almuslim
05-19-2008, 03:20 PM
القــراءات القرآنيــة
بين الفكر الاستشراقي ودراسات العلماء
لكاتبه :القاضي الأثري
هذا القرآن العظيم لا يزال دفاق الفيض مستمر العطاء علي الرغم من المحاولات المتكررة من المستشرقين و المستغربين للقضاء عليه، وقتل الانتماء إليه. ولقد يكون خيراً أن نعمد في هذا التوقيت إلى طرح قضية لا تشغل المتخصصين فقط، وإنما أصبحت-أو وجب أن تصبح- جزءاً من هموم المثقف المسلم، بعد ما رأينا بعض المثقفين، وأنصاف المثقفين يخوضون فيها بغير علم و لا هدى ولا كتاب منير.
وبحسبي من ذلك أن أشير إلى أن كتابات المستشرقين عن القرآن أصبحت مادة دراسة في بعض جامعاتنا، وكنت أنا أحد الذين درسوا كتاب جولد تسيهر وآرثر جفري ونولدكه ، ولعله بغير قصد من أساتذتي -عافاهم الله.
أبادر إلى القول بأنني لست رائداً في هذا المجال، وإنما مسبوق ومقتبس كثيراً من مقدمات هذه الدراسة وملاحظاتها ونتائجها، وأن أكثر عملي فيه هو التلخيص وإعادة الترتيب ، تصحيحاً لبعض التصورات الخاطئة، عسى أن نهتدي إلى رأي مستنير في هذه المسألة يزيل حجب الجهل ويهتك أستار الغفلة عن أهميتها و يضعها في موضع مناسب من ثقافة المهتمين ودراسة الدارسين.
القراءات وكيف تعددت:
يمكن أن نعرف القراءات القرآنية بأنها الأوجه المتعددة لتلاوة النص القرآني. والمعروف من تاريخ القرآن أنه نزل من السماء علي النبي- صلى الله عليه و سلم -بوجه واحد ، وكيفية واحدة ولكن النبي- صلى الله عليه و سلم- طلب من جبريل عليه السلام-أن يسأل ربه التخفيف علي أمته لأنها لا تطيق ذلك ، قال" فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف "(1) وهذه الأحرف هي أوجه التلاوة المتعددة، وهو ما سنفصل القول فيه - إن شاء الله .
ولكن : كيف تعددت القراءات واختلفت ؟
كان نزول القرآن بأوجه متعددة رحمة بهذه الأمة، فكان النبي يقرئ كل رجل من صحابته بوجه يسير علي الصحابة قراء القرآن ، الذين منهم ابن مسعود وأبي ابن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس وعمر بن الخطاب وأبو بكر وغيرهم (رضوان الله عليهم) وكان يرجعون في الخلاف الذي يقع بينهم في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وغالباً ما كان صلى الله عليه وسلم يقر كلا من المترافعين علي طريقته في القراءة .
من ذلك خلاف عمر بن الخطاب المشهور مع هشام بن حكيم ، حين صلى خلفه، فوجده يقرأ سورة الفرقان بطريقة غير طريقته التي علمه إياها النبي صلى الله عليه و سلم ،فأخذ بتلابيبه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر النبي كلتا القراءتين، وقال:
"هكذا نزلت" "هكذا نزلت" ثم قال" إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منها ".(2) وهو حديث ثابت في الصحاح بل صرح بعض العلماء بتواتره(3).
وبعد رغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا إلى الرفيق الأعلى، وكثرة الفتوح تفرق الصحابة في الأمصار، كل يقرأ بحرفه الذي تعلمه منه - بعد - تلاميذه من التابعين ، ومن التابعين من تعلم علي أكثر من صحابي ، فأثرى ذلك كله تعلم القراءات، واطلع هذا الفرن علي اختلافات واسعة حتى لا يكاد الرجل يسمع اثنين علي حرف واحد . نعم ، كان هذا الخلاف ظاهرة صحية وما يزال، ثم قدم حذيفة بن اليمان علي عثمان، وكان يغازي الروم في أرمينية والفرس في أذربيجان ، فقال: " يا أمير المؤمنين ، إني قد سمعت الناس اختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصاري"(4)، وهذا ما أدى بعثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى توحيد رسم المصحف، وحمل الناس علي ما يوافقه، حتى ليروى أنه "أحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم علي كل من عنده مصحف يخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه"(5)، فقد ذكرت المصادر أن عثمان كتب أو استكتب خمس نسخ من المصاحف مختلفة القراءات وبعثها في الأمصار(6)، ولقد كان رسم المصحف العثماني نفسه معيناً علي تعدد القراءات لخلوه من النقط والشكل.
رسم المصحف والقراءات:
ولا بد أن نلقي مزيداً من التأكيد علي لفظة "معينا" في العبارة السابقة، فإن قولنا " كان معينا علي تعدد القراءات" يختلف اختلافاً بائنا عن قولنا" كان سبباً في تعدد القراءات" فالعبارة الأولى صحيحة لا يشوبها شك، وللتمثيل نذكر قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) (النساء: 94).
فلفظ " فتبينوا " مكتوب في المصحف العثماني هكذا ( فتتتتوا) ؛ بغير نقط.وهو معين علي قراءة الآية بوجهين:(فتبينوا) وكذلك (فتثبتوا).
وكلتاهما قراءة صحيحة مروية عن النبي صلى الله عليه و سلم بطريق التواتر(7) وأما العبارة الثانية : فهي خطأ لا يشوبها شبهة صواب، لأن مؤداها أن القراءات واختلافها كان متأخراً عن جمع القرآن، وأن قراء القرآن من التابعين قد تصرفوا من تلقاء أنفسهم بقراءته علي غير الوجه الذي نزل به مخدوعين بالرسم العثماني غير المضبوط مرة، أو مستحسنين معني بعينه مرة أخرى .
المستشرقون وقضية القراءات:
ولا يفوتنا أن نناقش هذا التفكير السخيف الذي أدى إلى هذا الاستنتاج ، وتبلور بصورة واضحة في كتابات المستشرقين ، وبخاصة كتاب"جولدتسيهر" المسمى (مذاهب التفسير الإسلامي) .
