أحمد الظرافي
05-25-2008, 08:28 PM
الحاجب المنصـور..وقداسة عرض المسلمين
بقلم: أحمد الظرافي
قضى معظم سنوات حكمه التي بلغت سبعا وعشرين عاما،مجاهدا في سبيل الله، ومرابطا في ثغور دولةالخلافة الإسلامية في الأندلس، قريبا من الدول النصرانية المتحفزة للوثوب في مناطق الشمال الإسباني الجبلية الوعرة، والتي لا تفتأ تضمر الشر والعداء للإسلام وأهله، ولم يكن يقدم إلى قرطبة ( حاضرة الدولة ) إلا للأمر الملح العاجل، وكان دائم اليقظة والاستعداد – قليل التمتع بملذات الحياة ومباهجها ، رغم أن الدنيا بجميع ملذاتها طوع أمره ورهن إشارته- وعلى ذلك عود جيشه، الذي كان يتألف من أكثر من مائة ألف فارس ومن أضعافهم من الرجالة- جيشه.. الذي تولى اختيار أفراده بنفسه، وأشرف على إعداده وتأهيله هو بنفسه أيضا، وعلى يديه أكتمل نظامه وتنظيمه، وتعاظم في عدده وعدته، وفيه من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة ولا يمل من مضاربة –وكانت له في كل عام غزوتان في الربيع والخريف ( الصوائف والشواتي ) وكان ما أن يعود من معركة حتى يستعد لأخرى، وقد بلغت غزواته سبعا وخمسين غزوة باشرها كلها بنفسه رغم مرضه بعلة النقرس، ولم ينهزم في واحدة منها ، ولا انتكست له راية ولا هلكت سرية قط، وألحق بتلك الدول النصرانية - وهي قشتالة وليون ، ونبرة ، والبشكنس وقطالونيا - خسائر فادحة، وأذاق ملوكها الخوف والرعب والدمار والهزائم، وذرعها طولا وعرضا ، ووصل فيها إلى ما لم يصل إليه ملك من ملوك المسلمين السابقين، ودانت له جميع أسبانيا شمالا وجنوبا ، وشرقا وغربا. وأعاد لشبه الجزيرة الأندلسية أمجادها الأولى، أيام الفتح الخالدة.
إنه الحاجب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري ( 328هـ /940م – 392هـ/995م) . هذا الرجل سحق كبرياء ملوك نصارى الشمال الإسباني، وتركهم أذل من وتدٍ في قاع، وأخضعهم لسلطانه وجعلهم يحكمون باسمه، وأجبرهم على دفع الجزية وهم أذلة صاغرون، وجعلهم ينقلون التراب من أقصى بلاد الروم إلى قرطبة لبناء جامعها . وكان موقف أولئك الملوك النصارى أمام الحاجب المنصور ، أضعف وأذل من موقف حكام العرب اليوم أمام السيد الأمريكي ، مع الفارق وهو أن الحاجب المنصور، لم يكن يعامل أولئك الملوك بما تمليه عليه أهواؤه ومصالحه الذاتية، وإنما كان يُعاملهم وفقا للقواعد الشرعية المقررة، وبما لا يخرج عن المعايير الأخلاقية، وأين هذا مما يفعله السيد الأمريكي الوضيع بحكامنا الخونة ؟
وكانت أبواب تلك الممالك المسيحية في شمال أسبانيا– بعد إخضاعها - مشرعة الأبواب لسفراء ورسل الحاجب المنصور يدخلونها في أي وقت، ومن حقهم أن يذرعوها طولا وعرضا، محفوفين بالتكريم والتبجيل، من قبل ملوكها، وكأنها ضيعه من ضياعهم، وكأن أولئك الملوك وكلاء لهم على تلك الضياع. وطبعا دون أي استهتار أو عبث بكرامة المعَاهدين، أو حقوقهم، أو الرغبة في التسلط عليهم، ولكن هذا ما صنعته للمسلمين عزّة الإسلام، وهيبة الحاجب المنصور.
