تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التاريخ الإسلامي



مقاوم
06-05-2008, 06:32 PM
عملا بالاقتراح السديد الذي تقدم به أخونا الفاضل أبو حنيفة سنقوم باستعراض تاريخنا الإسلامي بشكل متسلسل مبسط على أن نبدأ بالخلافة الراشدة ونتبعها الحقبات التاريخية المختلفة بسرد قصصي موثق.

سأعتمد عدة مراجع لم أنتهي من حصرها بعد وعندما أفعل سأقوم بجدولتها هنا إن شاء الله. أدعوا لنا بالسداد والمواظبة والله ولي التوفيق.

ترقبوا الحلقة الأولى قريبا جدا بإذن الله.

منال
06-05-2008, 07:15 PM
جزاك الله خيرا ووفقك وسدد خطاك

ننتظر الحلقة الأولى بإذن الله

مقاوم
06-06-2008, 12:40 PM
لعل نقطة البداية ومدخلنا إلى التاريخ الإسلامي يجب أن تكون المصاب الجلل الذي أصاب المسلمين في تلك الحقبة والذي لا يعادله مصاب على تعاقب الازمنة والأيام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أعني تحديدا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.

فقد وقفت على موقع أطنني سأعتمده بشكل رئيسي لنقل وقائع هذه المرحلة من التاريخ ألا وهي الخلافة الراشدة لما وجدت فيه من شمولية في الطرح وبساطة في الأسلوب والسرد ودقة في المعلومات وقد أطعّم المداخلات باقتباسات مختصرة من كتب التاريج المعروفة وأهمها البداية والنهاية لابن كثير، الكامل في التاريخ لابن الاثير، تاريخ الممالك والأمم للطبري، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر.

واسمحوا لي أن أحتفظ يرابط الموقع إلى النهاية حتى لا يسبقني أحد بالقراءة :) (مع أن العم غوغل في متناول الجميع لكني آمل أن تصبروا معي لنتابع سويا)

وإليكم الحلقة الأولى:
مقدمة
لا أعتقد أن رجلًا في التاريخ منذ نزول آدم إلى هذه الأرض، وإلى يوم القيامة، نال أو سينال حبًا وتقديرًا وإجلالًا، مثلما نال رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن نفكر في هذه الكلمة البسيطة التي ألفنا سماعها، واعتدنا ذكرها، فلم نقدر لها قدرها الحقيقي، وقيمتها الأصلية، كلمة ( رسول)، رسول من؟

إنه رسول الله، الله عز وجل، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، الذي خلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الذي خلق الجبال والبحار والأنهار، الذي خلق الإنس والجان والملائكة، العزيز الذي لا يُغلب، الحكيم الذي تناهت حكمته، الحي القيوم الذي لا ينام، الله عز وجل، الرحيم بخلقه، الكريم، الحنان المنان.

الله عز وجل أرسل إلى خلقه رسولًا يبلغهم رسالته، الله عز وجل في علوه وكبريائه وعظمته، أرسل إلى الخلق الضعيف البسيط القليل، أرسل إليهم رسولًا منهم، أيّ تشريف! وأيّ تعظيم! وأيّ تكريم!

وإذا كان البشر قد كُرموا بإرسال الرسول إليهم، فكيف الذي اصطفاه الله من بلايين بلايين الخلق لكي يرسله إلى الناس برسالته؟

رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صنعه الله على عينه، خلقه، ورباه، وعلمه، وأدبه، وحسن خلقه، وقوى حجته، وزكى سريرته، وطهر قلبه، وجمل صورته، وحببه في خلقه، وحبب الخلق جميعًا فيه، فلا يراه أحد إلا وأحبه، ولا يسمع به أحد إلا وأحبه، ولا يقرأ عنه أحد إلا وأحبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر، وأفضل الدعاة، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُوّفى حقه في مجلدات ومجلدات، ولا في أعوام وأعوام، فقد وضع الله فيه خلاصة الفضائل البشرية، وكلما تعرضت لجانب من جوانب حياته صلى الله عليه وسلم حار عقلك، كيف كان على هذه الصورة البهية النقية؟

ولا تملك إلا أن تقول: سبحانه الذي صوره فأحسن تصويره، وأدّبه فأحسن تأديبه، وعلّمه فأحسن تعليمه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدره، وسمو منزلته، يعيش وسط أصحابه، ويخالطهم، كان يُوَجّههم ويعلمهم، كان يتحمل الأذى معهم، ويجوع مع جوعهم ،أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، يهاجر كما يهاجرون، ويقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشرب منه الناس، ويجلس على ما يجلس عليه الناس، لم تزده كثرة الأذى إلا صبرًا، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلمًا، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها، وكان أكثر الناس كرمًا، وأقواهم بأسًا، وأشدهم حياء، وكان يمنع الناس من القيام له، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، وتسير به الأَمَة في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، وكان فوق هذا متصلًا بالسماء، متصلًا برب العالمين، يأتيه الوحي صباحا ومساء، يخبر الناس بما يريده ربهم منهم، يعدل لهم المسار، ويقوم لهم المناهج، ويفسر لهم ما شكل عليهم، ويوضح لهم ما خفي عنهم، اعتاد الصحابة على وجوده، فكان لا يعتزل عنهم أبدًا، يرونه في كل صلاة، وفي كل لقاء، وفي كل جمع، يشهد الجنازة، ويعود المرضى، ويدعو لهم، ويزور الصحابة في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وأحبه الصحابة حبًا لم يحبوه قط لأحد غيره، قدموه على حب الولد والوالد، وعلى حب الزوج والعشيرة، وعلى حب المال والديار، بل قدموه على حب النفس، حتى يتمنى الصحابي أن يموت، ولا يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه، وما كان الصحابي يصبر على فراقه، فإذا عاد الصحابي إلى بيته أسرع بالعودة إلى المسجد حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بكى بعضهم؛ لأنه سيفارقونه يوم القيامة في الجنة لعلو منزلته، حتى بشرهم بأن المرء يحشر مع من أحب، عاش الصحابة في هذه السعادة التي لم تُعرف، ولن تُعرف في التاريخ، سعادة مصاحبته، ورؤيته، والسماع منه، والانصياع له صلى الله عليه وسلم، عاشوا على ذلك فترة من الزمن، حتى أذن الله عز وجل برحيل الحبيب صلى الله عليه وسلم عن دار الدنيا إلى دار الخلد، في جنات النعيم، إلى الرفيق الأعلى، إلى راحة، لا تعب فيها، ولا نصب، ولا وصب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَر، والبشر يموتون
[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30} .

فتنة موت النبي صلى الله عليه وسلم
مع يقين الصحابة بذلك، وثقتهم من بشريته صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم ما تخيلوا أن ذلك الموت سيحدث حقيقة، فتنة عظيمة، ومصيبة كبيرة، وبلاء مبين، ما صدق الصحابة رضوان الله عليهم إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقًا،
فكيف الحياة بدونه؟
وراء من يصلون؟
وإلى نُصح من ينصتون؟
من يعلمهم؟
من يربيهم؟
من يبتسم في وجوههم؟
من يرفق بهم؟
من يأخذ بأيديهم؟
كارثة وأي كارثة، وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم والكمد كل شيء فيها، كل شيء، ليس الصحابة فقط، بل نخيل المدينة، وديار المدينة، وطرق المدينة، ودواب المدينة، إذا كان جذع نخلة قد حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه؛ ليخطب من فوق المنبر بدلًا منه، حتى سمع الصحابة لجذع النخلة أنينًا، وما سكن حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده على الجذع حتى سكن، إذا كان الجذع فعل ذلك ورسول الله فارقه إلى منبر يبعد خطوات معدودات، فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة، والصحابة،
ماذا يفعلون؟
أتطيب نفوسهم أن يهيلوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تقطعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:
ما رأيت يومًا قطّ كان أحسن ولا أضوأ، من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا قطّ كان أقبح ولا أظلم، من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المصيبة أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، تاهوا جميعًا حتى وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر بن الخطاب في عقله ورزانته وحكمته وإلهامه، وقف وقد أخرجته الكارثة عن وعيه يقول:
إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات.
يقول ذلك في يقين، هو لا يصدق فعلًا أنه مات.
يقول عمر: لكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وإذا كان عمر كذلك، فكيف بغيره من الصحابة؟
قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:


لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَرَاهَا تَكَادَ بِنَا جَوَانِبُهَا تَمِيلُ
فَقَدْنَا الْوَحَيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَا يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُو جِبْرَائِيلُ
وَذَاكَ أَحَقُّ مَا سَالَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ كَادَتْ تَسِيلُ
نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَ عَنَّا بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا يَقُولُ
وَيَهْدِينَا فَلَا نَخْشَى ضَلَالًا ; عَلَيْنَا وَالرَّسُولُ لَنَا دَلِيلُ
أَفَاطِمُ إِنْ جَزَعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ
فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ ; ; وَفِيهِ سِيِّدُ النَّاسِ الرَّسُولُ

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:
لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة، حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

يتبع، الحلقة القادمة:"موقف الصديق رضي الله عنه"

منال
06-07-2008, 03:16 AM
بارك الله بحضرتك

أتابع.

مقاوم
06-08-2008, 10:04 AM
موقف الصديق رضي الله عنه
وبينما هم كذلك إذ جاء الصديق الجبل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه خيرًا كثيرًا عما قدمه لأمة الإسلام، جاء الصديق من السنح (منطقة خارج المدينة) بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابيًا سوف يموت حزنًا، وهمًا، وكمدًا لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا شك أننا جميعًا سنقول إنه الصديق رضي الله عنه، أشد الخلق حبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل أكثر مما فعل عمر بن الخطاب مثلًا، لكن سبحان الله، إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح، ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، نزلت ساخنة حارة على وجنتي الصديق رضي الله عنه، حبيب عمره، ودرة قلبه، وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه ينفطر:
بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها.

ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها، ويليق بأول من سيدخل الجنة من أمة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يجزع ويخرج عن المنهج، وهو الصديق؟ خرج الصديق رضي الله عنه، فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس، والناس يلتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقًا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول، قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة:
اجلس يا عمر.

لكن عمر قد أذهلته المصيبة عن السماع، فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول، قال أبو بكر الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة:
أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريمة:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .

الصديق رجل عجيب يعيش مع القرآن في كل حركة، وفي كل سكنة، ما أروع الاختيار، وما أبلغ الأثر الذي أحدثته الآية الربانية في قلوب الصحابة، يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.

أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، كانت الآية سلوى للمؤمنين، وتعزية للصابرين، وجزاء للشاكرين، ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر رضي الله عنه:
والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعَقِرْت (عَقِرَ: إِذا بقي مكانه لا يتقدم ولا يتأَخر فزعا أَو أَسَفا أَو خجلا) حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

إنا لله وإنا إليه راجعون، وثَبّت الله الأمة بثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه، وما أكثر حسناته.

ومع كون فتنة موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وفراقه إلى يوم القيامة فتنة عظيمة، ومصيبة هائلة، إلا أنها لم تكن الفتنة الوحيدة التي مرت بالمسلمين في هذه الأيام الحزينة، فإلى جوار فتنة الموت والفراق كانت هناك فتن أخرى عظيمة، كان منها:

فتنة انقطاع الوحي
فكما ذكرنا من قبل، كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي؛ لأن الوحي انقطع من السماء، وانقطاع الوحي من السماء لا شك أنه فتنة عظيمة، وجبريل عليه السلام لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة، فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، لا شك أن البشر سيخطئون كثيرًا، ويحتاجون إلى تقويم وإصلاح، من يقوم بذلك؟ عليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم، المنهج الإسلامي الكامل المتكامل أعطى لهم هذه الصلاحيات لإكمال مسيرة الحياة إلى يوم القيامة بدون رسل، ولا أنبياء، ولا وحي، لكن لا شك أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تمثل عبئًا ثقيلًا على نفوس الصحابة، وقلقًا بالغًا من أن يفشلوا في حل أمورهم دون وحي، ولا شك أنهم سيختلفون كثيرًا، فمن يكون على صواب، ومن يكون على خطأ، عليهم أن يحكموا بالمنهج المتروك في أيديهم القرآن والسنة، لكن ستظل طوائف المؤمنين تخطئ، وهي تظن أنها على صواب، الوحي كان يفصل في هذه الأمور فصلًا لا يدع مكانًا للريبة، والآن انقطع الوحي، الرجل في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير على الأرض، ويعلم أنه من أهل الجنة، يوقن بذلك إذا بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم يقينه بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتخيل معي كيف يطيق رجل صبرًا أن يسير على الأرض، وهو يعلم أنه من أهل الجنة، هذا الذي جعل عمير بن الحمام في غزوة بدر يلقي بالتمرات، لما بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ويقول:
لئن أحيا حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة.