والملاحظ أن كثيراً من المستشرقين أطلعونا علي أحط تفكير حين تعوضوا للدراسات القرآنية، فـ (جولدتسيهر) يبدأ كتابه بتقرير بارد هو أنه"لا يوجد كتاب تشريعي يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات مثل القرآن"(8) وهو بهذا يعني تعدد القراءات القرآنية فيسميه اضطراباً، وتجاهل اليهودي أن كتاب قومه لا يساوي في ميزان النقد العلمي جناح بعوضة، وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض إخوانه(9).
والتقرير الذي يقدمه جولد تسيهر غريب عن الروح العلمي الذي يدعيه المستشرقون، فاختلاف القراءات هو اختلاف محدود في آيات بعينها من القرآن. كما أن" الاضطراب وعدم الثبات لا يجوز وصف النص به إلا إذا جاء علي صور مختلفة أو متضاربة لا يعرف الصحيح الثابت منها "(10) أما وروده بصور مختلفة صحيحة النسبة إلى الله تعالى متصلة السند به، فلا يجوز أن يكون مطعناً حتى إذا اختلفت صوره، ولو نظر ابن اليهودية في العهد القديم، فقرأ فيه خبر موت موسى ودفنه(11)، وأخبار الملوك بعد موسى(عليه السلام)(12)لأيقن أنه كتاب كتبته أيدي قومه، ولو تأمل حديث هذا الكتاب عن الرب تعالى ، ومصارعته ليعقوب عليه السلام ، وصرع يعقوب إياه وكسره ضلعا منه لأيقن أن الأيدي التي كتبته لهي أنجس الأيدي . (13)
أين هذا كله من القرآن الكريم ؟ الدقة المتناهية في إثبات نصوصه، والورع المتناهي في قراءة حروفه ، والضبط المتناهي في نقل آياته. واقرأ كتاب المستشرق "وليم موير" المسمى (حياة محمد) حين يتعرض في مقدمته لما يسمى " تحريف القرآن وتبديله " وقد ترجمها برمتها الأستاذ هيكل في مقدمته الرائعة للطبعة الثانية من كتاب حياة محمد. وقد استقصى فيها "موير" عمليتي الجمع القرآني ومقومات الدقة فيهما، في ترتيب فكري خالص، يحسن قراءة ألفاظه التي هو اختارها للتعبير عن نتائجه كما ترجمها هيكل ، وإن كنا ننقل النتيجة التي وصل إليها من هذا التحليل. يقول(14) :
"والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقاً فحسب، بل كان- كما تدل الوقائع عليه - كاملاً، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال شئ من الوحي ، ونستطيع كذلك أن نؤكد - استناداً إلى أقوي الأدلة - أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد"صلى الله عليه وسلم" بل إن شئت الدقة فاقراً مقدمات تفسير"الطبري" و"القرطبي" وكتاب " نكت الانتصار لنقل القرآن " (15) للقاضي الباقلاني لتري من كل ذلك العجب العجاب.
تشكيك (زيهر) في القرآن:
ومع ذلك فقد استخدم (جولد تسيهر) ما وسعه أن يستخدمه من معلومات مبتورة مستهدفاً التشكيك في القرآن والقراءات القرآنية، من ذلك :
1- يرى أن المنتظر من النص الإلهي أن يأتي في قالب موحد متلقي من الجميع بالقبول.
2- أن تعدد القراءات القرآنية راجع إلى خصوصية الخط العربي(بغير نقط أو ضبط) بحيث يمكن قراءة اللفظ المكتوب بصور صوتية مختلفة متغيرة المعني و الإعراب.
"إذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط واختلاف الحركات في المحصول الموحد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطاً أصلاً،أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه "(16).
3- أن التابعين وعلماء المسلمين قد عملوا بتفكيرهم المحض في تغيير قراءات قرآنية بناء علي ما يسميه "ملاحظات موضوعية " أو "خلافات فقهية " ؛ (17) فالنص القرآني- في نظر"جولد تسيهر" قد تعرض بعد كتابته لعمل الأيدي و العقول المسلمة بالتغيير والاختلاف نتيجة لما تعرض له المسلمون من خلاف فقهي أو نظرات حضارية.
وهذه الملاحظات الثلاثة هي التي تدور حولها بحوث المستشرقين في القراءات ، فهو يعترف أنه يسير علي نهج (زعيمنا) تيودور نولدكهtheodor Noldeke في كتابة الأصيل البكر(تاريخ القرآن)(18)ومثل هذا الاعتراف يسوقه"جفري" في مقدمة كتاب (المصاحف)لابن أبي داود ، الذي يدعى فيه أن القرآن قد تعرض للتبديل بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم .
أدلة واهية:
غير أن المتأمل في هذه الملاحظات لا يخيل إليه أنها تثبت أمام الوعي الصحيح بتاريخ القرآن أو أسلوبه ، فلم يعرف في تاريخ القرآن خلاف جوهري في قراءاته ، وقد حصر العلماء المسلمون اختلاف القراءات في سبعة وجوه - علي نحو ما سيأتي إن شاء الله - لا يشير واحد منها إلى هذا الاضطراب المدعى المزعوم . وكل ما حدث تشدد بعض القراء لحروفهم حفاظاً علي ما سمعه من ثقات الصحابة .
والملاحظ أن هؤلاء المستشرقين يستدلون أحياناً بقراءات ضعيفة وواهية في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتغافلون عن الحديث المتواتر الذي قدمنا ؛ وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم (نزل القرآن علي سبعة أحرف….) ومن أمثلة هذه القراءات الواهية، قراءة (تستكثرون) بدلاً من (تستكبرون) في قوله تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْوَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون (الأعراف/48) ذكرها(جولد تسيهر) استدلالاً علي " الاختلاف في تحلية الهيكل المرسوم بالنقط" مع أنها كما يقول د.النجار " لم تعتمد في القراءات السبع ولا الأربع عشرة بل هي قراءة منكرة ، ولا يعرف علي وجه التحديد من قرأ بذلك وحسبك هذا دليلاً علي أن الخط لم يكن هو العمدة في صحة القراءة "(20) إلا أنها لا تناقض فيها ؛ إذ تحمل علي عطف التفسير.