والمهم أنه في إحدى المرات اختار الحاجب المنصور واحدا من أصحابه الموثوق بهم عنده، وانتدبه بالمسير إلى غرسية النصراني صاحب البشكنس – في أقصى الشمال الأسباني الوعر - فاستقبل غرسية سفير المنصور ، أحسن استقبال وبالغ في إكرامه، وطالت مدته عنده . وكانت حرية التحرك متاحة للسفير ، فيذهب أينما شاء وعلى أي نحو شاء بمفرده أو مع من يكلفهم الملك بمرافقته ولم يكن هناك أية مخاطر أمنيه تتهدد حياة السفير .
وبينما هذا السفير يطوف بالمناطق المسيحية، وينتقل بين أجزائها، ويواصل تجواله في المنتزهات والمرافق لفت نظره منظر إحدى الكنائس ذات البناء الفخم، والساحة البهيجة الواسعة، فعرج نحوها ودخل إليها عرضا، من باب الفضول، وربما لحاجة أخرى تتعلق بمهمته التي قدم من أجلها إلى هذه البلاد. ومن ذا يستطيع أن يقف في طريقه أو يقول له: لا ؟ فهذا سفير الحاجب المنصور ، وجميع اسبانيا تعلم من يكون الحاجب المنصور ؟
وبينما السفير يجول في ساحة تلك الكنيسة، حدث له حادث غريب وفريد من نوعه، ولم يكن يخطر له على بال، فماذا حدث يا ترى؟
لقد عرضت له امرأة تبدو مهدودة كسيرة الجناح، وفي حالة يرثى لها من العجز، وقلة الحيلة، وقالت له – بصوت واهن ضعيف ومصحوب بالنشيج -:
- أيرضى المنصـور أن يتمتع بلبوس العافية، ويتنعم بزينة الحياة الدنيا، وينسى بؤسها وما هي فيه من ذلٍ وصغار؟
تفاجأ السفير من أمر هذه المرأة، وأدهشه تنويهها بالحاجب المنصور، ولومه عما تعانيه، وعما هي فيه من بؤس وعذاب - إذ لم يكن يخطر بباله للوهلة الأولى أنها مسلمة لاسيما وهي موجودة داخل كنيسة - فكان أن سألها عن شأنها، فعرفته المرأة بنفسها، وأنها امرأة مسلمة، وأعلمته أنها قديمة الأسر ، في هذه الكنيسة، وفي هذه البلاد النصرانية القصية، وناشدته الله أن يتدخل لإنهاء قصتها،واستحلفته بأغلظ الأيمان أن يبلغ قصتها لسيده الحاجب المنصور بن أبي عامر.
فوعدها السفير خيرا وطوى القصة في نفسه وكتمها عن ملك النصارى.
ثم أن هذا السفير أكمل زيارته لغرسية النصراني ولمملكة البشكنس، وعاد أدراجه إلى سيده، وشرح له بإسهاب نتـائج زيارته وعرفه بمـا يجب تعريفه به، كل ذلك والمنصور بن أبي عامر مصغ إليه ومنتبه لما يقول، وكانت كل الأمور مطمئنة، وتبعث على الهدوء والارتياح. وكان الحاجب المنصور – إلى جانب ما يتحلى به من الحكمة والعقل والروية - آية في الدهاء والمكر والسياسة، وكان يحب أن يُبلَّغ بكل شاردة وواردة، وبكل شيء مهما كان دقيقا وتافها. ولا يترك شيئا أبدا للظروف أو المصادفات.
