عزام
05-26-2008, 05:05 PM
أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين
د. عثمان جمعة ضميرية(* )
[email protected]
من الظواهر التي يلاحظها المتابعون للأحداث السياسية والفكرية في حياتنا المعاصرة: كثرة الندوات والمؤتمرات الوطنية والإقليمية والدولية التي يشارك فيها المسلمون وغير المسلمين، أو ينفرد بعقدها أحد الطرفين دون الآخر. ولن نقف هنا لنبدي رأياً في مثل هذه المؤتمرات والدوافع الكامنة وراءها والفائدة المترتبة عليها. وإنما نشير إشارة عابرة إلى المنهج الذي ينهجه المؤتمرون والمتحدِّثون؛ ففي مثل هذه الندوات والحوارات كثيراً ما يقف المتحدث موقف المدافع عن الإسلام، فيلجأ إلى التسويغ أمام بعض الهجمات المغرضة على الإسلام والمسلمين، وقد يدفعه ذلك إلى شيء من التكلّف والتمحُّل في تفسير النصوص وتعليل الحوادث والوقائع، أو تبنِّي بعض الآراء التي قد لا تتفق مع ما هو مقرر في الأحوال العادية أو مع ما يمكن قوله فيها. ولو أردت أن أضرب بعض الأمثلة على ذلك لوجدتها في هذا الاهتمام الكبير بالحوار، في الوقت الذي يقوم فيه الطرف الآخر بالهجوم علينا من كل جهة ومحاربتنا بكل وسيلة مع التظاهر بالدعوة إلى الحوار والتسامح والانفتاح... ومن الأمثلة أيضاً: ما ذهب إليه بعض الأساتذة والباحثين في تقرير الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وتقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، والكلام على دار العهد وطبيعتها.
ونعرض في هذه المقالة قضيةً واحدة من هذه القضايا التي انتشر القول فيها يميناً ويساراً، حسب المنهج والدوافع، وهي: القاعدة العامة أو الأصل العام في علاقة دار الإسلام بدار الحرب (الدولة الإسلامية بالدولة غير المسلمة). فالبحث محصور في هذا الجانب دون الجوانب الأخرى كالعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون على أرض الدولة الإسلامية. ونبيّن أولاً معنى كلمة الأصل ليتحرَّر البحث، ثم نتبع ذلك بفقرات موجزة لبيان المسألة والآراء فيها، لنصل إلى ما نراه صواباً موافقاً للأدلة الشرعية، بغض النظر عن حال الضعف التي تسيطر على الأمة الإسلامية، فتجعل القول الصواب وكأنه خطأ أو محض خيال. والله المستعان، وبه التوفيق.
* أولاً: معنى كلمة الأصل:
تطلق كلمة «الأصل» في اللغة العربية على معنيين:
(أحدهما): أساس الشيء الذي يبنى عليه غيره، من حيث أنه يبتنى عليه، بناء حسيّاً أو معنوياً.
(والثاني): منشأ الشي، أو ما أُخذ منه الشيء مثل: القطن أصل المنسوجات؛ لأنها تنشأ منه وتؤخذ. ثمَّ كثر استعماله حتى قيل: أصلُ كلِّ شيء: ما يستند ذلك الشيء إليه؛ فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول. كما يطلق أيضاً على ما يتوقف عليه الشيء، وعلى المبدأ في الزمان، أو على العلة في الوجود(1).
ثمَّ نقل علماء الشريعة كلمة «الأصل» إلى معانٍ أُخَر، مشتركاً اصطلاحياً، فأصبح يطلق بإطلاقات متعددة وهي:
أ - الأصل بمعنى الدليل. وهذا ما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون؛ حيث يقولون: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. أي: دليلها.
ب - الأصل بمعنى الراجح، أي: الأَوْلى والأحرى من الأمور. مثل قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة». أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي دون المعنى المجازي، وقولهم: الكتاب أصل بالنسبة إلى القياس. أي: راجح.
ج - الأصل بمعنى المقيس عليه الذي يقابل الفرع في القياس، كما في قولهم: الخمر أصل النبيذ، بمعنى أن الخمر مقيس عليها والنبيذ مقيس.
د - الأصل بمعنى القانون والقاعدة الكلية التي تُرَدُّ إليها الضوابط والاستثناءات، وتتفرع عنها الأحكام.
هـ ـ الأصل بمعنى المستصحَب، فيقال لمن كان متيقناً من الطهارة ويشك في طروء الحدث: الأصل الطهارة. أي: تستصحَب الطهارة حتى يثبت حدوث نقيضها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
و - الأصل بمعنى القاعدة المستمرة. ومن الأمثلة على هذا المعنى قولهم: أكل الميتة على خلاف الأصل. أي: خلاف الحالة المستمرة والقاعدة العامة(2). ولا ينافي هذه الأصالة أن يتخلف الأصل في موضع أو موضعين.
فهذه المعاني لكلمة الأصل معانٍ اصطلاحية تناسب المعنى اللغوي؛ فإن المدلول له نوع ابتناء على الدليل، وفروع القاعدة مبنيَّة عليها، وكذا المرجوح كالمجاز مثلاً له نوع ابتناء على الراجح، وكذا الطارئ بالقياس إلى المستصحب.
والذي نريده في هذا المقام هو المعنى الأخير لكلمة «الأصل» وهو القاعدة المستمرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة «الأصل» بإطلاقاتها ومعانيها لا تعني حكماً تكليفياً من الوجوب والحرمة... فإذا قلنا: الأصل في العلاقة بين المسلمين والحربيين هو الحرب أو السلم أو الدعوة، فإن هذا لا يعني أننا نصدر حكماً تكليفيّاً على هذه العلاقة بأنه واجب أو حرام مثلاً. وإنما نبيِّن فقط القاعدةَ العامة التي تحكم هذا العلاقة والصِّلات بين المسلمين وغيرهم من الأمم والدول غير المسلمة.
* ثانياً: أصل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين:
ونبدأ بذكر نبذة مما جاء في كتاب «السِّير الكبير» للإمام محمد بن الحسن الشَّيْبَاني ـ وهو أول من أفرد للعلاقات الدولية كتاباً قائماً برأسه، وهو أبو القانون الدولي في العالم ـ لنستخلص منها موقفه من هذه المسألة ورأيه فيها لنقارنه بآراء أخرى. قال ـ رحمه الله ـ: «وإذا لقي المسلمون المشركين؛ فإن كانوا قوماً لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم، وإن كان قد بلغهم الإسلام ـ ولكن لا يدرون أنّا نقبل منهم الجزية، فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوَهم إلى إعطاء الجزية. به أَمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال. قال الله ـ تعالى ـ: {حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]، إلا أن يكونوا قوماً لا تُقبل منهم الجزية ـ كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب ـ فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
* ثالثاً: طبيعة الدعوة الإسلامية:
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحاً في هذه المسألة؛ فإنه ينبغي أن نتعرف على طبيعة الدعوة الإسلامية والنصوص التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم، وعندئذ يتحدَّد أصل هذه العلاقة.
إن الدعوة الإسلامية التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة عالمية ورسالة خاتمة للرسالات السابقة. أراد الله ـ تعالى ـ لها أن تكون دعوة إنسانية موجهة للبشر جميعاً، لا تخاطب أقواماً بأعيانهم ولا جنساً بذاته، رضيها الله ـ تعالى ـ للناس ديناً، فكانت هي «الدين» الكامل الذي أتمَّ الله ـ تعالى ـ به علينا النعمة فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وقد تواردت النصوص الشرعية بدلالتها القاطعة على عموم رسالة الإسلام وعالميتها منذ بداية الدعوة وهي لا تزال محصورة في شعاب مكة المكرمة، وأصحابها لا يزالون يتخفَّوْن في دار الأرقم بن أبي الأرقم وسط المجتمع الجاهلي الواسع؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
والخطاب موجَّهٌ للناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
والقرآن الكريم أنزله الله ـ تعالى ـ ليكون ذكراً للعالمين جميعاً، وليس لأمة بعينها: {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [التكوير: 27] . {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [النساء: 174] بل هو بلاغ لكل من يبلغه خبره وينتهي إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] . والجنُّ والإنس في هذا الخطاب سواء: {يَا مَعْشَرَ الْـجِنِّ وَالإنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الأنعام: 130].
وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: «أُعطيت خمساً لم يُعْطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ـ وفي لفظ: إلى الناس عامة ـ وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة» (1). وقال صلى الله عليه وسلم : «فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع الكَلِم، ونصرت بالرّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون» (2). ثمَّ وجَّه الدعوة لأهل الكتاب بخاصة فقال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يهودي أو نصراني ـ ثمَّ يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار»(3).
ومما يشير إلى عالمية دعوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعموم رسالته: أن المعجزة الكبرى التي أيَّده الله ـ تعالى ـ بها ـ مع ما أيّده به من معجزات ـ كانت معجزة خالدة دائمة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين، عليهم الصلاة والسلام؛ حيث كانت تنقضي معجزاتهم المادية بوقوعها، ولا يبقى أثرها قائماً، ولهذا كانت الشرائع قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما خُصَّ بها قوم دون قوم، وكانت شريعته عامة لجميع الناس. ولما كان هذا كله إنما فضل فيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه فضلهم في الوحي الذي استحق به اسم النبوة. ولذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ منبِّهاً على هذا المعنى الذي خصَّه الله ـ تعالى ـ به: «ما من نبيٍ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنِّما كان الذي أُوتِيتُه وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»(4).
فهذه الدعوة الأخيرة الخاتمة الناسخة للدعوات السابقة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للقريب والبعيد، لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثمَّ تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعاً يُشْهد(5).
وإن مما يدل على عالمية الإسلام، وأنه خطاب موجَّه للإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى جنسه أو لونه أو إقليمه: أن الإسلام هو نظام الكون كله؛ فإن كلَّ ما في هذا الكون من أصغر ذرة فيه إلى أكبر جرم من الأجرام السماوية، إنما يخضع لله ـ سبحانه وتعالى ـ خضوعاً اضطرارياً؛ فقد اتجهت إرادة الله ـ تعالى ـ إلى هذا الكون فأوجدته، وأودعه ـ سبحانه ـ قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء. قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] . {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
وهذا الإنسان ـ كذلك ـ في جانب من جوانب وجوده منقادٌ لقانون الفطرة مجبول على اتّباعه. وفي جانب آخر أوتي حرية الاختيار والرأي والعمل. وحتى يتم التناسق بين هذين الجانبين من جهة، وبين وجوده كله ووجود الكون ونظامه من جهة أخرى، حتى يتم هذا وذاك لا بُدَّ أن يخضع الإنسان لله ـ سبحانه وتعالى ـ ويستسلم له ويدين بشرعه. وهكذا يكون الإسلام دين البشرية كلها، بل ديــن الموجــودات كلها، تلك التي تخضـع لله ـ سبحانه ـ وتطيع: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران: 83] .
ومما يؤيد عموم دعوة الإسلام للبشرية جميعها مما يتصل بهذا الجانب الذي أشرنا إليه: أن الواقع العملي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته جاء يترجم عن هذه الدعوة العالمية. فبعد أن كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وفي المواسم الأخرى، يدعوهم إلى الإسلام، وبعد أن انتقل بالدعوة إلى المدينة الطيبة وأعلى الله دينه ومكَّن له في الجزيرة العربية... بعدئذ بدأ صلى الله عليه وسلم يبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وزعماء العالم يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى هرقل عظيم الروم، وكتب إلى كسرى عظيم فارس، وكتب إلى نجاشيّ الحبشة، وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية، وكتب إلى غيرهم من الملوك والزعماء(6).
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هذه الدعوة، فصدع بالأمر ودعا الناس جميعاً إلى دين الله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وهذه الدلائل كلها تقوم شاهداً عدلاً وحجة قاطعة على أن الإسلام دعـوة للناس جميعاً منـذ اللحظة الأولى التي بعــث الله ـ تعالى ـ فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره بالقراءة باسم ربه «الذي خلق»؛ إذ موضوعها هو «الإنسان» وهي موجهة كذلك «للإنسان» بما أنه إنسان، والكلُّ في هذا سواء. واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بهذه الدعوة إنفاذاً لأمر ربه ـ تبارك وتعالى ـ حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. وحمل الرسالةَ خلفاؤه من بعده، وأعلى الله كلمته وأظهر دينه على الأديان كلها(1).
* رابعاً: علاقةُ دعوةٍ ينبثق عنها أصلُ العلاقة الدولية:
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى ـ على اختلاف ألوانها ولغاتها وأديانها ـ ليست في حقيقتها علاقة سلم ولا علاقة حرب ابتداءً، وأن الأصل ليس هو السلم مطلقاً، وليس هو الحرب مطلقاً، «وإنما هي علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية... وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين»(2).
وإنما تكون العلاقة ـ بعد ذلك ـ علاقة سلم أو حرب، ويكون الأصل هو السلم أو الحرب، بعد تحديد موقف الأمم والدول الأخرى من دعوة الإسلام قبولاً أو رفضاً. ولذلك يقول الدكتور الغنيمي: «إن علاقة الدولة الإسلامية بأيٍّ من دول دار المخالفين تتوقف على سياسة تلك الدول الإسلامية. وتلك ـ لعمر الحق ـ بدهية من بدهيات السياسة الدولية. فإن هي نهجت منهج الموادعة والمسالمة كان حكمها هو ما قررت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وعندئذٍ لا يطلب من المسلمين أن يمارسوا إكراهاً على هؤلاء؛ لأن الإقساط يتنافى مع الإكراه»(3).
بل إننا نقول: إن الإكراه يتنافى دائماً مع الإقساط، وحتى في الحرب لا يجوز أن يقع إكراه على قبول الدين. ونقول أيضاً: إن وقفت دار المخالفين من الدعوة الإسلامية موقف الرفض والعداء والحرب فإن حكمها هو ما قررته الآية الكريمة التي جاءت تالية للآية السابقة وهي قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الممتحنة: 9].
وقرر الإمام محمد بن الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ أنه إذا لقي المسلمون المشركين وكانوا لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، فقال: «... فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله»(4). ولأنهم ربما يظنون أنَّا نقاتلهم طمعاً في أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم. ولو علموا أنّا نقاتلهم على الدين لأجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال. وفي تقديم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به(5).
ولذلك يقول العلاَّمة أبو القاسم السِّمْنَانِيُّ الحنفي (499 هـ): «وكل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام - فالسنة أن يُدعى إلى الإسلام ويعلم ما يدعى إليه ـ ونبين له شرائعه وفرائضه وأحكامه، فإن أسلم كُفَّ عنه وخلِّي وشأنه، ودعي إلى التحول إلى دار الإسلام والكون فيها، فإن لم يُجِبْ إلى ذلك كله دُعي إلى الجزية، فإن بذلها كفّ عنه، وإن امتنع استعين بالله وقوتلوا على اسم الله وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم »(6).
ويقول الكاساني (ت 785 هـ): إن كانت الدعوة لم تبلغهم فعلى المجاهدين الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع، لكن الله ـ تبارك وتعالى ـ حرَّم قتلهم قبل بعثِ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبلوغِ الدعوة إياهم، فضلاً منه ومِنّةً، قطعاً لمعذرتهم بالكلّية... ولئلا يبقى لهم شبهة عذر {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [القصص: 47] .
كما يجب تقديم هذه الدعوة كذلك؛ لأن القتال ما فرض لعينه وذاته، بل للدعوة إلى الإسلام. والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة بالروح والنفس والمال. وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها(1).
وهذا يعني: أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الحرب في هذه الحال هو السلم. ويبقى هذا قائماً إذا كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية ونعقد لهم الذمّة. فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوهم إلى ذلك، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال، وفي هذا التزام بعض أحكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا به(2).
ويحول هذا العلاقة إلى حرب فيما عدا ذلك «فإن كانوا قوماً لا تقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام: قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
وروى الإمام محمد أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل» وقال: بهذا كان يأخذ أبو يوسف(4).
وكذلك: من تقبل منهم الجزية إذا عرض عليهم الإسلام ولم يقبلوه، وعرضت عليهم الجزية فلم يقبلوها أو يلتزموا بها، فإن العلاقة بهم علاقة حرب. لذلك قال الإمام محمد بن الحسن: «فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية. وهو آخر ما ينتهي به القتال» يعني: فإن لم يلتزموا ذلك فقد وجب علينا قتالهم.
* خامساً: مذهب جمهور الفقهاء:
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب والقتال، وأن السلم ليست إلا هدنة يستعدُّ بها لاستئناف القتال والاستعداد له(5). فلا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة؛ لأن فيه ترك القتال المأمور به.
وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة؛ لأنها خير للمسلمين، ولأن هذا من تدبير القتال. وحينئذ تكون الموادعة جهاداً معنىً؛ لأن المقصود ـ وهو دفع الشر ـ حاصلٌ بها. وإن السلم المطلق لا يكون إلا بإسلامٍ أو أمانٍ ـ أي بالدخول في دين الإسلام أو الرضا بعهد الذمّة. ولذلك قالوا: يقاتَل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ويقاتَل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
وقالوا: إن الجهاد لإعلاء كلمة الله وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام وأداء الجزية ـ وهم ممن تُقْبل منهم ـ واجب كفائي على المسلمين كل سنة وإن لم يبدؤونا بالقتال. وإن دعت الحاجة إلى القتال في كل عام أكثر من مرة وجب ذلك عليهم. ولهذا لا تجوز المهادنة مع الأعداء إذا كانت الهدنة مطلقة لم تقيد بمدة (6)؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وهو غير جائز(7).
قال الإمام محمد بن الحسن في «السِّير الكبير»: «الجهاد واجب على المسلمين، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يُحتاج إليهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]. ولقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ؛ حتى لو اجتمع المسلمون على تركه اشتركوا في المأثم. وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين؛ لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم. فعليه ألاّ يعطل الثغور، ولا يَدَع الدعاء إلى الدين، وعليه حثُّ المسلمين على الجهاد، ولا ينبغي أن يَدَع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء الجزية إذا تمكن من ذلك».
هذه خلاصة ما جاء من نصوص عند العلماء المتقدمين، وهو ما نصّ عليه أيضاً المتأخرون من العلماء المحققين، فقال الشوكانيُّ: «وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية، أو القتل، فهـو معلوم من الدين بالضرورة الدينية، ولأجله بعث الله ـ تعالى ـ رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى أن قبضه إليه جاعلاً هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة: فذلك منسوخ ـ باتفاق المسلمين ـ بما ورد من إيجاب المقاتلة على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم في ديارهم …» (1).
وقال السيِّد صدِّيق حسن خان عن جواز الصلح مع الكفار: «ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله ـ سبحانه ـ قد أمرنا بمقاتلة الكفار، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها. ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلاً على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها. ولا تجوز الزيادة عليها، رجوعاً إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب ...» (2).
ولذلك يرى أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله ـ أن علاقة المسلمين مع غير المسلمين لا تقوم على وجهها الإسلامي إلا إذا كان للمسلمين هيبة تكفل لهم قيام الأحكام الشرعية وحسن تطبيقها؛ فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المحيط الدولي يتطلب عزاً وكرامة وهيبة، فيكون لتسامحها ومرونتها أثره في حسن الدعوة وحسن التمثل بالمسلمين. وبدون ذلك فإن التحدُّث بالعزة الإسلامية يحمل على الاستخفاف فتطمع فينا الدول، وينتهزون ذلك ويستغلونه لمصالحهم كما حدث بالنسبة لمعاهدات الامتيازات التي أولاها العثمانيون ـ وهم في قوتهم ـ للأوربيين، فكانت أول مسمار في نعش هذه الدولة. ومن أهم ما يوجبه الإسلام أن نقوم ببثِّ الهيبة الإسلامية كل سنة بإظهار القوة العسكرية الإسلامية على الحدود؛ فإن القيام بالغزوات الآن محفوف بالقيود الدولية، لذلك يجب ـ على الأقل ـ بثُّ الهيبة على الحدود بعد تحرير أراضي المسلمين والجهاد لنصرة أقلياتهم المغلوبة، وهو عمل يسهل مع مضي الوقت وزيادة النفوذ الدولي، وإن يكن صعباً في البداية، كما يجب القيام بالدعوة والتوعية بصورة فعَّالة موازية للحرب المضادة على الأقلِّ(3).
* سادساً: الأدلة على الأصل في العلاقات:
واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بأدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن الواقع العملي في السيرة النبوية، ومن المعقول:
أ - فمن القرآن الكريم: عموم الآيات الموجبة للجهاد والقتال التي لم تقيِّد الوجوب ببداءة الكفار لنا بالقتال. كقوله ـ تعالى ـ:
1 - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ (91 ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191 ) فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 190 - 192] .
فقد أمر الله ـ تعالى ـ بقتال الكفار وأهل الشرك الذين يناصبون المسلمين القتال ويتوقع ذلك منهم؛ فهم بحالة من يقاتلوننا فعلاً؛ لأن جواز دفع المقاتَلِ عن نفسه ما كان محرَّماً قط حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به: الذين يقاتلونكم ديناً، ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال(4). ويؤيد ذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن هذا شأنهم دائماً فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
أما الذين ليس من شأنهم القتال: كالنساء والصبيان والرهبان؛ فإن هؤلاء لا يجوز قتلهم لئلا يكون ذلك عدواناً؛ إذ إن العدوان يكون بقتلهم وقتل من أعطى الجزية من أهل الكتاب والمجوس. فإن انتهوا عن الشرك والكفر بالله وعن قتال المسلمين، بأن دخلوا في الإسلام أو قبلوا الخضوع لأحكامه بالتزام الجزية وعقد الذمّة لهم، فإن الله يغفر لهم ما قد سلف.
ثمَّ أمر الله ـ تعالى ـ بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره (1).
وهذا ما ذهب إليه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب إليه عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل من علماء السلف، وهو ما رجَّحه الإمام الطبري وجمهور المفسرين رحمهم الله تعالى(2).
وقال الشوكاني: «فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غايةٍ هي ألاّ تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروجُ عن سائر الأديان المخالفة له؛ فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلَّ قتاله»(3).
2 - وقال ـ تعالى ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: «يعني بذلك: فرض عليكم القتال ـ والقرآن الكريم يستعمل معه هذا الفعل «كُتب» لبيان الطلب والفرضية في مواضع كثيرة ـ وعنى بذلك أنه مفروض على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقط فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين. ولا تنافي هذه الفرضية أن الجهاد فيه «كُرْهٌ لكم» أي: شاقٌّ عليكم، من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح»(4).
3 - وفي سورة التوبة آيات كثيرة ناطقة بهذا، كقوله ـ تعالى ـ: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْـحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
وعموم الآية الكريمة يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه ـ تعالى ـ خصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية ـ كما سيأتي في الآية الثالثة ـ وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر (5)، وتقدم في الحديث الصحيح عن بريدة صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال: «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكُفُّوا عنهم»(6)، وذلك عموم في سائر المشركين فَخُصَّ منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} خاصاً في مشركي العرب دون غيرهم(7). فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتزام الفرائض والاعتراف بوجوبها، فعندئذ خلُّوا سبيلهم. أي: دَعُوهم فليتصرفوا في أمصاركم ويدخلوها(8). وبذلك تنتهي حالة الحرب معهم.
4 - ثمَّ أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بقتال المشركين جميعاً فقال: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]
ففي هذه الآية الكريمة أمر بقتال الذين يقاتِلون، فعُلم من ذلك أن شرطَ القتالِ كونُ المقاتَل مقاتِلاً ـ أي ممن يمكن أن يقاتل، فهو شرط للقتال وليس علة له(9).
قال الجصَّاص: إن الآية الكريمة تحتمل وجهين: أحدهما الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية. والآخر: الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين.
ولما احتمل الوجهين كان عليهما؛ إذ ليسا متنافيين؛ فتضمن ذلك الأمرَ بالقتال لجميع المشركين، وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال(01). وذلك أن جماعة المشركين كافة يرون قتالكم كافة مجتمعين متعاضدين، فاجتمعوا أنتم ـ أيها المسلمون ـ لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يقاتلونكم.
وعلى كل حالٍ فمعنى الآية الكريمة: قاتلوهم بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة؛ فهم يقاتلونكم جميعاً، لا يستثنون منكم أحداً ولا يُبْقون منكم على جماعة(1)؛ وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاماً ولا عصبية، ولا للكسب كدأبهم في قتال قوِيّهم لضعيفهم؛ فأنتم أوْلى بأن تقاتلوهم لشركهم.
5 - أما قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فقد جاءت الآية الكريمة التالية بشأنهم؛ حيث قال الله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وكان نزول هذه الآية الكريمة ـ والآيات التالية لها في السياق ـ حين أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فكانت تمهيداً لغزوة تبوك ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب. وقيل: نزلت في شأن بني قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين.