والأسخف من ذلك أنه يذكر قراءة ( أباه ) بدلا من ( إياه ) في قوله تعالى :
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ ( التوبة/114)
قائلاً : " ومن الغريب أنها قراءة حماد الراوية " (21)، مع معرفته بمنزلة حماد الراوية من هذا العلم ومن الثقة، فهو الذي أطبق علماء الأمة علي الطعن في روايته، فقد قال فيه أبو عمرو بن العلاء: " العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يلحن و يكذب و يكسر" (22)، وقد ضعفه أبو حاتم السجستاني( اللغوي) والمفضل الضبي وغيرهما.(23) وهو الذي نظر في المصحف فقرأ : " حتى يعطوا الخربة عن يد " وفسره بأنه(السرقة) " فكان احتجاجه للخطأ أعجب من خطئه " (24) .
وما ذكره الدارسون والعلماء عن حماد دليل قاطع علي اهتمام العلماء بالرواية وذمهم الاكتفاء بالمصحف، وهي قاصمة الظهر بالنسبة لمزاعم (زيهر)، فقد روي صاحب ( ما يقع فيه التصحيف ): " أن حماداً كان حفظ القرآن من المصحف ، فكان يصحف نيفا وثلاثين حرفاً " (25).
ولو أن هؤلاء المستشرقين آمنوا- كما آمنا- بالله ورسوله و الكتاب الذي أنزل علي رسوله لأراحوا أنفسهم من مشقة الكذب علي الله وقلب الحقائق التاريخية الثابتة، ولو أنهم شغلوا أنفسهم بالتفتيش في صحف قومهم التي امتلأت كذبا وزوراً وسفاهة وحمقاً واجتراء علي محارم الله لأغناهم ذلك عن الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الظن وسوء الفهم ، و تالله لقد صدق عليهم قول النبي صلي الله عليه وسلم :" يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه"(26). وتالله ما هي قذاة ، ولكن خيل للمغرورين المحاسن سيئات، وتخفيف الله ورحمته بعباده اضطرابا وتفككاً.
أسباب الخلط (سوء فهم، وسوء نيـة)
هل نستطيع أن نرجع هذا الخلط الذي يقع فيه هؤلاء الأعاجم في دراسة القرآن إلى أسباب صحيحة ؟ في هذا المجال نتذكر قول الأستاذ العقاد الذي يعد تشخيصاً دقيقاً لموقف المستشرقين وأسبابه ، يقول : إنهم "جمعوا سوء الفهم وسوء النية".(27) :
1-أما سوء النية : فذلك ثابت مقرر في تاريخهم سياسياً وفكرياً، وحسبنا أن نطالع أي كتاب لأحدهم مثل درمنغم أو كارلايل مثلاً لنعرف صدق هذا القول.
2-وأما سوء الفهم : فالمطالع لدراستهم عامة يلاحظ من ذلك ما يضحكه - وشر البلية ما يضحك - ، وليس هذا مستغرباً من قوم أعاجم لا يفقهون سر العربية وذوقها وإن عرفوا ترجمتها ومعانيها، فلو رأينا اليوم مستشرقاً يترجم كلمة " التضحية " "بأنها عبادة الشمس" لأنها ( مشتقة من الضحى ). وكلمة ( أخذ ) أنها تأتي بمعني (نام) لقوله تعالى:
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نوْمٌ (28)
لو رأينا ذلك ألا يكون ذلك حرياً بأن يدفعنا إلى ضرب الصفح عن دراستهم للغة، وبخاصة في القرآن الكريم ؟
مناقشة مزاعم زهير :
ولنلق نظرة علي الأعمدة الثلاثة التي بني عليها المستشرقون متمثلين في جولد زيهر " افتراءهم علي القرآن " :
1- ظن جولد تسيهر : أن المنتظر من النص الإلهي " أن يأتي في قالب موحد " وهذا تحكم لا وجه له، كما عبر الأستاذ النجار(29) رحمه الله تعالى.
نعم. كان هو ينتظر ذلك، ولو جاء في قالب موحد لقال:كان المنتظر من نص إلهي أن يأتي بصور مختلفة حتى ييسر علي الأمة فهمه وتلاوته !
ما أشبه ذلك بصنيع أسلافه اليهود! إذ ظلوا ينتظرون النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (البقرة/89)
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ (البقرة/246)
وقد جاء العهد الجديد يحتوي أربع صور لما ظنوه الإنجيل بين كل منها وأخيه من الخلاف ما يملأ السماوات و الأرض ، وقد عبر عن ذلك الدكتور ( فريدريك جرانت ) في كتابه (الأناجيل أصلها وتطورها ) بقوله (30 ) :
" إن العهد الجديد كتاب غير متجانس ، ذلك أنه شتات مجمع ، فهو يمثل وجهات نظر مختلفة ".
هل هذه ، أو قريب منها صورة القرآن الكريم ؟
حاش لله ، فقد التأمت ألفاظ القرآن وأساليبه ومسائله الدقيقة فلا تجد فيه عوجاً ولا أمتا، وبون شاسع بين اختلاف نطق الألفاظ بغية التيسير، وبين اختلاف النص و الحكم والقصة والنبوءة و العقيدة من ( إنجيل ) ( لإنجيل )
2- زعمه أن تعدد القراءات راجع إلى خصوصية الخط العربي ، بحيث يمكن قراءة الصورة الكتابية بصور صوتية مختلفة .
وهذا زعم يرده أقل البصر بكتاب الله تعالى ، أو أقل النظر في قراءاته المتعددة. وقد سبقنا إلى الرد علي هذه الجزئية دارسون فضلاء ، أشير منهم إلى ثلاثة هم :
أ- الدكتور عبد الحليم النجار، وذلك في تعليقاته الدقيقة علي كتاب"جولد زيهر" التي جعلها هوامش علي ترجمته له ، (وقد طبعت الترجمة والتعليقات سنة 1374 هـ -1955م ، بمطبعة السنة المحمدية ، ونشرها الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد ) .