ومن عوائده أيضا أنه كان بعد أن ينتهي الرسول أو السفير أو القائد ، أو المكلف بأي مهمة من المهمات، من شرح نتائج المهمة التي كُلف بها بالتفصيل، كان يسأل ويتحرى زيادة في الحرص والتأكيد، ولاستخلاص أكبر قدر ممكن من المعلومات ، ولذا لم يكد السفير يومئذٍ ، يتم كلامه، حتى راح المنصور يتفرس في وجهه ويسأله:
- هل وقفت هناك على أمر أنكرته أم أن هذا كل شيء ؟
يلطم السفير على عمامته. ويبادر بالاعتذار . فقد نسي أن يخبر سيده بقصة تلك المرأة المسلمة الأسيرة ورسالتها إليه. وهاهو يعود فيتذكرها الآن ، فيسارع بإعلامه بخبرها. وبالمواثيق التي أخذت عليه.
ونزل هذا الخبر على المنصور بن أبي عامر نزول الصاعقة، واستشاط غضبا من السفير، حتى علا صوته وانتفخت أوداجه، وهو يوبخه ويلومه ويعنفه، ويستحمقه، لكونه لم يبدأ الكلام بهذا الخبر.
ولا ريب في أن يكون ذلك هو رد فعل الحاجب المنصور. فكون امرأة مسلمة لا تزال في سجون النصارى، فهذا خطب عظيم، وحدث جليل، وهو يعني الشيء الكثير بالنسبة للحاجب المنصور - ولمن فيه قليل من غيرته وإيمانه الراسخ بدينه- ومثل هذا الخبر له الأولوية عنده، وهو من الأخبار المقدمة التي لا تُنسى ولا يجب أن تُنسى، فهذه المرأة – مهما كان أصلها أو جنسها أو لونها – هي في ذمام المسلمين وهي أمانة في رقابهم ، بل هي عرض المسلمين، وعرض المسلمين مقدس مثل دمهم، وإن استباحة عرض هذه المرأة لهو استباحة لعرض الحاجب المنصور ، ولعرض جميع أعراض المسلمين. وإذا كان المسلمون لا يغارون على عرضهم، فعلام يُغارون إذن ؟
وإذا كان النصارى مازالوا يمتلكون الجرأة لاستباحة أعراض المسلمين حتى اليوم، فما فائدة هذا الكفاح الطويل، وما جدوى عشرات المعارك التي خاضها المسلمون ضدهم، وعشرات الهزائم التي ألحقوها بهم ؟ أهي الجزية ؟ أهي الغنائم ؟ أهي سفك الدماء ؟
لا. لا . يبدو أن في الأمر سرا ..يبدو أن هذا الملك النصراني قد كذب عليه..يبدو أنه كان يستغفله.. أتراه فعلها عابد الصليب؟ الويل له ثم الويل.
وهاج المنصور يومئذ وماج وثار ثورة لم يثر مثلها من قبل– والسفير أمامه ترتعد فرائصه، يتمنى لو لم تلده أمه، ويأمل أن تنشق الأرض فتبتلعه.
فهل توقف رد فعل الحاجب المنصور عند هذا الحد؟
الجواب كلا. لم يقف الحاجب المنصور عند حدود الغضب والثورة ، ولم يطالب بلجنة تحقيق في هذه الجريمة، وبمحكمة حيادية لمحاسبة المرتكبين لها ، أو يستدعي الغارة من منظمات حقوق الإنسان وكذا لم يبعث جوابا يعاتب فيه غرسية صاحب البشكنس على هذه الجريمة الشنعاء. وإنما قرر أن يقوم بتلك الأمور جميعا – هو بنفسه- فقد بادر للجهاد من فوره، وأصبح غازيا على سرجه، وزحف بجيشه الجرار نحو عقر دار غرسية صاحب البشكنس، انتصارا لتلك المرأة ، وانتقاما ممن أجرم في حقها وفي حق أهل الإسلام . ولما علم هذا الأخير ، بأن جيش المسلمين ( الرهيب ) يقصده ، تملكته الدهشة ،وأرتعد رعبا وفرقا ، وأحتار في أمره ،فبادر بالكتاب إلى الحاجب المنصور يسأل عن سبب هذا الغزوة لبلاده ، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه ما جنى ذنبا ، ولا أرتكب مخالفة ، وأنه لازال – كما هو - على العهد والطاعة ، ولم يتحول، ولم يغير أو يبدل. فرد الحاجب المنصور على الرسل بحلافة وخشونة، وعنفهم ووبخهم، وقال لهم:
- كان قد عاقدني أن لا يُبقي ببلاده مأسورة ولا مأسور ، ولو حملته في حواصلها النسور ، وقد بلغني بعدُ بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها ( أي الكنيسة ).
