أحمد الظرافي
05-20-2008, 05:58 PM
عماد الدين زنكي، الملك الغازي، محرّر مدينة الرّهـا
بقلم: احمد الظرافي
في ظل العواصف الهوجاء التي تعصف بأمتنا، والاحباطات التي يعاني منها شبابنا، في الوقت الراهن، أصبحنا بحاجة ماسة للعودة إلى تاريخنا، لا لكي نتناسى واقعنا المرير، ولا لكي نعزي أنفسنا بأمجادنا وانتصاراتنا التليدة، وإنما لكي نستخلص العبر والعظات من هذا التاريخ، ونأخذ الدروس المفيدة من سير القادة والفاتحين المسلمين السابقين وما سطروه من صفحات مشرقة وضاءة، فلا تنكسر إرادتنا، ولا تخور عزائمنا أمام التحديات الحالية، وليكون ذلك بداية لنهضة إسلامية شاملة نتجاوز من خلالها هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي تمر به أمتنا الإسلامية جمعاء.
ومن القادة الأبطال الذين يجدر بنا استعادة ذكراهم، عماد الدين زنكي، رائد حركة الجهاد الإسلامية ضد الفرنجة الصليبيين. ولكي تتضح لنا مكانة هذا القائد والبطل التركي المسلم، وأهمية الدور الذي لعبه في حركة الجهاد ضد الصليبيين، فإننا سنبدأ القصة من أولها:
الفرنجة الصليبون في الشرق
تعرضت الأمة الإسلامية، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/ أواخر القرن الخامس الهجري، لأول عدوان عسكري خارجي، يغزوها في عقر دارها ويهدد وجودها ومصيرها، ألا وهو عدوان الفرنجة الصليبيين. وهم عبارة عن جماعات بشرية عدوانية خرجت من دول مختلفة في غرب أوروبا – وخاصة فرنسا – للاستيلاء على بلاد الشام والجزيرة، والاستيطان فيها، بدعوة ومباركة وتحريض الكنيسة الكاثوليكية، والبابا أوربان الثاني، وذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وبذريعة تخليص الضريح المقدس في "أرض المسيح" من أيدي المسلمين " الكفار" وتأمين وصول الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة الفرنجة الصليبيين نحو الشرق، " وقطعوا ألاف الأميال، صوب قلب بلاد المسلمين، وأهلكوا الحرث والنسل في طريقهم، ولم يجدوا أمامهم قوة إسلامية رادعة، لا سيما بعد أن نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة في العام 1097م- أكبر القوى العسكرية الإسلامية آنذاك- وهو الانتصار الذي فتح أمامهم الطريق إلى آسيا الصغرى ـ الشام ـ وليكن لهم ما أرادوا – بالتالي- وهو الوصول إلى أرض اللبن والعسل، وهي أرض الشام والجزيرة بما فيها فلسطين – كما كانوا يطلقون عليها بناء على ما هو مذكور في كتابهم المقدس- . وقد استخدم البابا ورجال الكنيسة الكاثوليكية هذا الوصف ورددوه كثيرا على مسامع الناس في مدن فرنسا وايطاليا وألمانيا، وذلك خلال فترة التمهيد والإعداد للحروب الصليبية، لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين من مختلف التوجهات والمشارب، والزج بهم في الحرب ضد المسلمين، ومنحوهم صكوك الغفران التي يدخلون بها الجنة بزعمهم، فكان ذلك حافزا للكثير من المغامرين والمرتزقة والمهمشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في تلك الحرب، لتحقيق أطماعهم الدنيوية ولإشباع رغباتهم الذاتية في تلك الأرض على حساب أهلها المسلمين، وذلك فضلا عن العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقا. والذي يأتي على رأس تلك العوامل جميعا.
وقد تمكن الفرنجة الصليبيون الغزاة في غضون عدد من السنوات من الاستيلاء على أجزاء واسعة من مدن شواطئ وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم وأهدافهم الاستعمارية الاستيطانية، بإنشاء العديد من الأمارات الصليبية في قلب بلاد المسلمين وأخصبها وأغناها، وهذا في الرها وإنطاكية وطرابلس وبيروت وعكا وصيدا وغيرها، فضلا عن مستعمرتهم الأساسية في القدس وفلسطين. وقد ضموا إلى كل إمارة أو مستعمرة ما يحيط بها من مدن وأقاليم، وعملوا على تأمين كل منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية، ونضموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤمن والسلاح، وبكل ما من شأنه أن يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي هجوم إسلامي محتمل.