ب- الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، في كتابه القيم (رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات ) (وقد نشرته مكتبة نهضة مصر بالفجالـة سنة 1380هـ-1960م)
ت- فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه ( القراءات في نظر المستشرقين والملحدين ) (وقد نشره مجمع البحوث الإسلامية سنة1392 هـ-1970م)
والملاحظ أن عنوان هذا الكتاب قد كتب له الرواج وكثرة الانتفاع به لغلبة اللون الإعلامي عليه إلى جانب أنه دراسة موفقة لم تقتصر علي الإفادة الكثيرة من دراسة الأستاذين النجار وشلبي ، بل زادت عليهما عدة ملاحظات .
ونحن نلخص ما أورده الثلاثة - حسب الإمكان - مضيفين إليه ما يؤكده، مشاركين في إدحاض هذه الفرية العظيمة :
1- الأدلة التاريخية التي تؤكد ورود الروايات المختلفة قبل رسم المصحف ، بل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، وقد أشرنا - قبل - إلى وقوع هذا التعدد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه عليه الصلاة والسلام قد ذكره في معرض الثناء علي القرآن والحمد لربه علي تيسيره لأمته ، وسنفصل هذا الأمر بعد إن شاء الله ولكن الذي يهمنا الآن هو أن هذه الأوجه كانت معروفة قبل أن يجمع القرآن ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ القرآن علي هذه الأحرف المختلفة ؛ فلا دخل إذاً للرسم في ذلك (31) .
2- لو كانت القراءة تابعة للرسم. كما يدعي هذا اللفيف الغبي من المستشرقين لصحت كل قراءة وافقت العربية والرسم ، ولكن ما وصلنا من تراث عن هذا الموضوع يؤكد خلاف ذلك تماماً، فقد ذكر( السيرافي ) أن ( يحيى بن يعمر) قد واجه (الحجاج الثقفي) بأنه يلحن في القرآن في قوله تعالى من سورة التوبة :
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله
( التوبة / 25 )
فالحجاج يقرأ ( أحب ) بالرفع ، وقد نزلت بالنصب(32) ، مع أن الرفع وجه في اللغة ، ولم يقرأ به أحد في الأربع عشرة ، وإنما لحّن يحيى الحجاج هنا لا لعدم موافقته العربية وإنما لعدم صحة القراءة نقلاً.
وقراءة: إنا كل شئ خلقناه بقدر (القمر/50)
يصح في لفظ (كل) الرفع والنصب ، ولم يقرأ بالرفع أحد، علي الرغم من أن الرفع هو الراجح عند سيبويه ، لأنه (مبتدأ بعد اسم، وهذا الكلام في موضع خبره) (32) ولكن التنزيل أرجح لأن قواعد اللغة تبنى عليه 0 (34)
الحواشي
(1) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس
البخاري ط/ الحلبي3/226 كتاب"فضائل القرآن"
مسلم ط/عيسى الحلبيى3/561 كتاب" صلاة المسافرين "
وأخرجه غيرهما كأبي داود والترمذي وأحمد ومالك.
(2) أخرجه الشيخان أيضاً وغيرهما
( البخاري3/226 ، مسلم 3/560)
(3) الإتقان للسيوطي1/041 والذي صرح بتواتره هو أبو عبيد القاسم بن سلام.
(4) المقنع في رسم مصاحف الأمصار للداني ط/الكليات الأزهرية ص14، الطبري1/062
(5) الطبري 1/063 لطائف الإشارات للقسطلاني ط/مجمع البحوث الإسلامية 1/064
(6) الجمع الصوتي الأول د.لبيب السعيد ط/الهيئة المصرية للكتاب ص 066 وقد ذكر الداني الاختلاف في عدد النسخ ص 19.
(7) قراءة " فتثبتوا " هي قراءة حمزة والكساني وخلف. وقرأ الباقون" فتبينوا ".
(8) مذاهب التفسير الإسلامي اجنتس جولد زيهر ترجمة د. عبد الحليم النجار/4.
(9) انظر ما ذكره - مترجما ً- الأستاذ أحمد عبد الوهاب - عن رأي علماء الكتاب المقدس في العهد القديم . وذلك في كتاب المسيح في مصادر العقيدة المسيحية"
ط/ وهبة (الفصل الخاص بالمصادر).
(10) مذاهب التفسير ( زيهر) ص4 ( هامش )
(11) ، (12)سفر الملوك الأول والثاني من العهد القديم.
(13) سفر التكوين32/24/30.
(14) حياة محمد : محمد حسين هيكل ط/ 2(المقدمة) .
(15) حقق هذا الكتاب د.محمد زغلول سلام ونشره منشاة المعارف بالإسكندرية سنة 1971.
(16) جولد زيهر ص9.
(17) المصدر السابق ص 11.12.
(18) المصدر السابق ص7.
(19) المصاحف لابن أبي داود نشر جفري.
(20) جولد زيهر ص9(هامش)
(21) المرجع السابق.
(22) طبقات فحول الشعراء لابن سلام ط/المعارف(المقدمة)ص14.
(23) الدراسات الميدانية في منهج النحاة العرب(رسالة بالماجستير مخطوطة بالآلة الكاتبة بدار العلوم(القاهرة)سنة 1972 للأستاذ محمود عثمان أبو سمرة)ص 316.
(24) شرح ما يقع فيه التصحيف و التحريف للعسكري تحقيق عبد العزيز أحمد ط/الحلبي ص 142.
(25) المصدر السابق.
(26) أخرجه أحمد والترمذي .
(27) مطلع النور للعقاد ط/الهلال ص 70.
(28) المصدر السابق نفسه.
(29) جولد زيهر ص7(هامش).
(30) الطبعة الإنجليزية ص 17(نقلاً عن الأستاذ أحمد عبد الوهاب"المسيح في مصادر العقيدة المسيحية"ط/ وهبة ص 15)
(31) رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات د .عبد الفتاح شلبي ط/
النهضة المصرية ص22 وهذا الصنيع نفسه صنعه عثمان ؛ فقد أرسل مع المصاحف رجالاً يقرؤون الناس.انظر لبيب السعيد ص 141.
(32) أخبار النحويين البصريين للسيرافي ط/ الحلبي سنة 1374 ص 17.
(33) الكتاب لسيبوبه ط/ هارون 1/147، 148 .
