سـمـاح
06-01-2008, 12:59 PM
نصّ الحديث
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : انتسب رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام ، فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان - حتى عد تسعة - ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، قال : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين : أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة ) رواه الإمام أحمد .
{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ( الحجرات : 13 ) ، خطابٌ إلهيٌّ يهتف بالبشريّة كلّها على اختلاف مشاربها وتنوّع مجتمعاتها ، ليبيّن أن اختلافها في الأجناس والألوان ، وفي الأعراق والأوطان ، إنما هو سنّة من سنن الحياة ، وتقديرٌ من الحكيم الخبير ، ليجعل من ذلك التنوّع سبيلاً إلى تآلف الشعوب وتعارفها ، وتوثيق الصلات بين أفرادها.
والله سبحانه وتعالى أقام التقوى أساساً للمفاضلة بين الناس دون غيرها من الأسباب ، ويأبى البعض إلا أن يطرح هذا الميزان الذي اختاره الله جانباً ، ويرفع لواء الجاهليّة ، وتفاخرها الباطل بالآباء والأجداد ، ويجمع إليه تحقير الآخرين وذمّهم ، واستصغار شأنهم .
وتاريخ هذه العصبيات المَقيتة طويل ، يمتدّ جذروه إلى الأمم السابقة ، فقد رصد لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد المواقف التي جرت وقائعها في الأمة اليهوديّة ، وكان فيها الافتخار بالنسب على حساب الدين والأخلاق ، وقد أخبر بها عليه الصلاة والسلام في معرض تحذيره المسلمين من ذلك الخلق الذميم .
ومدار هذه القصّة على رجلين ، افتخر أحدهما بسلالة آبائه وأجداده ، ولم يكن اعتزازه بهم مبنياً على صلاحٍ ودين عُرفوا به ، أو قيمٍ أخلاقيّةٍ ومباديء نبيلةٍ اتّصفوا بها ، بل جعل أساسها علوّ النسب ، ولذلك نجد – بنصّ الحديث – تجاهله لكفر أسلافه الذين افتخر بهم .
ومما زاد من شناعة موقفه وعظم خطيئته ما صدر منه من ألفاظ الاحتقار والازدراء ، فقد قال لصاحبه : " فمن أنت لا أم لك ؟ " ، وفي المقابل جاء جواب الآخر وردّه دالاًّ على حكمته ورجاحة عقله ، فقد أجابه إجابةً ذكيّة تذكّر بحقيقة المفاضلة بين الناس : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، ونلحظ اكتفاءه بذكر اثنين من آبائه لأنهما عاشا مؤمنين ، ثم نسبة نفسه إلى الإسلام ، وهو الوصف الأهمّ الذي تتوارى عنده بقيّة الأوصاف الأخرى .
وهنا ينزل الوحي الإلهي على سيّدنا موسى عليه السلام ليفصل في القضيّة ويبيّن المكانة الحقيقيّة لكل منهما : " أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة " .
وقفات مع القصّة
إن القضيّة الأساسيّة التي أراد الحديث النبويّ تحقيقها وتثبيتها في قلوب المؤمنين هي تعميق رابطة الأخوة بينهم ، وجعلها أوثق العُرى وآكد الصلات ، ولا يكون الحفاظ على تلك الأخوة إلا بالنهي عن كلّ ما يُضعف بنيانها الإيماني ويُوهي نسيجها الاجتماعي ، وذلك من خلال قطع التفاخر بالأنساب والتعصّب للقبيلة ، لما يسبّبانه من إشعالٍ للعداوات ، وتفريق للجماعات ، وإثارة للنعرات والخصومات .
من أجل ذلك ، أولى النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتمامه بهذه القضيّة في عددٍ من الأحاديث ، منها قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله أوحى إلي أن توضعوا حتى لايبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ) رواه مسلم ، وعدّ النبي – صلى الله عليه وسلم – التفاخر بالأنساب من أخلاق الجاهلية فقال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ) رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ( إنَّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد ، وإنَّما أنتم ولد آدم ، ليس لأحد على أحد فضل إلاَّ بالدين أو عمل صالح ) رواه أحمد .
ويوم فتح مكة خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قائلاً : ( يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية – أي تفاخرها - وتعاظمها بآبائها ؛ فالناس رجلان : برٌّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هيّن على الله ، والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب ) رواه الترمذي .