وبعد أن استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات المغتصبة شرع الفرنجة الصليبيون في تطوير أعمالهم العدوانية وفي ممارسة أنشطة السلب والنهب ضد المدن والأقاليم والبلدات الإسلامية، التي لم تخضع لسيطرتهم، فاستحلوا لأنفسهم دماء أهلها وأموالهم، وقطع طرقهم، ونهب خيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف، ولم يرعوا لهم عهدا ولا وعدا.
حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال الفرنجة الصليبيين للقدس ولبلاد الشام والجزيرة، في وقت كان يسود فيه التفكك والشقاق والتشرذم بين المسلمين في الشرق الإسلامي. وكانت تتقاسم أقاليم الشرق الإسلامي حينذاك خلافتان إسلاميتينا متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت كل منهما غداة الهجمة الصليبية أضعف من الأخرى. فأما الخلافة العباسية ( السنية ) في بغداد،- وهي الأقدم والأعرق وأيضا الممثلة للغالبية الساحقة من المسلمين- فكانت قد تحولت إلى رمز ديني معنوي، ولم يكن تحت يدها أية قوة عسكرية، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دورا شكليا فقط، ولم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج نطاق مدينة بغداد، وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة الذين دخل الخلفاء العباسيون تحت وصايتهم طوعا منذ سنة (447هـ/1055م )، لدورهم في تخليص الخلافة من سيطرة البويهيين الشيعة المهينة والمذلة لها.
وأما الخلافة الفاطمية ( الإسماعيلية الشيعية )، في القاهرة فقد كانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة الفتن والمشاكل والأزمات الداخلية التي عصفت بها، من جهة . ونتيجة لصراعاتها وحروبها المتواصلة والمكلفة مع الأتراك السلاجقة في الشام،لأسباب سياسية ومذهبية.من جهة أخرى. وكانت الهيمنة الفعلية لمقاليد الأمور فيها قد آلت للجماليين – نسبة إلى بدر الدين الجمالي، أحد كبار القادة الفاطميين-. ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الفرنجة الصليبيين خاصة بعد تدمير أسطولهم الحربي وهزيهم البحرية في عسقلان سنة ( 517هـ / 1123م ) ومنذ ذلك الحين انكفأت الخلافة الفاطمية على نفسها وفقدت السيطرة على الأحداث التي حولها ولم تقم لها قائمة أبدا بعد ذلك.
كما أن الدولة السلجوقية والتي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة. وكانت هذه الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط والوحدة فيما بينها، وكذلك زادت أعدادها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار ملكشاه بن ألب أرسلان سنة ( 485هـ، 1092م ) . فضلا عن استفحال الصراع على السلطة في البيت السلجوقي. وكان من أهم تلك الإقطاعيات العسكرية، في بلاد الشام والجزيرة، والتي لها خطوط مواجهة مباشرة مع الفرنجة الصليبيين: أتابكية دمشق وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات والمدن والأسر المستقلة، وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الأتابكيات والإمارات، ولم يكن أمراؤها يتفقون على أي رؤية أو خطة مشتركة لقتال الفرنجة الصليبيين الغزاة المحتلين، ولتطهير أرض الإسلام منهم، وهناك من أمراء المسلمين من مال لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم، اتقاء لشرهم، وتسليما بالأمر الواقع، وهذا ما فعله حكام دمشق، والذين دفعهم حرصهم على التمتع باستقلالهم وتخوفهم من نوايا زنكي، إلى محالفة الصليبيين ضد زنكي، كما أن بعض أولئك الأمراء المسلمين كانوا أسرع إلى الفرنجة الصليبيين وأقرب إليهم من إخوانهم حكام المسلمين، وأثناء ذلك ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وتُرك العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية التي كان يقودها العلماء العاملون، وغالبا ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الفرنجة الصليبيين للمدن والقواعد الإسلامية. وأما من كان يقاتل من أمراء المسلمين فكان يقاتل دفاعا عن نفسه وعن سلطته، وربما للمحافظة على ماء الوجه، ولاتقاء لعنة التاريخ التي لا ترحم، ولا تحابي أحدا، أو لكي لا يخسر ما تبقى تحت يده من المدن والأقاليم الإسلامية.