(34) الكتاب السابق نفسه.
يتبع
بين الفكر الاستشراقي ودراسات العلماء
لكاتبه :القاضي الأثري
هذا القرآن العظيم لا يزال دفاق الفيض مستمر العطاء علي الرغم من المحاولات المتكررة من المستشرقين و المستغربين للقضاء عليه، وقتل الانتماء إليه. ولقد يكون خيراً أن نعمد في هذا التوقيت إلى طرح قضية لا تشغل المتخصصين فقط، وإنما أصبحت-أو وجب أن تصبح- جزءاً من هموم المثقف المسلم، بعد ما رأينا بعض المثقفين، وأنصاف المثقفين يخوضون فيها بغير علم و لا هدى ولا كتاب منير.
وبحسبي من ذلك أن أشير إلى أن كتابات المستشرقين عن القرآن أصبحت مادة دراسة في بعض جامعاتنا، وكنت أنا أحد الذين درسوا كتاب جولد تسيهر وآرثر جفري ونولدكه ، ولعله بغير قصد من أساتذتي -عافاهم الله.
أبادر إلى القول بأنني لست رائداً في هذا المجال، وإنما مسبوق ومقتبس كثيراً من مقدمات هذه الدراسة وملاحظاتها ونتائجها، وأن أكثر عملي فيه هو التلخيص وإعادة الترتيب ، تصحيحاً لبعض التصورات الخاطئة، عسى أن نهتدي إلى رأي مستنير في هذه المسألة يزيل حجب الجهل ويهتك أستار الغفلة عن أهميتها و يضعها في موضع مناسب من ثقافة المهتمين ودراسة الدارسين.
القراءات وكيف تعددت:
يمكن أن نعرف القراءات القرآنية بأنها الأوجه المتعددة لتلاوة النص القرآني. والمعروف من تاريخ القرآن أنه نزل من السماء علي النبي- صلى الله عليه و سلم -بوجه واحد ، وكيفية واحدة ولكن النبي- صلى الله عليه و سلم- طلب من جبريل عليه السلام-أن يسأل ربه التخفيف علي أمته لأنها لا تطيق ذلك ، قال" فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف "(1) وهذه الأحرف هي أوجه التلاوة المتعددة، وهو ما سنفصل القول فيه - إن شاء الله .
ولكن : كيف تعددت القراءات واختلفت ؟
كان نزول القرآن بأوجه متعددة رحمة بهذه الأمة، فكان النبي يقرئ كل رجل من صحابته بوجه يسير علي الصحابة قراء القرآن ، الذين منهم ابن مسعود وأبي ابن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس وعمر بن الخطاب وأبو بكر وغيرهم (رضوان الله عليهم) وكان يرجعون في الخلاف الذي يقع بينهم في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وغالباً ما كان صلى الله عليه وسلم يقر كلا من المترافعين علي طريقته في القراءة .
من ذلك خلاف عمر بن الخطاب المشهور مع هشام بن حكيم ، حين صلى خلفه، فوجده يقرأ سورة الفرقان بطريقة غير طريقته التي علمه إياها النبي صلى الله عليه و سلم ،فأخذ بتلابيبه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر النبي كلتا القراءتين، وقال:
"هكذا نزلت" "هكذا نزلت" ثم قال" إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منها ".(2) وهو حديث ثابت في الصحاح بل صرح بعض العلماء بتواتره(3).
وبعد رغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا إلى الرفيق الأعلى، وكثرة الفتوح تفرق الصحابة في الأمصار، كل يقرأ بحرفه الذي تعلمه منه - بعد - تلاميذه من التابعين ، ومن التابعين من تعلم علي أكثر من صحابي ، فأثرى ذلك كله تعلم القراءات، واطلع هذا الفرن علي اختلافات واسعة حتى لا يكاد الرجل يسمع اثنين علي حرف واحد . نعم ، كان هذا الخلاف ظاهرة صحية وما يزال، ثم قدم حذيفة بن اليمان علي عثمان، وكان يغازي الروم في أرمينية والفرس في أذربيجان ، فقال: " يا أمير المؤمنين ، إني قد سمعت الناس اختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصاري"(4)، وهذا ما أدى بعثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى توحيد رسم المصحف، وحمل الناس علي ما يوافقه، حتى ليروى أنه "أحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم علي كل من عنده مصحف يخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه"(5)، فقد ذكرت المصادر أن عثمان كتب أو استكتب خمس نسخ من المصاحف مختلفة القراءات وبعثها في الأمصار(6)، ولقد كان رسم المصحف العثماني نفسه معيناً علي تعدد القراءات لخلوه من النقط والشكل.
رسم المصحف والقراءات:
ولا بد أن نلقي مزيداً من التأكيد علي لفظة "معينا" في العبارة السابقة، فإن قولنا " كان معينا علي تعدد القراءات" يختلف اختلافاً بائنا عن قولنا" كان سبباً في تعدد القراءات" فالعبارة الأولى صحيحة لا يشوبها شك، وللتمثيل نذكر قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) (النساء: 94).
فلفظ " فتبينوا " مكتوب في المصحف العثماني هكذا ( فتتتتوا) ؛ بغير نقط.وهو معين علي قراءة الآية بوجهين:(فتبينوا) وكذلك (فتثبتوا).
وكلتاهما قراءة صحيحة مروية عن النبي صلى الله عليه و سلم بطريق التواتر(7) وأما العبارة الثانية : فهي خطأ لا يشوبها شبهة صواب، لأن مؤداها أن القراءات واختلافها كان متأخراً عن جمع القرآن، وأن قراء القرآن من التابعين قد تصرفوا من تلقاء أنفسهم بقراءته علي غير الوجه الذي نزل به مخدوعين بالرسم العثماني غير المضبوط مرة، أو مستحسنين معني بعينه مرة أخرى .
المستشرقون وقضية القراءات:
ولا يفوتنا أن نناقش هذا التفكير السخيف الذي أدى إلى هذا الاستنتاج ، وتبلور بصورة واضحة في كتابات المستشرقين ، وبخاصة كتاب"جولدتسيهر" المسمى (مذاهب التفسير الإسلامي) .