فعادت الرسل إلى مرسلها تجر أذيال الخيبة، وتُنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فأسرع غرسية وأرسل إلى المنصور بالمرأة المسلمة الأسيرة في اثنتين معها – أي أنها لم تكن واحدة فقط ، وإنما كن ثلاث أسيرات مسلمات، ولعل هذا ما فكر فيه المنصور لأول وهله - وأقسم غرسيه أنه ما أبصرهن، ولا سمع بهن، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها ، قد بالغ في هدمها ، تحقيقا لقوله، وتضرع إليه أنه إن أراد أن ينتقم فليجعل الانتقام منه هو شخصيا. وهنا غلب الحياء على الحاجب المنصور، وصرف الجيش عن غرسية وعن بلاده، والتي كان قد أصبح قاب قوسين أو أدنى منها. وطلب المنصور المرأة فمثلت بين يديه، فحدثها بأطيب الكلام وأحسنه، وبما رفع من روحها المعنوية وأزال عنها الوحشة التي كانت تشعر بها، وغير من حالها، وأكرمها ورعاها، وحملها إلى قومها معززة مكرمة، فعادت لتعيش بينهم في أمنٍ وأمان وفي سعادة وهناء[1] (http://www.aljazeeratalk.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=23#_ftn1).
[1] (http://www.aljazeeratalk.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=23#_ftnref1) راجع هذه القصة في كتاب نفح الطيب 1/404، وأنا أوردتها ها هنا بتصرف.
بقلم: أحمد الظرافي
قضى معظم سنوات حكمه التي بلغت سبعا وعشرين عاما،مجاهدا في سبيل الله، ومرابطا في ثغور دولةالخلافة الإسلامية في الأندلس، قريبا من الدول النصرانية المتحفزة للوثوب في مناطق الشمال الإسباني الجبلية الوعرة، والتي لا تفتأ تضمر الشر والعداء للإسلام وأهله، ولم يكن يقدم إلى قرطبة ( حاضرة الدولة ) إلا للأمر الملح العاجل، وكان دائم اليقظة والاستعداد – قليل التمتع بملذات الحياة ومباهجها ، رغم أن الدنيا بجميع ملذاتها طوع أمره ورهن إشارته- وعلى ذلك عود جيشه، الذي كان يتألف من أكثر من مائة ألف فارس ومن أضعافهم من الرجالة- جيشه.. الذي تولى اختيار أفراده بنفسه، وأشرف على إعداده وتأهيله هو بنفسه أيضا، وعلى يديه أكتمل نظامه وتنظيمه، وتعاظم في عدده وعدته، وفيه من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة ولا يمل من مضاربة –وكانت له في كل عام غزوتان في الربيع والخريف ( الصوائف والشواتي ) وكان ما أن يعود من معركة حتى يستعد لأخرى، وقد بلغت غزواته سبعا وخمسين غزوة باشرها كلها بنفسه رغم مرضه بعلة النقرس، ولم ينهزم في واحدة منها ، ولا انتكست له راية ولا هلكت سرية قط، وألحق بتلك الدول النصرانية - وهي قشتالة وليون ، ونبرة ، والبشكنس وقطالونيا - خسائر فادحة، وأذاق ملوكها الخوف والرعب والدمار والهزائم، وذرعها طولا وعرضا ، ووصل فيها إلى ما لم يصل إليه ملك من ملوك المسلمين السابقين، ودانت له جميع أسبانيا شمالا وجنوبا ، وشرقا وغربا. وأعاد لشبه الجزيرة الأندلسية أمجادها الأولى، أيام الفتح الخالدة.