وهناك بعض العلماء يمموا وجوههم شطر بغداد، دار الخلافة ليشرحوا ما حل ببلاد المسلمين في الشام والجزيرة على أيدي الفرنجة الصليبيين، ولحث خليفة المسلمين على التحرك والنهوض بمسئولياته والقيام بواجبه إزاء هذه النكبة. وقد ذكر هؤلاء العلماء الذين وقفوا بين يدي الخليفة العباسي صورا من من جرائم الفرنجة الصليبيين، وما ارتكبوه من مذابح جماعية في حق المسلمين الأبرياء، ومن سلب ونهب وتخريب وتدمير ما يشيب لفظاعتها ووحشيتها الولدان، وذلك في سائر المدن الإسلامية التي احتلوها أو مروا بها، مثل أنطاكية ومعرة النعمان وغيرهما، فضلا عن المذبحة المريعة التي أرتكبها الصليبيون غداة اقتحامهم لمدينة القدس في 23شعبان 492هـ ، الموافق 15يوليو 1099م ، والتي راح ضحيتها جميع سكانه المدينة من المسلمين والمسيحيين واليهود. ولكن ورغم كل ذلك فإن الخليفة العباسي لم ينهض أبدا للقيام بواجبه، وضل الوضع على ماهو عليه، وخاب أمل المسلمين فيه، وفي خلافة بني العباس التي كانوا يعدونها سندا وملجئا لهم، فخذلتهم في أحلك الظروف. وظل أمراء المسلمين في الشرق مستكينيين للأمر الواقع الذي فرضته عليهم قوة أجنبية استعمارية غاشمة، تجثم في قلب بلادهم وتحتل أرضهم ومقدساتهم وتستخدم الدين شعارا لها، وظل هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم – إلا من عصم الله منهم - يتلقون الصفعة تلو الصفعة على أيدي الفرنجة الصليبيين، وظلت القوة الفاعلة والكلمة العليا في هذه المنطقة لأولئك الغزاة المحتلين.
بقلم: احمد الظرافي
في ظل العواصف الهوجاء التي تعصف بأمتنا، والاحباطات التي يعاني منها شبابنا، في الوقت الراهن، أصبحنا بحاجة ماسة للعودة إلى تاريخنا، لا لكي نتناسى واقعنا المرير، ولا لكي نعزي أنفسنا بأمجادنا وانتصاراتنا التليدة، وإنما لكي نستخلص العبر والعظات من هذا التاريخ، ونأخذ الدروس المفيدة من سير القادة والفاتحين المسلمين السابقين وما سطروه من صفحات مشرقة وضاءة، فلا تنكسر إرادتنا، ولا تخور عزائمنا أمام التحديات الحالية، وليكون ذلك بداية لنهضة إسلامية شاملة نتجاوز من خلالها هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي تمر به أمتنا الإسلامية جمعاء.
