FreeMuslim
05-19-2008, 08:42 AM
إلى السادة في حزب الله .. تساؤلات مشروعة / نواف القديمي
المختصر/ العربية نت / سأكون ممتناً لكم إذا ما قدمتم لي (مساعدة شخصيّة)، تتمثل في محاولة إفهامي ما عجِزتُ عن استيعابه. فأنا أقرأ يومياً عدداً من الصحف اللبنانية، وأتابع ما يجري هناك بانتظام. وإذا ما سُئلتُ عن أكثر شيء سئمتُ من سماعه لكثرة ترداده، فسأقول لكم: هو الخطاب الأخلاقي الذي لا يمل حزب الله من تكراره. فهو حزب نشأ وتكون على عقيدة حرب العدو الصهيوني، وهو حزب ضحّى بخيرة شبابه في معارك المقاومة ضد الاحتلال، وهو حزبٌ لا يترك الأسرى اللبنانيين، ويفي بوعوده، ولا يغدر، ولا يخدع، ولا يكذب.
هذا الطغيان الأخلاقي في الخطاب السياسي تنتج عنه محاكمة صارمة لأخلاق الآخرين. بشكل لم يعد معه الحزب يتفهم حتى الحد الأدنى من مشروعية (المرونة) في العمل السياسي. لذا هو لا يفتأ يُلقي بتهم التخوين، والعمالة، والتبعيّة للخارج، والكذب، والخِداع، على كل خصومه السياسيين. لا ضير في ذلك. فمن حق الحزب أن يتمثل بالصرامة الأخلاقية التي يؤمن بها. ومن حقّنا نحن أيضاً أن نتساءل عن حقيقة هذه الصرامة الأخلاقية التي يرددها الحزب.
ورغم أنني لا أُفضل نبش تاريخ الحرب الأهلية في لبنان، إلا أن قناة المنار التابعة للحزب، والمغرمة دوماً بتذكيرنا بتفاصيل تلك الحرب المشؤومة، تُعيدنا قسراً إلى تلك الأجواء. لذلك اسمحوا لي أن أبدأ تساؤلاتي من هناك :
1 - هل سلاح حزب الله الذي انجرّ يوماً للدخول في قتالٍ مريرٍ ودامٍ مع حركة توافقكم ذات الانتماء للوطن والدين والمذهب والزعامة التاريخية، والذي عُرف يومها بـ(حرب الإخوة) التي دارت في الضاحية الجنوبية وفي إقليم التفاح أواخر الثمانينيّات، وامتدت لشهور طويلة، وراح ضحيتها الآلاف. هل هذا السلاح معصومٌ من أن يتجه كل ما لزِم ذلك، تجاه (آخرين) لا تملكون معهم كل هذه الروابط، بل وتتهمونهم صباح مساء بالخيانة والعمالة والولاء للخارج!
لِمَ لم يستحضر حزب الله ساعة قرر خوض المعارك مع أمل ـ وهو المؤمن بمرجعية إسلامية صارمة ـ أمراً توالت النصوص الشرعية على الإعظام من شأنه، اسمه (الدم الحرام)؟
وإذا كانت الحرب مع حركة أمل تأتي في سياق اقتتال سياسي، فماذا عن الاغتيالات التي نفذها الحزب عام 1985 للمثقفين اليساريين الشيعة في الضاحية الجنوبية!
2ـ حين احتلت إسرائيل لبنان عام 1982، لم تقم باجتياحها ذاك من أجل قتال حركة أمل الشيعيّة، ولا لمواجهة الجيش السوري المتمركز في لبنان، بل كان الهدف الذي أقرّ به الصهاينة مراراً، هو قتال الحركة الوطنية التي كانت تضم الفلسطينيين (فتح) والحزب الاشتراكي (الدروز) وبعض الميليشيات السنية والقوى اليسارية. وكان الهدف المُعلن هو إخراج الفلسطينيين من لبنان. وبعد مغادرة المسلّحين الفلسطينيين، وخروج إسرائيل من بيروت، بدأت المقاومة الشرسة للاحتلال الإسرائيلي الذي كان يهيمن على نصف لبنان. من تولى مقاومة الاحتلال في ذاك الوقت كانت الحركة الوطنية التي استمرّت في قتالها الشرس للصهاينة منذ العام 1982 وحتى 1985. وهو ما أدى إلى انسحاب إسرائيل إلى الشريط الحدودي. بعد ذلك جاء القرار السوري بتهميش الحركة الوطنية، ومنعها من مقاومة إسرائيل، والاكتفاء بمقاومة ميليشيات موالية لها وخاضعة لقرارها السياسي.
باختصار، لماذا كانت المقاومة مقصورة على حزب الله بعد انتهاء الحرب الأهلية؟ الجواب: لأن ثمة قرار سوري بذلك.