إنه الحاجب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري ( 328هـ /940م – 392هـ/995م) . هذا الرجل سحق كبرياء ملوك نصارى الشمال الإسباني، وتركهم أذل من وتدٍ في قاع، وأخضعهم لسلطانه وجعلهم يحكمون باسمه، وأجبرهم على دفع الجزية وهم أذلة صاغرون، وجعلهم ينقلون التراب من أقصى بلاد الروم إلى قرطبة لبناء جامعها . وكان موقف أولئك الملوك النصارى أمام الحاجب المنصور ، أضعف وأذل من موقف حكام العرب اليوم أمام السيد الأمريكي ، مع الفارق وهو أن الحاجب المنصور، لم يكن يعامل أولئك الملوك بما تمليه عليه أهواؤه ومصالحه الذاتية، وإنما كان يُعاملهم وفقا للقواعد الشرعية المقررة، وبما لا يخرج عن المعايير الأخلاقية، وأين هذا مما يفعله السيد الأمريكي الوضيع بحكامنا الخونة ؟
وكانت أبواب تلك الممالك المسيحية في شمال أسبانيا– بعد إخضاعها - مشرعة الأبواب لسفراء ورسل الحاجب المنصور يدخلونها في أي وقت، ومن حقهم أن يذرعوها طولا وعرضا، محفوفين بالتكريم والتبجيل، من قبل ملوكها، وكأنها ضيعه من ضياعهم، وكأن أولئك الملوك وكلاء لهم على تلك الضياع. وطبعا دون أي استهتار أو عبث بكرامة المعَاهدين، أو حقوقهم، أو الرغبة في التسلط عليهم، ولكن هذا ما صنعته للمسلمين عزّة الإسلام، وهيبة الحاجب المنصور.
والمهم أنه في إحدى المرات اختار الحاجب المنصور واحدا من أصحابه الموثوق بهم عنده، وانتدبه بالمسير إلى غرسية النصراني صاحب البشكنس – في أقصى الشمال الأسباني الوعر - فاستقبل غرسية سفير المنصور ، أحسن استقبال وبالغ في إكرامه، وطالت مدته عنده . وكانت حرية التحرك متاحة للسفير ، فيذهب أينما شاء وعلى أي نحو شاء بمفرده أو مع من يكلفهم الملك بمرافقته ولم يكن هناك أية مخاطر أمنيه تتهدد حياة السفير .
وبينما هذا السفير يطوف بالمناطق المسيحية، وينتقل بين أجزائها، ويواصل تجواله في المنتزهات والمرافق لفت نظره منظر إحدى الكنائس ذات البناء الفخم، والساحة البهيجة الواسعة، فعرج نحوها ودخل إليها عرضا، من باب الفضول، وربما لحاجة أخرى تتعلق بمهمته التي قدم من أجلها إلى هذه البلاد. ومن ذا يستطيع أن يقف في طريقه أو يقول له: لا ؟ فهذا سفير الحاجب المنصور ، وجميع اسبانيا تعلم من يكون الحاجب المنصور ؟
وبينما السفير يجول في ساحة تلك الكنيسة، حدث له حادث غريب وفريد من نوعه، ولم يكن يخطر له على بال، فماذا حدث يا ترى؟
لقد عرضت له امرأة تبدو مهدودة كسيرة الجناح، وفي حالة يرثى لها من العجز، وقلة الحيلة، وقالت له – بصوت واهن ضعيف ومصحوب بالنشيج -:
- أيرضى المنصـور أن يتمتع بلبوس العافية، ويتنعم بزينة الحياة الدنيا، وينسى بؤسها وما هي فيه من ذلٍ وصغار؟
تفاجأ السفير من أمر هذه المرأة، وأدهشه تنويهها بالحاجب المنصور، ولومه عما تعانيه، وعما هي فيه من بؤس وعذاب - إذ لم يكن يخطر بباله للوهلة الأولى أنها مسلمة لاسيما وهي موجودة داخل كنيسة - فكان أن سألها عن شأنها، فعرفته المرأة بنفسها، وأنها امرأة مسلمة، وأعلمته أنها قديمة الأسر ، في هذه الكنيسة، وفي هذه البلاد النصرانية القصية، وناشدته الله أن يتدخل لإنهاء قصتها،واستحلفته بأغلظ الأيمان أن يبلغ قصتها لسيده الحاجب المنصور بن أبي عامر.