والملاحظ أن كثيراً من المستشرقين أطلعونا علي أحط تفكير حين تعوضوا للدراسات القرآنية، فـ (جولدتسيهر) يبدأ كتابه بتقرير بارد هو أنه"لا يوجد كتاب تشريعي يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات مثل القرآن"(8) وهو بهذا يعني تعدد القراءات القرآنية فيسميه اضطراباً، وتجاهل اليهودي أن كتاب قومه لا يساوي في ميزان النقد العلمي جناح بعوضة، وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض إخوانه(9).
والتقرير الذي يقدمه جولد تسيهر غريب عن الروح العلمي الذي يدعيه المستشرقون، فاختلاف القراءات هو اختلاف محدود في آيات بعينها من القرآن. كما أن" الاضطراب وعدم الثبات لا يجوز وصف النص به إلا إذا جاء علي صور مختلفة أو متضاربة لا يعرف الصحيح الثابت منها "(10) أما وروده بصور مختلفة صحيحة النسبة إلى الله تعالى متصلة السند به، فلا يجوز أن يكون مطعناً حتى إذا اختلفت صوره، ولو نظر ابن اليهودية في العهد القديم، فقرأ فيه خبر موت موسى ودفنه(11)، وأخبار الملوك بعد موسى(عليه السلام)(12)لأيقن أنه كتاب كتبته أيدي قومه، ولو تأمل حديث هذا الكتاب عن الرب تعالى ، ومصارعته ليعقوب عليه السلام ، وصرع يعقوب إياه وكسره ضلعا منه لأيقن أن الأيدي التي كتبته لهي أنجس الأيدي . (13)
أين هذا كله من القرآن الكريم ؟ الدقة المتناهية في إثبات نصوصه، والورع المتناهي في قراءة حروفه ، والضبط المتناهي في نقل آياته. واقرأ كتاب المستشرق "وليم موير" المسمى (حياة محمد) حين يتعرض في مقدمته لما يسمى " تحريف القرآن وتبديله " وقد ترجمها برمتها الأستاذ هيكل في مقدمته الرائعة للطبعة الثانية من كتاب حياة محمد. وقد استقصى فيها "موير" عمليتي الجمع القرآني ومقومات الدقة فيهما، في ترتيب فكري خالص، يحسن قراءة ألفاظه التي هو اختارها للتعبير عن نتائجه كما ترجمها هيكل ، وإن كنا ننقل النتيجة التي وصل إليها من هذا التحليل. يقول(14) :
"والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقاً فحسب، بل كان- كما تدل الوقائع عليه - كاملاً، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال شئ من الوحي ، ونستطيع كذلك أن نؤكد - استناداً إلى أقوي الأدلة - أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد"صلى الله عليه وسلم" بل إن شئت الدقة فاقراً مقدمات تفسير"الطبري" و"القرطبي" وكتاب " نكت الانتصار لنقل القرآن " (15) للقاضي الباقلاني لتري من كل ذلك العجب العجاب.
تشكيك (زيهر) في القرآن:
ومع ذلك فقد استخدم (جولد تسيهر) ما وسعه أن يستخدمه من معلومات مبتورة مستهدفاً التشكيك في القرآن والقراءات القرآنية، من ذلك :
1- يرى أن المنتظر من النص الإلهي أن يأتي في قالب موحد متلقي من الجميع بالقبول.
2- أن تعدد القراءات القرآنية راجع إلى خصوصية الخط العربي(بغير نقط أو ضبط) بحيث يمكن قراءة اللفظ المكتوب بصور صوتية مختلفة متغيرة المعني و الإعراب.
"إذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط واختلاف الحركات في المحصول الموحد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطاً أصلاً،أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه "(16).
3- أن التابعين وعلماء المسلمين قد عملوا بتفكيرهم المحض في تغيير قراءات قرآنية بناء علي ما يسميه "ملاحظات موضوعية " أو "خلافات فقهية " ؛ (17) فالنص القرآني- في نظر"جولد تسيهر" قد تعرض بعد كتابته لعمل الأيدي و العقول المسلمة بالتغيير والاختلاف نتيجة لما تعرض له المسلمون من خلاف فقهي أو نظرات حضارية.
وهذه الملاحظات الثلاثة هي التي تدور حولها بحوث المستشرقين في القراءات ، فهو يعترف أنه يسير علي نهج (زعيمنا) تيودور نولدكهtheodor Noldeke في كتابة الأصيل البكر(تاريخ القرآن)(18)ومثل هذا الاعتراف يسوقه"جفري" في مقدمة كتاب (المصاحف)لابن أبي داود ، الذي يدعى فيه أن القرآن قد تعرض للتبديل بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم .
أدلة واهية:
غير أن المتأمل في هذه الملاحظات لا يخيل إليه أنها تثبت أمام الوعي الصحيح بتاريخ القرآن أو أسلوبه ، فلم يعرف في تاريخ القرآن خلاف جوهري في قراءاته ، وقد حصر العلماء المسلمون اختلاف القراءات في سبعة وجوه - علي نحو ما سيأتي إن شاء الله - لا يشير واحد منها إلى هذا الاضطراب المدعى المزعوم . وكل ما حدث تشدد بعض القراء لحروفهم حفاظاً علي ما سمعه من ثقات الصحابة .
والملاحظ أن هؤلاء المستشرقين يستدلون أحياناً بقراءات ضعيفة وواهية في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتغافلون عن الحديث المتواتر الذي قدمنا ؛ وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم (نزل القرآن علي سبعة أحرف….) ومن أمثلة هذه القراءات الواهية، قراءة (تستكثرون) بدلاً من (تستكبرون) في قوله تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْوَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون (الأعراف/48) ذكرها(جولد تسيهر) استدلالاً علي " الاختلاف في تحلية الهيكل المرسوم بالنقط" مع أنها كما يقول د.النجار " لم تعتمد في القراءات السبع ولا الأربع عشرة بل هي قراءة منكرة ، ولا يعرف علي وجه التحديد من قرأ بذلك وحسبك هذا دليلاً علي أن الخط لم يكن هو العمدة في صحة القراءة "(20) إلا أنها لا تناقض فيها ؛ إذ تحمل علي عطف التفسير.