إذا كانت هذه التفاصيل واضحة لكل المتابعين لتاريخ الحرب الأهلية. فهل من اللائق أن يستمر الحزب دوماً في التذكير والتأكيد والتشديد بأنه قاوم وحيداً (الاحتلال الإسرائيلي) بقدرٍ قد يصلُ فيه إلى مرحلة الابتزاز السياسي، المتمثل بالمطالبة الدائمة بإبقاء بعض الامتيازات الخاصة للحزب (سلاح / شبكة اتصالات / مربعات أمنية / مناطق مُغلقة / عناصر أمنية خاصة / أموال علنيّة تتدفق من الخارج / حدود مفتوحة مع سوريا لإمدادات السلاح.. الخ) حتى بعد انتهاء الاحتلال؟
٣ـ علاقة الحزب بالنظام السوري لا تبدو مفهومة بالنسبة لي، طبعاً إذا ما نظرتُ إليها بالمعيار الأخلاقي الذي يردده الحزب. فبمعزلٍ عن كون سوريا تحمي أكثر الحدود هدوءً مع العدو الصهيوني، رغم أن لها أرضهاً مُحتلة (الجولان) تُقارب مساحتها ضِعف مساحة الشريط الحدودي اللبناني المُحتل سابقاً من إسرائيل (الجولان المُحتل ١٣٥٠ كم / الشريط المُحتل قبل عام ألفين ٨٠٠ كم / أما مزارع شبعا التي لازالت مُحتلة فلا تتجاوز مساحتها ١٠ كم). وبمعزل عن كون الجيش السوري دخل إلى لبنان في بداية الحرب الأهلية عام ١٩٧٦ بهدف مساندة الميليشيات المسيحية المتحالفة بدورها مع إسرائيل، ولمواجهة الحركة الوطنية والفلسطينيين، وكان أن استفتح هذا الجيش دخوله إلى لبنان بمجزرة تل الزعتر التي راح ضحيتها ٥٥٠٠ مدني فلسطيني من سكّان المخيمات، ثم استمرّ الجيش السوري طوال مدة وجوده في لبنان خصماً شرساً للقوى الفلسطينيّة. بمعزل عن ذلك كله (رغم أنه في حدود علمي أن النظام الذي فعل كل تلك الخطايا لازال يدير سوريا، ولم يتغيّر بعد!) إلا أنني أود التساؤل عن أمر آخر يخص هذه العلاقة:
كل مشروع الحزب العقائدي قائم على مبدأ مقاومة العدو الصهيوني المُحتل والغاصب لفلسطين، وذلك عبر محاربة هذه المُحتل عسكرياً (في لبنان)، ودعم المُحاربين له في فلسطين. وكل ذلك يتم بالاتكاء على دول الممانعة والمُقاومة والصمود (سوريا وإيران). وحول هذا المبدأ العقائدي والشرعي (مقاومة المُحتل) يتمحور كامل المشروع السياسي والعسكري والثقافي والإعلامي والتعليمي لحزب الله. وبناءً عليه يتعامل الحزب مع أي طرف يُبدي ليونة تجاه إسرائيل بلغة عنيفة لا توفِّر تُهم التخوين والعمالة وبيع القضيّة.
في الوقت ذاته فإن سوريا (المُمانعة والصامدة) لا تجد حرجاً في التأكيد المُتكرر عن استعدادها لعقد محادثات سلام مع إسرائيل. وفي المفاوضات التي جرت مع إسرائيل زمن حكومة إيهود باراك عام ١٩٩٩ كان الخلاف المحوري يتمثل في التالي: (هل يكون الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ بحيث تُطل سوريا على بحيرة طبريّا، أم إلى الحدود البريطانية المرسومة عام ١٩٢٣ والتي لا تمنح سوريا حدوداً مع بحيرة طبريّا).
وفي ظل أجواء الغزل السياسي التي تجري اليوم بين سوريا وإسرائيل ـ والتي تتم عن طريق الوسيط التركي ـ حول إعادة إحياء مفاوضات السلام بينهما. لنفترض أن أحد الطرفين (سوريا أو إسرائيل) قَبِل بشروط الطرف الآخر (العودة إلى حدود ٦٧ أو ٢٣)، وعُقِد على إثر ذلك معاهدة سلام بين الطرفين تضمّنت مصافحات ودودة وابتسامات، وربما بعض التقبيل السياسي! وبناءً على مُعاهدة السلام حمل السفير الإسرائيلي أمتعته ليستقر في أحد أحياء (عاصمة العروبة والمُقاومة) دمشق. في حال حصل ذلك (وهو احتمال واردٌ جداً).. فهل سيقوم الحزب بوضع حكومة دمشق في خانة العملاء والخونة وبائعي القضية؟! وهل سيحرق أطناناً من الورق الذي نحت عليه كلمات التمجيد وعبارات التبجيل وألقاب الصمود للنظام السوري خلال أزيد من عشرين عاماً؟!
٤ـ بعد انتهاء الحرب الأهلية عقب اتفاق الطائف، وفي مرحلة التسعينيّات التي شهدت قمة العنفوان العقائدي والعسكري والروحي لحزب الله، وحظيت بإجماع اللبنانيين على دعم المقاومة لتحرير الشريط الحدودي المُحتل، أقدم حزب الله على عملٍ ما، أقلُ ما يُمكن أن يوصف به هو أنه (غيرُ نزيه)، وتمثل في تحالف انتخابي، وتشارُك في قائمة موحدة للمرشحين، وخلال دورتين متتاليتين (عامي ٩٢ و ٩٦)، في دائرة (بعبدا عاليه) الانتخابية ـ التي يُشكل فيها الناخبون الشيعة (كتلة الحسم) في أي انتخابات ـ مع شخصيّة ستبقى حاضرة وبقوة في ذاكرة الدم الفلسطيني. واسمه المُلطّخ بكل عار التاريخ (إيلي حبيقة)، الذي نحر النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلاّ عام ١٩٨٢، وسقط على يده في تلك المجزرة الرهيبة أكثر من ألفين وأربعمائة فلسطيني أعزل.