فوعدها السفير خيرا وطوى القصة في نفسه وكتمها عن ملك النصارى.
ثم أن هذا السفير أكمل زيارته لغرسية النصراني ولمملكة البشكنس، وعاد أدراجه إلى سيده، وشرح له بإسهاب نتـائج زيارته وعرفه بمـا يجب تعريفه به، كل ذلك والمنصور بن أبي عامر مصغ إليه ومنتبه لما يقول، وكانت كل الأمور مطمئنة، وتبعث على الهدوء والارتياح. وكان الحاجب المنصور – إلى جانب ما يتحلى به من الحكمة والعقل والروية - آية في الدهاء والمكر والسياسة، وكان يحب أن يُبلَّغ بكل شاردة وواردة، وبكل شيء مهما كان دقيقا وتافها. ولا يترك شيئا أبدا للظروف أو المصادفات.
ومن عوائده أيضا أنه كان بعد أن ينتهي الرسول أو السفير أو القائد ، أو المكلف بأي مهمة من المهمات، من شرح نتائج المهمة التي كُلف بها بالتفصيل، كان يسأل ويتحرى زيادة في الحرص والتأكيد، ولاستخلاص أكبر قدر ممكن من المعلومات ، ولذا لم يكد السفير يومئذٍ ، يتم كلامه، حتى راح المنصور يتفرس في وجهه ويسأله:
- هل وقفت هناك على أمر أنكرته أم أن هذا كل شيء ؟
يلطم السفير على عمامته. ويبادر بالاعتذار . فقد نسي أن يخبر سيده بقصة تلك المرأة المسلمة الأسيرة ورسالتها إليه. وهاهو يعود فيتذكرها الآن ، فيسارع بإعلامه بخبرها. وبالمواثيق التي أخذت عليه.
ونزل هذا الخبر على المنصور بن أبي عامر نزول الصاعقة، واستشاط غضبا من السفير، حتى علا صوته وانتفخت أوداجه، وهو يوبخه ويلومه ويعنفه، ويستحمقه، لكونه لم يبدأ الكلام بهذا الخبر.
ولا ريب في أن يكون ذلك هو رد فعل الحاجب المنصور. فكون امرأة مسلمة لا تزال في سجون النصارى، فهذا خطب عظيم، وحدث جليل، وهو يعني الشيء الكثير بالنسبة للحاجب المنصور - ولمن فيه قليل من غيرته وإيمانه الراسخ بدينه- ومثل هذا الخبر له الأولوية عنده، وهو من الأخبار المقدمة التي لا تُنسى ولا يجب أن تُنسى، فهذه المرأة – مهما كان أصلها أو جنسها أو لونها – هي في ذمام المسلمين وهي أمانة في رقابهم ، بل هي عرض المسلمين، وعرض المسلمين مقدس مثل دمهم، وإن استباحة عرض هذه المرأة لهو استباحة لعرض الحاجب المنصور ، ولعرض جميع أعراض المسلمين. وإذا كان المسلمون لا يغارون على عرضهم، فعلام يُغارون إذن ؟
وإذا كان النصارى مازالوا يمتلكون الجرأة لاستباحة أعراض المسلمين حتى اليوم، فما فائدة هذا الكفاح الطويل، وما جدوى عشرات المعارك التي خاضها المسلمون ضدهم، وعشرات الهزائم التي ألحقوها بهم ؟ أهي الجزية ؟ أهي الغنائم ؟ أهي سفك الدماء ؟
لا. لا . يبدو أن في الأمر سرا ..يبدو أن هذا الملك النصراني قد كذب عليه..يبدو أنه كان يستغفله.. أتراه فعلها عابد الصليب؟ الويل له ثم الويل.