ومن القادة الأبطال الذين يجدر بنا استعادة ذكراهم، عماد الدين زنكي، رائد حركة الجهاد الإسلامية ضد الفرنجة الصليبيين. ولكي تتضح لنا مكانة هذا القائد والبطل التركي المسلم، وأهمية الدور الذي لعبه في حركة الجهاد ضد الصليبيين، فإننا سنبدأ القصة من أولها:
الفرنجة الصليبون في الشرق
تعرضت الأمة الإسلامية، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي/ أواخر القرن الخامس الهجري، لأول عدوان عسكري خارجي، يغزوها في عقر دارها ويهدد وجودها ومصيرها، ألا وهو عدوان الفرنجة الصليبيين. وهم عبارة عن جماعات بشرية عدوانية خرجت من دول مختلفة في غرب أوروبا – وخاصة فرنسا – للاستيلاء على بلاد الشام والجزيرة، والاستيطان فيها، بدعوة ومباركة وتحريض الكنيسة الكاثوليكية، والبابا أوربان الثاني، وذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وبذريعة تخليص الضريح المقدس في "أرض المسيح" من أيدي المسلمين " الكفار" وتأمين وصول الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة الفرنجة الصليبيين نحو الشرق، " وقطعوا ألاف الأميال، صوب قلب بلاد المسلمين، وأهلكوا الحرث والنسل في طريقهم، ولم يجدوا أمامهم قوة إسلامية رادعة، لا سيما بعد أن نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة في العام 1097م- أكبر القوى العسكرية الإسلامية آنذاك- وهو الانتصار الذي فتح أمامهم الطريق إلى آسيا الصغرى ـ الشام ـ وليكن لهم ما أرادوا – بالتالي- وهو الوصول إلى أرض اللبن والعسل، وهي أرض الشام والجزيرة بما فيها فلسطين – كما كانوا يطلقون عليها بناء على ما هو مذكور في كتابهم المقدس- . وقد استخدم البابا ورجال الكنيسة الكاثوليكية هذا الوصف ورددوه كثيرا على مسامع الناس في مدن فرنسا وايطاليا وألمانيا، وذلك خلال فترة التمهيد والإعداد للحروب الصليبية، لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين من مختلف التوجهات والمشارب، والزج بهم في الحرب ضد المسلمين، ومنحوهم صكوك الغفران التي يدخلون بها الجنة بزعمهم، فكان ذلك حافزا للكثير من المغامرين والمرتزقة والمهمشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في تلك الحرب، لتحقيق أطماعهم الدنيوية ولإشباع رغباتهم الذاتية في تلك الأرض على حساب أهلها المسلمين، وذلك فضلا عن العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقا. والذي يأتي على رأس تلك العوامل جميعا.
وقد تمكن الفرنجة الصليبيون الغزاة في غضون عدد من السنوات من الاستيلاء على أجزاء واسعة من مدن شواطئ وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم وأهدافهم الاستعمارية الاستيطانية، بإنشاء العديد من الأمارات الصليبية في قلب بلاد المسلمين وأخصبها وأغناها، وهذا في الرها وإنطاكية وطرابلس وبيروت وعكا وصيدا وغيرها، فضلا عن مستعمرتهم الأساسية في القدس وفلسطين. وقد ضموا إلى كل إمارة أو مستعمرة ما يحيط بها من مدن وأقاليم، وعملوا على تأمين كل منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية، ونضموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤمن والسلاح، وبكل ما من شأنه أن يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي هجوم إسلامي محتمل.
وبعد أن استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات المغتصبة شرع الفرنجة الصليبيون في تطوير أعمالهم العدوانية وفي ممارسة أنشطة السلب والنهب ضد المدن والأقاليم والبلدات الإسلامية، التي لم تخضع لسيطرتهم، فاستحلوا لأنفسهم دماء أهلها وأموالهم، وقطع طرقهم، ونهب خيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف، ولم يرعوا لهم عهدا ولا وعدا.
حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال الفرنجة الصليبيين للقدس ولبلاد الشام والجزيرة، في وقت كان يسود فيه التفكك والشقاق والتشرذم بين المسلمين في الشرق الإسلامي. وكانت تتقاسم أقاليم الشرق الإسلامي حينذاك خلافتان إسلاميتينا متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت كل منهما غداة الهجمة الصليبية أضعف من الأخرى. فأما الخلافة العباسية ( السنية ) في بغداد،- وهي الأقدم والأعرق وأيضا الممثلة للغالبية الساحقة من المسلمين- فكانت قد تحولت إلى رمز ديني معنوي، ولم يكن تحت يدها أية قوة عسكرية، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دورا شكليا فقط، ولم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج نطاق مدينة بغداد، وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة الذين دخل الخلفاء العباسيون تحت وصايتهم طوعا منذ سنة (447هـ/1055م )، لدورهم في تخليص الخلافة من سيطرة البويهيين الشيعة المهينة والمذلة لها.
وأما الخلافة الفاطمية ( الإسماعيلية الشيعية )، في القاهرة فقد كانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة الفتن والمشاكل والأزمات الداخلية التي عصفت بها، من جهة . ونتيجة لصراعاتها وحروبها المتواصلة والمكلفة مع الأتراك السلاجقة في الشام،لأسباب سياسية ومذهبية.من جهة أخرى. وكانت الهيمنة الفعلية لمقاليد الأمور فيها قد آلت للجماليين – نسبة إلى بدر الدين الجمالي، أحد كبار القادة الفاطميين-. ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الفرنجة الصليبيين خاصة بعد تدمير أسطولهم الحربي وهزيهم البحرية في عسقلان سنة ( 517هـ / 1123م ) ومنذ ذلك الحين انكفأت الخلافة الفاطمية على نفسها وفقدت السيطرة على الأحداث التي حولها ولم تقم لها قائمة أبدا بعد ذلك.