بلال، بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإذا به على فراش موته سعيدًا لأنه سيموت، يقول:
غدًا ألقي الأحبة، محمدًا وصحبه.

وهكذا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة، وهكذا عبد الله بن مسعود، وهكذا خديجة، وعائشة، وسائر أمهات المؤمنين، وهكذا مئات وآلاف بَشّرهم بالجنة، أما الآن بعد أن انقطع الوحي، فلا أحد يدري أهو من أهل الجنة أم من أهل النار؟
وعجبت لمن يضحك، كيف؟ وهو على يقين من ورود النار
[وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] {مريم:71} .

ثم هو لا يعلم أيجوز الصراط إلى الجنة أم يسقط في النار؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عن كثير من أمور الغيب بالوحي، يبشرهم بنصر بدر، يبشرهم بالفتح، يبشرهم بالشام، وفارس، واليمن، يخبرهم عما كان، وعما هو كائن، وعما سيكون إلى يوم القيامة، الآن بعد انقطاع الوحي أغلق باب المستقبل، لا تعرف منه إلا ما أنبأنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، لكن كم من الأمور ستحدث كنا نتمنى أن نعرف عاقبتها، أترانا سنفوز أم سنخسر؟
وأحداث العالم كيف ستئول في النهاية؟
الله أعلم، الفرس انتصرت على الروم، والرسول يبشر:
[غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] {الرُّوم:2، 3، 4} .

الآن لا نعرف على وجه اليقين، نعم ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاجًا واضحًا من قرآن وسنة، نستقرأ به سنن الله في الأرض، ونستنبط به النتائج قبل أن تحدث، لكن ستظل كثيرًا من الأمور معروفة على وجه الظن لا اليقين، ويقين الوحي لا عودة له حتى تنتهي حياة الأرض، وتقوم القيامة، فتنة كبيرة، لا شك أنها أذهلت الصحابة وسيبدأ طريق مليء بالأشواك، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في السير بعد فقد القائد العظيم، والدليل الأمين محمد صلى الله عليه وسلم. إذن كانت هناك فتنة فراق أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وكانت هناك أيضًا فتنة انقطاع الوحي.

يتبع (من الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم)

Abuhanifah
06-09-2008, 05:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيرا أخي مقاوم خير الجزاء
أحيانا أفكر جديا بأن أتكفل بطباعة كتاب يتناول جميع المقالات والمواضيع المميزة في المنتدى... حرام ان تدفن هكذا مقالات وان يطويها التاريخ بل حري بها ان تجمع وتنشر لما فيها من خير كثير...
لا أدري ما الذي يميز حقا هذا المنتدى ولكني أكاد اجزم ان صدق نوايا أعضائه من أهم الأسباب...
أعتذر منك أخي على عدم المتابعة في مقالك هذا وذلك لأني سأتغيب عن المنتدى لبعض الوقت بسبب العمل -ولا يوجد سبب غيره- على ان أعود باذن الله فور أن تهدأ وتيرته لأقرا مقالك هذا الذي يستحق ان يكتب بماء الذهب...
لذا استغل الفرصة لأستودعك وأستودع جميع الأعضاء الله تعالى وأوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله (في المنتدى وخارجه) وبحسن الظن بين الأعضاء (فوالله ما قرأت مشاركة تحتمل عدة وجوه الا أخذت أفضلها وأحسنها) وبالدعاء بظهر الغيب...

فترة وجيزة وأعود باذن الله

مقاوم
06-09-2008, 07:37 PM
وجزاك خيرا مثله أخي الحبيب فالدال على الخير كفاعله.
لكن وكما بينت في البداية هذا ليس من كتابتي وإنما هو منقول على أبين مصدره في النهاية حتى لا تسبقوني بالقراءة :)
أسأل الله أن ييسر أمرك كيفما اتجهت وأستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك ولا تنسنا من صالح دعائك.

مقاوم
06-12-2008, 06:34 PM
مَن الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم؟

مَنْ مِنَ الرجال يجلس في كرسي الحكم مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيًا فقط، ولكن كان أيضًا حاكم المسلمين، فإن كانت النبوة قد ختمت به صلى الله عليه وسلم، فالحكم لا بد أن يستمر، مَن مِن الصحابة الكرام يكمل المسيرة ويحمل الراية؟

أمر خطير، وخطورته ليست في احتمال التكالب على السلطة، والتنازع فيها كما يحدث في بلدان العالم المختلفة إذا مات قائد أو زعيم، كلا، ولكن لاعتبارات خاصة جدًا بهذه الفترة:
أولًا: لا يوجد في الصحابة، ولا في أهل الأرض جميعًا من يساوي، أو يقترب في الفضل، والمكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي سيوضع في مكانه كحاكم لا بد وأنه سيقارن به صلى الله عليه وسلم، وستكون المقارنة ظالمة، ولا شك، فهذا رسول يوحى إليه من ربه وهذا رجل يجتهد قد يصيب، وقد يخطئ.

ثانيًا: مَن مِن الصحابة ستطيق نفسه أن يجلس في هذا المكان؟ الصحابة على خلاف أهل الأرض في ذلك الزمان، أو في أي زمان، كانوا لا ينظرون إلى الإمارة على أنها تشريف، وتعظيم، ولكن كانوا يعتبرونها تكليفًا وتبعة، ففضلًا عن أنهم لا تطيب أنفسهم بالحكم، بدلًا من نبيهم، فهم تعلموا منه صلى الله عليه وسلم أن يزهدوا في الإمارة ولا يطلبونها، روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟
فضرب بيده على منكبي ثم قال:
يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةَ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا.

ترى َمن ِمن الصحابة يضمن أن يأخذها بحقها، ومن يُعرّض نفسه لحمل الأمانة، ومن يضع نفسه يوم القيامة موضع سؤال عن تبعات عظيمة، تبعات الإمامة.

ثالثًا: إذا كان ولا بد أن يختار رجل من الصحابة لهذا الأمر الجليل، من يكون هذا الرجل؟
الصحابة جميعًا أعلام يُقتدى بهم، طاقتهم عظيمة، وإمكانياتهم واسعة، والمؤهل ليكون حاكمًا على الناس، أو أميرًا عليهم كُثُر، إذا نظرت إلى المهاجرين مثلًا فهناك:
الصديق أبو بكر، وهناك الفاروق عمر، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة، وهناك ذو النورين وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وهناك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته علي، وهناك العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك سعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك طلحة بن عبيد الله طلحة الخير وهناك غيرهم كثير، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن زيد.

وهناك شيوخ مكة الذين أسلموا في الفتح، ولهم من الهيبة في قلوب العرب: أبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وغيرهم.

وإذا نظرت إلى الأنصار وجدت أيضًا فريقًا من العظماء كبير، وإن كانت الأسماء المطروحة للزعامة أقل من المهاجرين لكون الأنصار من قبيلتين فقط الأوس والخزرج، فزعيم الخزرج هو: سعد بن عبادة، ومن أقوى الأسماء المرشحة، أما من الأوس فهناك على سبيل المثال: أسيد بن حضير سيد الأوس، وهناك عباد بن بشر من أفضل الأنصار، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:
سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.

وبالطبع سعد بن معاذ استشهد قبل ذلك بكثير، استشهد بعد أن أقر الله عينه من بني قريظة في سنة 5 من الهجرة، كل واحد من هذه الأسماء، سواء من المهاجرين، أو الأنصار لا تنقصه الكفاءة، ولا القدرة على القيادة، كذلك لا ينقص أحدهم التقوى، فمن يحمل الراية؟

يتبع (الأعداد الضخمة التي دخلت في الإسلام حديثا )

مقاوم
06-19-2008, 09:32 AM
الأعداد الضخمة التي دخلت في الإسلام حديثا

لم تكن هذه هي الفتن الوحيدة في هذه الفترة، بل كان هناك فتن أخرى عظيمة وخطيرة، الأعداد المهولة التي دخلت في الإسلام حديثًا، ولم تتلق تربية كافية في محضن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيرًا منهم دخل الإسلام طمعًا في المال، والثراء، طائفة المؤلفة قلوبهم، تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال والغنائم حتى يدخلوا في الإسلام، ولنراجع بعض الأرقام:

فتح مكة سنة 8 من الهجرة، فَتح مكة عشرة آلاف مؤمن بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدها بقليل كانت حنين، والطائف، وكانت الغنائم وفيرة جدًا، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوس القوم، وأعطى عوام الناس، وأعطى، وأعطى، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ذكر ذلك ربنا عز وجل في كتابه الكريم:

[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا] {النَّصر:1، 2}.
بعد فتح مكة بحوالي سنة غزوة تبوك سنة9 من الهجرة ثلاثون ألف مسلم، تضاعف الرقم من سنة 8 إلى9 هجرية ثلاث مرات، وهو تضاعف كبير في هذه الفترة الوجيزة، أعجب من ذلك حجة الوداع سنة10 من الهجرة بعد سنة من تبوك، حدث تضاعف مهول في عدد المسلمين، حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة ألف مسلم، هذا غير عشرات الآلاف من الذين دخلوا الإسلام في قبائلهم البعيدة عن المدينة، ولم يسعدوا برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين الذين ارتبطوا بالإسلام فقط، منذ شهور، ولم يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الكلمات القليلات، وبعضهم لم يره أصلًا، وبعضهم دخل لأجل المال، وبعضهم دخل لأجل الخوف من القوة الإسلامية الناشئة، وكلهم حديث عهد بجاهلية وإشراك، هذه العوامل جميعًا، وغيرها جعلتهم على خطر عظيم، وبخاصة إذا وصل إليهم نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ترى ماذا سيكون رد فعلهم؟
أتراهم يتشككون في أمر الرسالة؟
أتراهم يعتقدون أن الخروج عن جماعة المسلمين أصبح أمرًا ميسورًا؟
أتراهم يرتدون على أعقابهم ويعودون إلى جاهليتهم وشركهم؟

كل هذه الاحتمالات واردة، ولا شك الصحابة في المدينة، كانوا يفكرون في هؤلاء القوم، ويتسمعون أخبارهم، ويخافون من ردتهم على الإسلام، هذه المشاعر المتزاحمة من قلق، وخوف، وتربص، وحيرة زادت الأزمة في المدينة تفجرًا واضطرابًا، ولا شك أن هذا زاد من ظلمة المدينة بعد غياب النور المبين محمد صلى الله عليه وسلم.

مُدّعو النبوة والمرتدون
فتنة مظلمة أخرى تحيط بالصحابة، الرِّدة الفعلية لبني حنيفة، ولأهل اليمن، جاءت الأنباء قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور من يَدّعي النبوة في هذه البلاد، ظهر مسليمة الكذاب في بني حنيفة، في اليمامة شرق الجزيرة، وظهر في اليمن الأسود العنسي، وتبع هذا وذاك آلاف مؤلّفة؛ قبلية وعصبية، وجهل، وشك، وكِبر، وسفه، تبع مسليمة ما يزيد على الأربعين ألفًا.

هؤلاء مرتدون بالفعل، ومن المؤكد أنهم يتربصون بالمدينة الدوائر، ومن أدرى الصحابة أنهم يعدون العدة لغزو المدينة، ولاستئصال الإسلام من جذوره، هذا خطر داهم، لا شك أن الصحابة كانوا يترقبونه.