بل شدّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في التحذير من هذا المسلك فقال : ( ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان – وهي نوعٌ من أنواع الحشرات - التي تدفع بأنفها النتن ) رواه أبو داود .
وحين اختصم رجلٌ من المهاجرين مع آخرين من الأنصار ، فقال الأنصاري : " ياللأنصار " ، وقال المهاجري : " ياللمهاجرين " ، وبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ، دعوها فإنها منتنة ) متفق عليه .
على أن تلك الأحاديث لا تعني الدعوة إلى إهمال الأنساب وتضييعها ، إنما المذموم هو ما تؤول إليه من ممارسات جاهليّة وعصبيّاتٍ قبليّةٍ تعكّر صفو الأخوة بين المؤمنين وتُحدث الكراهيّة والشحناء بينهم ، فتعلّم الأنساب شيء ، والتفاخر بها شيءٌ آخر ، وقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله : ( تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ) رواه الترمذي .
ومن اللفتات اللطيفة التي تحسن الإشارة إليها هنا ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتمد تقسيم جيوشه أحيانا على أساسٍ قبليّ ، ليكون عاملاً من عوامل إذكاء روح المنافسة الشريفة والحماسة في القتال ، كما حدث في غزوة بدرٍ حينما قسّم الصحابة إلى ثلاثة ألوية ، لواءٌ للأوس و لواءٌ للخزرج ولواءٌ للمهاجرين ، وكما حدث كذلك يوم فتح مكّة ، فهو إذاً توجيهٌ نبوي متميّز للانتماء القبلي وتوظيفٌ له على أحسن الوجوه .
وأخيراً : فإنّ أمّة محمد – صلى الله عليه وسلم – نالت عزّتها ومكانتها بالإسلام فحسب ، ومن ابتغى العزة بغير هذا الدين أذلّه الله ، وصدق الشاعر إذ قال :
إن لم تكن بفعال نفسك ساميـا
لم يغن عنك سمـو من تسمـو به
ليس القديم على الجديد براجـع
إن لـم تجـده آخـذاً بنصـيبه
(الشبكة الإسلامية)
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : انتسب رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام ، فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان - حتى عد تسعة - ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، قال : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين : أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة ) رواه الإمام أحمد .
{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ( الحجرات : 13 ) ، خطابٌ إلهيٌّ يهتف بالبشريّة كلّها على اختلاف مشاربها وتنوّع مجتمعاتها ، ليبيّن أن اختلافها في الأجناس والألوان ، وفي الأعراق والأوطان ، إنما هو سنّة من سنن الحياة ، وتقديرٌ من الحكيم الخبير ، ليجعل من ذلك التنوّع سبيلاً إلى تآلف الشعوب وتعارفها ، وتوثيق الصلات بين أفرادها.
والله سبحانه وتعالى أقام التقوى أساساً للمفاضلة بين الناس دون غيرها من الأسباب ، ويأبى البعض إلا أن يطرح هذا الميزان الذي اختاره الله جانباً ، ويرفع لواء الجاهليّة ، وتفاخرها الباطل بالآباء والأجداد ، ويجمع إليه تحقير الآخرين وذمّهم ، واستصغار شأنهم .
وتاريخ هذه العصبيات المَقيتة طويل ، يمتدّ جذروه إلى الأمم السابقة ، فقد رصد لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد المواقف التي جرت وقائعها في الأمة اليهوديّة ، وكان فيها الافتخار بالنسب على حساب الدين والأخلاق ، وقد أخبر بها عليه الصلاة والسلام في معرض تحذيره المسلمين من ذلك الخلق الذميم .
ومدار هذه القصّة على رجلين ، افتخر أحدهما بسلالة آبائه وأجداده ، ولم يكن اعتزازه بهم مبنياً على صلاحٍ ودين عُرفوا به ، أو قيمٍ أخلاقيّةٍ ومباديء نبيلةٍ اتّصفوا بها ، بل جعل أساسها علوّ النسب ، ولذلك نجد – بنصّ الحديث – تجاهله لكفر أسلافه الذين افتخر بهم .