وفي هذه الآية الكريمة تحديد للعلاقات مع أهل الكتاب من الكفار خاصة، بعد أن حددت الآيات السابقة في السورة نفسها طبيعة العلاقات بين المسلمين والمشركين؛ فإن الجميع قد أطبق عليهم هذا الوصف، وهو الكفر، فإن الكفر وإن كان أنواعاً متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة، فإن اسم الكفر يجمعها.
وقد أبان الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة أن الفرض في أهل الكتاب ومن دان دينهم قبل نزول القرآن كله: أن يقاتَلوا حتى يعطوا الجزية أو يُسْلِموا(2).
وسياق الآية الكريمة يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة التي نزلت الآية تمهيداً لها، وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة. فهذه الصفات لم تذكر هنا في الآية الكريمة على أنها شرط لقتال أهل الكتاب، وإنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة القوم وواقعهم، وأنها مسوِّغات ودوافع للأمر بقتالهم. ومِثْلُهم في هذا الحكم كلُّ من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم. وقد حدَّد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحقِّ.
ثمَّ بيَّن السياق في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين؛ فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعدُّ صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وأن هذا مخالف لدين الحق. وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء. فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق.
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؛ فهم محاربون لدين الله. ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال اليتامى بالباطل؛ فهم إذن لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان المقصود رسـولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذه الصفات كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم، كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرَّفت المجامع الدينية دين المسيح (وقالت ببنوة عيسى وبتثليث الأقانيم ـ على كل ما بين المذاهب والفِرَق من خلاف يلتقي كله على التثليث ـ على مدار التاريخ حتى الآن)(3).
وإذن فهو أمر عام يقرر قاعدة مطلقة في العلاقة مع أهل الكتاب الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم... ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتُتْرك بلا قتال، كالأطفال والنساء والشيوخ والعَجَزَة والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الأديرة... بوصفهم غير محاربين ـ فقد منع الإسلام أن يقاتَل غير المحاربين من أية ملَّة ـ وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية؛ لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين، ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء؛ فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً. فالاعتداء قائم ابتداءً، الاعتداء على ألوهية الله، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله؛ والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله سبحانه، والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء ولا مفرَّ من مواجهة طبائع الأشياء.
وهذا كله هو ما فهمه المفسرون من الآية الكريمة؛ فإنهم أجمعوا على أن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] يعني اليهود والنصارى الذين لا يدينون دين الإسلام. ولم يقيّدوا جواز قتالهم بأن يكونوا من المعتدين، ولم يفهموا أن كلمة «مِنْ» في الآية للتبعيض، فيكون هناك أهل كتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ويدينون دين الحق ـ بعد بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويكون هناك فرقة أخرى لا تؤمن بالله... وهي التي أباح الإسلام قتالها، ولذلك قالوا: إن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان لقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 45] أي: من الموصوفين بهذه الصفات الأربع من أهل الكتاب؛ فالصفات الأربع راجعة إلى الضمير المذكور أولاً. والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم؛ لأن الواجب في المشركين القتالُ أو الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية(1).
ولذلك لا نجد مستنداً صحيحاً لما ذهب إليه بعض الكاتبين من أن «صياغة النص ـ في آية التوبة السابقة ـ واستعمال كلمة «من» بمعنى بعضهم أو فريق منهم ظاهرةُ الدلالة على أن الأمر بالقتال ليس موجهاً ضدَّ (كل) أهل الكتاب بصفتهم هذه، بل فقط ضدَّ فريق منهم تميز بصفة عدوانية ونكرانية للقيم الإنسانية الأساسية... وأن النص إنما يخص فريقاً من أهل الكتاب قد ارتد فعلاً عن العقيدة المسيحية(2)، عقيدة الإيمان بالله وبالبعث، وأصبح يعبد القوة في صورتها العدوانية ويستعبد الناس بها، وإن اتخذوا العقيدة المسيحية الشكلية قناعاً لسلطانه، أو أنه يخص فريقاً منهم دعا إلى إنكار وجود الله أو إلى إلغاء الدين»(3).
6 - وقال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
ففي الآية الكريمة حثٌّ للمؤمنين على الجهاد وتحريم للتثاقل والجبن عن قتال المشركين والضعف، أو الدعوة إلى الصلح والمسالمة ابتداءً، فمنع الله ـ تعالى ـ المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، أو يلتزموا حكم الإسلام بعقد الذمّة؛ فالمسلمون هم الغالبون، وآخرُ الأمر لهم وإن غُلِبوا في بعض الأوقات(4). يقول العلامة محمد صدِّيق خان في تفسير هذه الآية الكريمة: «أي: لا تضعفوا عن القتال وتدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم؛ فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجَّاج: منع الله المسلمين المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا.
واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟
فقيل: إنها محكمة وناسخة لقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] .
وقيل: منسوخة بهذه الآية».
ثمَّ قال: «ولا يخفى أنه لا مقتضى للقـــول بالنسخ؛ فإن الله ـ سبحانه ـ نهى المسلمين في هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداءً، ولم يَنْه عن قَبول السّلم إذا جنح إليها المشركون؛ فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص. وجملة {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} مقررة لما قبلها من النهي. أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة»(5).
7 - وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [التوبة: 123].
يقول الله ـ تعالى ذكره ـ: قاتلوا مَنْ وَلِيَكُم من الكفار دون من بَعُد منهم، فابدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية الكريمة يومئذ: الروم؛ لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، وكانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحيةٍ قتالُ مَنْ وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطّر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم؛ لأن المسلمين يدٌ على مَنْ سواهم(1).
قال الإمام أبو بكر الرازي الجصَّاص: «خَصَّ الأمر بالقتال للذين يلونهم من الكفار، وقال في أول السورة: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال في موضع آخر: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأوجب قتال جميع الكفار، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يلوننا من الكفار؛ إذ كان معلومـاً أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد، وأن الممكن منه هو قتال طائفةٍ، فكان قتال مَنْ قَرُب منهم أَوْلى بالقتال ممن بَعُد؛ لأن الاشتغال بقتال مَنْ بَعُد منهم مع ترك قتال من قَرُب لا يؤمَنُ معه هَجْم(2) من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين. فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال مَنْ بَعُد، وأيضاً: لا يصح تكليف قتال الأبعد؛ إذ لا حدَّ للأبعد يُبْتَدَأ منه القتال كما للأقرب. وأيضاً: فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتالِ مَنْ قَرُبَ وقَهْرِهم وإذْلاَلِهم. فهذه الوجوهُ كلُّها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب»(3).
فالآية الكريمة تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك، وهي الخطة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فسارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه مَنْ يلون «دار الإسلام، ويجاورونها، مرحلة فمرحلة، فلما أسلمت الجزيرة العربية ـ أو كادت ولم تَبْقَ إلا فلول منعزلة لا تؤلِّف قوة يُخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة ـ كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم، ثمَّ كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس... والأمر بقتال الذين يَلُون المسلمين من الكفـار، لا يذكــر فيه أن يكونوا معتدين علـى المســـلمين ولا على ديارهم. وندرك أن هذا هو الأمر الأخير الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
ويريد بعض الذين يتحدثون عن العلاقات الدولية في الإسلام أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة، فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآنيُّ بذاته مطلق، وهو النص الأخير. وقد عوَّدنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام أن يكون دقيقاً في كل موضع، وأن يتخير اللفظ المحدَّد، ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص، إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص»(4).
ب ـ ومن السنة النبوية: استدل الجمهور بحديث ابن عمـــر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله»(5).
فقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويلتزموا أحكام الإسلام. واللام في كلمة «الناس» للجنس فيدخل في هذا: المشركون وأهل الكتاب الملتزمون للجزية إن لم يسلموا. ولكن خرج أهل الكتاب من هذا العموم بدليل آخر هو آية التوبة السابقة، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. ويدل عليه رواية النَّسَائي: «أُمرت أن أقاتل المشركين»(6). ولهذا قال الطِّيبيُّ: هو من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن القصد الأوليّ من هـذا الأمـر حصـول المطلـــوب، كقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارضٍ، فإن ذلك لا يقدح في عمومه. ألا ترى أنَّ عَبَدَة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة، ويجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عــن إعــلاء كلمة الله ـ تعالى ـ وإذعان المخالفين، فيحصل بذلك في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء، وفي الآخرين بالمهادنة»(7).