لا أدري أيُ مبررٍ سياسيٍ أسعف حزب الله ساعتها في تبرير هذه الكارثة الأخلاقيّة والقيميّة. لكنني على يقينٍ أن ذلك المُبرر ـ إذا ما وجِد ـ سيكون مُلائماً أيضاً للاستخدام في التحالف مُستقبلاً مع إيهود أولمرت!
كما أنني لا أدري أيضاً كيف يمكن للفلسطيني أن يُثمّن دعم حزب الله لقضيته الفلسطينيّة، وهو يراه حليفاً لسوريا (تلّ الزعتر) وأمل (حروب المُخيمات) وحبيقة (صبرا وشاتيلاّ)!
٥ـ في الصراع السياسي الذي نشب بين حزب الله ـ ومعه المعارضة ـ وقوى الموالاة بعد انتهاء حرب تمّوز، لاحظ المتابعون للخطاب السياسي والإعلامي للحزب تركيزه المُفرط والحاد على نقد طرفين داخل الموالاة، هما سمير جعجع (القوات اللبنانية) ووليد جنبلاط (الحزب الاشتراكي)، حيث حظيا بأقصى درجات الخشونة في الخطاب، وأكثر الهجوم شراسة، وأشنع عبارات التخوين والاتهام بالعمالة. حتى أن أحد قادة حزب الله قال لي مرّة في ليلة بيروتيّة هادئة: (نحن لا مشكلة كبيرة لنا مع سعد الحريري وتيار المستقبل. لكننا نأخذ عليه وبشدة أنه تحالف مع سفّاحَين وخائنَين هُما جعجع وجنبلاط).
وفي الخطاب الأخير الذي ألقاه السيد حسن نصرالله أثناء تحرك الحزب عسكرياً لاجتياح بيروت، لاحظ الجميع حرص نصرالله على تحييد تيار المُستقبل وسعد الحريري، والاكتفاء بتوجيه العنف الخطابي ـ المُحمل طبعاً بالشتائم وتُهم التخوين ـ للأطراف الأخرى في الموالاة، ولوليد جنبلاط على وجه الخصوص. لكن الذهول أصاب الجميع أيضاً حين رأوا أن اجتياح حزب الله العسكري كان لمناطق تيار المُستقبل ذات الكثافة السنيّة! ولم يشهد أي هجوم على مقرّات القوات اللبنانية المسيحيّة! ولا أظنني بحاجة إلى التذكير أن الطريق إلى عين الرمّانة (حيث مقرات القوات اللبنانية المسيحية) كانت أقرب للضاحية من (فردان) و(عائشة بكّار) حيث جمهور تيار المستقبل السنّي!
طبعاً السبب الوحيد الذي استطعتُ التوصل إليه، هو أن (ميكافليّة) الحزب السياسية رأت أن الهجوم على مقرّات القوات اللبنانية (المسيحية) سينعكس بشكل مدمّر على حلفائه المسيحيين ـ التيار العوني ـ في أي انتخابات قادمة!
أظن أنني حين ألج اليوم إلى ذهنيّة (المسيحي اللبناني)، فلن أجد سوى سؤالٍ كبيرٍ يتربّع في أعماق عقله الباطن، مفاده: إن الذي وجد مُبرراً لقتال شركائه في المذهب (الشيعة)، واجتياح شركائه في الدين (السنّة)، لن يُفكِّر مليّاً قبل أن يفعل الشيء ذاته مع المسيحيين!
٦ـ لن أعود مجدداً إلى السؤال عن مشروعية سفك (الدم الحرام) في اجتياح حزب الله لبيروت. ولكنني سأسأل عن الطريقة التي سوّغ بها الحزب لنفسه أن ينكث بعشرات الأيمان المُغلّظة، التي كان لا يفتأ من تردادها في خطاباته السياسية، من أن السِلم الأهلي هو أمرٌ مقدّس في لبنان، وتجاوزه هو خطٌ أحمر عند الجميع، وأن سلاح الحزب لن يوجّه إلى الداخل حتى لو بدأ الآخرون بالعنف! ثم في ليلة ليس فيها قمر، وإذ بـ(مجاهدي) الحزب يخوضون حربهم المُقدّسة في شوارع بيروت الغربيّة!
لا أدري إن كان السيد حسن نصرالله سيظل يكرر بعد ذلك أن حزب الله لا يغدر ولا يخدع ولا ينكث العهود!