ومما زاد من شناعة موقفه وعظم خطيئته ما صدر منه من ألفاظ الاحتقار والازدراء ، فقد قال لصاحبه : " فمن أنت لا أم لك ؟ " ، وفي المقابل جاء جواب الآخر وردّه دالاًّ على حكمته ورجاحة عقله ، فقد أجابه إجابةً ذكيّة تذكّر بحقيقة المفاضلة بين الناس : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، ونلحظ اكتفاءه بذكر اثنين من آبائه لأنهما عاشا مؤمنين ، ثم نسبة نفسه إلى الإسلام ، وهو الوصف الأهمّ الذي تتوارى عنده بقيّة الأوصاف الأخرى .
وهنا ينزل الوحي الإلهي على سيّدنا موسى عليه السلام ليفصل في القضيّة ويبيّن المكانة الحقيقيّة لكل منهما : " أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة " .
وقفات مع القصّة
إن القضيّة الأساسيّة التي أراد الحديث النبويّ تحقيقها وتثبيتها في قلوب المؤمنين هي تعميق رابطة الأخوة بينهم ، وجعلها أوثق العُرى وآكد الصلات ، ولا يكون الحفاظ على تلك الأخوة إلا بالنهي عن كلّ ما يُضعف بنيانها الإيماني ويُوهي نسيجها الاجتماعي ، وذلك من خلال قطع التفاخر بالأنساب والتعصّب للقبيلة ، لما يسبّبانه من إشعالٍ للعداوات ، وتفريق للجماعات ، وإثارة للنعرات والخصومات .
من أجل ذلك ، أولى النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتمامه بهذه القضيّة في عددٍ من الأحاديث ، منها قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله أوحى إلي أن توضعوا حتى لايبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ) رواه مسلم ، وعدّ النبي – صلى الله عليه وسلم – التفاخر بالأنساب من أخلاق الجاهلية فقال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ) رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ( إنَّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد ، وإنَّما أنتم ولد آدم ، ليس لأحد على أحد فضل إلاَّ بالدين أو عمل صالح ) رواه أحمد .
ويوم فتح مكة خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قائلاً : ( يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية – أي تفاخرها - وتعاظمها بآبائها ؛ فالناس رجلان : برٌّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هيّن على الله ، والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب ) رواه الترمذي .
بل شدّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في التحذير من هذا المسلك فقال : ( ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان – وهي نوعٌ من أنواع الحشرات - التي تدفع بأنفها النتن ) رواه أبو داود .
وحين اختصم رجلٌ من المهاجرين مع آخرين من الأنصار ، فقال الأنصاري : " ياللأنصار " ، وقال المهاجري : " ياللمهاجرين " ، وبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ، دعوها فإنها منتنة ) متفق عليه .
على أن تلك الأحاديث لا تعني الدعوة إلى إهمال الأنساب وتضييعها ، إنما المذموم هو ما تؤول إليه من ممارسات جاهليّة وعصبيّاتٍ قبليّةٍ تعكّر صفو الأخوة بين المؤمنين وتُحدث الكراهيّة والشحناء بينهم ، فتعلّم الأنساب شيء ، والتفاخر بها شيءٌ آخر ، وقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله : ( تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ) رواه الترمذي .
ومن اللفتات اللطيفة التي تحسن الإشارة إليها هنا ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتمد تقسيم جيوشه أحيانا على أساسٍ قبليّ ، ليكون عاملاً من عوامل إذكاء روح المنافسة الشريفة والحماسة في القتال ، كما حدث في غزوة بدرٍ حينما قسّم الصحابة إلى ثلاثة ألوية ، لواءٌ للأوس و لواءٌ للخزرج ولواءٌ للمهاجرين ، وكما حدث كذلك يوم فتح مكّة ، فهو إذاً توجيهٌ نبوي متميّز للانتماء القبلي وتوظيفٌ له على أحسن الوجوه .
وأخيراً : فإنّ أمّة محمد – صلى الله عليه وسلم – نالت عزّتها ومكانتها بالإسلام فحسب ، ومن ابتغى العزة بغير هذا الدين أذلّه الله ، وصدق الشاعر إذ قال :
إن لم تكن بفعال نفسك ساميـا
لم يغن عنك سمـو من تسمـو به
ليس القديم على الجديد براجـع
إن لـم تجـده آخـذاً بنصـيبه
(الشبكة الإسلامية)