي تحفظ الى ان سكان الجبل العلويين، وهم أقلية في محيط سني واسع، يدفعون ثمناً لطرفي الانقسام اللبناني. فالمعارضة (الموالية لسورية) غير مستعدة لتبنيهم بصفتهم خط المواجهة الأول لها نظراً لما يشكله هذا التبني من خسائر انتخابية وغير انتخابية لها، والموالاة تفترض سلفاً ان الجبل يخوض معركة سورية في لبنان.
من دون شك، ثمة من يُعد العدة لجولة جديدة في طرابلس. الأرجح ان الاشتباكات في جبل محسن وباب التبانة لم تلب المطلوب في شكل كامل، إذ انها أحدثت فرزاً قد لا ينسجم مع الأهداف المتوخاة. المعارضة فيها تشتت، والموالاة انكفأت، وبرزت الحسابات الانتخابية. انفجار الأمس يدفع الى الاعتقاد بأن ما سيملأ الفراغ الكبير في المدينة هو وهم السلفيين. انفجار في حافلة مدينة يعيد التذكير بوقائع إرهابية تنتمي الى عالم هؤلاء والى أنماط أنشطتهم في العالم.
أما الخصم فهو الجيش اللبناني الذي قتل عناصر منه في هذا الانفجار، والذي سبق ان خاض مواجهات مع «فتح الإسلام» بالقرب من المدينة، ناهيك عن ان المعركة مع هؤلاء تحاكي ميلاً دولياً الى مكافحة هذه الظاهرة.
عناصر السيناريو المقبل الذي يهيأ لطرابلس تكتمل، من دون ان تواجه مقاومة تذكر.