٧ـ الذي أشاهدة في الصراع السياسي الدائر في لبنان، أن سلوك حزب الله يتكئ على مبدأ (العقاب الجماعي) للناس، فهو بدأ بالاعتصام الذي أغلق وسط بيروت، ودمّر مصالح التجّار في وسط البلد، وعطّل السياحة، وانعكس على تردي الوضع الاقتصادي الذي عانى منه كل الشعب. وحين اقتحم الحزب بيروت الغربيّة، اجتاح مسلحوه المناطق السكنية المكتظة بالآمنين. فيما خصومه السياسيين يرقدون بسلامٍ في السراي الحكومي وفي مقرّاتهم السكنيّة التي لم يقترب منها أحد! وعندما قرر الحزب سحب مسلّحيه بعد تعليق الحكومة لقراريها، أكد أنه سيواصل العصيان المدني وقطع الطرقات وتعطيل البلد. طبعاً والضحايا الوحيدون من هذا العصيان هم (الناس)، والمواطنين الأبرياء الذين كان الحزب يؤكد دائماً أنه يحترمهم ويُقدّرهم ويبحث عن مصلحتهم، وأن مشكلته تكمن فقط مع زعمائهم السياسيين.
الغريب أنني لازلتُ أسمع يوميّاً من إعلام الحزب وقناة المنار كثافة التشنيع على ممارسات العدو الصهيوني البشعة، لأنها انتهجت طريقة (العقاب الجماعي) في قطاع غزّة!
٨ـ وفاء الحزب للأسرى اللبنانيين، وسعيه الدائم لإطلاقهم هو أمرٌ يستحق الاحترام. صحيحٌ أنه هذا الوفاء ـ الذي تمثل في السعي لإطلاق سراح (اثنين) من الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية ـ أنتح حرباً شعواء في تمّوز ٢٠٠٦، دُمِّرت على إثرها البنية التحتية، وقُتِلَ فيها أكثر من ألف مدني، ودخل بعدها اقتصاد البلد في إنهاك شديد. إلا أن السؤال الأهم بالنسبة لي ليس عن حجم الخسائر، أو إن كان الهدف يُبررها أم لا! بل أمرٌ آخر عجزتُ عن فهمه، لأنني لازلتُ أظن (وبعض الظن إثم) أن حرمة دم وكرامة المواطن اللبناني مقدسة عند الحزب. ذلك أنني وجدتُ في اللائحة الرسميّة التي أصدرتها الحكومة اللبنانية في العام ٢٠٠٠ (وللتذكير فقط كانت الحكومة وقتها في زمن الوصاية السورية) أن هناك ٩٣ مواطناً لبنانياً هم بين مُعتقلٍ ومفقود في سوريا! (مصادر مُحايدة تُشير إلى أكثر من ٢٠٠ مُعتقل ومفقود)، لم أسمع الحزب يوماً طالب ـ ولو تلميحاً ـ بالإفراج عنهم ومتابعة قضيتهم، فضلاً عن السعي لتحريرهم!
٩ـ المُتابع لإعلام الحزب سيُذهل حين يكتشف أن مفردات التخوين تُستخدم أكثر من (حروف الجر)! فكل من التقى فيلتمان (السفير الأميركي) مُتهم بالخيانة، وكل من استضاف ديفيد وولش (مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية) هو موغلٌ في العمالة. كان يمكن لي تفسير ذلك بكونه مجرد تشددٍ سياسي، وحساسية مفرطة من العلاقة مع الأمريكيين. ولكنني لا أستطيع لجم الذهول الذي يجتاحني حين أرى إعلام الحزب يمنح أوسمة الشرف والمروءة والكرامة للجنرال ميشيل عون، الذي طالما افتخر بأنه الأب الروحي للقرار ١٥٥٩، وأنه أول من خطب في الكونجرس الأمريكي مطالباً بمُحاسبة سوريا ونزع سلاح حزب الله! هذا فضلاً عن أكواب القهوة التي يشربها باستمرار في السفارة الأمريكية بلبنان وهو يلتقي العديد من المسؤولين الأمريكيين!
١٠ـ أتساءل في الختام. أتدرون أي ألمٍ واحتقانٍ ومرارةٍ موغلةٍ في الأعماق هي تلك التي حقنتم بها أوردة جمهور عريض من العالم السنيّ، ساعة اجتحتم بيروت الغربية بهذا الشكل الغادر. وأي فتنة طائفيّة بدأت تلوح في أوطاننا العربية.
الذي أعرفه ـ وأجزم به ـ هو أنكم أعرفُ مني بمعنى الفتنة الطائفية. بالنسبة لي: هي شيءٌ بشعٌ ومُدمّر، رغم أنني ـ وأحمد الله على ذلك ـ لم أعش يوماً في أوارها، ولم أقترب من لهيبها. لكن الشيء الذي أرعبني غداة اجتياحكم لبيروت، هو عندما التقيتُ باثنين من أصدقائي المحسوبين على التيّار الليبرالي، وهم كما أعرفهم جيداً لا يكفون عن المطالبة بنبذ الطائفية، وسيادة قيم المواطنة، وإعطاء الأقليات الشيعية حقوقها السياسية والثقافية. حين رأيت هؤلاء يرددون البارحة أمنياتهم بأن تتجه عناصر القاعدة إلى لبنان لتواجه عنف حزب الله. لحظتها فقط عرفتُ معنى الفتنة. هي أبشع بكثير مما كنتُ أظن!