المنافقون
أضف إلى هذا كثرة المنافقين بالمدينة المنورة، نذكر أنه منذ أقل من عامين كانت هناك أعداد ضخمة من المنافقين يسكنون المدينة أيام تبوك، ولا شك أنهم يتزايدون مع زيادة قوة الإسلام، ولا شك أيضًا أن ينتظرون الفرصة للانقلاب على الإسلام والمسلمين، وقد أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولكن فشلوا، وها هو الرسول صلى الله عيه وسلم قد مات، وهذه مصيبة ضخمة، ولا شك أن سعادتهم بهذه المصيبة كبيرة

[إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ] {التوبة:50} .
ترى ماذا سيفعل المنافقون؟
سؤال يتردد في أذهان الصحابة، ولا شك.

الفرس والروم
ثم هل هذا هو كل الشر الذي يتربص بالمدينة؟
أبدًا، كم من الأعداء يتربص وكم من الكارهين يرقب، الفرس دولة عظمى مجاورة، وقد كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين ملكها كسرى مراسلات يعرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، لكن أبى كسرى فارس، بل مزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضم إلى دولة المسلمين قبل أن يموت منطقة اليمن، وكانت تتبع دولة فارس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل في الإسلام حكام اليمن الفارسيين، وأفسد على كسرى فارس هذه المنطقة وأهلها، ترى ماذا سيفعل كسرى فارس بعد هذه المصيبة التي حلت على المسلمين؟

أتراه يعيد الكرة في احتلال اليمن، أم يفكر فيما هو أبعد من ذلك ويغزو المدينة ومكة؟
أسئلة بلا إجابة.

الروم الدولة العظمى الأخرى على الساحة العالمية في ذلك الزمان، تحتل كامل الشام وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى شرق أوروبا بأكمله، دولة ضخمة مهولة، على رأسها قيصر الروم هرقل، دولة الروم العظمى لها تاريخ مع دولة الإسلام الناشئة في المدينة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل يدعوه للإسلام، وهرقل قد مال قلبه للإسلام، لكن منعه قومه، ودفعوه إلى الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هذا فقط، بل دفعوه أيضًا إلى تحريض قبائل غسان العربية في الشام على المسلمين، ومن ثم قُتل بعض رسل الإسلام المبعوثين إلى تلك المناطق، وغرق بذلك هرقل في مستنقع الكفر، وهكذا بطانة السوء، ومن رضي ببطانة السوء، المهم أنه نتيجة هذا الإعراض عن الرسالة، وهذا التحرش بالمسلمين، نتجت موقعتان بين المسلمين والروم، نتجت سرية مؤتة في سنة 8 من الهجرة، وهذه كانت سرية عجيبة ثبت فيها المسلمون بثلاثة آلاف مقاتل أمام مائتي ألف من الروم المقاتلين، وقتل من المسلمين زعماؤهم الثلاثة، ثم استطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه بتكتيك رائع أن ينسحب بجيشه دون هزيمة من الروم، بل عند التحليل الصادق للمعركة يثبت فرار الروم، وخشيتهم من الجيش الإسلامي، وما حدث من فرار لبعض المسلمين حتى وصلوا إلى المدينة في فرارهم لم يكن إلا طائفة محدودة، لكن بصرف النظر عن كل شيء، فقد تراءى للروم ثبات المسلمين، وخطورتهم، وعلموا أن بأسهم شديد، وقتالهم شرس، ومرت سنة واحدة على مؤتة وجاء ما هو أعظم، حشد المسلمون ثلاثين ألفًا من المقاتلين الأشداء في غزوة تبوك العظيمة سنة 9 من الهجرة، ومع قلة إمكانيات المسلمين المادية من سلاح ومئونة، إلا أن معنويات الجيش كانت مرتفعة جدًا، وتحركت الجموع الإسلامية إلى مسافات بعيدة جدًا عن المدينة دون وجل ولا خوف، وفر الجيش الروماني، وأعوانه من نصارى الشام العرب من أمام الجيش الإسلامي، ولا شك أن الرومان سمعوا بأنباء بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل حتى يغزو الشام، ويقاتل الروم، والقبائل المناصرة لها، ولا شك أنهم يعلمون أن الجيش الإسلامي ما زال رابضًا في المدينة بعد خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا سيكون رد فعل الرومان، والقبائل المتحالفة معهم أمام هذا الحدث، أتراهم يستغلون الفرصة، ويهاجمون المدينة حيث أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟
هل يستغلون انشغال المسلمين بالمصيبة الكبيرة، ويحالفون عددًا أكبر من القبائل، ويحاصرون الجيش الإسلامي في المدينة قبل خروجه؟
أم تراهم سينقلبون على القبائل المسلمة في شمال الجزيرة العربية؟
لا شك أن الروم سيتربصون بالمسلمين، وجذور العلاقة توحي بأن ذلك سيكون قريبًا، كيف يتعامل المسلمون مع هذا التوقع؟
سؤال يحتاج إلى إجابة.

اليهود
ماذا سيكون رد فعلهم بعد أن يعلموا بهذا الخبر الهام، وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، جذور العداء تاريخية مع اليهود، ومن أول يوم سمعوا فيه بأمر الرسالة، وهم يكيدون لها، وحاولوا من قبل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم تغلي بالحقد على المسلمين، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ثابتة في كتاب الله، وستظل الكراهية موجودة بين الفريقين إلى يوم القيامة [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] {المائدة:82}.

اليهود منذ عشر سنوات كانوا من أعظم تجار الجزيرة العربية، كانوا يتاجرون في كل البضائع، وبالذات في السلاح والخمور والربا، وكان لهم سطوة وبأس، وكانت لهم حصون وقلاع، وكانت لهم قبائل وأعوان، وكانت لهم مكانة علمية ودينية؛ لكونهم من أهل الكتاب، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فسحب البساط من تحت أرجلهم، وانتقلت الزعامة الدينية في الأرض إلى المسلمين، ليس هذا فقط، بل دارت حروب ومعارك لا تنسى بينهم وبين المسلمين، كانت الغلبة فيها كلها للمسلمين، في بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، وتشتت قوة اليهود، وتفرقت وتحطمت، وها هي السيدة صفية بنت حيي تصبح الآن زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمًا للمؤمنين وهي التي كانت بنت زعيم اليهود حيي بن أخطب، ها هي الأحقاد تتزايد على المسلمين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا سيفعل اليهود الآن؟

لقد تم قتل يهود بني قريظة من قَبل، وأجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير من المدينة، لكن ما زال هناك يهود خيبر، وهم ليسوا بالقليلين في حصنهم شمال المدينة، أتراهم يدبرون مؤامرة لحرب المسلمين وينقضون عهدهم المبرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

هذا أمر وارد جدًا، اشتهر اليهود على مدار تاريخهم منذ أيام أنبيائهم الكرام، ومرورًا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى عهدنا الآن، وإلى يوم القيامة، اشتهروا بنقض العهود، وبالتعامل بالخيانة، والدس، والكيد، والتآمر، اشتهروا في وقت ضعفهم بالذل، والمسكنة، والخنوع، والنفاق، واشتهروا في وقت قوتهم بالإفساد في الأرض، والتدمير والتخريب، إذن فساد اليهود متوقع وخيانتهم قريبة لكن كيف ستكون؟

سؤال لا شك أنه كان يجول في خاطر الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما أصعب الموقف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أعقده وما أحزنه.

تعالوا نقف وقفة نلتقط فيها الأنفاس، ونعيد ترتيب الأوراق، ونفكر مع الصحابة، مجموعة من الفتن الخطيرة تناوش المدينة فجأة:
أولًا: مات أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وفراقه مصيبة.
ثانيًا: انقطع الوحي بالكلية إلى يوم القيامة.
ثالثاُ: ليس هناك من يقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضل حتى يستبدله الناس به.
رابعًا: الأسماء المطروحة لخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة وكلها عظيمة.
خامسًا: أعداد كبيرة جدًا، ما دخلت الإسلام إلا منذ سنوات، أو شهور قليلة، وكثير منهم من المؤلّفة قلوبهم ضعيفي الإيمان.
سادسًا: الردة الخطيرة الموجودة في بني حنيفة واليمن.
سابعًا: كثرة المنافقين بالمدينة وتربصهم الدوائر بالمسلمين.
ثامنًا: دولة الفرس المعادية تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشرق وقد تغزوها.
تاسعًا: دولة الروم المعادية أيضًا تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشمال، وجذور العلاقة توحي بلقاء حربي قريب.
عاشرًا: اليهود في خيبر تغلي قلوبهم كالمرجل وخيانتهم وشيكة.

إذن هذه فتنة ضخمة، الواحدة منها قد تعصف بأمة، بنو إسرائيل لما ظنوا مجرد الظن أن موسى عليه السلام قد مات، وذلك عندما ذهب لميقات ربه أربعين ليلة ماذا فعلوا؟

عبدوا العجل، وفي وجود هارون النبي عليه السلام، لكنه لم يكن في قوة موسى، فتمردوا عليه، وتعامل هو بالحكمة معهم، حتى يرجع موسى عليه السلام، هذا في أربعين ليلة فقط، وليس عندهم يقين في موته، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ميت بين أظهرهم، والكل يعلم أنه مات، كم من الرجال سيقلدون بني إسرائيل في فعلتهم الشنيعة؟

أمر خطير:
في هذا الموقف المعقد المتشابك والمدينة المنورة كالسفينة الصغيرة، في بحر هائج تتلاطمها الأمواج العاتية، وقد مات قبطانها في الموقف الرهيب الفريد، أين النجاة؟

بتحليل الموقف نجد أنه لا نجاة إلا باختيار سريع، وسريع جدًا، لخليفة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية، فقدان الخلافة أو ضياع الخلافة كارثة مهولة، الخلافة والخليفة كالخيط ينتظم حبات العقد في عقد واحد جميل، بغير هذا الخيط ستضيع الحبات لا محالة، لا يشفع للحبات هنا كونها جميلة أو براقة، كذلك أمة الإسلام، إذا غاب منصب الخلافة فلن يجتمع المسلمون، ولو كانوا صالحين، فرقة هنا، وفرقة هناك، قبيلة هنا، وقبيلة هناك، دولة هنا، ودولة هناك، وستظل الفرقة في غياب الخلافة، وهذه هي مصيبتنا العظيمة في زماننا الآن، غابت الخلافة، وآخرها كانت الخلافة العثمانية، فتفرق المسلمون، حتى وإن كانت الخلافة ضعيفة، فهي واجبة فالاجتماع على ضعف خير من التفرق على قوة، وهذا أمر عام في كل حياة المسلمين، إذا اجتمعوا على رجل كانت البركة والقوة، وإذا تفرقوا كان الفشل والضعف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت النظر إلى ذلك حتى في أدق الأمور، روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ.

والصحابة الكرام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء، وخير القرون في هذه الأمة، يفقهون هذه الحقائق بوضوح، ويعلمون مدى الخطورة المنتظرة لأي تأخير في اختيار هذا الخليفة مهما كان اسمه، لذلك قام الصحابة الكرام بمشروع أحسبه من أرقى، وأجَلّ المشاريع الحضارية في التاريخ، مشروع اختيار الخليفة، والقائد، والربان للسفينة، مع كل الأحزان والهموم، والآلام، لا بد أن تسير الحياة، ولا تتوقف لموت بشر أو زعيم، وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم.

يتبع (يوم السقيفة)

منال
06-20-2008, 03:37 PM
بارك الله بحضرتك وجزاك كل خير

بانتظار التتمة ونسأل الله أن يحفظ أخينا أبي حنيفة وييسر أمره

مقاوم
06-25-2008, 08:13 AM
وفيكم بارك الله وجزاك الله خيرا على المتابعة.

يوم السقيفة
مقدمة
في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم الهامة، رأى الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.

هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد، والنيل من الصحاب ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب، أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية الصحابة:

السؤال الأول:
كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟
يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدني ورغبوا فيه وحرصوا عليها، فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، هذا السؤال يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.

السؤال الثاني:
لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟
الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار...