د. عثمان جمعة ضميرية(* )
[email protected]
من الظواهر التي يلاحظها المتابعون للأحداث السياسية والفكرية في حياتنا المعاصرة: كثرة الندوات والمؤتمرات الوطنية والإقليمية والدولية التي يشارك فيها المسلمون وغير المسلمين، أو ينفرد بعقدها أحد الطرفين دون الآخر. ولن نقف هنا لنبدي رأياً في مثل هذه المؤتمرات والدوافع الكامنة وراءها والفائدة المترتبة عليها. وإنما نشير إشارة عابرة إلى المنهج الذي ينهجه المؤتمرون والمتحدِّثون؛ ففي مثل هذه الندوات والحوارات كثيراً ما يقف المتحدث موقف المدافع عن الإسلام، فيلجأ إلى التسويغ أمام بعض الهجمات المغرضة على الإسلام والمسلمين، وقد يدفعه ذلك إلى شيء من التكلّف والتمحُّل في تفسير النصوص وتعليل الحوادث والوقائع، أو تبنِّي بعض الآراء التي قد لا تتفق مع ما هو مقرر في الأحوال العادية أو مع ما يمكن قوله فيها. ولو أردت أن أضرب بعض الأمثلة على ذلك لوجدتها في هذا الاهتمام الكبير بالحوار، في الوقت الذي يقوم فيه الطرف الآخر بالهجوم علينا من كل جهة ومحاربتنا بكل وسيلة مع التظاهر بالدعوة إلى الحوار والتسامح والانفتاح... ومن الأمثلة أيضاً: ما ذهب إليه بعض الأساتذة والباحثين في تقرير الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وتقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، والكلام على دار العهد وطبيعتها.
ونعرض في هذه المقالة قضيةً واحدة من هذه القضايا التي انتشر القول فيها يميناً ويساراً، حسب المنهج والدوافع، وهي: القاعدة العامة أو الأصل العام في علاقة دار الإسلام بدار الحرب (الدولة الإسلامية بالدولة غير المسلمة). فالبحث محصور في هذا الجانب دون الجوانب الأخرى كالعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون على أرض الدولة الإسلامية. ونبيّن أولاً معنى كلمة الأصل ليتحرَّر البحث، ثم نتبع ذلك بفقرات موجزة لبيان المسألة والآراء فيها، لنصل إلى ما نراه صواباً موافقاً للأدلة الشرعية، بغض النظر عن حال الضعف التي تسيطر على الأمة الإسلامية، فتجعل القول الصواب وكأنه خطأ أو محض خيال. والله المستعان، وبه التوفيق.
* أولاً: معنى كلمة الأصل:
تطلق كلمة «الأصل» في اللغة العربية على معنيين:
(أحدهما): أساس الشيء الذي يبنى عليه غيره، من حيث أنه يبتنى عليه، بناء حسيّاً أو معنوياً.
(والثاني): منشأ الشي، أو ما أُخذ منه الشيء مثل: القطن أصل المنسوجات؛ لأنها تنشأ منه وتؤخذ. ثمَّ كثر استعماله حتى قيل: أصلُ كلِّ شيء: ما يستند ذلك الشيء إليه؛ فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول. كما يطلق أيضاً على ما يتوقف عليه الشيء، وعلى المبدأ في الزمان، أو على العلة في الوجود(1).
ثمَّ نقل علماء الشريعة كلمة «الأصل» إلى معانٍ أُخَر، مشتركاً اصطلاحياً، فأصبح يطلق بإطلاقات متعددة وهي:
أ - الأصل بمعنى الدليل. وهذا ما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون؛ حيث يقولون: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. أي: دليلها.
ب - الأصل بمعنى الراجح، أي: الأَوْلى والأحرى من الأمور. مثل قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة». أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي دون المعنى المجازي، وقولهم: الكتاب أصل بالنسبة إلى القياس. أي: راجح.
ج - الأصل بمعنى المقيس عليه الذي يقابل الفرع في القياس، كما في قولهم: الخمر أصل النبيذ، بمعنى أن الخمر مقيس عليها والنبيذ مقيس.
د - الأصل بمعنى القانون والقاعدة الكلية التي تُرَدُّ إليها الضوابط والاستثناءات، وتتفرع عنها الأحكام.
هـ ـ الأصل بمعنى المستصحَب، فيقال لمن كان متيقناً من الطهارة ويشك في طروء الحدث: الأصل الطهارة. أي: تستصحَب الطهارة حتى يثبت حدوث نقيضها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
و - الأصل بمعنى القاعدة المستمرة. ومن الأمثلة على هذا المعنى قولهم: أكل الميتة على خلاف الأصل. أي: خلاف الحالة المستمرة والقاعدة العامة(2). ولا ينافي هذه الأصالة أن يتخلف الأصل في موضع أو موضعين.
فهذه المعاني لكلمة الأصل معانٍ اصطلاحية تناسب المعنى اللغوي؛ فإن المدلول له نوع ابتناء على الدليل، وفروع القاعدة مبنيَّة عليها، وكذا المرجوح كالمجاز مثلاً له نوع ابتناء على الراجح، وكذا الطارئ بالقياس إلى المستصحب.
والذي نريده في هذا المقام هو المعنى الأخير لكلمة «الأصل» وهو القاعدة المستمرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة «الأصل» بإطلاقاتها ومعانيها لا تعني حكماً تكليفياً من الوجوب والحرمة... فإذا قلنا: الأصل في العلاقة بين المسلمين والحربيين هو الحرب أو السلم أو الدعوة، فإن هذا لا يعني أننا نصدر حكماً تكليفيّاً على هذه العلاقة بأنه واجب أو حرام مثلاً. وإنما نبيِّن فقط القاعدةَ العامة التي تحكم هذا العلاقة والصِّلات بين المسلمين وغيرهم من الأمم والدول غير المسلمة.
* ثانياً: أصل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين:
ونبدأ بذكر نبذة مما جاء في كتاب «السِّير الكبير» للإمام محمد بن الحسن الشَّيْبَاني ـ وهو أول من أفرد للعلاقات الدولية كتاباً قائماً برأسه، وهو أبو القانون الدولي في العالم ـ لنستخلص منها موقفه من هذه المسألة ورأيه فيها لنقارنه بآراء أخرى. قال ـ رحمه الله ـ: «وإذا لقي المسلمون المشركين؛ فإن كانوا قوماً لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم، وإن كان قد بلغهم الإسلام ـ ولكن لا يدرون أنّا نقبل منهم الجزية، فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوَهم إلى إعطاء الجزية. به أَمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال. قال الله ـ تعالى ـ: {حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]، إلا أن يكونوا قوماً لا تُقبل منهم الجزية ـ كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب ـ فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
* ثالثاً: طبيعة الدعوة الإسلامية:
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحاً في هذه المسألة؛ فإنه ينبغي أن نتعرف على طبيعة الدعوة الإسلامية والنصوص التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم، وعندئذ يتحدَّد أصل هذه العلاقة.
إن الدعوة الإسلامية التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة عالمية ورسالة خاتمة للرسالات السابقة. أراد الله ـ تعالى ـ لها أن تكون دعوة إنسانية موجهة للبشر جميعاً، لا تخاطب أقواماً بأعيانهم ولا جنساً بذاته، رضيها الله ـ تعالى ـ للناس ديناً، فكانت هي «الدين» الكامل الذي أتمَّ الله ـ تعالى ـ به علينا النعمة فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وقد تواردت النصوص الشرعية بدلالتها القاطعة على عموم رسالة الإسلام وعالميتها منذ بداية الدعوة وهي لا تزال محصورة في شعاب مكة المكرمة، وأصحابها لا يزالون يتخفَّوْن في دار الأرقم بن أبي الأرقم وسط المجتمع الجاهلي الواسع؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
والخطاب موجَّهٌ للناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
والقرآن الكريم أنزله الله ـ تعالى ـ ليكون ذكراً للعالمين جميعاً، وليس لأمة بعينها: {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [التكوير: 27] . {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [النساء: 174] بل هو بلاغ لكل من يبلغه خبره وينتهي إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] . والجنُّ والإنس في هذا الخطاب سواء: {يَا مَعْشَرَ الْـجِنِّ وَالإنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الأنعام: 130].
وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: «أُعطيت خمساً لم يُعْطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ـ وفي لفظ: إلى الناس عامة ـ وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة» (1). وقال صلى الله عليه وسلم : «فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع الكَلِم، ونصرت بالرّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون» (2). ثمَّ وجَّه الدعوة لأهل الكتاب بخاصة فقال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يهودي أو نصراني ـ ثمَّ يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار»(3).
ومما يشير إلى عالمية دعوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعموم رسالته: أن المعجزة الكبرى التي أيَّده الله ـ تعالى ـ بها ـ مع ما أيّده به من معجزات ـ كانت معجزة خالدة دائمة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين، عليهم الصلاة والسلام؛ حيث كانت تنقضي معجزاتهم المادية بوقوعها، ولا يبقى أثرها قائماً، ولهذا كانت الشرائع قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما خُصَّ بها قوم دون قوم، وكانت شريعته عامة لجميع الناس. ولما كان هذا كله إنما فضل فيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه فضلهم في الوحي الذي استحق به اسم النبوة. ولذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ منبِّهاً على هذا المعنى الذي خصَّه الله ـ تعالى ـ به: «ما من نبيٍ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنِّما كان الذي أُوتِيتُه وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»(4).
فهذه الدعوة الأخيرة الخاتمة الناسخة للدعوات السابقة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للقريب والبعيد، لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثمَّ تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعاً يُشْهد(5).
وإن مما يدل على عالمية الإسلام، وأنه خطاب موجَّه للإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى جنسه أو لونه أو إقليمه: أن الإسلام هو نظام الكون كله؛ فإن كلَّ ما في هذا الكون من أصغر ذرة فيه إلى أكبر جرم من الأجرام السماوية، إنما يخضع لله ـ سبحانه وتعالى ـ خضوعاً اضطرارياً؛ فقد اتجهت إرادة الله ـ تعالى ـ إلى هذا الكون فأوجدته، وأودعه ـ سبحانه ـ قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء. قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] . {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
وهذا الإنسان ـ كذلك ـ في جانب من جوانب وجوده منقادٌ لقانون الفطرة مجبول على اتّباعه. وفي جانب آخر أوتي حرية الاختيار والرأي والعمل. وحتى يتم التناسق بين هذين الجانبين من جهة، وبين وجوده كله ووجود الكون ونظامه من جهة أخرى، حتى يتم هذا وذاك لا بُدَّ أن يخضع الإنسان لله ـ سبحانه وتعالى ـ ويستسلم له ويدين بشرعه. وهكذا يكون الإسلام دين البشرية كلها، بل ديــن الموجــودات كلها، تلك التي تخضـع لله ـ سبحانه ـ وتطيع: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران: 83] .
ومما يؤيد عموم دعوة الإسلام للبشرية جميعها مما يتصل بهذا الجانب الذي أشرنا إليه: أن الواقع العملي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته جاء يترجم عن هذه الدعوة العالمية. فبعد أن كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وفي المواسم الأخرى، يدعوهم إلى الإسلام، وبعد أن انتقل بالدعوة إلى المدينة الطيبة وأعلى الله دينه ومكَّن له في الجزيرة العربية... بعدئذ بدأ صلى الله عليه وسلم يبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وزعماء العالم يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى هرقل عظيم الروم، وكتب إلى كسرى عظيم فارس، وكتب إلى نجاشيّ الحبشة، وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية، وكتب إلى غيرهم من الملوك والزعماء(6).
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هذه الدعوة، فصدع بالأمر ودعا الناس جميعاً إلى دين الله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وهذه الدلائل كلها تقوم شاهداً عدلاً وحجة قاطعة على أن الإسلام دعـوة للناس جميعاً منـذ اللحظة الأولى التي بعــث الله ـ تعالى ـ فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره بالقراءة باسم ربه «الذي خلق»؛ إذ موضوعها هو «الإنسان» وهي موجهة كذلك «للإنسان» بما أنه إنسان، والكلُّ في هذا سواء. واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بهذه الدعوة إنفاذاً لأمر ربه ـ تبارك وتعالى ـ حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. وحمل الرسالةَ خلفاؤه من بعده، وأعلى الله كلمته وأظهر دينه على الأديان كلها(1).
* رابعاً: علاقةُ دعوةٍ ينبثق عنها أصلُ العلاقة الدولية:
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى ـ على اختلاف ألوانها ولغاتها وأديانها ـ ليست في حقيقتها علاقة سلم ولا علاقة حرب ابتداءً، وأن الأصل ليس هو السلم مطلقاً، وليس هو الحرب مطلقاً، «وإنما هي علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية... وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين»(2).
وإنما تكون العلاقة ـ بعد ذلك ـ علاقة سلم أو حرب، ويكون الأصل هو السلم أو الحرب، بعد تحديد موقف الأمم والدول الأخرى من دعوة الإسلام قبولاً أو رفضاً. ولذلك يقول الدكتور الغنيمي: «إن علاقة الدولة الإسلامية بأيٍّ من دول دار المخالفين تتوقف على سياسة تلك الدول الإسلامية. وتلك ـ لعمر الحق ـ بدهية من بدهيات السياسة الدولية. فإن هي نهجت منهج الموادعة والمسالمة كان حكمها هو ما قررت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وعندئذٍ لا يطلب من المسلمين أن يمارسوا إكراهاً على هؤلاء؛ لأن الإقساط يتنافى مع الإكراه»(3).
بل إننا نقول: إن الإكراه يتنافى دائماً مع الإقساط، وحتى في الحرب لا يجوز أن يقع إكراه على قبول الدين. ونقول أيضاً: إن وقفت دار المخالفين من الدعوة الإسلامية موقف الرفض والعداء والحرب فإن حكمها هو ما قررته الآية الكريمة التي جاءت تالية للآية السابقة وهي قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الممتحنة: 9].
وقرر الإمام محمد بن الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ أنه إذا لقي المسلمون المشركين وكانوا لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، فقال: «... فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله»(4). ولأنهم ربما يظنون أنَّا نقاتلهم طمعاً في أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم. ولو علموا أنّا نقاتلهم على الدين لأجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال. وفي تقديم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به(5).
ولذلك يقول العلاَّمة أبو القاسم السِّمْنَانِيُّ الحنفي (499 هـ): «وكل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام - فالسنة أن يُدعى إلى الإسلام ويعلم ما يدعى إليه ـ ونبين له شرائعه وفرائضه وأحكامه، فإن أسلم كُفَّ عنه وخلِّي وشأنه، ودعي إلى التحول إلى دار الإسلام والكون فيها، فإن لم يُجِبْ إلى ذلك كله دُعي إلى الجزية، فإن بذلها كفّ عنه، وإن امتنع استعين بالله وقوتلوا على اسم الله وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم »(6).
ويقول الكاساني (ت 785 هـ): إن كانت الدعوة لم تبلغهم فعلى المجاهدين الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع، لكن الله ـ تبارك وتعالى ـ حرَّم قتلهم قبل بعثِ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبلوغِ الدعوة إياهم، فضلاً منه ومِنّةً، قطعاً لمعذرتهم بالكلّية... ولئلا يبقى لهم شبهة عذر {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [القصص: 47] .
كما يجب تقديم هذه الدعوة كذلك؛ لأن القتال ما فرض لعينه وذاته، بل للدعوة إلى الإسلام. والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة بالروح والنفس والمال. وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها(1).
وهذا يعني: أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الحرب في هذه الحال هو السلم. ويبقى هذا قائماً إذا كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية ونعقد لهم الذمّة. فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوهم إلى ذلك، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال، وفي هذا التزام بعض أحكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا به(2).
ويحول هذا العلاقة إلى حرب فيما عدا ذلك «فإن كانوا قوماً لا تقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام: قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
وروى الإمام محمد أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل» وقال: بهذا كان يأخذ أبو يوسف(4).
وكذلك: من تقبل منهم الجزية إذا عرض عليهم الإسلام ولم يقبلوه، وعرضت عليهم الجزية فلم يقبلوها أو يلتزموا بها، فإن العلاقة بهم علاقة حرب. لذلك قال الإمام محمد بن الحسن: «فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية. وهو آخر ما ينتهي به القتال» يعني: فإن لم يلتزموا ذلك فقد وجب علينا قتالهم.
* خامساً: مذهب جمهور الفقهاء:
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب والقتال، وأن السلم ليست إلا هدنة يستعدُّ بها لاستئناف القتال والاستعداد له(5). فلا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة؛ لأن فيه ترك القتال المأمور به.
وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة؛ لأنها خير للمسلمين، ولأن هذا من تدبير القتال. وحينئذ تكون الموادعة جهاداً معنىً؛ لأن المقصود ـ وهو دفع الشر ـ حاصلٌ بها. وإن السلم المطلق لا يكون إلا بإسلامٍ أو أمانٍ ـ أي بالدخول في دين الإسلام أو الرضا بعهد الذمّة. ولذلك قالوا: يقاتَل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ويقاتَل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
وقالوا: إن الجهاد لإعلاء كلمة الله وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام وأداء الجزية ـ وهم ممن تُقْبل منهم ـ واجب كفائي على المسلمين كل سنة وإن لم يبدؤونا بالقتال. وإن دعت الحاجة إلى القتال في كل عام أكثر من مرة وجب ذلك عليهم. ولهذا لا تجوز المهادنة مع الأعداء إذا كانت الهدنة مطلقة لم تقيد بمدة (6)؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وهو غير جائز(7).
قال الإمام محمد بن الحسن في «السِّير الكبير»: «الجهاد واجب على المسلمين، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يُحتاج إليهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]. ولقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ؛ حتى لو اجتمع المسلمون على تركه اشتركوا في المأثم. وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين؛ لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم. فعليه ألاّ يعطل الثغور، ولا يَدَع الدعاء إلى الدين، وعليه حثُّ المسلمين على الجهاد، ولا ينبغي أن يَدَع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء الجزية إذا تمكن من ذلك».
هذه خلاصة ما جاء من نصوص عند العلماء المتقدمين، وهو ما نصّ عليه أيضاً المتأخرون من العلماء المحققين، فقال الشوكانيُّ: «وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية، أو القتل، فهـو معلوم من الدين بالضرورة الدينية، ولأجله بعث الله ـ تعالى ـ رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى أن قبضه إليه جاعلاً هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة: فذلك منسوخ ـ باتفاق المسلمين ـ بما ورد من إيجاب المقاتلة على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم في ديارهم …» (1).
وقال السيِّد صدِّيق حسن خان عن جواز الصلح مع الكفار: «ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله ـ سبحانه ـ قد أمرنا بمقاتلة الكفار، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها. ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلاً على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها. ولا تجوز الزيادة عليها، رجوعاً إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب ...» (2).
ولذلك يرى أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله ـ أن علاقة المسلمين مع غير المسلمين لا تقوم على وجهها الإسلامي إلا إذا كان للمسلمين هيبة تكفل لهم قيام الأحكام الشرعية وحسن تطبيقها؛ فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المحيط الدولي يتطلب عزاً وكرامة وهيبة، فيكون لتسامحها ومرونتها أثره في حسن الدعوة وحسن التمثل بالمسلمين. وبدون ذلك فإن التحدُّث بالعزة الإسلامية يحمل على الاستخفاف فتطمع فينا الدول، وينتهزون ذلك ويستغلونه لمصالحهم كما حدث بالنسبة لمعاهدات الامتيازات التي أولاها العثمانيون ـ وهم في قوتهم ـ للأوربيين، فكانت أول مسمار في نعش هذه الدولة. ومن أهم ما يوجبه الإسلام أن نقوم ببثِّ الهيبة الإسلامية كل سنة بإظهار القوة العسكرية الإسلامية على الحدود؛ فإن القيام بالغزوات الآن محفوف بالقيود الدولية، لذلك يجب ـ على الأقل ـ بثُّ الهيبة على الحدود بعد تحرير أراضي المسلمين والجهاد لنصرة أقلياتهم المغلوبة، وهو عمل يسهل مع مضي الوقت وزيادة النفوذ الدولي، وإن يكن صعباً في البداية، كما يجب القيام بالدعوة والتوعية بصورة فعَّالة موازية للحرب المضادة على الأقلِّ(3).
* سادساً: الأدلة على الأصل في العلاقات:
واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بأدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن الواقع العملي في السيرة النبوية، ومن المعقول:
أ - فمن القرآن الكريم: عموم الآيات الموجبة للجهاد والقتال التي لم تقيِّد الوجوب ببداءة الكفار لنا بالقتال. كقوله ـ تعالى ـ:
1 - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ (91 ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191 ) فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 190 - 192] .
فقد أمر الله ـ تعالى ـ بقتال الكفار وأهل الشرك الذين يناصبون المسلمين القتال ويتوقع ذلك منهم؛ فهم بحالة من يقاتلوننا فعلاً؛ لأن جواز دفع المقاتَلِ عن نفسه ما كان محرَّماً قط حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به: الذين يقاتلونكم ديناً، ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال(4). ويؤيد ذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن هذا شأنهم دائماً فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
أما الذين ليس من شأنهم القتال: كالنساء والصبيان والرهبان؛ فإن هؤلاء لا يجوز قتلهم لئلا يكون ذلك عدواناً؛ إذ إن العدوان يكون بقتلهم وقتل من أعطى الجزية من أهل الكتاب والمجوس. فإن انتهوا عن الشرك والكفر بالله وعن قتال المسلمين، بأن دخلوا في الإسلام أو قبلوا الخضوع لأحكامه بالتزام الجزية وعقد الذمّة لهم، فإن الله يغفر لهم ما قد سلف.
ثمَّ أمر الله ـ تعالى ـ بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره (1).
وهذا ما ذهب إليه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب إليه عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل من علماء السلف، وهو ما رجَّحه الإمام الطبري وجمهور المفسرين رحمهم الله تعالى(2).
وقال الشوكاني: «فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غايةٍ هي ألاّ تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروجُ عن سائر الأديان المخالفة له؛ فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلَّ قتاله»(3).
2 - وقال ـ تعالى ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: «يعني بذلك: فرض عليكم القتال ـ والقرآن الكريم يستعمل معه هذا الفعل «كُتب» لبيان الطلب والفرضية في مواضع كثيرة ـ وعنى بذلك أنه مفروض على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقط فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين. ولا تنافي هذه الفرضية أن الجهاد فيه «كُرْهٌ لكم» أي: شاقٌّ عليكم، من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح»(4).
3 - وفي سورة التوبة آيات كثيرة ناطقة بهذا، كقوله ـ تعالى ـ: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْـحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
وعموم الآية الكريمة يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه ـ تعالى ـ خصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية ـ كما سيأتي في الآية الثالثة ـ وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر (5)، وتقدم في الحديث الصحيح عن بريدة صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال: «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكُفُّوا عنهم»(6)، وذلك عموم في سائر المشركين فَخُصَّ منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} خاصاً في مشركي العرب دون غيرهم(7). فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتزام الفرائض والاعتراف بوجوبها، فعندئذ خلُّوا سبيلهم. أي: دَعُوهم فليتصرفوا في أمصاركم ويدخلوها(8). وبذلك تنتهي حالة الحرب معهم.
4 - ثمَّ أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بقتال المشركين جميعاً فقال: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]
ففي هذه الآية الكريمة أمر بقتال الذين يقاتِلون، فعُلم من ذلك أن شرطَ القتالِ كونُ المقاتَل مقاتِلاً ـ أي ممن يمكن أن يقاتل، فهو شرط للقتال وليس علة له(9).
قال الجصَّاص: إن الآية الكريمة تحتمل وجهين: أحدهما الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية. والآخر: الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين.
ولما احتمل الوجهين كان عليهما؛ إذ ليسا متنافيين؛ فتضمن ذلك الأمرَ بالقتال لجميع المشركين، وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال(01). وذلك أن جماعة المشركين كافة يرون قتالكم كافة مجتمعين متعاضدين، فاجتمعوا أنتم ـ أيها المسلمون ـ لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يقاتلونكم.
وعلى كل حالٍ فمعنى الآية الكريمة: قاتلوهم بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة؛ فهم يقاتلونكم جميعاً، لا يستثنون منكم أحداً ولا يُبْقون منكم على جماعة(1)؛ وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاماً ولا عصبية، ولا للكسب كدأبهم في قتال قوِيّهم لضعيفهم؛ فأنتم أوْلى بأن تقاتلوهم لشركهم.
5 - أما قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فقد جاءت الآية الكريمة التالية بشأنهم؛ حيث قال الله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وكان نزول هذه الآية الكريمة ـ والآيات التالية لها في السياق ـ حين أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فكانت تمهيداً لغزوة تبوك ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب. وقيل: نزلت في شأن بني قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين.