المختصر/ العربية نت / سأكون ممتناً لكم إذا ما قدمتم لي (مساعدة شخصيّة)، تتمثل في محاولة إفهامي ما عجِزتُ عن استيعابه. فأنا أقرأ يومياً عدداً من الصحف اللبنانية، وأتابع ما يجري هناك بانتظام. وإذا ما سُئلتُ عن أكثر شيء سئمتُ من سماعه لكثرة ترداده، فسأقول لكم: هو الخطاب الأخلاقي الذي لا يمل حزب الله من تكراره. فهو حزب نشأ وتكون على عقيدة حرب العدو الصهيوني، وهو حزب ضحّى بخيرة شبابه في معارك المقاومة ضد الاحتلال، وهو حزبٌ لا يترك الأسرى اللبنانيين، ويفي بوعوده، ولا يغدر، ولا يخدع، ولا يكذب.
هذا الطغيان الأخلاقي في الخطاب السياسي تنتج عنه محاكمة صارمة لأخلاق الآخرين. بشكل لم يعد معه الحزب يتفهم حتى الحد الأدنى من مشروعية (المرونة) في العمل السياسي. لذا هو لا يفتأ يُلقي بتهم التخوين، والعمالة، والتبعيّة للخارج، والكذب، والخِداع، على كل خصومه السياسيين. لا ضير في ذلك. فمن حق الحزب أن يتمثل بالصرامة الأخلاقية التي يؤمن بها. ومن حقّنا نحن أيضاً أن نتساءل عن حقيقة هذه الصرامة الأخلاقية التي يرددها الحزب.
ورغم أنني لا أُفضل نبش تاريخ الحرب الأهلية في لبنان، إلا أن قناة المنار التابعة للحزب، والمغرمة دوماً بتذكيرنا بتفاصيل تلك الحرب المشؤومة، تُعيدنا قسراً إلى تلك الأجواء. لذلك اسمحوا لي أن أبدأ تساؤلاتي من هناك :
1 - هل سلاح حزب الله الذي انجرّ يوماً للدخول في قتالٍ مريرٍ ودامٍ مع حركة توافقكم ذات الانتماء للوطن والدين والمذهب والزعامة التاريخية، والذي عُرف يومها بـ(حرب الإخوة) التي دارت في الضاحية الجنوبية وفي إقليم التفاح أواخر الثمانينيّات، وامتدت لشهور طويلة، وراح ضحيتها الآلاف. هل هذا السلاح معصومٌ من أن يتجه كل ما لزِم ذلك، تجاه (آخرين) لا تملكون معهم كل هذه الروابط، بل وتتهمونهم صباح مساء بالخيانة والعمالة والولاء للخارج!
لِمَ لم يستحضر حزب الله ساعة قرر خوض المعارك مع أمل ـ وهو المؤمن بمرجعية إسلامية صارمة ـ أمراً توالت النصوص الشرعية على الإعظام من شأنه، اسمه (الدم الحرام)؟
وإذا كانت الحرب مع حركة أمل تأتي في سياق اقتتال سياسي، فماذا عن الاغتيالات التي نفذها الحزب عام 1985 للمثقفين اليساريين الشيعة في الضاحية الجنوبية!
2ـ حين احتلت إسرائيل لبنان عام 1982، لم تقم باجتياحها ذاك من أجل قتال حركة أمل الشيعيّة، ولا لمواجهة الجيش السوري المتمركز في لبنان، بل كان الهدف الذي أقرّ به الصهاينة مراراً، هو قتال الحركة الوطنية التي كانت تضم الفلسطينيين (فتح) والحزب الاشتراكي (الدروز) وبعض الميليشيات السنية والقوى اليسارية. وكان الهدف المُعلن هو إخراج الفلسطينيين من لبنان. وبعد مغادرة المسلّحين الفلسطينيين، وخروج إسرائيل من بيروت، بدأت المقاومة الشرسة للاحتلال الإسرائيلي الذي كان يهيمن على نصف لبنان. من تولى مقاومة الاحتلال في ذاك الوقت كانت الحركة الوطنية التي استمرّت في قتالها الشرس للصهاينة منذ العام 1982 وحتى 1985. وهو ما أدى إلى انسحاب إسرائيل إلى الشريط الحدودي. بعد ذلك جاء القرار السوري بتهميش الحركة الوطنية، ومنعها من مقاومة إسرائيل، والاكتفاء بمقاومة ميليشيات موالية لها وخاضعة لقرارها السياسي.
باختصار، لماذا كانت المقاومة مقصورة على حزب الله بعد انتهاء الحرب الأهلية؟ الجواب: لأن ثمة قرار سوري بذلك.