كما أن الدولة السلجوقية والتي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة. وكانت هذه الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط والوحدة فيما بينها، وكذلك زادت أعدادها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار ملكشاه بن ألب أرسلان سنة ( 485هـ، 1092م ) . فضلا عن استفحال الصراع على السلطة في البيت السلجوقي. وكان من أهم تلك الإقطاعيات العسكرية، في بلاد الشام والجزيرة، والتي لها خطوط مواجهة مباشرة مع الفرنجة الصليبيين: أتابكية دمشق وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات والمدن والأسر المستقلة، وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الأتابكيات والإمارات، ولم يكن أمراؤها يتفقون على أي رؤية أو خطة مشتركة لقتال الفرنجة الصليبيين الغزاة المحتلين، ولتطهير أرض الإسلام منهم، وهناك من أمراء المسلمين من مال لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم، اتقاء لشرهم، وتسليما بالأمر الواقع، وهذا ما فعله حكام دمشق، والذين دفعهم حرصهم على التمتع باستقلالهم وتخوفهم من نوايا زنكي، إلى محالفة الصليبيين ضد زنكي، كما أن بعض أولئك الأمراء المسلمين كانوا أسرع إلى الفرنجة الصليبيين وأقرب إليهم من إخوانهم حكام المسلمين، وأثناء ذلك ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وتُرك العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية التي كان يقودها العلماء العاملون، وغالبا ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الفرنجة الصليبيين للمدن والقواعد الإسلامية. وأما من كان يقاتل من أمراء المسلمين فكان يقاتل دفاعا عن نفسه وعن سلطته، وربما للمحافظة على ماء الوجه، ولاتقاء لعنة التاريخ التي لا ترحم، ولا تحابي أحدا، أو لكي لا يخسر ما تبقى تحت يده من المدن والأقاليم الإسلامية.
وهناك بعض العلماء يمموا وجوههم شطر بغداد، دار الخلافة ليشرحوا ما حل ببلاد المسلمين في الشام والجزيرة على أيدي الفرنجة الصليبيين، ولحث خليفة المسلمين على التحرك والنهوض بمسئولياته والقيام بواجبه إزاء هذه النكبة. وقد ذكر هؤلاء العلماء الذين وقفوا بين يدي الخليفة العباسي صورا من من جرائم الفرنجة الصليبيين، وما ارتكبوه من مذابح جماعية في حق المسلمين الأبرياء، ومن سلب ونهب وتخريب وتدمير ما يشيب لفظاعتها ووحشيتها الولدان، وذلك في سائر المدن الإسلامية التي احتلوها أو مروا بها، مثل أنطاكية ومعرة النعمان وغيرهما، فضلا عن المذبحة المريعة التي أرتكبها الصليبيون غداة اقتحامهم لمدينة القدس في 23شعبان 492هـ ، الموافق 15يوليو 1099م ، والتي راح ضحيتها جميع سكانه المدينة من المسلمين والمسيحيين واليهود. ولكن ورغم كل ذلك فإن الخليفة العباسي لم ينهض أبدا للقيام بواجبه، وضل الوضع على ماهو عليه، وخاب أمل المسلمين فيه، وفي خلافة بني العباس التي كانوا يعدونها سندا وملجئا لهم، فخذلتهم في أحلك الظروف. وظل أمراء المسلمين في الشرق مستكينيين للأمر الواقع الذي فرضته عليهم قوة أجنبية استعمارية غاشمة، تجثم في قلب بلادهم وتحتل أرضهم ومقدساتهم وتستخدم الدين شعارا لها، وظل هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم – إلا من عصم الله منهم - يتلقون الصفعة تلو الصفعة على أيدي الفرنجة الصليبيين، وظلت القوة الفاعلة والكلمة العليا في هذه المنطقة لأولئك الغزاة المحتلين.