من هم الأنصار؟

يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في النهاية جيلًا من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، فعلًا، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئا في دنياهم.

الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ.

هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ.

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:
اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قالها ثلاثا.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار:
مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ.

وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله صلى الله عليه سلم للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني.

وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة، بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا، فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس:
لا تفعل.
فقال جرير:
إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.

وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار:
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.

محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وصف الله عز وجل الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.

أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.

- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.

- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.

يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم: لا.
أَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًا حقيقيًا للمهاجرين، ووجدوا في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا لا يمتلكه إخوانهم،
قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.

يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلًا من الأنصار، ثم يقسموا الناتج من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل، وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.

فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.

عبد الله بوراي
06-25-2008, 08:27 AM
أعانك الله أستاذي
أعانك الله
فقد أصاب الرتاج الصداء ولم تعُد أبواب التاريخ الإسلامي قادرة على أن تُفتح
ليدخل من خلالها شعاع الحق .
وإنه ليحزننى ذلك....
فقد وصلت أمتنا العربية المسلمة إلى المرحلة الغثائية التي حذر منها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقوله : ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق ، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، قيل : يا رسول الله ، فمن قلة يومئذ ؟ قال : لا ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت ) .
نعم
فحب الدنيا شغلنا عن فتح أبواب المعرفة وتنقية تاريخنا الإسلامي من الشوائب والدرن
والخبائث التى سطرتها أقلام سوداء موثورة عشعشت بين سطوره .
بارك الله فيك أخي مقاوم
متابع معكم
أعانكم الله
عبد الله

مقاوم
06-25-2008, 08:48 AM
وفيكم بارك الله أيها الفاضل وشكر الله متابعتك.

Abuhanifah
06-28-2008, 07:03 PM
السلام عليكم

بارك الله فيك أخي العزيز مقاوم على جهدك المميز...وصلت الى من الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم)

لقد قمتُ بنسخ باقي المقالات على أن أقرأها بتمعن ان شاء الله ....

بالمناسبة لا تزال سقيفة بني ساعدة "محمية " وهي موجودة في المدينة المنورة الى يومنا هذا (قرب مكتبة الملك عبد العزيز)...

الأخ عبدالله والأخت منال جزاكم الله خيرا على المتابعة ... نفعنا الله واياكم بما نقرأ

أخي عبدالله لقد أصبت الحقيقة ... لقد أصاب قلوبنا الوهن ... وتفرقنا... وما ذلك الا بتنافسنا على الدنيا... ولذلك يجب ان نقرأ تاريخنا وتاريخ أمتنا لنعلم كيف كان رجال الأمس وكيف كانت الخلافة الاسلامية على مر العصور مع اعطاء كل حقبة حقها من غير تدليس أو كذب كما يحصل للخليفة هارون الرشيد وللخلافة العثمانية مثلا....

نقرأ تاريخنا لنعلم أين كان منبع العلوم ومن أين انتشرت وكيف صرنا اليوم أمة جهل وبدع... نقرأ تاريخنا لنتعلم من أخطائنا علَّ ان ينفع هذا المقال أحدهم ليبدأ ويعود الى دينه ويزيل عنه ثوب الجهل والوهن

مقاوم
07-01-2008, 08:58 PM
أين المهاجرون من هذه الأحداث؟

فعلًا كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن،
أين يدفن صلى الله عليه وسلم؟
أفي البقيع؟
أم مع الشهداء أحد؟
أم في مكة بلده؟
أم في مكان خاص به؟

حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل.

لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال:
اخرج إليَّ يا ابن الخطاب.
قال عمر رضي الله عنه:
إليك عني فإنا عنك مشاغيل.

لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل:
إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا.

هنا أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له:
انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار.
فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.

وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلًا، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جدًا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي الله عنهما إلى السقيفة، وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم عوين بن ساعدة رضي الله عنه، ومعن بن عدي رضي الله عنه، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة، وليقضوا أمرهم- أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهو رجل من أعاظم المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟

وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أمم الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار، وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا اسمًا أوسيًا بديلًا، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة رضي الله عنه أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.

من هو سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة من قِبَل الأنصار؟
للأسف أننا لا نعرف سعد بن عبادة، أو نعرفه بصورة مشوهة، هو سيد الخزرج، وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، وكان شريفًا في قومه، وكان يجير للمطعم بن عدي قوافله المارة بالمدينة قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف رضي الله عنه، وكان ممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف مشهورة في الغزوات، ولا سيما في الخندق، حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأيه في ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجله، ويقدره، ويكثر من زيارته، وذلك لمكانته بين الأنصار رضي الله عنه، يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارهم في بيتهم فقال:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
قال قيس: فرد أبي ردًا خفيًا، فقلت لأبي:
ألا تأذن لرسول الله؟.
فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام.
فقال صلى الله عليه وسلم:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.

وهنا ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا أحد بالبيت، فرجع، فتبعه سعد فقال:
يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردًا خفيًا؛ لتكثر علينا من السلام.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم معه إلى بيته، وأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدٍ.

كان سعد رضي الله عنه جوادًا واسع الكرم والسخاء، كان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء الصُّفة يطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار بالخمسة رجال، أما سعد بن عبادة، فكان ينطلق بالثمانين منهم رضي الله عنه وأرضاه.
وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبِدْ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ.

ويبدو أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد رضي الله عنه وهو من بني ساعدة فقال:
أَتَّهِمُ أَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لَوْ كُنْتُ كَاذِبًا لَبَدَأْتُ بِقَوْمِي بَنِي سَاعِدَةَ.

وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه حزن، وقال:
خُلِّفْنَا فكنا آخر الأربع- سعد بن عبادة من بني ساعدة- أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه ابن أخيه سهل فقال له:
أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع؟
فرجع وقال:
الله ورسوله أعلم.
وأمر بحماره فحل عنه.

هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وممن سبقه بنو عبد الأشهل، وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكنه كان وقافًا على كتاب الله، وعلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فاكتفى بقوله الله ورسوله أعلم.

نعود إلى سقيفة بني ساعدة، إذن اختار الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه، وكان مريضًا رضي الله عنه، ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره، فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:
يا معشر الأنصار.

ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد، فليس هناك أحد من المهاجرين.
يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.

ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش، لماذا؟ هو يفسر في خطبته فيقول:
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة.

وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة رضي الله عنه الفضل لله عز وجل. يقول:
وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له، ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.
وطبعًا كلام سعد بن عبادة رضي الله عنه هنا كلام حقيقي وصحيح، فالمهاجرون في بدر مثلًا كانوا 82 أو83 بينما كان الأنصار231 رجلًا.

ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول:
حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا.
أي أن العرب جميعًا سلمت القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.

يقول:
حتى أغنى الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب. وهنا سعد بن عبادة رضي الله عنه، وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الإتباع.

ثم يختم سعد بن عبادة رضي الله عنه خطبته بكلمة جميلة فقال:
ثم توفَّى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.
مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالًا أن سعد بن عبادة رضي الله عنه ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.

ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:
الهدف الأول: هو رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي الإحباط واليأس، والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها، والثبات على أمر هذا الدين.

الهدف الثاني: هو التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة، فيما يبدو لهم من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.

وإجمالًا فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.

بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه، ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة، نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة رضي الله عنه، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالًا عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة، وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت:
من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟
قالت: أبو بكر.
قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟
قالت: عمر.
قيل لها: من بعد عمر؟
قالت: أبو عبيدة بن الجراح.

ولقد مات أبو عبيدة رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًا.
إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة، الأنصار يريدون سعد بن عبادة رضي الله عنه، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟

أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟

Abuhanifah
07-02-2008, 07:26 PM
السلام عليكم

أستاذي مقاوم بارك الله بك.... أسلوب رائع ومشوق
ولولا أني لا أريد ان أقطع عنك الأجر لاستعنت بالعم "غوغل" :)
صبر جميل...

ألخص مما قرأت التالي:
- للرد على من يتهجم على الانصار رضي الله عنهم :"
اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.

يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم: لا"

- للرد على من يتهجم على المهاجرين رضي الله عنهم: "
ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة،كما اتهمهم كثير من المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟"

مقاوم
07-02-2008, 08:42 PM
وفيك بارك الله وجعلها في ميزان حسناتك أخي الحبيب أبا حنيفة

مقاوم
07-07-2008, 02:50 PM
ما حدث في سقيفة بني ساعدة

لنرى كيف صور عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموقف، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم:
يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت:
من هذا؟
قالوا: سعد بن عبادة.

وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.

يقول عمر: قلت: ما له؟
قالوا: يوعك- أي مريض- فلما جلسنا قليلًا قام خطيبهم.

حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس رضي الله عنه، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه أراد أن يتكلم كلامًا فصلًا، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط.
وفي رواية أخرى:
رهط منا.

هنا بوادر مشكلة، الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله، بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية أخرى: رهط منا. أي عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه التقط أن المهاجرون سيريدون الخلافة فيهم، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار، والأنصاري بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة، والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة، والذين أسلموا بعد الفتح، فسيكونون أضعاف وأضعاف الأنصار، وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر، والذي نصر الإسلام في كل المشاهد، والمواقع بنسبة دائمًا ما تكون أكبر من المهاجرين، هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري:
وقد دفت دافة من قومكم- أي جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا- أي يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر- أي يخرجونا منه- ثم سكت.

لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل، فقد قال صراحة إنكم أيها المهاجرون، ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد جئتم لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار، فكيف يكون هذا؟

ها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون:
نحن الأنصار.
و: نحن المهاجرون.

وهذا أمر خطير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك تمامًا ونهى عن دعوى الجاهلية، والقبلية، ونهى عن فساد ذات البين، ولا بد من الحكمة الشديدة، والحرص البالغ في معالجة الموقف، وهو ما زال في بدايته، ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف يحدث نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدفن بعد.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فلما سكت- أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني- أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر:
على رسلك. أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو رضي الله عنه، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلامًا شديدًا يعقد الموقف.

يقول عمر رضي الله عنه:
فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر.
وعمر رضي الله عنه وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالًا كبيرًا، وكان إذا تكلم رضي الله عنه أنصتوا، يقول عمر:
فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.

Abuhanifah
07-10-2008, 12:18 PM
أنتظر ماذا قال الصدِّيق رضي الله عنه؟؟؟
بارك الله بك أخي مقاوم

منال
07-10-2008, 01:49 PM
أتابع

جزاكم الله خيرا

مقاوم
07-10-2008, 02:31 PM
حياكما الله وبارك بكما عل المتابعة ولن يطول الانتظار إن شاء الله:

كلمة ابي بكر في السقيفة
ماذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحكم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟

لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:
أولًا: يقول عمر:
فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكره.
يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال:
لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ.
وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.

بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق رضي الله عنه الأنصار، وأشاع جوًا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله عز وجل ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق رضي الله عنه:
ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.
والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟

لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلًا صالحًا عادلًا تقيًا، إذن ليست القضية تقليلًا، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلًا أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلًا هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين، أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟

ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع، والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين؟

لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.

إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق رضي الله عنه، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.

ثالثا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.

فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق رضي الله عنه يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق رضي الله عنه لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق رضي الله عنه نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها، فلما بويع الصديق رضي الله عنه قام خطيبًا ذات يوم فقال:

إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أقم به، كان رسول صلى الله عليه وسلم عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا إنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم، فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني.

هذا الكلام يخرج فعلًا من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة، إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج خط نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.

لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟
يعلق عمر بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول:
فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟

الآن أصبح هناك رأيان:
- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.
- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر...

مقاوم
07-19-2008, 06:35 AM
رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما

قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر رضي الله عنه هو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في منزل آخر، فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلًا يُرضي جميع الأطراف، قال:
أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.

والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.
والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له:
كأنه يقول أنا داهيتها.