إذا كانت هذه التفاصيل واضحة لكل المتابعين لتاريخ الحرب الأهلية. فهل من اللائق أن يستمر الحزب دوماً في التذكير والتأكيد والتشديد بأنه قاوم وحيداً (الاحتلال الإسرائيلي) بقدرٍ قد يصلُ فيه إلى مرحلة الابتزاز السياسي، المتمثل بالمطالبة الدائمة بإبقاء بعض الامتيازات الخاصة للحزب (سلاح / شبكة اتصالات / مربعات أمنية / مناطق مُغلقة / عناصر أمنية خاصة / أموال علنيّة تتدفق من الخارج / حدود مفتوحة مع سوريا لإمدادات السلاح.. الخ) حتى بعد انتهاء الاحتلال؟
٣ـ علاقة الحزب بالنظام السوري لا تبدو مفهومة بالنسبة لي، طبعاً إذا ما نظرتُ إليها بالمعيار الأخلاقي الذي يردده الحزب. فبمعزلٍ عن كون سوريا تحمي أكثر الحدود هدوءً مع العدو الصهيوني، رغم أن لها أرضهاً مُحتلة (الجولان) تُقارب مساحتها ضِعف مساحة الشريط الحدودي اللبناني المُحتل سابقاً من إسرائيل (الجولان المُحتل ١٣٥٠ كم / الشريط المُحتل قبل عام ألفين ٨٠٠ كم / أما مزارع شبعا التي لازالت مُحتلة فلا تتجاوز مساحتها ١٠ كم). وبمعزل عن كون الجيش السوري دخل إلى لبنان في بداية الحرب الأهلية عام ١٩٧٦ بهدف مساندة الميليشيات المسيحية المتحالفة بدورها مع إسرائيل، ولمواجهة الحركة الوطنية والفلسطينيين، وكان أن استفتح هذا الجيش دخوله إلى لبنان بمجزرة تل الزعتر التي راح ضحيتها ٥٥٠٠ مدني فلسطيني من سكّان المخيمات، ثم استمرّ الجيش السوري طوال مدة وجوده في لبنان خصماً شرساً للقوى الفلسطينيّة. بمعزل عن ذلك كله (رغم أنه في حدود علمي أن النظام الذي فعل كل تلك الخطايا لازال يدير سوريا، ولم يتغيّر بعد!) إلا أنني أود التساؤل عن أمر آخر يخص هذه العلاقة:
كل مشروع الحزب العقائدي قائم على مبدأ مقاومة العدو الصهيوني المُحتل والغاصب لفلسطين، وذلك عبر محاربة هذه المُحتل عسكرياً (في لبنان)، ودعم المُحاربين له في فلسطين. وكل ذلك يتم بالاتكاء على دول الممانعة والمُقاومة والصمود (سوريا وإيران). وحول هذا المبدأ العقائدي والشرعي (مقاومة المُحتل) يتمحور كامل المشروع السياسي والعسكري والثقافي والإعلامي والتعليمي لحزب الله. وبناءً عليه يتعامل الحزب مع أي طرف يُبدي ليونة تجاه إسرائيل بلغة عنيفة لا توفِّر تُهم التخوين والعمالة وبيع القضيّة.
في الوقت ذاته فإن سوريا (المُمانعة والصامدة) لا تجد حرجاً في التأكيد المُتكرر عن استعدادها لعقد محادثات سلام مع إسرائيل. وفي المفاوضات التي جرت مع إسرائيل زمن حكومة إيهود باراك عام ١٩٩٩ كان الخلاف المحوري يتمثل في التالي: (هل يكون الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ بحيث تُطل سوريا على بحيرة طبريّا، أم إلى الحدود البريطانية المرسومة عام ١٩٢٣ والتي لا تمنح سوريا حدوداً مع بحيرة طبريّا).
وفي ظل أجواء الغزل السياسي التي تجري اليوم بين سوريا وإسرائيل ـ والتي تتم عن طريق الوسيط التركي ـ حول إعادة إحياء مفاوضات السلام بينهما. لنفترض أن أحد الطرفين (سوريا أو إسرائيل) قَبِل بشروط الطرف الآخر (العودة إلى حدود ٦٧ أو ٢٣)، وعُقِد على إثر ذلك معاهدة سلام بين الطرفين تضمّنت مصافحات ودودة وابتسامات، وربما بعض التقبيل السياسي! وبناءً على مُعاهدة السلام حمل السفير الإسرائيلي أمتعته ليستقر في أحد أحياء (عاصمة العروبة والمُقاومة) دمشق. في حال حصل ذلك (وهو احتمال واردٌ جداً).. فهل سيقوم الحزب بوضع حكومة دمشق في خانة العملاء والخونة وبائعي القضية؟! وهل سيحرق أطناناً من الورق الذي نحت عليه كلمات التمجيد وعبارات التبجيل وألقاب الصمود للنظام السوري خلال أزيد من عشرين عاماً؟!
٤ـ بعد انتهاء الحرب الأهلية عقب اتفاق الطائف، وفي مرحلة التسعينيّات التي شهدت قمة العنفوان العقائدي والعسكري والروحي لحزب الله، وحظيت بإجماع اللبنانيين على دعم المقاومة لتحرير الشريط الحدودي المُحتل، أقدم حزب الله على عملٍ ما، أقلُ ما يُمكن أن يوصف به هو أنه (غيرُ نزيه)، وتمثل في تحالف انتخابي، وتشارُك في قائمة موحدة للمرشحين، وخلال دورتين متتاليتين (عامي ٩٢ و ٩٦)، في دائرة (بعبدا عاليه) الانتخابية ـ التي يُشكل فيها الناخبون الشيعة (كتلة الحسم) في أي انتخابات ـ مع شخصيّة ستبقى حاضرة وبقوة في ذاكرة الدم الفلسطيني. واسمه المُلطّخ بكل عار التاريخ (إيلي حبيقة)، الذي نحر النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلاّ عام ١٩٨٢، وسقط على يده في تلك المجزرة الرهيبة أكثر من ألفين وأربعمائة فلسطيني أعزل.