والأسخف من ذلك أنه يذكر قراءة ( أباه ) بدلا من ( إياه ) في قوله تعالى :
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ ( التوبة/114)
قائلاً : " ومن الغريب أنها قراءة حماد الراوية " (21)، مع معرفته بمنزلة حماد الراوية من هذا العلم ومن الثقة، فهو الذي أطبق علماء الأمة علي الطعن في روايته، فقد قال فيه أبو عمرو بن العلاء: " العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يلحن و يكذب و يكسر" (22)، وقد ضعفه أبو حاتم السجستاني( اللغوي) والمفضل الضبي وغيرهما.(23) وهو الذي نظر في المصحف فقرأ : " حتى يعطوا الخربة عن يد " وفسره بأنه(السرقة) " فكان احتجاجه للخطأ أعجب من خطئه " (24) .
وما ذكره الدارسون والعلماء عن حماد دليل قاطع علي اهتمام العلماء بالرواية وذمهم الاكتفاء بالمصحف، وهي قاصمة الظهر بالنسبة لمزاعم (زيهر)، فقد روي صاحب ( ما يقع فيه التصحيف ): " أن حماداً كان حفظ القرآن من المصحف ، فكان يصحف نيفا وثلاثين حرفاً " (25).
ولو أن هؤلاء المستشرقين آمنوا- كما آمنا- بالله ورسوله و الكتاب الذي أنزل علي رسوله لأراحوا أنفسهم من مشقة الكذب علي الله وقلب الحقائق التاريخية الثابتة، ولو أنهم شغلوا أنفسهم بالتفتيش في صحف قومهم التي امتلأت كذبا وزوراً وسفاهة وحمقاً واجتراء علي محارم الله لأغناهم ذلك عن الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الظن وسوء الفهم ، و تالله لقد صدق عليهم قول النبي صلي الله عليه وسلم :" يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه"(26). وتالله ما هي قذاة ، ولكن خيل للمغرورين المحاسن سيئات، وتخفيف الله ورحمته بعباده اضطرابا وتفككاً.
أسباب الخلط (سوء فهم، وسوء نيـة)
هل نستطيع أن نرجع هذا الخلط الذي يقع فيه هؤلاء الأعاجم في دراسة القرآن إلى أسباب صحيحة ؟ في هذا المجال نتذكر قول الأستاذ العقاد الذي يعد تشخيصاً دقيقاً لموقف المستشرقين وأسبابه ، يقول : إنهم "جمعوا سوء الفهم وسوء النية".(27) :
1-أما سوء النية : فذلك ثابت مقرر في تاريخهم سياسياً وفكرياً، وحسبنا أن نطالع أي كتاب لأحدهم مثل درمنغم أو كارلايل مثلاً لنعرف صدق هذا القول.
2-وأما سوء الفهم : فالمطالع لدراستهم عامة يلاحظ من ذلك ما يضحكه - وشر البلية ما يضحك - ، وليس هذا مستغرباً من قوم أعاجم لا يفقهون سر العربية وذوقها وإن عرفوا ترجمتها ومعانيها، فلو رأينا اليوم مستشرقاً يترجم كلمة " التضحية " "بأنها عبادة الشمس" لأنها ( مشتقة من الضحى ). وكلمة ( أخذ ) أنها تأتي بمعني (نام) لقوله تعالى:
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نوْمٌ (28)
لو رأينا ذلك ألا يكون ذلك حرياً بأن يدفعنا إلى ضرب الصفح عن دراستهم للغة، وبخاصة في القرآن الكريم ؟
مناقشة مزاعم زهير :
ولنلق نظرة علي الأعمدة الثلاثة التي بني عليها المستشرقون متمثلين في جولد زيهر " افتراءهم علي القرآن " :
1- ظن جولد تسيهر : أن المنتظر من النص الإلهي " أن يأتي في قالب موحد " وهذا تحكم لا وجه له، كما عبر الأستاذ النجار(29) رحمه الله تعالى.
نعم. كان هو ينتظر ذلك، ولو جاء في قالب موحد لقال:كان المنتظر من نص إلهي أن يأتي بصور مختلفة حتى ييسر علي الأمة فهمه وتلاوته !
ما أشبه ذلك بصنيع أسلافه اليهود! إذ ظلوا ينتظرون النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (البقرة/89)
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ (البقرة/246)
وقد جاء العهد الجديد يحتوي أربع صور لما ظنوه الإنجيل بين كل منها وأخيه من الخلاف ما يملأ السماوات و الأرض ، وقد عبر عن ذلك الدكتور ( فريدريك جرانت ) في كتابه (الأناجيل أصلها وتطورها ) بقوله (30 ) :
" إن العهد الجديد كتاب غير متجانس ، ذلك أنه شتات مجمع ، فهو يمثل وجهات نظر مختلفة ".
هل هذه ، أو قريب منها صورة القرآن الكريم ؟
حاش لله ، فقد التأمت ألفاظ القرآن وأساليبه ومسائله الدقيقة فلا تجد فيه عوجاً ولا أمتا، وبون شاسع بين اختلاف نطق الألفاظ بغية التيسير، وبين اختلاف النص و الحكم والقصة والنبوءة و العقيدة من ( إنجيل ) ( لإنجيل )
2- زعمه أن تعدد القراءات راجع إلى خصوصية الخط العربي ، بحيث يمكن قراءة الصورة الكتابية بصور صوتية مختلفة .
وهذا زعم يرده أقل البصر بكتاب الله تعالى ، أو أقل النظر في قراءاته المتعددة. وقد سبقنا إلى الرد علي هذه الجزئية دارسون فضلاء ، أشير منهم إلى ثلاثة هم :
أ- الدكتور عبد الحليم النجار، وذلك في تعليقاته الدقيقة علي كتاب"جولد زيهر" التي جعلها هوامش علي ترجمته له ، (وقد طبعت الترجمة والتعليقات سنة 1374 هـ -1955م ، بمطبعة السنة المحمدية ، ونشرها الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد ) .