وإجمالًا فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟

قال الحباب:
منا أمير، ومنكم أمير.
أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سويًا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب رضي الله عنه:

أولًا: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام، ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.

ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.
أضاف قولًا آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، أضاف الحباب:
فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.
يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملًا آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من قبل.

يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول:
إن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم أمير من غيرهم.

وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان نبيًا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًا لكثير من الناس في دخول الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:

أن ما جعل الأنصار يقولون هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.

ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب رضي الله عنه، أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين، بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة، روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.

هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر رضي الله عنه إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.

فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس رضي الله عنه:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلًا منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.

أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.

قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال:
هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.

ثم قال:
من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.

ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلًا، والكلام الذي قاله يحتمل معان كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد صلى الله عليه وسلم الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر رضي الله عنه، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر رضي الله عنه، هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلًا جديدًا، قال:

إذن أولًا نختار رجلًا من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلًا من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلًا من المهاجرين، كذلك أبدًا.

ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد فيقول:
فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.

وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين، إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلًا بعد موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي أيضًا لا يقبل.

وقف أيضًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدة: لا والله، لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.

طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر رضي الله عنه يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلًا من حق قريش، فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة، والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول صلى الله عليه وسلم قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.

ولذلك، سمي الفاروق فاروقًا، لأنه فعلًا في مواقف عدة، بل لعله في كل مواقفه يكره اللون الرمادي الغير واضح، ويحب أن يوضح الأمور على حقيقتها، وهذا وإن كان يغضب بعض الناس، أو يظنون فيه الظنون، إلا أنه على المدى البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة.
لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأعاد وكرر رأيه :
منا أمير، ومنكم أمير.

وقد أثارته كلمات الفاروق رضي الله عنه، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال:
وإن شئتم كررناها خدعة.

أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.

ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار، والجدل، فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا مرة منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء، لم يطلب لنفسه، ولم يبرر، ولم يقل قد بايعني قومي، ثم لاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل، لم يذكروا ولو مرة واحدة منًّا على المهاجرين، ولا تفضلا عليهم، لم يقولوا مثلًا: جئتمونا مطرودين فآوينكم، فقراء فأغنياكم، محتاجين فأعطيناكم.

وهذا كله واقع صحيح، ولكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان، كما نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم، لم يقولوا ولو لمرة واحدة أنهم أفضل من الأنصار، أو أن كفاءتهم القيادية، أو الإدارية، أو الأخلاقية، أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبدًا، كل ما يريدون ترسيخه هو فقه الواقع، الواقع سواء كان حلوًا، أو مرًا يقضي بأن العرب لن تطيع إلا لقريش الآن، وبعد عشر سنين، وبعد مائة سنة، وما دام الواقع لم يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، فلا بد من مراعاته، وكما ذكرنا من قبل:
لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح، أو أقل صلاحًا، خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا.

هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة، ونلاحظ أيضًا في هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يجتهدون في الرأي، فيصيب بعضهم، فله أجران ويخطئ الآخر، فله أجر، فكما لا نرضى أن يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا، الخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لا بد أن يحدث، بل حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده صلى الله عليه وسلم، بل اختلف صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا مع الصحابة في القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحيانًا كان يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرجل الموفق المحدث الملهم، الذي نزل القرآن الكريم موافقًا لرأيه في أمور عدة.

نعم، وَسِّعوا المدارك، واقبلوا الخلاف في الآراء، لكن لا بد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.

نعود إلى موقف الصحابة، بعد الكلمات الأخيرة لعمر بن الخطاب والحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟
وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟
وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟

Abuhanifah
07-20-2008, 06:57 PM
السلام عليكم ورحمة الله


فكما لا نرضى أن يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا،

هذا هو الصدق بذاته والموضوعية بعينها فتاريخنا لا افراط فيه ولا تفريط...
بارك بك أخي مقاوم على جهدك الطيب

مقاوم
07-20-2008, 07:34 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وفيك بارك الله أخي أبا حنيفة وشكر لك متابعتك.

مقاوم
07-27-2008, 01:05 PM
أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة

إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا، فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، قال:
يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وَغيّر.

هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًا عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا،
[وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] {الأنفال:74}
يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.
رضينا برسول الله قسمًا.

[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9} .
الأنصار يبدلون ويغيرون؟!
يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.

نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.

الله إنهاذكريات رائعة خالدة...

فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
قال: الْجَنَّةُ.
قالوا: أبسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.

أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء، تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد، والشهادة، تذكروا إخوانا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما غيروا.

تذكروا سعد بن معاذ.
تذكروا أسعد بن زرارة.
تذكروا سعد بن الربيع.

تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.
تذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.
الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.
الذي ما زال حيًا في قلوبهم.
وسيظل كذلك حتى يموتون.

وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.

وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.

قام أسيد بن حضير رضي الله عه زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلًا بين الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق رضي الله عنه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق، وسعة إطلاعه على كتاب الله عز وجل،قال الصديق رضي الله عنه:
إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.

وذلك في إشارة لقول عز وجل:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:8،9} .

ثم انظر إلى الاستنباط، قال:
وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.

ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.

وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.

وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.

مقاوم
08-08-2008, 06:09 AM
بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة

قام زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة، وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًا داخليًا في داخله، أتراهم فعلًا على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟

أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة. الصديق رضي الله عنه يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًا وقلبيًا بأن المصلحة العليا للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق رضي الله عنه، قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكًا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق رضي الله عنه: لقد علمت يا سعد- يخاطب سعد بن عبادة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد.

هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة رضي الله عنه بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق رضي الله عنه:
لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد:
قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ. قانون وضعه صلى الله عليه وسلم، صريح جدًا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال:
صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.

هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة عندهم هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت السقيفة.

ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:
أولًا: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه، هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين الديموقراطية، فالديموقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلًا أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟

أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد الله عز وجل، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم
[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .

أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛ لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله عز وجل بقوله:
[وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .

لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلًا من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله عز وجل عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟

وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له، بمعنى أن ترضى، ترضى رضا حقيقيًا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .

هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأينا التسليم الكامل المطلق [وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .

إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.

- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعُ لِمُسْلِمُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ.
وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.

- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.

وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا معناه كاملًا، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:
- ذكر الإمام النووي مثلا في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.

- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية*:
اشتراط كونه قرشيا، هو مذهب العلماء كافة.
- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية:
مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وكما جاء في رواية عن أبي بكر:
مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ.
وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله عز وجل فلا طاعة لهم ولا إمرة.

أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام، وآسيا، وشمال أفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض، ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن، فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن، أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا لله
[اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] {المائدة:3} .

قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ.
وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلًا في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله عز وجل، وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه لماذا؟
لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.

تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة رضي الله عنه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟
كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!
رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟
يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟
في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة، لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه، فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له:
قريش ولاة هذا الأمر.

وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟
إنه يقول في بساطة:
صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء.
لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر،
أيّ نفس طاهرة!
وأيّ روح زكية!
أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!
كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة،
كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف،
أيّ فتنة قمعت!
وأيّ وحدة حدثت!
آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟
كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟
لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟

المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:
إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع، هذا رجل جاهل من المستشرقين.
والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالًا أخيارا، وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه، وعلم الصواب وخالفه.

هؤلاء المستشرقون جُهّالًا كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!
أتراه عدلًا أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين والهند؟!
أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!
أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!
أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟
أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟
وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟

تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق رضي الله عنه يعرف هذا الحديث القاطع( ولاة الأمر من قريش)، فلماذا لم يذكره في أول المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه، وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وإن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك، اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

تعليق رابع على كلام الصديق رضي الله عنه: شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب، واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق رضي الله عنه، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟
أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟
أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟
فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟
أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!
أليس انصياع الأنصار التام دليلًا على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلًا على ارتفاع الصديق رضي الله عنه فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟
هذا والله أراه حقا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟
[فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} .

*كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لمؤلفه الإمام أبو الحسن علي بن محمد البصري المعروف بالماوردي أما القاضي عياض فله كتاب آخر بعنوان: "مذاهب الحكام في نوازل الأحكام" فلعل الكاتب وهم- مقاوم

مقاوم
08-12-2008, 01:20 PM
استخلاف الصديق
مقدمة

استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة، ثم إن المهاجرين بالآلاف، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، فكل رجل من المهاجرين أمة، مَن مِن هؤلاء سيتولى هذه الخلافة، وقد نتخيل أن الأمر شاق، وعسير، ولكن فلننظر ماذا حدث؟


عمر يبايع أبا بكر رضي الله عنهما


قال الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ابسط يدك نبايع لك.
فقال عمر: أنت أفضل مني.
قال أبو بكر: أنت أقوى مني.
قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك.
أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟
ونحن نرى اليوم بعض الإخوة الملتزمين، ويفترض أنهم مدركين للدين جيدًا، ولكنهم يختلفون على إمامة مسجد، أو إمامة في صلاة، فماذا سيكون حالهم لو كانت إمامة أمة؟!
تقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وقال:
لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟
وروى النسائي والحاكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس:
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر للصلاة؟
قالوا: بلى.
قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.
هنا وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاروق، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة، وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور فماذا حدث؟

من هناك
08-12-2008, 04:33 PM
ننتظر ماذا حدث

Abuhanifah
08-13-2008, 03:12 PM
السلام عليكم
جزاك الله خيرا أخي مقاوم ولا حرمنا الله من خيرك


تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق رضي الله عنه يعرف هذا الحديث القاطع( ولاة الأمر من قريش)، فلماذا لم يذكره في أول المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه، وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وإن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك، اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

ليتنا نستفيد من حكمة الصديق رضي الله عنه في ردودنا بدل الجدال... رضي الله عن الصحابة أجمعين المهاجرين منهم والأنصار

Abuhanifah
08-19-2008, 04:37 PM
وطلب البيعة له من الحضور فماذا حدث؟
استاذي مقاوم... ماذا حدث؟؟؟

مقاوم
08-21-2008, 05:33 PM
والأنصار يبايعون أيضًا

قام أسيد بن حضير، وبشير بن سعد رضي الله عنهما يستبقان للبيعة، ووثب أهل السقيفة للبيعة، بايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه، وبايع زيد بن ثابت رضي الله عنه، وبايع كل الأنصار في السقيفة.
إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه، وحتى لا يذهب الذهن بعيدًا، فإن سعد بن عبادة رضي الله عنه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة موقفه، فقد كان مبايعًا للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه لا يستطيع حراكًا لمرضه، ويحسب له أن أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه أي اعتراض على إمارة الصديق، بل إنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهدًا حيث استشهد هناك.
وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا تاريخكم، تطلعوا حولكم، وشاهدوا في كل بلاد العالم، كيف يكون الصراع على السلطة؟
آخر ما سمعت هو نصف مليون قتيل في صراعات على السلطة في أنجولا، وها نحن نرى ما يحدث في معظم بلاد العالم اليوم، ثم انظر ما يحدث أيضًا في البلاد التي يطلقون بلادًا حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:
المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات.
والمحور الثاني: محاولة التعريض، والسب، والقذف، والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر.
ألا يبحث كل مرشح عن عيوب غيره؛ ليبرزها للناس فيسجل بها نقاطًا لصالحه؟
ألا تسمعون عن تزييف، وتزوير، ومكيدة؟
ألا تسمعون عن قهر، وتعذيب، وظلم، وبهتان؟
قارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة، وما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين ورقي هذا التشريع.
لاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم كما لم يحضرها عامة الأنصار، بل حضرها رءوس القوم، ولذلك ففي اليوم التالي ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عامة الناس، وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد، حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة، ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، وهم أهل بيته:
علي بن طالب ابن عمه وزوج ابنته فاطمة،
والعباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم،
والزبير بن العوام ابن عمة رسول صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها.

