تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : *** مقتطفات من الكتاب ( عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين )لابن القيم رحمه الله



عبد الله بوراي
05-09-2008, 03:08 PM
( 1 )



" في فضل الصبر "


قال تعالى
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة


وأخبر أن الصبر خير لأهله، فقال تعالى
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ


وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو و لو كان ذا تسليط، فقال تعالى
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا


وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره و تقواه أوصلاه إلى محل العز والتمكين، فقال
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ


وعلق الفلاح بالصبر والتقوى فعقل ذلك عنه المؤمنون، فقال تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ


وأخبر عنه محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين، فقال تعالى
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ


ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون، فقال تعالى
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ


وأوصى عبادة بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين، فقال تعالى
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ


و جعل الفوز بالجنة و النجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون، فقال تعالى
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ


وأخبر أن الرغبة في ثوابه و الاعراض عن الدنيا و زينتها لا ينالها ألا أولوا الصبر المؤمنون، فقال تعالى
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ


وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييز لهم بهذا الحظ الموفور، فقال في أربع آيات من كتابه
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ


والصبر ساق إيمان المؤمن الذي لا اعتماد له إلا عليها. فلا إيمان لمن لا صبر له، و إن كان، فإيمان قليل في غاية الضعف، و صاحبه يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة.
فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، و ترقوا إلى أعلى المازل بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر و الشكر إلى جنات النعيم.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..

عبد الله بوراي
05-09-2008, 03:12 PM
( 2 )
لغة هو المنع والحبس. فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما..
و يقال صبر إذا أتى بالصبر وتصبر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر.


أما حقيقته فهو خلق فاضل، و قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها
هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية، و هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى
معنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر.


قيل الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، قلت ولكن هذا غير مقدور ولا مأمور به، فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين. وإنما المقدور حبس النفس عن الجزع، لا استواء الحالتين عند العبد، وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر، كما قال النبي في الدعاء المشهور "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي"
و لا يناقض هذا قوله "وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر" فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له.


حد الصبر أن لا يعترض على التقدير. فأما إظهاره للبلاء على غير وجه الشكوى، فلا ينافي الصبر
قال الله تعالى في قصة أيوب إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا مع قوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ


وأما قوله على غير وجه الشكوى، فالشكوى نوعان :
أحدهما الشكوى إلى الله، فهذا لا ينافي الصبر.
كما قال يعقوب إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ مع قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وقال أيوب مَسَّنِيَ الضُّرُّ مع وصف الله له بالصبر
وقال سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي"
وقال موسى صلوات الله وسلامه عليه "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك"
والنوع الثاني شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله، فالفرق بين شكواه والشكوى إليه.


وقيل الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة. و قيل الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب.
والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام، فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه..


النفس فيها قوتان : قوة الإقدام و قوة الاحجام.
فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الاحجام إمساكا عما يضره.
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره، فيصبر على مشقة الطاعه ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه. ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين.
فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام، و لا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير من الناس يصبر عن النظر، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين، وأقلهم أصبرهم في الموضعين.


قيل الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة.
معنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه، والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومعرك هذا الحرب قلب العبد، والصبر والشجاعة والثبات المحمود هو الصبر النفساني الاختياري عن إجابة داعي الهوى المذموم.


مراتبه و أسماؤه بحسب متعلقه :
فإنه إن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة، سمي عفة وضدها الفجور والزنا. و إن كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام أو تناول ما لا يجمل منه، سمي شرف نفس وشبع نفس وسمي ضده شرها ودناءة و وضاعة نفس. وإن كان عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام، سمي كتمان سر وضده إذاعة وإفشاء أو تهمة أو فحشاء أو سبا أو كذبا أو قذفا. وإن كان عن فضول العيش، سمي زهداً، وضده حرصاً. وإن كان على قدر يكفي من الدنيا سمي قناعة، وضدها الحرص أيضاً. وإن كان عن إجابة داعي الغضب، سمي حلماً، وضده تسرعاً. وإن كان عن إجابة داعي العجلة، سمي وقاراً وثباتاً، و ضده طيشاً وخفة. وإن كان عن إجابة داعي الفرار والهرب، سمي شجاعة وضده جبناً و خوراً. و إن كان عن إجابة داعي الانتقام، سمي عفواً و صفحاً، وضده انتقاماً وعقوبة. وإن كان عن إجابة داعي الامساك والبخل، سمي جوداً و ضده بخلاً. وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوماً. وإن كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي كيساً. وإن كان عن إجابة داعي إلقاء الكيل على الناس وعدم حمل كلهم سمي مروءة.
فله عند كل فعل وترك، اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله 'الصبر'


وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها.

*
يتبع
إن شاء الله

منال
05-09-2008, 05:11 PM
السلام عليكم

جزاك الله خيرا قرأت الاولى ونصف الثانية ولى عودة للاكمال باذن الله

رحم الله هذا الامام الجليل فكتاباته من اروع الكتابات واجملها

منال
05-14-2008, 03:59 PM
بانتظار التتمة بارك الله فيك