وفي هذه الآية الكريمة تحديد للعلاقات مع أهل الكتاب من الكفار خاصة، بعد أن حددت الآيات السابقة في السورة نفسها طبيعة العلاقات بين المسلمين والمشركين؛ فإن الجميع قد أطبق عليهم هذا الوصف، وهو الكفر، فإن الكفر وإن كان أنواعاً متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة، فإن اسم الكفر يجمعها.
وقد أبان الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة أن الفرض في أهل الكتاب ومن دان دينهم قبل نزول القرآن كله: أن يقاتَلوا حتى يعطوا الجزية أو يُسْلِموا(2).
وسياق الآية الكريمة يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة التي نزلت الآية تمهيداً لها، وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة. فهذه الصفات لم تذكر هنا في الآية الكريمة على أنها شرط لقتال أهل الكتاب، وإنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة القوم وواقعهم، وأنها مسوِّغات ودوافع للأمر بقتالهم. ومِثْلُهم في هذا الحكم كلُّ من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم. وقد حدَّد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحقِّ.
ثمَّ بيَّن السياق في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين؛ فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعدُّ صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وأن هذا مخالف لدين الحق. وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء. فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق.
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؛ فهم محاربون لدين الله. ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال اليتامى بالباطل؛ فهم إذن لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان المقصود رسـولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذه الصفات كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم، كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرَّفت المجامع الدينية دين المسيح (وقالت ببنوة عيسى وبتثليث الأقانيم ـ على كل ما بين المذاهب والفِرَق من خلاف يلتقي كله على التثليث ـ على مدار التاريخ حتى الآن)(3).
وإذن فهو أمر عام يقرر قاعدة مطلقة في العلاقة مع أهل الكتاب الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم... ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتُتْرك بلا قتال، كالأطفال والنساء والشيوخ والعَجَزَة والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الأديرة... بوصفهم غير محاربين ـ فقد منع الإسلام أن يقاتَل غير المحاربين من أية ملَّة ـ وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية؛ لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين، ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء؛ فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً. فالاعتداء قائم ابتداءً، الاعتداء على ألوهية الله، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله؛ والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله سبحانه، والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء ولا مفرَّ من مواجهة طبائع الأشياء.
وهذا كله هو ما فهمه المفسرون من الآية الكريمة؛ فإنهم أجمعوا على أن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] يعني اليهود والنصارى الذين لا يدينون دين الإسلام. ولم يقيّدوا جواز قتالهم بأن يكونوا من المعتدين، ولم يفهموا أن كلمة «مِنْ» في الآية للتبعيض، فيكون هناك أهل كتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ويدينون دين الحق ـ بعد بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويكون هناك فرقة أخرى لا تؤمن بالله... وهي التي أباح الإسلام قتالها، ولذلك قالوا: إن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان لقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 45] أي: من الموصوفين بهذه الصفات الأربع من أهل الكتاب؛ فالصفات الأربع راجعة إلى الضمير المذكور أولاً. والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم؛ لأن الواجب في المشركين القتالُ أو الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية(1).
ولذلك لا نجد مستنداً صحيحاً لما ذهب إليه بعض الكاتبين من أن «صياغة النص ـ في آية التوبة السابقة ـ واستعمال كلمة «من» بمعنى بعضهم أو فريق منهم ظاهرةُ الدلالة على أن الأمر بالقتال ليس موجهاً ضدَّ (كل) أهل الكتاب بصفتهم هذه، بل فقط ضدَّ فريق منهم تميز بصفة عدوانية ونكرانية للقيم الإنسانية الأساسية... وأن النص إنما يخص فريقاً من أهل الكتاب قد ارتد فعلاً عن العقيدة المسيحية(2)، عقيدة الإيمان بالله وبالبعث، وأصبح يعبد القوة في صورتها العدوانية ويستعبد الناس بها، وإن اتخذوا العقيدة المسيحية الشكلية قناعاً لسلطانه، أو أنه يخص فريقاً منهم دعا إلى إنكار وجود الله أو إلى إلغاء الدين»(3).
6 - وقال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
ففي الآية الكريمة حثٌّ للمؤمنين على الجهاد وتحريم للتثاقل والجبن عن قتال المشركين والضعف، أو الدعوة إلى الصلح والمسالمة ابتداءً، فمنع الله ـ تعالى ـ المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، أو يلتزموا حكم الإسلام بعقد الذمّة؛ فالمسلمون هم الغالبون، وآخرُ الأمر لهم وإن غُلِبوا في بعض الأوقات(4). يقول العلامة محمد صدِّيق خان في تفسير هذه الآية الكريمة: «أي: لا تضعفوا عن القتال وتدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم؛ فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجَّاج: منع الله المسلمين المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا.
واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟
فقيل: إنها محكمة وناسخة لقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] .
وقيل: منسوخة بهذه الآية».
ثمَّ قال: «ولا يخفى أنه لا مقتضى للقـــول بالنسخ؛ فإن الله ـ سبحانه ـ نهى المسلمين في هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداءً، ولم يَنْه عن قَبول السّلم إذا جنح إليها المشركون؛ فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص. وجملة {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} مقررة لما قبلها من النهي. أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة»(5).
7 - وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [التوبة: 123].
يقول الله ـ تعالى ذكره ـ: قاتلوا مَنْ وَلِيَكُم من الكفار دون من بَعُد منهم، فابدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية الكريمة يومئذ: الروم؛ لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، وكانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحيةٍ قتالُ مَنْ وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطّر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم؛ لأن المسلمين يدٌ على مَنْ سواهم(1).
قال الإمام أبو بكر الرازي الجصَّاص: «خَصَّ الأمر بالقتال للذين يلونهم من الكفار، وقال في أول السورة: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال في موضع آخر: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأوجب قتال جميع الكفار، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يلوننا من الكفار؛ إذ كان معلومـاً أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد، وأن الممكن منه هو قتال طائفةٍ، فكان قتال مَنْ قَرُب منهم أَوْلى بالقتال ممن بَعُد؛ لأن الاشتغال بقتال مَنْ بَعُد منهم مع ترك قتال من قَرُب لا يؤمَنُ معه هَجْم(2) من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين. فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال مَنْ بَعُد، وأيضاً: لا يصح تكليف قتال الأبعد؛ إذ لا حدَّ للأبعد يُبْتَدَأ منه القتال كما للأقرب. وأيضاً: فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتالِ مَنْ قَرُبَ وقَهْرِهم وإذْلاَلِهم. فهذه الوجوهُ كلُّها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب»(3).
فالآية الكريمة تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك، وهي الخطة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فسارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه مَنْ يلون «دار الإسلام، ويجاورونها، مرحلة فمرحلة، فلما أسلمت الجزيرة العربية ـ أو كادت ولم تَبْقَ إلا فلول منعزلة لا تؤلِّف قوة يُخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة ـ كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم، ثمَّ كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس... والأمر بقتال الذين يَلُون المسلمين من الكفـار، لا يذكــر فيه أن يكونوا معتدين علـى المســـلمين ولا على ديارهم. وندرك أن هذا هو الأمر الأخير الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
ويريد بعض الذين يتحدثون عن العلاقات الدولية في الإسلام أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة، فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآنيُّ بذاته مطلق، وهو النص الأخير. وقد عوَّدنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام أن يكون دقيقاً في كل موضع، وأن يتخير اللفظ المحدَّد، ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص، إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص»(4).
ب ـ ومن السنة النبوية: استدل الجمهور بحديث ابن عمـــر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله»(5).
فقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويلتزموا أحكام الإسلام. واللام في كلمة «الناس» للجنس فيدخل في هذا: المشركون وأهل الكتاب الملتزمون للجزية إن لم يسلموا. ولكن خرج أهل الكتاب من هذا العموم بدليل آخر هو آية التوبة السابقة، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. ويدل عليه رواية النَّسَائي: «أُمرت أن أقاتل المشركين»(6). ولهذا قال الطِّيبيُّ: هو من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن القصد الأوليّ من هـذا الأمـر حصـول المطلـــوب، كقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارضٍ، فإن ذلك لا يقدح في عمومه. ألا ترى أنَّ عَبَدَة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة، ويجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عــن إعــلاء كلمة الله ـ تعالى ـ وإذعان المخالفين، فيحصل بذلك في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء، وفي الآخرين بالمهادنة»(7).