الجميع يبايع الصديق رضي الله عنه

في اليوم الثاني صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر، ويقدمه إليهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي.
يقصد مقالة أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى، وجميل جدًا أن يعترف الإنسان بأخطائه أمام الناس، وهذا من عظمة الصحابة.
ثم يكمل: وما وجدتها في كتاب الله عز وجل، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى رسول الله صلى اله عليه وسلم سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا.
أي أنه كان يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون آخر من يموت في هذا الجيل، ولكن الله عز وجل شاء أن يموت، حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونون نبراسًا لمن بعدهم، وهو اعتذار لطيف عما بدر منه أمس، فعمر قدوة وقد يتأثر به الناس.
ثم قال عمر رضي الله عنه:
وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.
فقام الناس جميعًا من المهاجرين، والأنصار وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الخلافة، في إجماع عجيب، ثم قام الصديق رضي الله عنه، وخطب خطبته المشهورة الرائعة، ثم بعد الانتهاء من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه، وبايع أبا بكر الصديق، ثم جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما روى ابن سعد، والحاكم والبيهقي، وبايع في هذا اليوم الثاني، وهذا هام جدًا؛ لأن كثير من الناس، وخاصة الشيعة يطعنون في بيعة علي للصديق رضي الله عنه، ويصرون على أنها تأخرت ستة شهور كاملة بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وسنأتي إن شاء الله إلى تحليل موقف علي بالتفصيل فيما بعد، ثم بعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه وبايع الصديق على الخلافة.
إذن اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق رضي الله عنه، واستقرت الأوضاع، واجتمع الناس على قلب رجل واحد، كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم، مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المصاب ما عطل شرعًا، ولا أذهب عقلًا، ولا أوقف حياة، لا بد للحياة أن تسير، وعلى الوجه الذي أراده الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم

فـاروق
08-21-2008, 05:47 PM
ننتظر تفصيل تأخير البيعة... وخاصة بيعة سعد رضي الله عنه...فعلي رضي اله عنه كان مشغولا بالدفن كما سيتبين والله اعلم

هل يمكن نرد الامر ببساطة الى بشرية الصحابة وانهم تعتريهم وما يعتري كل البشر ولكن ميزتهم ان ايمانهم يغلب في النهاية ويحكم تصرفاتهم؟

Abuhanifah
09-04-2008, 10:31 AM
أخي فاروق أعتقد ان الجواب كما أشرت أنت...
انتظر الأخ مقاوم لتكملة الموضوع

منال
09-04-2008, 02:21 PM
السلام عليكم

عمو مقاوم لو سمحت وجدت بالمكتبة كتابين " مجلدين" عن التاريخ الإسلامي كتبه د. علي محمد الصلابي وآخر ل د. راغب السرجاني
اشتريت الأول فهل عند حضرتك علم به؟
هو لسه بكيسه بس سألت الرجل أيهما؟ أوثق قال هذا ثم قال:الاثنين حلوين يقصد هذا وتبع د. راغب
المهم اشتريت دا فلو الثاني اوثق ممكن أبدله إن شاء الله

مقاوم
09-05-2008, 12:32 PM
في كل خير.
د. علي أعرفه شخصيا وهو غزير التأليف وإن كانت معظم مؤلفاته تجميع.
د. راغب يمتاز أسلوبه بالقصصية والسلاسة وهو من أنقل عنه في هذا الموضوع.

طلع المستخبي :)

صرخة حق
09-05-2008, 01:01 PM
السلام عليكم ورحمة الله



هذا هو الصدق بذاته والموضوعية بعينها فتاريخنا لا افراط فيه ولا تفريط...
بارك بك أخي مقاوم على جهدك الطيب


تفرقا ينم عن الطبيعة البشرية والحكم بينهم كتاب الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

فبهذا تقصر مدة الخلاف ولا تطول ، ولا تحمل الضغينة في قلوبهم ، بل كان أحدهم يبحث للآخر عن عذر وإن خالفه .

صرخة حق
09-05-2008, 01:34 PM
أخي مقاوم : فقط للتذكير ... أرجو التنبه للمراجع المستقاة منها المعلومات :


تاريخ المسعودي أي: مروج الذهب، فيه كثير من الروايات المكذوبة التي يجب الحذر منها فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في لسان الميزان: وكتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً. وجزم الذهبي في السير بأنه كان معتزليا.
وقال إسماعيل باشا البغدادي في كتابه هدية العارفين: المسعودي: علي بن الحسين بن علي الهذلي البغدادي أبو الحسن المسعودي المؤرخ نزيل مصر الأديب كان يتشيع توفي بمصر سنة 346 له من الكتب إثبات الوصية. انتهى.
وقد نسبه إلى التشيع كثير من رجال الشيعة أصحاب المؤلفات المعتد بها في مذهب الشيعة، فيجب الحذر والتثبت عند القراءة أو النقل منه لا سيما فيما يتعلق بالفتن التي دارت في عصر الصحابة رضي الله عنهم.





وأما كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير رحمه الله تعالى ففيه نزعة تشيع، وإن كان ابن الأثير نفسه لا يصح أن ينسب إلى الشيعة، وقد أثنى عليه مشاهير من أهل السنة كما في البداية والنهاية لابن كثير، وسير أعلام النبلاء للذهبي، إلا أن في كتابه بعض الأمور التي يجب الحذر منها


أما " تاريخ الطبري " فقد رحمه الله قد اعتذر عما جاء في كتابه من هذه الأخبار المستشنعة فقال : ( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه , أو يستشنعه سامعه , من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معنى في الحقيقة ؛ فليعلم أنه لم يُؤْت في ذلك من قبلنا , وإنما أُتِي من قِبَل بعض ناقليه إلينا , وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ) تاريخ الطبري المقدمة ( 1 / 8 )
فطريقته هي الجمع والتقميش دون التفتيش إلا في القليل النادر !
بمعنى أنه جمع ولم يحقق الأسانيد لما جمعه !
والناظر في الروايات في الطبري يجد فيها الكثير الكثير من روايات الرواة الذين اتهموا بالكذب


واليعقوبي رافضي معروف



منقول بتصرف

منال
09-05-2008, 04:32 PM
في كل خير.
د. علي أعرفه شخصيا وهو غزير التأليف وإن كانت معظم مؤلفاته تجميع.
د. راغب يمتاز أسلوبه بالقصصية والسلاسة وهو من أنقل عنه في هذا الموضوع.

طلع المستخبي :)
حمدا لله على السلامة

خلاص يعني اكتفي بالكتاب الذي بين يديّ والقراءة هنا وأكون جمعت بين الاثنين

جزاك الله خيرا عمو مقاوم وبوركت جهود حضرتك

Abuhanifah
09-07-2008, 10:07 PM
السلام عليكم
أخي مقاوم وان طلع "المستخبي" :) أرجو متابعة النقل...
أعلم انشغالك في الوقت الحالي يسر الله أمرك ووفقك لكل خير ونحن بالانتظار ان شاء الله


خلاص يعني اكتفي بالكتاب الذي بين يديّ والقراءة هنا وأكون جمعت بين الاثنين
لماذا لا يتم نقل مقتطفات من كتاب د. الصلابي في نفس الموضوع خاصة ان لم تكن مذكورة في كتاب د. راغب؟ -ان أمكن ذلك وكان مُيسرا وإلا فلا بأس.


فيجب الحذر والتثبت عند القراءة أو النقل منه لا سيما فيما يتعلق بالفتن التي دارت في عصر الصحابة رضي الله عنهم.

بداية أهلا بك متابعة جديدة للموضوع
الى الآن لم نصل الى حقبة الفتن المذكورة ... عموما أعتقد أن أخي مقاوم لن ينقل شيئا دون التثبت من مصدره ان شاء الله...

مقاوم
10-27-2008, 05:21 PM
رواية الطبري بشأن سعد بن عبادة
جاءت رواية عجيبة في الطبري، أعجب بها المستشرقون أيما العجب، وأظهروها في تأريخهم للحدث، ورددها وراءهم عدد من المعجبين بهم، والحق أن الطبري رحمه الله، مع أنه كان عالمًا جليلًا، وإمامًا عظيمًا، ما كان ينظر كثيرًا في إسناد الروايات التي يذكرها في كتابه، وقد اعترف هو بنفسه بذلك في مقدمة كتابه المشهور (تاريخ الأمم والملوك)، وقال إن همه كان الجمع، وليس التحقيق، وإن على علماء الرجال، والحديث، والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه.
جاءت في الطبري رواية تقول:

إن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال بعد مبايعة الصديق رضي الله عنه:
لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي.
فكان- كما تقول الرواية- لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجمعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم. أي في الحج.

هذه الرواية الباطلة إذا بحثت في أسانيدها ذهب عنك العجب، ففي إسنادها لوط بن يحيى، وهو شيعي صاحب هوى معروف، كثير الكذب، متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله:

إخباري تالف، لا يوثق به، ولم ينقل عنه إلا الشيعة، ولا يؤخذ بقوله البتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن.

فالرواية سندًا لا تصح بالمرة، كما أنها متنًا لا تصح أيضًا، فمن المستحيل أن ينسب مثل هذا الكلام إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة، ومن المستحيل أن يقول مثل هذا الكلام، ولا يخاطبه فيه الصحابة، ولا يخاطب فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كلام في غاية الخطورة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه ليس رجلًا عاديًا، بل سيد الأنصار، ولو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، ولو كان هذا الموقف حقيقيًا، لذكرته كتب السيرة الموثقة، ولكنه لم يرد في أي كتاب سيرة، ولا كتاب سنن، ولا في أي كتب من الصحاح، وبذلك يتضح فيه الاختلاق، سواء في السند، أو في المتن.

مسألة غضب علي والزبير يوم المبايعة
تذكر إحدى الروايات أن عليًا والزبير غضبا يوم المبايعة، والرواية صحيحة، وفعلًا غضب علي رضي الله عنه، وغضب الزبير رضي الله عنه، ولكن لماذا غضبا؟

أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانا يريان أن غيره أفضل، وطبعًا المقصود بغيره هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن، بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية وتركوا بقيتها، روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بسند صحيح كما صححه ابن كثير رحمه الله، قال:

ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.

إذن غضب علي والزبير رضي الله عنهما كان؛ لأن مشورة اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وهو أمر مفهوم ومقبول، ومن الطبيعي أن يغضبا لذلك، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعًا لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولا شك أن كثيرًا منهم من أهل الرأي والمشورة، كان ينبغي أن يكونوا حضورًا في اختيار الخليفة، ولا يكتفى بثلاثة من المهاجرين فقط، هذا عذرهم، لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة رضي الله عنهم معذورون كذلك في غياب بقية المهاجرين، وقد رأينا الأحداث بالتفصيل، وكيف أن أبا بكر وعمر كانا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اجتماع الأنصار، وجاء إليهما رجل أخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وفي الطريق لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على غير اتفاق، فأخذاه معهما، ودخلوا جميعًا السقيفة، وتسارعت الأحداث في السقيفة كما رأينا، وكان يُخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال، والخلاف والتفرق، فما حدث لم يكن القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، ولكن سرعة التقاء الأنصار، ولهم ما يبررهم كما بَيّنا سابقًا هي التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة، ويبدو أن بعض المهاجرين الآخرين كانوا يجدون في أنفسهم لنفس السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما، مما دعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقف خطيبًا في المهاجرين بعد المبايعة بأيام كما روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال:

خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المهاجرين فقال:

ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة، ولا سألتها في سر، ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قُلّدت أمرًا عظيمًا ما لي طاقة به ولا يد إلا بتقوى الله.

فقبل المهاجرون مقالته.

والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا، فهم يعرفون صدق الصديق، وزهده، ومكانته، وقلبه، وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعًا ما اختاروا غير الصديق رضي الله عنه، ولكنه رضي الله عنه أراد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئًا في استثنائهم، بل كان مضطرًا.