ب- الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، في كتابه القيم (رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات ) (وقد نشرته مكتبة نهضة مصر بالفجالـة سنة 1380هـ-1960م)
ت- فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه ( القراءات في نظر المستشرقين والملحدين ) (وقد نشره مجمع البحوث الإسلامية سنة1392 هـ-1970م)
والملاحظ أن عنوان هذا الكتاب قد كتب له الرواج وكثرة الانتفاع به لغلبة اللون الإعلامي عليه إلى جانب أنه دراسة موفقة لم تقتصر علي الإفادة الكثيرة من دراسة الأستاذين النجار وشلبي ، بل زادت عليهما عدة ملاحظات .
ونحن نلخص ما أورده الثلاثة - حسب الإمكان - مضيفين إليه ما يؤكده، مشاركين في إدحاض هذه الفرية العظيمة :
1- الأدلة التاريخية التي تؤكد ورود الروايات المختلفة قبل رسم المصحف ، بل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، وقد أشرنا - قبل - إلى وقوع هذا التعدد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه عليه الصلاة والسلام قد ذكره في معرض الثناء علي القرآن والحمد لربه علي تيسيره لأمته ، وسنفصل هذا الأمر بعد إن شاء الله ولكن الذي يهمنا الآن هو أن هذه الأوجه كانت معروفة قبل أن يجمع القرآن ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ القرآن علي هذه الأحرف المختلفة ؛ فلا دخل إذاً للرسم في ذلك (31) .
2- لو كانت القراءة تابعة للرسم. كما يدعي هذا اللفيف الغبي من المستشرقين لصحت كل قراءة وافقت العربية والرسم ، ولكن ما وصلنا من تراث عن هذا الموضوع يؤكد خلاف ذلك تماماً، فقد ذكر( السيرافي ) أن ( يحيى بن يعمر) قد واجه (الحجاج الثقفي) بأنه يلحن في القرآن في قوله تعالى من سورة التوبة :
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله
( التوبة / 25 )
فالحجاج يقرأ ( أحب ) بالرفع ، وقد نزلت بالنصب(32) ، مع أن الرفع وجه في اللغة ، ولم يقرأ به أحد في الأربع عشرة ، وإنما لحّن يحيى الحجاج هنا لا لعدم موافقته العربية وإنما لعدم صحة القراءة نقلاً.
وقراءة: إنا كل شئ خلقناه بقدر (القمر/50)
يصح في لفظ (كل) الرفع والنصب ، ولم يقرأ بالرفع أحد، علي الرغم من أن الرفع هو الراجح عند سيبويه ، لأنه (مبتدأ بعد اسم، وهذا الكلام في موضع خبره) (32) ولكن التنزيل أرجح لأن قواعد اللغة تبنى عليه 0 (34)
الحواشي
(1) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس
البخاري ط/ الحلبي3/226 كتاب"فضائل القرآن"
مسلم ط/عيسى الحلبيى3/561 كتاب" صلاة المسافرين "
وأخرجه غيرهما كأبي داود والترمذي وأحمد ومالك.
(2) أخرجه الشيخان أيضاً وغيرهما
( البخاري3/226 ، مسلم 3/560)
(3) الإتقان للسيوطي1/041 والذي صرح بتواتره هو أبو عبيد القاسم بن سلام.
(4) المقنع في رسم مصاحف الأمصار للداني ط/الكليات الأزهرية ص14، الطبري1/062
(5) الطبري 1/063 لطائف الإشارات للقسطلاني ط/مجمع البحوث الإسلامية 1/064
(6) الجمع الصوتي الأول د.لبيب السعيد ط/الهيئة المصرية للكتاب ص 066 وقد ذكر الداني الاختلاف في عدد النسخ ص 19.
(7) قراءة " فتثبتوا " هي قراءة حمزة والكساني وخلف. وقرأ الباقون" فتبينوا ".
(8) مذاهب التفسير الإسلامي اجنتس جولد زيهر ترجمة د. عبد الحليم النجار/4.
(9) انظر ما ذكره - مترجما ً- الأستاذ أحمد عبد الوهاب - عن رأي علماء الكتاب المقدس في العهد القديم . وذلك في كتاب المسيح في مصادر العقيدة المسيحية"
ط/ وهبة (الفصل الخاص بالمصادر).
(10) مذاهب التفسير ( زيهر) ص4 ( هامش )
(11) ، (12)سفر الملوك الأول والثاني من العهد القديم.
(13) سفر التكوين32/24/30.
(14) حياة محمد : محمد حسين هيكل ط/ 2(المقدمة) .
(15) حقق هذا الكتاب د.محمد زغلول سلام ونشره منشاة المعارف بالإسكندرية سنة 1971.
(16) جولد زيهر ص9.
(17) المصدر السابق ص 11.12.
(18) المصدر السابق ص7.
(19) المصاحف لابن أبي داود نشر جفري.
(20) جولد زيهر ص9(هامش)
(21) المرجع السابق.
(22) طبقات فحول الشعراء لابن سلام ط/المعارف(المقدمة)ص14.
(23) الدراسات الميدانية في منهج النحاة العرب(رسالة بالماجستير مخطوطة بالآلة الكاتبة بدار العلوم(القاهرة)سنة 1972 للأستاذ محمود عثمان أبو سمرة)ص 316.
(24) شرح ما يقع فيه التصحيف و التحريف للعسكري تحقيق عبد العزيز أحمد ط/الحلبي ص 142.
(25) المصدر السابق.
(26) أخرجه أحمد والترمذي .
(27) مطلع النور للعقاد ط/الهلال ص 70.
(28) المصدر السابق نفسه.
(29) جولد زيهر ص7(هامش).
(30) الطبعة الإنجليزية ص 17(نقلاً عن الأستاذ أحمد عبد الوهاب"المسيح في مصادر العقيدة المسيحية"ط/ وهبة ص 15)
(31) رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات د .عبد الفتاح شلبي ط/
النهضة المصرية ص22 وهذا الصنيع نفسه صنعه عثمان ؛ فقد أرسل مع المصاحف رجالاً يقرؤون الناس.انظر لبيب السعيد ص 141.
(32) أخبار النحويين البصريين للسيرافي ط/ الحلبي سنة 1374 ص 17.
(33) الكتاب لسيبوبه ط/ هارون 1/147، 148 .
(34) الكتاب السابق نفسه.
يتبع