لا أدري أيُ مبررٍ سياسيٍ أسعف حزب الله ساعتها في تبرير هذه الكارثة الأخلاقيّة والقيميّة. لكنني على يقينٍ أن ذلك المُبرر ـ إذا ما وجِد ـ سيكون مُلائماً أيضاً للاستخدام في التحالف مُستقبلاً مع إيهود أولمرت!
كما أنني لا أدري أيضاً كيف يمكن للفلسطيني أن يُثمّن دعم حزب الله لقضيته الفلسطينيّة، وهو يراه حليفاً لسوريا (تلّ الزعتر) وأمل (حروب المُخيمات) وحبيقة (صبرا وشاتيلاّ)!
٥ـ في الصراع السياسي الذي نشب بين حزب الله ـ ومعه المعارضة ـ وقوى الموالاة بعد انتهاء حرب تمّوز، لاحظ المتابعون للخطاب السياسي والإعلامي للحزب تركيزه المُفرط والحاد على نقد طرفين داخل الموالاة، هما سمير جعجع (القوات اللبنانية) ووليد جنبلاط (الحزب الاشتراكي)، حيث حظيا بأقصى درجات الخشونة في الخطاب، وأكثر الهجوم شراسة، وأشنع عبارات التخوين والاتهام بالعمالة. حتى أن أحد قادة حزب الله قال لي مرّة في ليلة بيروتيّة هادئة: (نحن لا مشكلة كبيرة لنا مع سعد الحريري وتيار المستقبل. لكننا نأخذ عليه وبشدة أنه تحالف مع سفّاحَين وخائنَين هُما جعجع وجنبلاط).
وفي الخطاب الأخير الذي ألقاه السيد حسن نصرالله أثناء تحرك الحزب عسكرياً لاجتياح بيروت، لاحظ الجميع حرص نصرالله على تحييد تيار المُستقبل وسعد الحريري، والاكتفاء بتوجيه العنف الخطابي ـ المُحمل طبعاً بالشتائم وتُهم التخوين ـ للأطراف الأخرى في الموالاة، ولوليد جنبلاط على وجه الخصوص. لكن الذهول أصاب الجميع أيضاً حين رأوا أن اجتياح حزب الله العسكري كان لمناطق تيار المُستقبل ذات الكثافة السنيّة! ولم يشهد أي هجوم على مقرّات القوات اللبنانية المسيحيّة! ولا أظنني بحاجة إلى التذكير أن الطريق إلى عين الرمّانة (حيث مقرات القوات اللبنانية المسيحية) كانت أقرب للضاحية من (فردان) و(عائشة بكّار) حيث جمهور تيار المستقبل السنّي!
طبعاً السبب الوحيد الذي استطعتُ التوصل إليه، هو أن (ميكافليّة) الحزب السياسية رأت أن الهجوم على مقرّات القوات اللبنانية (المسيحية) سينعكس بشكل مدمّر على حلفائه المسيحيين ـ التيار العوني ـ في أي انتخابات قادمة!
أظن أنني حين ألج اليوم إلى ذهنيّة (المسيحي اللبناني)، فلن أجد سوى سؤالٍ كبيرٍ يتربّع في أعماق عقله الباطن، مفاده: إن الذي وجد مُبرراً لقتال شركائه في المذهب (الشيعة)، واجتياح شركائه في الدين (السنّة)، لن يُفكِّر مليّاً قبل أن يفعل الشيء ذاته مع المسيحيين!
٦ـ لن أعود مجدداً إلى السؤال عن مشروعية سفك (الدم الحرام) في اجتياح حزب الله لبيروت. ولكنني سأسأل عن الطريقة التي سوّغ بها الحزب لنفسه أن ينكث بعشرات الأيمان المُغلّظة، التي كان لا يفتأ من تردادها في خطاباته السياسية، من أن السِلم الأهلي هو أمرٌ مقدّس في لبنان، وتجاوزه هو خطٌ أحمر عند الجميع، وأن سلاح الحزب لن يوجّه إلى الداخل حتى لو بدأ الآخرون بالعنف! ثم في ليلة ليس فيها قمر، وإذ بـ(مجاهدي) الحزب يخوضون حربهم المُقدّسة في شوارع بيروت الغربيّة!
لا أدري إن كان السيد حسن نصرالله سيظل يكرر بعد ذلك أن حزب الله لا يغدر ولا يخدع ولا ينكث العهود!