إذن كان من الواضح أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهادًا مصيبًا منهم، فها هي آثار، ورواسب حدثت في نفس المهاجرين مع أن الخليفة أبا بكر منهم، فكيف لو كان من غيرهم؟

ونعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمر قبلية، أو عصبية، أو اعتراض عن الاختيار، ولكن وجدوا في أنفسهم لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة، هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هو الذي حدا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، لم يفقههما القارئ غير المتتبع للأحداث، وللظروف التي قيلت فيها هاتان العبارتان:

أما العبارة الأولى فقد قالها يوم السقيفة وبعد مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ قال رجل من الأنصار لعمر بن الخطاب:

قتلتم سعدًا والله.

يقصد قتلتم سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب:
قتل الله سعدًا.

وهذه رواية صحيحة، بل في البخاري، وهذه الكلمة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي دعاء على سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولا شك أنها تعبير عما يجيش في صدر عمر رضي الله عنه من أسى وحزن وغضب لاجتماع الأنصار بمفردهم، وذلك خشية الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيمًا ليس على رغبة المهاجرين، يروي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفسيرًا لهذا الموقف فيقول:

وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ، أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا.

أي مخافة أن يقتلا نتيجة الفتنة التي قد تحدث، وليس معنى دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بهذه الكلمة أن بينهما شقاقًا، أو كرهًا، فعمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة كما يغضب رجل من رجل عند الإختلاف، وهذا شيء طبيعي جدًا أن يحدث بين المؤمنين، ولكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا ما لم ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم، وليس من الطبيعي، ولا الفطري أن بتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر جميعًا، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم هو العودة سريعًا إلى الاجتماع بعد الاختلاف.

العبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاءت في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال:

بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا.

يقصد أنه سيبايع فلانًا، وفلانًا هذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دون مشورة أحد، فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر، يكمل عمر فيقول: فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وتمت.

فلتة بمعنى فجأة، فعمر يريد أن يحذر من يقول بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب، ومع ذلك تمت، ونجحت، وبويع أبو بكر، فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلًا فجأة، ويتم له الأمر.

ثم يكمل عمر يصحح المفاهيم للأمة، ويقول:

ألا وإنها- أي بيعة الصديق- قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها.

وهذه عبارة هامة جدًا، يقصد عمر أن عملية الانتخاب الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم، فلا بد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور، وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن أن لا تقر من عامة المسلمين، لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم فاختار بعضهم طلحة مثلًا، واختار بعضهم عليًا مثلًا، واختار بعضهم عمر مثلًا، وهكذا، كيف يجتمعون؟

ولذلك قال عمر بن الخطاب تعقيبًا على هذا الكلام: وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

أي أن السابق فيكم الذي لا يُلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له، فأبو بكر الصديق وقعت له المبايعة بالإجماع في الملأ اليسير في السقيفة، ثم وقعت له المبايعة في عامة الناس من رءوس القوم الذين لم يحضروا البيعة، وليس هذا إلا للصديق رضي الله عنه.

لذا نصيحة عمر للأمة ألا تتسرع في أمر اختيار قائدها، فليس منهم من سيجمع الناس عليه مثلما أجمعوا على أبي بكر، فعليهم بالشورى المتأنية وبطرح كل الأسماء المرشحة، وبدراسة كل واحد منهم، ثم اختيار واحد، ومن المؤكد أن هذا الواحد سيكون مقبولًا من بعض الناس، ومرفوضًا من غيرهم، فإذا حدث اختياره بعد شورى حقيقية، أمن الشعب الفتنة، وإن أرغم الناس عليه إرغامًا فلا تؤمن الفتنة.

مقاوم
12-04-2008, 02:46 PM
لماذا أجمع الناس على بيعة الصديق رضي الله عنه؟

يبدو أننا مهما قلنا، ومهما شرحنا، ومهما ذكرنا من مواقف وأحداث، فإننا لن نوفي هذا الرجل حقه، فنحن إن كنا نقارنه بأناس عاديين، لكان يسيرًا أن نفقه هذا الاجتماع على صعوبته، لكنه رضي الله عنه، يقارن برجال أعلام أفذاذ عباقرة، ما تكرر في التاريخ جيل مثلهم، كل رجل منهم أمة، وأَخْرِج كتب السيرة، والتاريخ، واقرأ:

- اقرأ مثلًا قصة حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فعله للإسلام والمسلمين منذ أسلم وحتى مات، اقرأ عن علمه، وعدله، وفقهه، وورعه، وتقواه.
- اقرأ مثلًا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما قدمه في حياته الطويلة، اقرأ عن كرمه، وزهده، وعن أخلاقه.
- اقرأ مثلًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن تاريخه المجيد، وفضله العظيم، وكلامه الحكيم، اقرأ عن قوته، وحكمته، وحلمه، وشجاعته، وذكائه.
- اقرأ عن غيرهم من الصحابة، عن الزبير، عن طلحة، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن سعيد بن زيد، عن عبد الرحمن بن عوف، عن سعد بن أبي وقاص.
من المؤكد أن كل اسم من هذه الأسماء يترك في النفس العديد من ذكريات من الإيمان، والجهاد، والبذل، والمروءة.
- اقرأ عن حمزة، عن مصعب، عن سلمان، عن حذيفة، عن صهيب، عن بلال، اقرأ عن أبي ذر، عن معاذ، عن ابن مسعود، عن ابن عباس، عن عمار، عن خالد.
- اقرأ عنهم وعن عشرات معهم، وعن مئات معهم، وعن آلاف معهم، بل عن ملايين معهم.
- اقرأ عن عظماء، وعلماء المسلمين في كل عصر، وفي كل مكان، اقرأ عنهم جميعًا.
- واعلم أنهم لو جمعوا في كفة جميعًا، كل من سبق ذكرهم، لو جمعوا في كفة، والصديق في كفة لرجح بهم الصديق،
أيّ فضل!
وأيّ قدر!
وأيّ عظمة!
وأيّ مكانة!

روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ، فَوُزِنَ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ، فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.

أي رفعت الموازين، ويبدو أيضًا أننا لا نعطي القدر الكافي لعمر رضي الله عنه، ولعثمان رضي الله عنه، ونسأل الله أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل، لاحقًا إن شاء الله.

نعود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهناك العديد من الأحاديث التي تذكر فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أكثر من أن تحصى هنا، فالصحابة ما ترددوا في اختيار الصديق، وما اختلفوا عليه؛ لأنه بالإجماع كان أفضلهم، وكانوا يعلمون ذلك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنمر قليلًا بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في حق هذا الرجل الجليل:

- روي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. وفي رواية الطبراني زاد:
فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره.

- وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
كنا لا نعدل بأبي بكرٍ أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم.

- وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال:
كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت.

- وأخرج الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.
يعلق الذهبي على هذا الحديث فيقول:
هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم.
الرافضة أي الطائفة من الشيعة التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

- وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالطبع فهذا الحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنتجه عمر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح به من قبل.

- روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
قلت: من الرجال؟
قال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: عُمَرُ.
قلت: ثم من؟
قال عمرو بن العاص: فعد رجالا.

- وروى الطبراني، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال:
من فضل على أبي بكر، وعمر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أزرى على المهاجرين والأنصار.
أي انتقص من المهاجرين والأنصار.

- وروى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:
متى الساعة؟
قال: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.
فقال الرسول: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بعملهم.
فإحساس أنس رضي الله عنه بأبي بكر، وعمر، كان هو إحساس كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

- وأخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه وأحمد وغيرهم عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:
هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِيينَ وَالْآخِرِينَ خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ.
الكهل بين الثلاثين والأربعين، وقيل المقصود بالكهل العاقل الحكيم، وأخرج الترمذي نفس الحديث عن علي.

- وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ.
وأخرج الطبراني نفس الحديث عن جابر بن سمرة وعن أبي هريرة.

- وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما وقال:
هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه.

- وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ.

- وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال:
هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمرو وبطرق أخرى عن ابن عباس وعن جابر.

- وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:
أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ، وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ.
والصحبة في الغار فضيلة ولا شك.
هذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق على باقي الصحابة، وهي ليست كل ما ورد في حق الصديق رضي الله عنه، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها، وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السند يتفقون على أفضلية الصديق رضي الله عنه، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة رضي الله عنه أجمعين،
هذه الدرجة العالية من الفضل، والإيمان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى إيمان الصديق، وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، وهذه درجة عالية جدًا في الفضل، بمعنى إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا عجيبًا غريبًا قد يشك فيه بعض الناس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن، ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق، درجة متناهية في الفضل بين الصحابة، وهاكم دليلا على ذلك:

- أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل على الناس فقال:
أي لم يكونا موجودين في هذا اللقاء الذي يتحدث فيه رسول الله، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَى الذِّئْبُ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلَبَهَا، حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ:
هَذِهِ اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِي لَهَا غَيْرِي؟
فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟
قال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وما هما ثَم.

واختلفوا كثيرًا في شرح المقصود بحادثة السبع هذه، لكن الشاهد الثابت من القصة هو تكلم الذئب، وتكلم البقرة، وإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإيمانه بأن الصديق وعمر رضي الله عنهما سيؤمنون بذلك حتمًا، ولم يكونا حاضرين في المجلس، وهي فضيلة ولا شك للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

إذن ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث السابقة، وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعًا كانوا يعتبرونه أفضلهم، وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلاهم منزلة في الدنيا والآخرة، وهذا كله سَهّل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل إن هذا الأمر لم يكن خافيًا حتى على المشركين، كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة قربًا له، حتى في الهجرة لما اكتشف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته، والمشركون يحاصرون البيت ماذا فعلوا بعد هذا الاكتشاف؟

أول شيء فعلوه أن ذهبوا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول له، ولا بد أن الصديق يعرف مكانه، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها على وجهها حتى أطار قرطها، لماذا تجاوز أبو جهل الحدود؟

لأنه على يقين من أن الصديق رضي الله عنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعماه الحقد عن مراعاة قواعد الجاهلية من احترام حرمة البيوت، ومن عدم التعرض للنساء بالأذى.

- في يوم أحد لما هزم المسلمون، وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، فالزعيم الأول بلا شك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان:
أفيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟
فلم يجيبوه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أمرهم ألا يجيبوه، فماذا قال أبو سفيان؟ لقد قال مباشرة:
أفيكم ابن أبي قحافة؟
فلم يجيبوه، إذن أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما لم يجيبوه قال:
أفيكم عمر؟
فلم يجيبوه أيضًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة، فهؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان: أما هؤلاء فقد كفيتموهم.
هنا لم يملك عمر نفسه فقال:
يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوؤك.

إذن الشاهد من هذه الأمور أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب الرسول أو مات،
طبعًا، بفضل الله، عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق، وبفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين، وطائفة من الشيعة، وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق رضي الله عنه، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة، ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو هم يعرفون وينكرون لأهداف خبيثة في نفوسهم، وللأسف الشديد فهذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق، وفي نزاهة الصحابة الذين اختاروا هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة في كثير منها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين، وفي ظل الهجمة الصليبية، واليهودية الشرسة على دين الإسلام، وعلى المسلمين، الطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة، وفي أقسام التاريخ، وأقسام السياسة، ولا بد للمسلمين من وقفة، ولا بد لعلماء المسلمين من انتباه، ولا بد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق، وفضل الصحابة، ويعلمونه أولادهم وتلامذتهم، فالدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في صلبه وفي عمقه.

وقد يقال من قِبَل العلمانيين والمتشككين:
آمنا معكم بفضله، ومكانته، وإيمانه، وتقواه، لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم، وورعهم لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فلم يعط لأبي ذر مثلًا وقال له:
إنك امرؤ ضعيف.

وولى عمرو بن العاص على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل؛ لأنه أبصر بالحرب، فقد يكون هناك ممن هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي لأن الأيام أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا إننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع كما يقولون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، نقول لهم:.
ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟

وهذا ما سنتناوله في الفصل القادم إن شاء.

فـاروق
12-04-2008, 02:49 PM
اكمل اكمل...