وهاج المنصور يومئذ وماج وثار ثورة لم يثر مثلها من قبل– والسفير أمامه ترتعد فرائصه، يتمنى لو لم تلده أمه، ويأمل أن تنشق الأرض فتبتلعه.
فهل توقف رد فعل الحاجب المنصور عند هذا الحد؟
الجواب كلا. لم يقف الحاجب المنصور عند حدود الغضب والثورة ، ولم يطالب بلجنة تحقيق في هذه الجريمة، وبمحكمة حيادية لمحاسبة المرتكبين لها ، أو يستدعي الغارة من منظمات حقوق الإنسان وكذا لم يبعث جوابا يعاتب فيه غرسية صاحب البشكنس على هذه الجريمة الشنعاء. وإنما قرر أن يقوم بتلك الأمور جميعا – هو بنفسه- فقد بادر للجهاد من فوره، وأصبح غازيا على سرجه، وزحف بجيشه الجرار نحو عقر دار غرسية صاحب البشكنس، انتصارا لتلك المرأة ، وانتقاما ممن أجرم في حقها وفي حق أهل الإسلام . ولما علم هذا الأخير ، بأن جيش المسلمين ( الرهيب ) يقصده ، تملكته الدهشة ،وأرتعد رعبا وفرقا ، وأحتار في أمره ،فبادر بالكتاب إلى الحاجب المنصور يسأل عن سبب هذا الغزوة لبلاده ، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه ما جنى ذنبا ، ولا أرتكب مخالفة ، وأنه لازال – كما هو - على العهد والطاعة ، ولم يتحول، ولم يغير أو يبدل. فرد الحاجب المنصور على الرسل بحلافة وخشونة، وعنفهم ووبخهم، وقال لهم:
- كان قد عاقدني أن لا يُبقي ببلاده مأسورة ولا مأسور ، ولو حملته في حواصلها النسور ، وقد بلغني بعدُ بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها ( أي الكنيسة ).
فعادت الرسل إلى مرسلها تجر أذيال الخيبة، وتُنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فأسرع غرسية وأرسل إلى المنصور بالمرأة المسلمة الأسيرة في اثنتين معها – أي أنها لم تكن واحدة فقط ، وإنما كن ثلاث أسيرات مسلمات، ولعل هذا ما فكر فيه المنصور لأول وهله - وأقسم غرسيه أنه ما أبصرهن، ولا سمع بهن، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها ، قد بالغ في هدمها ، تحقيقا لقوله، وتضرع إليه أنه إن أراد أن ينتقم فليجعل الانتقام منه هو شخصيا. وهنا غلب الحياء على الحاجب المنصور، وصرف الجيش عن غرسية وعن بلاده، والتي كان قد أصبح قاب قوسين أو أدنى منها. وطلب المنصور المرأة فمثلت بين يديه، فحدثها بأطيب الكلام وأحسنه، وبما رفع من روحها المعنوية وأزال عنها الوحشة التي كانت تشعر بها، وغير من حالها، وأكرمها ورعاها، وحملها إلى قومها معززة مكرمة، فعادت لتعيش بينهم في أمنٍ وأمان وفي سعادة وهناء[1] (http://www.aljazeeratalk.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=23#_ftn1).
[1] (http://www.aljazeeratalk.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=23#_ftnref1) راجع هذه القصة في كتاب نفح الطيب 1/404، وأنا أوردتها ها هنا بتصرف.