٧ـ الذي أشاهدة في الصراع السياسي الدائر في لبنان، أن سلوك حزب الله يتكئ على مبدأ (العقاب الجماعي) للناس، فهو بدأ بالاعتصام الذي أغلق وسط بيروت، ودمّر مصالح التجّار في وسط البلد، وعطّل السياحة، وانعكس على تردي الوضع الاقتصادي الذي عانى منه كل الشعب. وحين اقتحم الحزب بيروت الغربيّة، اجتاح مسلحوه المناطق السكنية المكتظة بالآمنين. فيما خصومه السياسيين يرقدون بسلامٍ في السراي الحكومي وفي مقرّاتهم السكنيّة التي لم يقترب منها أحد! وعندما قرر الحزب سحب مسلّحيه بعد تعليق الحكومة لقراريها، أكد أنه سيواصل العصيان المدني وقطع الطرقات وتعطيل البلد. طبعاً والضحايا الوحيدون من هذا العصيان هم (الناس)، والمواطنين الأبرياء الذين كان الحزب يؤكد دائماً أنه يحترمهم ويُقدّرهم ويبحث عن مصلحتهم، وأن مشكلته تكمن فقط مع زعمائهم السياسيين.
الغريب أنني لازلتُ أسمع يوميّاً من إعلام الحزب وقناة المنار كثافة التشنيع على ممارسات العدو الصهيوني البشعة، لأنها انتهجت طريقة (العقاب الجماعي) في قطاع غزّة!
٨ـ وفاء الحزب للأسرى اللبنانيين، وسعيه الدائم لإطلاقهم هو أمرٌ يستحق الاحترام. صحيحٌ أنه هذا الوفاء ـ الذي تمثل في السعي لإطلاق سراح (اثنين) من الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية ـ أنتح حرباً شعواء في تمّوز ٢٠٠٦، دُمِّرت على إثرها البنية التحتية، وقُتِلَ فيها أكثر من ألف مدني، ودخل بعدها اقتصاد البلد في إنهاك شديد. إلا أن السؤال الأهم بالنسبة لي ليس عن حجم الخسائر، أو إن كان الهدف يُبررها أم لا! بل أمرٌ آخر عجزتُ عن فهمه، لأنني لازلتُ أظن (وبعض الظن إثم) أن حرمة دم وكرامة المواطن اللبناني مقدسة عند الحزب. ذلك أنني وجدتُ في اللائحة الرسميّة التي أصدرتها الحكومة اللبنانية في العام ٢٠٠٠ (وللتذكير فقط كانت الحكومة وقتها في زمن الوصاية السورية) أن هناك ٩٣ مواطناً لبنانياً هم بين مُعتقلٍ ومفقود في سوريا! (مصادر مُحايدة تُشير إلى أكثر من ٢٠٠ مُعتقل ومفقود)، لم أسمع الحزب يوماً طالب ـ ولو تلميحاً ـ بالإفراج عنهم ومتابعة قضيتهم، فضلاً عن السعي لتحريرهم!
٩ـ المُتابع لإعلام الحزب سيُذهل حين يكتشف أن مفردات التخوين تُستخدم أكثر من (حروف الجر)! فكل من التقى فيلتمان (السفير الأميركي) مُتهم بالخيانة، وكل من استضاف ديفيد وولش (مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية) هو موغلٌ في العمالة. كان يمكن لي تفسير ذلك بكونه مجرد تشددٍ سياسي، وحساسية مفرطة من العلاقة مع الأمريكيين. ولكنني لا أستطيع لجم الذهول الذي يجتاحني حين أرى إعلام الحزب يمنح أوسمة الشرف والمروءة والكرامة للجنرال ميشيل عون، الذي طالما افتخر بأنه الأب الروحي للقرار ١٥٥٩، وأنه أول من خطب في الكونجرس الأمريكي مطالباً بمُحاسبة سوريا ونزع سلاح حزب الله! هذا فضلاً عن أكواب القهوة التي يشربها باستمرار في السفارة الأمريكية بلبنان وهو يلتقي العديد من المسؤولين الأمريكيين!
١٠ـ أتساءل في الختام. أتدرون أي ألمٍ واحتقانٍ ومرارةٍ موغلةٍ في الأعماق هي تلك التي حقنتم بها أوردة جمهور عريض من العالم السنيّ، ساعة اجتحتم بيروت الغربية بهذا الشكل الغادر. وأي فتنة طائفيّة بدأت تلوح في أوطاننا العربية.
الذي أعرفه ـ وأجزم به ـ هو أنكم أعرفُ مني بمعنى الفتنة الطائفية. بالنسبة لي: هي شيءٌ بشعٌ ومُدمّر، رغم أنني ـ وأحمد الله على ذلك ـ لم أعش يوماً في أوارها، ولم أقترب من لهيبها. لكن الشيء الذي أرعبني غداة اجتياحكم لبيروت، هو عندما التقيتُ باثنين من أصدقائي المحسوبين على التيّار الليبرالي، وهم كما أعرفهم جيداً لا يكفون عن المطالبة بنبذ الطائفية، وسيادة قيم المواطنة، وإعطاء الأقليات الشيعية حقوقها السياسية والثقافية. حين رأيت هؤلاء يرددون البارحة أمنياتهم بأن تتجه عناصر القاعدة إلى لبنان لتواجه عنف حزب الله. لحظتها فقط عرفتُ معنى الفتنة. هي أبشع بكثير مما كنتُ أظن!