جزاك الله خيرا..

رضي الله عن الكبار الكبار...الصحابة الاخيار...

سبحان الله...اي قلب كان لهم... واي عقل...واي حواس... هم بشر خلقوا مم خلقنا منه...ونعجز نحن عن عد مآثرهم فضلا عن الاقتداء بها..

من هناك
12-04-2008, 04:53 PM
الحمد لله الذي انعم علينا بكتابات المقاوم

مقاوم
12-04-2008, 05:53 PM
الحمد لله الذي انعم علينا بكتابات المقاوم
بوركت يا حبيب.. لكنها ليست من كتاباتي.

خفقات قلب
12-04-2008, 06:03 PM
مقاوم..ما المشكلة التي تحول بيننا وبين أن نكون مثلهم..؟
ثم لماذا لم تضع المصادر..؟
ظننتك مؤرخا لوهلة..

منال
12-04-2008, 06:10 PM
العم مقاوم- حفظه الله ورعاه- قال في مشاركته الأولى:


سأعتمد عدة مراجع لم أنتهي من حصرها بعد وعندما أفعل سأقوم بجدولتها هنا إن شاء الله. أدعوا لنا بالسداد والمواظبة والله ولي التوفيق..
ثم ذكر أحد المصادر داخل المشاركات

جوزيت خيرا عمو مقاوم- لم اقرأ الكتاب بعد لكن لاحظت أنه بدأ من الخلافة العثمانية أو يمكن نظرت لفهرس الجزء الثاني عموما سأتابع هنا وسأحاول قراءة الكتاب إن وجدت وقتا لذلك وأنقل للأخ أبو حنيفة أي زيادات بإذن الله

مقاوم
06-18-2009, 11:58 AM
شروط الاستخلاف


مقدمة
هناك من الشروط ما يتفق فيها كل الصحابة:

الشرط الأول: الإسلام
يتفق فيه كل الصحابة، وهو الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانيًا أو يهوديًا مثلًا، ولا تنظروا إلى ما يحدث في بعض بلدان العالم الإسلامي من ولاية النصارى على الدولة، مثل نيجريا مثلًا، فهذه مخالفة شرعية واضحة.
الشرط الثاني: البلوغ
وهذا أيضًا يجتمع فيه كل الصحابة المرشحين للخلافة.
الشرط الثالث: الذكورة
لا بد أن يتولى أمور المسلمين وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها رجل، أعلم أن بعض البلدان الإسلامية تجعل على رئاستها امرأة، ولعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمامة، شرط الذكورة طبعًا يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة.
إذن هذه الشروط الثلاثة الإسلام والبلوغ والذكورة لا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد.
الشرط الرابع: العدالة
ثم شرط العدالة، والصحابة جميعًا عدول باتفاق العلماء، والعدالة: هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
والتقوى، وإن كانت من الأعمال التي تحتاج توافق بين الظاهر والباطن، والسر والعلانية إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطق فإن تعريف التقوى المطلوبة في الخليفة هو:
اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة.
لا بد ألا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولا بد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، مثل ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصيام، وفعل الكبائر الأخرى كشرب الخمر، أو الزنا، أو المجاهرة بفحش القول والعمل، أو القتل بغير حق، أو الاستهزاء بالدين، ولا بد أيضًا أن يتجنب البدعة فضلًا عن أن يدعو لها، واختلفوا في الصغائر؛ أي اجتنابها شرط أم لا، واتفقوا على أن الإصرار عليها يخل بشرط العدالة، أما المراد بالمروءة فهو:
التنزه عن النقائص التي قد تكون مباحة، ولكن لا تصح في حقه. وهذه ترتبط بالشرع والعرف معًا، مثلا كثرة المزاح، وضياع الهيبة مثلًا تسقط مروءة الرجل، وإن كان صادقًا في مزاحه، وقديمًا كانوا يعتبرون الأكل في الشوارع والأسواق من مسقطات المروءة، لكن العرف الآن يجيز ذلك ولم ينه الشرع عنه كذلك.
إذن شرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقيًا صاحب مروءة وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة، إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أكثرهم عدالة، وأعظمهم تقوى، وأشدهم مروءة، لما سبق من الأحاديث ولشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة.


شروط تفَوّق فيها الصديق رضي الله عنه

تأتي بعد الشروط السابق ذكرها والتي يشترك فيها جميع الصحابة المؤهلين للخلافة في ذلك الوقت؛ تأتي شروط أخرى في غاية الأهمية، وهي تحتاج إلى بعض البحث في أحوال الصحابة لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، هذه الشروط المتبقية ثلاثة:
- الشجاعة والقوة والنجدة.
- العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة.
- حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور.
طبعًا هناك شرط رابع تحدثنا عنه من قبل وهو أن يكون من قريش وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا من قبل.
فمع هذه الشروط الثلاثة؛ لكي نرى أين موقع الصديق منها:


الشجاعة والقوة والنجدة

لا بد للخليفة أن يكون كذلك، وإلا ضاعت هيبة البلاد، قرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت، بل يطلبه، إذا تردد الخليفة في نفسه ساعة، أو ساعتين، أو يومًا، أو يومين، قد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن،
أين الصديق رضي الله عنه في صفة الشجاعة؟
روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال:
أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟
ففي هذا الموقف العصيب، محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة، ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول، وعلى حياة الصديق نفسه، لكنه إذا انتكهت حرمة الدين، أو حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينظر لنفسه أبدًا.
انظروا إلى هذه الرواية لتي رواها البزار في مسنده، وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن شرحه للحديث السابق، هذه الرواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال علي رضي الله عنه:
أَخبِروني من أشجع الناس؟
وكان وقتها أمير المؤمنين، قالوا:
أنت.
قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس.
يقصد أنه شجاع، ولكن هناك من هو أشجع منه، فقال الناس:
لا نعلم، فمن؟
قال: أبو بكر.
ثم بدأ يفسر لهم، قال:
إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس، ثم يكمل علي رضي الله عنه ويقول:
ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش- وهو هنا يقص موقفًا من مواقف مكة- فهذا يجبأه، وهذا يتلتله، وهم يقولون:
أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟
قال: فوالله ما دنا منه أحد، إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول:
ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله.
ثم رفع علي رضي الله عنه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال:
أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟
فسكت القوم، فقال:
ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه - أي مؤمن آل فرعون - وهذا رجل أعلن إيمانه. أي أبو بكر.
وثبات الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع المشاهد، والغزوات معلوم بما في ذلك طبعًا في أحد وحنين حيث فر معظم القوم، ولم يبق إلا هو والقلة.
وشرط الشجاعة طبعًا يقصد به الشجاعة في القلب، والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال، أو هو أقواهم جسدًا، ولكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف، حتى وإن كان على حساب حياته، لا يشترط في الخليفة طبعًا أن يقاتل بنفسه، حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسدًا، وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحيانًا رضي الله عنه، وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك، وهذا ما سنراه في حروب الردة مثلما خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غَزَتَا المدينة المنورة أثناء حرب الردة، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه وإن كان رجلًا نحيلًا ضعيفًا في بنيته، إلا أنه كان أشجع الصحابة في قرار حروب الردة مثلًا، وقرار فتح فارس والروم، نعم هناك من الصحابة من أقوى منه جسدًا، وأمهر منه حربًا، ورميًا، لكن هذا لا يشترط في الخليفة إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال، لذلك ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل؛ لأنه في هذه الجزئية يتفوق عمرو بن العاص، ولكن في شمول معنى القيادة للخلافة وللدولة، لا شك أن الصديق فاق الجميع. وهناك مثل يوضح هذا الأمر:
ذكرناه في حديثنا عن إنكار الذات عند الصديق وموقفه وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نال منه المشركون وتورم وجهه رضي الله عنه وكاد أن يموت، في هذا الموقف نجد أن الصديق دفعته شجاعته إلى الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه سلم، لكن لم يكن له طاقة بالمشركين فضربوه، وهذا لا يطعن في شجاعته، بل على العكس فالرجل الجسيم القوي قد يحتمي وراء جسده، وقد يخفي في داخله قلبًا ضعيفًا يخشى الموت، ويطلب الحياة، بينما الرجل النحيل الضعيف إذا قدم على مهلكة واضحة كان هذا دليلًا على شجاعته، وبأسه واستهانته بالموت وطلبه للشهادة، ويقينه بالأجل، وهذا كله مما يرجى في خليفة المسلمين.
روى ابن إسحاق في سيرته وابن كثير في تفسيره وغيرهم أن أبا بكر رضي الله عنه دخل بيت المدراس على يهود- بيت المدراس هو بيت يدرس فيه اليهود فيه التوراة- وكان دخول أبي بكر هذا في أول العهد المدني في زمن المعاهدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليهود، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مَمكنًا في المدينة بعد، وكان اليهود قوة لا يستهان بها في المدينة سلاح، ورجال، وقلاع، وأموال، وأبو بكر الآن يدخل على اليهود في عقر دارهم في بيت المدراس، وقد اجتمع عدد ضخم من اليهود هناك وأبو بكر بمفرده، دخل أبو بكر فوجد منهم ناسًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص:
ويحك، اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.
أبو بكر رضي الله عنه أخذته الحمية للدين لما رأى فنحاص يعلم الناس التوراة المحرفة، ويبعدهم عن دين الله عز وجل، لم يفكر أنه وحيد في جحر الثعالب، كل ما فكر فيه هو دين الله ودعوة الإسلام، لكن فنحاص كان إنسانًا شريرًا قاسي القلب سيئ الأدب كعادة اليهود، قال للصديق رضي الله عنه ما لم يتوقع الصديق أبدًا أن يسمعه من إنسان، قال:
والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيًا ما أعطانا الربا.
هذا الكلام الفاحش من فنحاص يقصد به قول الله عز وجل:
[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] {البقرة:245} .
فيقول إن الله يستقرضنا، وسيعطينا مكانه أضعافًا كثيرة، فكأن هذا ربا وهو قد نهى عن الربا فكيف يعطيه، أمر عجيب وعقول مختلة وقلوب ميتة، المهم هذا ما قاله فنحاص، فماذا كان رد فعل الصديق رضي الله عنه وهو يقف وحيدًا أمام جموع اليهود ها هو دين الله ينتقص أمام وجهه، وهو قد جعل لنفسه قانونًا لا ينساه:
أينقص الدين وأنا حي.
فبماذا رد عليه الصديق؟
إنه لم يرد بلسانه، الصديق فاجئنا، وفاجأ فنحاص، وفاجأ اليهود بغضب شديد عظيم، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يرفع يده فيضرب فنحاص في وجهه ضربًا شديدًا حتى سالت الدماء من وجه فنحاص، وتورم ووجهه، وقال الصديق رضي الله عنه:
والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله. وطبعًا اليهود مع كونهم كثرة إلا أنهم إن رأوا ثباتًا من الذين أمامهم دبت في قلوبهم الرهبة تملكهم الرعب والهلع، فلم يستطيعوا فعل شيء، وما تحرك منهم رجلُ واحد، ولكن ذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
مَا حَمَلَكَ علَى مَا صَنَعْتَ؟
فقال أبو بكر:
يا رسول الله إن عدو الله قال قولًا عظيمًا، إنه يزعم أن الله فقير وإنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما.
قال: وضربت وجهه.
فجحد ذلك فنحاص وقال:
والله يا محمد ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًا عليه وتصديقًا لأبي بكر:
[لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ] {آل عمران:181} .
ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى:
[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {آل عمران:186}.
لم يكن هذا وقت المواجهة مع اليهود، بل وقت الصبر، وسيأتي يوم المواجهة بعد ذلك.
الشاهد من القصة هو أن الصديق رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاع، مقدام، لا يتردد عن جهاد، ولا يفر من لقاء، ولا يتحمل أن ينتهك دين الله عز وجل ولا يتحرك، هذه هي الشجاعة المرجوة في الخليفة، وهذا هو الإقدام المطلوب في قائد الأمة.

عبد الله بوراي
06-18-2009, 07:09 PM
أجدت لا يفضض الله فاك